المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: كمال الدين المرغناني - مجلة المنار - جـ ٤

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (4)

- ‌غرة ذو القعدة - 1318ه

- ‌فاتحة السنة الرابعة

- ‌الداء والدواء

- ‌رواية عربية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌المرأة الجديدة - تتمة التقريظ

- ‌ الأحاديث الموضوعة

- ‌انتقاد الأخلاق والعادات

- ‌ثناء

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌تصحيح

- ‌من الإدارة

- ‌16 ذو القعدة - 1318ه

- ‌الفضائل والرذائل [

- ‌خطبة أساس البلاغة

- ‌قصيدة جحدر في الأسد

- ‌تقريظ المنار الأنورواقتراح طلاب الأزهر

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مهاجر أزهري

- ‌عريضة استرحام مسلمي بنغالة

- ‌كتاب الأمير عبد الرحمن خان

- ‌غرة ذو الحجة - 1318ه

- ‌مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

- ‌مضار اللَّثْم والتقبيل

- ‌الحنين إلى الوطن

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌ إميل القرن التاسع عشر

- ‌ملكة الإنكليز

- ‌البدع والخرافات

- ‌تهنئة واستماحة

- ‌وسام الافتخار المرصع

- ‌غرة المحرم - 1319ه

- ‌الانتقاد

- ‌الطلاق في الإسلام [

- ‌الفقه الإسلامي

- ‌العشق وحرية العرب

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينيةفي فرنسا

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 المحرم - 1319ه

- ‌أسئلة دينية وأجوبتها

- ‌الشيعة وأهل السنةاختلافهما

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌استلفات لإزالة شبهة

- ‌تصحيح غلط

- ‌تنبيه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلام

- ‌غرة صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌إظهار المدفون من تمثال فرعون

- ‌طُرَف الأعراب ونوادرهم

- ‌أسباب الحرب الروسية العثمانية

- ‌الوفد الإسلامي إلى الصين

- ‌زيارة القبور والمدرس المغرور

- ‌16 صفر - 1319ه

- ‌السخاء والبخل

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌(أميل القرن التاسع عشر)

- ‌تعليم العربية في المدارستأخره في تقدمه

- ‌نوادر البخلاء

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الطاعون في الكاب والمسلمون

- ‌غرة ربيع الأول - 1319ه

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌مكتوب في حق مسلوب

- ‌للفيلسوف الإسلامي

- ‌للشاعر العصري

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌مصاب الصحافةوفاة بشارة باشا تقلا

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌16 ربيع الأول - 1319ه

- ‌التقليد

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الواسطة والزيارةأو ابن تيمية والسبكي

- ‌قسم الموالد والمواسم

- ‌غرة ربيع الثاني - 1319ه

- ‌التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

- ‌مدرسة خليل أغااحتفالها السنوي

- ‌المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

- ‌جمعية ندوة العلماء في الهند

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة جمادى الأول - 1319ه

- ‌علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلةشيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي [*]

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌عفة نساء العرب وبلاغتهن

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌تنبيه

- ‌إصلاح الطرق وأهلها

- ‌16 جمادى الأولى - 1319ه

- ‌وظائف علماء الدين

- ‌شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحيةوحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌لائحة الفقه الإسلامي

- ‌الأسئلة الدينية وأجوبتها

- ‌مقدمة ديوان حافظ

- ‌التقاريظ

- ‌عيد الجلوس السلطاني

- ‌قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

- ‌تعازٍ ووفيات

- ‌غرة جمادى الآخر - 1319ه

- ‌الرجال والنساء

- ‌الأسئلة والأجوبة الدينية

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌16 جمادى الآخرة - 1319ه

- ‌شبهات المسيحيين على الإسلاموحجج الإسلام على المسيحيين

- ‌تهاني العلماء والأدباءلفضيلة مفتي الديار المصرية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رجب - 1319ه

- ‌كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌ريشة صادق

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌رزء عظيم إسلاميوفاة أمير الأفغان

- ‌سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

- ‌عودة أحمد عرابي

- ‌من إدارة المنار

- ‌مفاسد لا موالد

- ‌16 رجب - 1319ه

- ‌الاستقلال والاتكال

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌تغزل النساء

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌من إدارة المنار

- ‌غرة شعبان - 1319ه

- ‌الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌رثاء الأمير عبد الرحمن خان

- ‌انتقاد المقتطفوكتاب القسطاس المستقيم

- ‌تصحيح

- ‌الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

- ‌الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

- ‌16 شعبان - 1319ه

- ‌الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌التعليم في بلاد سيرالونمدرسة إسلامية في فوله

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌غرة رمضان - 1319ه

- ‌فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

- ‌السياسة والساسة

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌نساء المسلمين [

- ‌البدع والخرافات

- ‌16 رمضان - 1319ه

- ‌السياسة والساسةمن نحن ومن غيرنا

- ‌الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌آثار علمية أدبية

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌أخبار

- ‌16 شوال - 1319ه

- ‌حياة أمة بعد موتها

- ‌الأمراء والحكامبلاء الأمة بهم

- ‌شبهات المسيحيينوحجج المسلمين

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

- ‌نساء المسلمين

- ‌الهدايا والتقاريظ

- ‌غرة ذو القعدة - 1319ه

- ‌نساء المسلمين وتربية الدينورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

- ‌المسلمون في أفريقيا

- ‌طهارة الأعطار ذات الكحولوالرد على ذي فضول

- ‌مؤتمر التربية والتعليم في الهند

- ‌العربية الفصحى والعامية المصريةمناظرة

- ‌وصف الشام

- ‌16 ذو القعدة - 1319ه

- ‌الخمر أم الخبائث

- ‌حرمة الخمر [*]

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌نساء المسلمين

- ‌مدرسة محمد علي الصناعية

- ‌الدول في سلطنة مراكش

- ‌الرقص والعفة والحجاب

- ‌الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

- ‌غرة ذو الحجة - 1319ه

- ‌إصلاح الدولة العلية

- ‌الإسلام والمسلمون

- ‌خبر سلمان الفارسي وإسلامه

- ‌ أميل القرن التاسع عشر

- ‌سوانح وبوارح

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

- ‌خاتمة السنة الرابعة

الفصل: الكاتب: كمال الدين المرغناني

الكاتب: كمال الدين المرغناني

‌الفقه الإسلامي

كتب بعض الشيوخ من أهل العلم الواقفين على أحوال العصر المتألمين من

تأخر المسلمين وضعفهم مكتوبًا مطولاً إلى صديق له في القاهرة ينتقد فيه كتب العلم

الإسلامية كلها، ويبرِّئ الدين من الفنون المنسوبة إليه كالكلام وأصول الفقه وفروعه،

ويقول: إنها كلها علوم ضارة ذهبت ببساطة الدين وسهولته، وشغلت عن علوم

الدنيا التي تعطي أصحابها القوة والعزة. فكتب إليه صديقه وهو من الكتاب الفضلاء

الباحثين في الشؤون الإسلامية مكتوبًا رد فيه بعض ما جاء في المكتوب، وسلَّم

بالبعض، فأحببنا أن يطلع علماؤنا لا سيما أهل الأزهر الشريف على بعض ما يدور

بين نبهاء المسلمين من البحث؛ ليعلموا بالإجمال أن صراخنا ونداءنا إياهم طالبين

إصلاح كتب التعليم وطريقته في غاية الاعتدال، فاخترنا الجواب؛ لأن صاحبه لم

يغلُ فيه غُلوّ الأول في الإنكار، وإن كان لا يخلو مما ينكره عليه الفقهاء وها هو

بحروفه:

كتابك أيها الفاضل ينبئ عن توغل الفكر في مرامي بعيدة مدى الغاية، وما

استخرجه من الحقائق من خبايا التاريخ أمور يوافقك على بعضها أخوك، وبعضها

نظريات تحتاج إلى دقيق تأمل ويضيق عن الإلمام بأطراف المناقشة فيها هذا الكتاب،

فأرى إرجاءها إلى فرصة الاجتماع - إذا تيسّر - أَوْلى.

وإنما هناك مسألة أحب أن لا يفوتني الآن النظر فيها رغبة في تعديل ما في

نفسك من جهتها وإيقافًا لك على فكري الصراح فيها، عسانا نجمع طرفي الرأي

إلى دائرة واحدة نتلاقى فيها عند نقطة الحقيقة التي لا خلاف فيها.

ذهبت إلى أن علم الفروع إنما هو مجموع قوانين وضعها البلخية والكرخية

إلخ من سميت، وأن هذه القوانين ليست من علوم الدين، وربما حملتها على محمل ما

سردت من العلوم التي رأيتها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، وأرى في هذا مغالاة

في الفكر فيها نظر يظهر لك ظهورًا جليًّا فيما يلي:

أنا أعتقد وأنت تعتقد أن لا بد لكل أمة قذفت بنفسها إلى مضمار الحياة من

قانون جامع لجزئيات الحوادث تحفظ به نظامها، وتمهد سبل الترقي لمجتمعها،

والإسلام وإن جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية والحياة الاجتماعية، إلا أن ما

جاء به إنما هو قواعد كلية، وليس من شأنه وشأن الأديان عامة أن تحيط

بالجزئيات التي لا تتناهى في جانب الترقي والاجتماع؛ وإنما كانت الإحاطة

بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل من الأمة؛ في وضعها عند الحاجة،

وإرجاعها إلى تلك القواعد والأصول على طرق معروفة اصطلح عليها علماء

الأصول من المسلمين، وقد فعل علماؤنا ما يجب عليهم من هذا القبيل وأحاطوا

بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم منها من تحديد

بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات، والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق

الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة خصمًا

وحكمًا فيها في آن واحد، ولهذا أسباب كثيرة لا يسهل بيانها إلا بعد معاناة صعوبة

الاستقصاء، وليس هذا محله.

هذا والحق أولى أن يقال ويتبع، ومثلك أيها الصديق مَنِ انقاد للحق وظَاهَرَ

أهله؛ فإن علماءنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد

لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها، إلا أنه مشوش بكثرة ما

اختلفوا فيه حتى على المسألة الواحدة، ومنشأ هذا على ما أرى انفراد الآحاد

بالتشريع [1] حتى من المخرجين والمرجحين، بحيث يجوز الواحد منهم ما يمنعه

الآخر وبالعكس، وسببه التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى

يتناولها من شاء، ومن ليس بمعصوم من الأفراد، وهي السلطة العظيمة التي لم

تسلمها أمة متمدنة قبل المسلمين للآحاد منفردين قط؛ وإنما كانت تُسَلَّم إلى ثقات كل

أمة مجتمعين لا منفردين.

لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم وعظمت للقوانين الجامعة لفروع

الحوادث حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع، وأن من قواعد دينهم الكلية

التكافل العام على مصالحهم العامة، وأن كل مصالحهم في الحقيقة إنما هي مرتبطة

بأُسّ المصالح وحياة الوجود ألا وهو القانون الكافل لراحة الجميع وسعادتهم -

لاستفادوا من هذا إلى الآن فوائد لا يستقصيها العقل، ولما تركوا أمر القوانين

فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان وأفتى بخلافه فلان، بل لكانوا عهدوا بتفريع

الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس

الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان.

ولكن لمّا لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين؛ هل

يجوز تركهم هملاً؟ كلا لا يجوز. إذن فوضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي

ذهبت إلى أنه مجموع قوانين وضعها فلان وفلان لازم، وهم المتفضلون ودهماء

المسلمين هم الملومون.

ولا يخفى على فهمك أن تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من

حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من

الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك، وهو الأحوط أيضًا في الدين

والدنيا، والفرق بين ما يضعه الواحد وبين ما يضعه الجمع عظيم جدًّا لا يخفى

على بصير؛ إذ إن ما يشعر به الواحد في نفسه من الحاجة أو يبلغه من العلم قد

يشعر الآخر بخلافه أو يحيط بما لا يحيط به ذاك، ولا تتمحص حقيقة الحاجة

العامة إلا باشتراك جماعة عظيمة بمثل هذا الشعور، واحتكاك الأفكار بطول

التجارب لهذا، ولكي يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى فائدة تبادل الفكر وأصول الشورى

خصوصًا في المصالح العامة - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باستشارة

أصحابه بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) أي: في

الشأن، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب كما قرره الأصوليون، ويتلو هذا في مرتبة

التعليم حديث التأبير المشهور وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبروا فأنتم

أدرى بأمر دنياكم) .

من هذا نعلم الفرق بين ما تمحصه العقول من الأمور ذات الشأن فلا تصدر

إلا عن علم الجميع بمصلحتهم عامة، وعلم كل فرد بمصلحته المستمدة من تلك

خاصة، فما بالك به في التشريع خصوصًا، وأن الإجماع فيه يدعو إلى ارتباط

الأحكام برباط الاتفاق عليها من جمهور المتشرعين، والعمل بها عند سائر الناس،

ويندفع بهذا خطر الفوضى القانونية التي يتخبط فيها المسلمون منذ أجيال كثيرة؛

لكثرة الخلاف بين الأئمة والمخرجين من علماء كل مذهب على مسائل المعاملات،

فضلاً عن العبادات، وما أراني إلا معترفًا لك بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام

المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت، وباضطراب

اعتقادك بفوائدها نوهت.

وأما ما قلته من أن علم الفروع ليس من علوم الدين، وإنما هو مجموع

قوانين وضعها المتقدمون، فليس ذلك كذلك، بل رأيي فيه أنه من علوم الدين

باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت

حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعد

للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين.

والذي أراه أن إطلاق علم الدين على الفروع لازم من لوازم البقاء والاستمرار

لأحكام الإسلام، وباعث على احترام هذا العلم احترامًا ينفع المسلمين كما ينفع كل

أمة تحترم الشرائع والقوانين، وإذا حملته على محمل ما ذكرته من العلوم من حيث

كونك تراها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، فيكفي في تعديل فكرك من هذا

القبيل إمعان نظرك فيما سبق بسطه لديك لتعلم - وأنت أعلم به - مني أن مسوغ

الاجتهاد الذي هو تشريع في الفروع ميسور لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة

الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور، ومنه يتضح لديك تيسر جعل

الفروع موافقة لحالة كل زمان ومكان إذا نهض أهل العلم والفضل للنظر في هذا

الأمر، وشرعوا بوضع كتب خاصة بأحكام المعاملات يتفق على اعتبارها دستورًا

للعمل جمهور أهل المذاهب، وهذا وإن كان يتوقف على ما يسمونه التلفيق إلا أنه

لا يمنع من التوفيق؛ لأن التلفيق جائز عند فقهائنا في العبادات فما بالك به في

المعاملات.

لا جرم أن علماءنا في هذا بين أمرين كلاهما لا يمنع من تحرير علم الفروع

وجعله صالحًا لحالة الزمان والمكان؛ وذلك أنهم إما أن يعتبروا أن كل ما حرَّره

الأئمة وقرروه هو من الدين الذي هو حق لا ريب فيه، فيلزمهم في هذه الحالة

التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة

لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من

مثارات الخلاف؛ ليكون أشبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به

المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل

يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا

وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما

جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في العصر مراعى

فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع فيها الآن من ضروريات

الحياة الاجتماعية، وعليها بُني ترقي الحكومات والأمم الغربية ترقيًا لم تكن تحلم

به الأمم من قبل، لا سيما وأن الذي جوَّز للسلف التوسع في الأمور السياسية عندما

مست الحاجة إليها حتى وضعوا لها كتبًا خاصة مستندة إلى أصول الشريعة كالأحكام

السلطانية والخراج وغيرها، يجوز للخلف التوسع فيما تمس إليه الحاجة الآن

وتقتضي التوسع فيه حالة الزمان.

على أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح أمر القوانين الاجتماعية عند المسلمين قد

دب في العقلاء دبيب البرء في الأطراف، ولا بد أن يعم سائر الجسم، فنرجو الله

سبحانه وتعالى أن ينبه علماءنا الكرام إلى تلافي أمر هذه الحاجة صونًا لعلم الفروع

من أن يُهْجَر، وحرصًا على علوم الشريعة من أن تصبح العناية بها أقل من العناية

بالقوانين الوضعية التي ألجأت الحاجة بعض الحكومات الإسلامية إلى استعمالها

دون القوانين الأساسية، ويراها بعضهم أجمع لحاجات الاجتماع، وهي وإن لم تكن

كذلك ألبتة إلا أنها بسلامتها من مثارات الاختلاف وتقيد الحاكم والمحكوم بقيود

خاصة منها لا تترك مجالاً للرأي، ومكانًا للقيل والقال - قد جعلت الرغبة إليها أميل

والطريق إلى انتظام الشؤون العامة بها أسد.

هذا فكري في النقطة التي اخترت أن أتجاذب وإياك أطراف البحث فيها الآن،

وقد رأيت ما احتاج إليه النظر فيها من التطويل الممل، فلو تناول البحث سائر ما

في كتابك لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير، فالله نسأل أن يوفقنا وإياك لخدمة الأمة

والدين ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم آمين.

(المنار) :

إن كثرة الخلاف في الفقه، والاضطراب في التصحيح والترجيح المؤدي إلى

الاختلاف في الفتوى والقضاء، وما في هذا من الضرر واختلال المصالح، ثم ما

في كتب الفقه من الصعوبة في الترتيب والتبويب، كل ذلك أشعر المسلمين من

زمن بعيد إلى الحاجة إلى إصلاح كتب الفقه ووضع كتاب، أو كتب في الأقوال

السديدة التي تنطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر على وجه قريب التناول

سهل الفهم، ثم قوي الفكر في الإصلاح حتى انتهى إلى القول بأن كتب الفقه التي

بين أيدينا مضرة، وأن أكثر ما فيها من مخترعات عقول الناس الذين أكثرهم من

الأعاجم، كما جاء في كتاب الشيخ المردود عليه بهذا الجواب.

وأكثر المعتدلين في الشرق والغرب على الوجه الأول، وقد كتب إلينا بعض

الفضلاء في الجزائر من مدة بما يأتي:

رأيت مقالة تناسب مشرب مجلتكم المفيدة، فأحببت أن أبعث بها إليكم

لتدرجوها فيها إن شئتم بعد تمهيد ترتبط به:

في الجزء الثاني صفحة 24 من رحلة العلامة الشهير المرحوم الشيخ أبي

سالم عبد الله العياشي المسماة بماء الموائد المطبوعة في حاضرة فاس أواسط جمادى

الثانية عام 1316 ما نصه:

(إني كنت أود لو أن الله قيض لهذه الأمة من يجمع أربعة من محققي علماء

كل مذهب من هذه المذاهب الأربعة الموجودة، ويختار لكل واحد جماعة من أهل

مذهبه يستعين بهم في المطالعة وتحقيق ما يشكل عليه من فروع الديانات، فيأمر

الأربعة بالاجتماع في محل واحد في وقت مخصوص من ليل أو نهار بقصد تأليف

ديوان في فروع الفقه، ويتخذ لهم كُتَّابًا مهرة يستعينون بهم، ويجري على الجميع من

الجرايات ما يكون سببًا لفراغ بالهم لما هم بصدده، وبعد مراجعة كل واحد منهم مع

أصحابه ما يحتاج إليه من كتب مذهبه في المحل الذي يؤلفون فيه - يجتمعون،

فيتتبعون فروع الديانات الجزئيات من أول مسألة مدونة في الفقه على قدر طاقتهم

إلى آخرها، فيذكر كل واحد مشهور مذهبه في كل نازلة، فإذا علموا مشهور

المذاهب في كل مسألة مسألة نظر من تصدى للكتابة والتأليف عندهم إلى المسائل

المتفق عليها بينهم، فأثبتها ولا يحكي شيئًا من الخلاف فيها، ثم المسائل المختلف

فيها يقتصر فيها على قول ثلاثة منهم إن اجتمعوا، ويحذف قول الرابع، ثم إن قال

اثنان بقول واثنان بقول جعلها ذات قولين مشهورين، ثم إن تباينت آراؤهم في

النازلة وهو قليل حكاها بلا تشهير، وتكون مسألة خلاف ويقدم ما كان منها مستندًا

إلى كتاب، ثم ما استند إلى سنة، ثم ما استند إلى أثر صحابي قوي، ثم ما أخذ من

الاجتهاد، فإذا أُلِّف الديوان على هذا الوصف، وحمل الناس على اتِّباعه - كان أقرب

لضبط الانتشار الواقع الآن، وكثرة الخلاف الواقع بين أهل المذاهب والتعصبات

الفاحشة المؤدية إلى تضليل بعضهم بعضًا

إلخ، انتهى ما تعلق بنقله الغرض

بنصه وفصه.

...

...

...

... كمال الدين المرغناني

من الجزائر في 23 من شوال سنة 1318

(المنار)

أما رأينا في الفقه فموافق لما جاء في المحاورة بين المصلح والمقلد، وقد

ضاق عنها هذا الجزء وما قبله، وستُنشر في الجزء الآتي إن شاء الله.

_________

(1)

حيثما جاء التشريع هنا فالمراد به التفريع فاحترس.

ص: 132

الكاتب: محمد رشيد رضا

(الدرس 19)

الحاجة إلى الوحي والنبوة

بيَّنا وجه حاجة الإنسان إلى الوحي لسعادته في الحياة الدنيا، من حيث إنه

نوع اجتماعي أودع في طبيعة أفراده من الرغائب والحظوظ ما يقتضي التباين

والتنازع، كما أُودِع فيها من حب الاجتماع والعجز عن تحصيل معظم ما تطالبها به

الفطرة ما يدعو إلى التعاون، الذي يعارضه التخالف والتغابن، ولا يتم للنوع

ارتقاؤه - بل ولا بقاؤه - مع هذه الغرائز المتعارضة؛ فمن ثَمَّ كان محتاجًا إلى إرشاد

يوافق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من

الأفراد حدّه، ويجعل له من نفسه وازعًا يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا

بالدين.

ويرد على هذا القول ثلاث شبهات إحداها: أن الإنسان لا يتربى إلا بالكون وما

يعرض عليه من شؤونه وأطواره، فالذي تثبت له الوقائع الكونية أنه ضار يرغب

عنه ويجتنبه، والذي تثبت له أنه نافع يرغب فيه ويجتلبه، ولذلك لم تنتفع الأمم

والشعوب بهدي الأديان، إلا بمقدار ما أعدتها له الأكوان، وقد أجبنا عن هذه الشبهة

في الدرس السابق من غير أن نقررها، ولم يكن الجواب ناقضًا لمسألة الاستعداد، فقد

ورد أن الأنبياء أُمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وما منح الله تعالى الإنسان

الدين إلا بعدما ارتقى استعداده لفهمه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ

وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213)

إلخ.

وقد ارتقى هدي الدين وإرشاده بارتقاء الإنسان حتى كمل بالإسلام على ما

بينه أستاذنا الأكبر في رسالته، وسيرتقي أهله وهم العالم الإنساني كله بالنسبة إلى

الدعوة حتى يفهموه حق فهمه، وذلك بعدما ترتقي علوم الفطرة والطبيعة أكمل

ارتقاء كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ

الحَقُّ} (فصلت: 53) .

الشبهة الثانية: هي أن الحكماء والعقلاء يمكنهم أن يضعوا للناس قوانين

وحدودًا تغنيهم عن الوحي والشرائع السماوية، والجواب عنها أنه إذا فرض أن في

استطاعة الحكماء أن يستقلوا بهذا الوضع، فهل في استطاعتهم أن يحملوا الناس

جميعًا على قبوله والعمل به بغير وازع الدين؟ فإن قيل: إن الحكماء يضعون

القوانين والحكام يلزمون الناس بالعمل بها؛ نقول:

لا ترجع الأنفس عن غيها

ما لم يكن منها لها زاجر

والوازع الدين وازع نفسي؛ لأن مبدأ الدين من الإلهامات الفطرية في نفوس

البشر، وأما وازع القوة فلا سلطان له إلا على الظواهر، فمتى أمن أهل البغي

والتعدي من اطِّلاع الحاكمين يرتكبون ما شاء البغي، ويجترحون ما أحبت الشهوة من

التعدي على الأموال والأعراض وراء الحجب والأستار، وحيث لا تمتد أعين

الشهداء ولا تصل معارف القضاة والأمراء، ثم إن القضاة والحكام أنفسهم إذا كانوا

على غير دين ينتهكون الحرمات، ويقترفون السيئات، ويساعدون الجناة ويشاركون

الجباة.

والحاصل أن الإنسان لا يستغني في حياته الاجتماعية عن حدود عادلة يقف

أفراده عندها في معاملتهم ومعاشرتهم، وأن هذه الحدود لا تُحْتَرم ويوقف عندها،

إلا إذا كانت على موافقتها للمصلحة العامة مضافة إلى تلك السلطة الغيبية التي فُطِر

الناس على الاعتقاد بها والخضوع لها، وهذا عين حاجتهم إلى الوحي لسعادة الدنيا،

وقد تقدم المثال العملي في إثبات هذه النظرية في الدرس السابق.

الشبهة الثالثة: لقائل أن يقول: إن أمم أوربا التي تحكم بالقوانين الوضعية،

هي أسعد من الأمة الإسلامية، وإن الحكومات الإسلامية التي أخذت ببعض هذه

القوانين كمصر والدولة العلية أحسن حالاً ممن لم يأخذ بشيء منها كحكومة مراكش.

والجواب يعرف مما كتبناه في الدرس الماضي من المقابلة بين المسلمين في

نشأتهم الأولى، وبين الأوربيين في نهايتهم، مع أنهم لم يمرقوا كلهم من الدين الذي

بني على وجوب طاعة الحكام، وقد صرحنا مرارًا أن المسلمين صاروا حجة على

دينهم، بل قلنا في المقابلة المذكورة: إنهم حجة من لا دين له على كل دين.

(المسألة 56) :

الحاجة إلى الوحي لسعادة الآخرة: خلق الله للإنسان حواس ومشاعر،

ووهبه عقلاً وفكرًا يهتدي به إلى مصالحه ومنافعه في الدنيا كما قال: {أَعْطَى كُلَّ

شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وعلمنا أن هذه المواهب لم تكن كافية له

لسعادته الدنيوية، لولا الدين؛ فما بالك بحياته الأخرى الغيبية التي يقصر عن

تناولها حسه، ولا يحيط بشيء من كنهها عقله، وإنما يشعر بها وجدانه شعورًا

مجملاً مبهمًا؟ وقد بيَّن أستاذنا في (رسالة التوحيد) هذا الشعور أحسن

بيان، واستنتج منه وجه الحاجة إلى الوحي بأجلى برهان، والأفضل أن نقتبسه

بلفظه ومعناه؛ لئلا يضيع شيء من فحواه، قال حفظه الله:

اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن

على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء،

وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في

تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق

الاستدلال عليه؛ فمِن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومِن

ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال:

إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها، أو ما به

شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية،

وكان اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين وفيما هو متاع الحياة

الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم، وتضارب آراء الأمم

فيه قديمًا وحديثًا مما لا تكاد تحصى وجوهه.

هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث في جميع الأنفس عالمها

وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن

يكون ضلة عقلية أو نزغة وهمية؛ وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا

النوع، فكما أُلْهِم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا، وإن

شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى

أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا أن لا

وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن

شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما

ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول، وأشعرت

النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان

ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر،

وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء يُشْعِر كل نفس أنها

مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير

محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيئة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب

والغايات، معرضة لآلام من الشهوات، ونزعات الأهواء، ونزوات الأمراض على

الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عد

ولا تنتهي عند حد، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما

قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف،

فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن

يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات.

شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي وما عسى أن تكون عليه

متى وصلت إليه، وكيف الاهتداء وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل؟

شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا

في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد وقضاء

الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان،

وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب لا ندري

متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها.

هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم

بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟

وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها،

وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها؛ ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما

أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه أو إلى

معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى

اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في

غاية الغموض بالنسبة إليك؟ كلا، فإن الصلة بين العالمين تكون منقطعةً إلا فيك

أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة، لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم

المستقبلة.

أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد

والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب

للتراسل، أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدلها بمحض فضله بعض

من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ

بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون

سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته

وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه،

ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين نهاية الشاهد، وبداية الغائب،

فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها،

ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته

الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قُدِّر أن يكون له مدخل في سعادتهم

الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه

بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة

تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم ما هو مناط سعادتهم

وشقائهم في ذلك الكون المُغَيَّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق

ضمائرهم في إجماله، وتدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة

وباطنة، ثم تؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات حتى تقوم بهم الحجة ويتم

الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين؟

لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد

على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرًا ولا جليلاً من خلقه

يكونون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام

المواهب التي اختص بها غيره أن ينقذه من حيرته ويخلصه من التخبط في أهم

حياتيه، والضلال في أفضل حاليه.

يقول قائل: ولِم لمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها

الانقياد إلى العمل وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا

النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل

والغفلة عن موضوع البحث وهو النوع الإنساني، ذلك النوع على ما به وما دخل

في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب

الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن

يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات

لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيوانًا آخر كالنحل والنمل، أو ملكًا من الملائكة

ليس من سكان هذه الأرض) اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 140