الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مساواة الأنثى بالذكر في العطية بين الأولاد؟ أرجو تكرم سماحتكم على ابنكم بالإجابة عن السؤال حفظكم الله (1)
ج: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، بعده:
فالذي فعله فضيلتكم هو العدل فيما نعتقده وفيما نفتي به، وهو الموافق لقسمة الله في الميراث وهو سبحانه الحكم العدل في شرعه وقدره، فأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
(1) سؤال شخصي موجه لسماحته من فضيلة الشيخ ع. س. م. وقد أجاب عنه سماحته بتاريخ 2 \ 8 \ 1410 هـ
110 -
مسألة في العدل بين الأولاد في الهبة
س: ورد في الحديث: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (1) » فهل المقصود المساواة المطلقة أم للذكر مثل حظ الأنثيين أسوة
(1) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) ، سنن النسائي النحل (3681) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2375) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، موطأ مالك الأقضية (1473) .
بالميراث؟ فالحديث على ما أظن يقول: "أكلهم أعطيتهم مثله" فكلمة مثل إن صحت توحي بالمساواة المطلقة، اللهم إلا إن كان يتكلم عن الذكور فقط، أفيدونا أفادكم الله؟ (1)
ج: الحديث صحيح رواه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه «أن أباه أعطاه غلاما، فقالت أمه: لا أرضى حتى يشهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل فقال: "أكل ولدك أعطيته مثل ما أعطيت النعمان " فقال: لا. فقال الرسول: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم (2) » . فدل ذلك على أنه لا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض في العطايا، أو تخصيص بعضهم بها، فكلهم ولده، وكلهم يرجى بره، فلا يجوز أن يخص بعضهم بالعطية دون بعض، واختلف العلماء رحمة الله عليهم هل يسوى بينهم ويكون الذكر كالأنثى، أم يفضل الذكر على الأنثى
(1) من برنامج نور على الدرب شريط رقم 53
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها، باب الإشهاد في الهبة، برقم 2398، ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، برقم 3055
كالميراث؟ على قولين لأهل العلم، والأرجح أن العطية كالميراث وأن التسوية تكون بجعل الذكر كالأنثيين، فإن هذا هو الذي جعله الله لهم في الميراث وهو سبحانه الحكم العدل، فيكون المؤمن في عطيته لأولاده كذلك، كما لو خلفه لهم بعد موته للذكر مثل حظ الأنثين هذا هو العدل
بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أمهم وأبيهم، وهذا هو الواجب على الأب والأم أن يعطوا الأولاد للذكر مثل حظ الأنثين؛ وبذلك يحصل العدل والتسوية، كما جعل الله ذلك في الميراث وهو عدل من أبيهم وأمهم.
كتاب الأيمان
111 -
ما هو تأويل الحلف في قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه
"
س: هل الرسول صلى الله عليه وسلم حلف بغير الله في قوله في الحديث: «أفلح وأبيه إن صدق (1) » وإن كان لا فما هو تأويل الحديث جزاك الله خيرا؟ (2)
ج: كانوا في أول الإسلام وأول الهجرة يحلفون بآبائهم ثم نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم (3) » . أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح
(1) صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
(2)
من أسئلة حج عام 1418 هـ، الشريط السادس
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا، برقم 5643، ومسلم في كتاب الإيمان، باب النهي عن الحلف بغير الله، برقم 3104
وأبيه إن صدق (1) » فإنه قبل النهي ثم جاء النهي فترك ذلك، وتركه المسلمون فصار الحلف بالله وحده، وقال صلى الله عليه وسلم:«من حلف بغير الله فقد أشرك (2) » . وقال: «من حلف بالأمانة فليس منا (3) » . وقال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (4) » . فاستقرت الشريعة على تحريم الحلف بغير الله.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه (5) » فكان هذا قبل النهي.
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، برقم 2830
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم 5799، والترمذي في كتاب النذور والأيمان، باب في كراهية الحلف بغير الله، برقم 1455
(3)
أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، برقم 21902، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب كراهية الحلف بالأمانة، برقم 2831
(4)
أخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالأمهات، برقم 3709، وأبو داود في كتاب الأيمان والنذور، باب في كراهية الحلف بالآباء، برقم 2827
(5)
صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3252) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
كتاب الحدود
112 -
ما صحة حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات
(1) »
س: هل يرى سماحتكم صحة حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات (2) » ؟ (3)
ج: الحديث له طرق فيها ضعف لكن مجموعها يشد بعضه بعضا، ويكون من باب الحسن لغيره؛ ولهذا احتج بها العلماء على درء الحدود بالشبهات.
أما حديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (4) » . فهو صحيح، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم:«من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (5) » .
(1) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(2)
أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(3)
أجاب عنه سماحته بتاريخ 8 \ 1 \ 1412 هـ
(4)
أخرجه النسائي في سننه في كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، برقم 5615، والترمذي في سننه في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه برقم 2448
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، برقم 2996، وابن ماجه في سننه كتاب الوقوف عند الشبهات، باب الفتن، برقم 3974
113 -
شرح حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات
(1) »
س: في مسند أبي حنيفة للحارثي حديث رواه عبد الله بن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم «ادرءوا الحدود بالشبهات (2) » أرجو أن تتفضلوا بشرح هذا الحديث؟ جزاكم الله خيرا (3)
ج: الحمد لله، لقد جاء في هذا الباب عدة أحاديث في أسانيدها مقال، لكن يشد بعضها بعضا، منها الحديث الذي ذكر السائل:«ادرءوا الحدود بالشبهات (4) » . وفي الآخر: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم (5) » . والمعنى: أن الواجب على
(1) أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(2)
أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(3)
من برنامج نور على الدرب الشريط الثالث
(4)
أخرجه الهندي في كنز العمال برقم 12957، 12972، وفي كشف الخفاء، برقم 166
(5)
أخرجه الترمذي في كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود، برقم 1344، والبيهقي في السنن الكبرى كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات 8 \ 238
ولاة الأمور من العلماء والأمراء أن يدرءوا الحدود بالشبهة التي توجب الشك في ثبوت الحد، فإذا لم يثبت عند الحاكم الحد ثبوتا واضحا لا شبهة فيه فإنه لا يقيمه، ويكتفي بما يردع عن الجريمة من أنواع التعزير، ولا يقام الحد الواجب كالرجم في حق الزاني المحصن، وكالجلد مائة جلدة في حق الزاني البكر، وبقطع اليد في حق السارق لا يقام إلا بعد ثبوت ذلك ثبوتا لا شبهة فيه ولا شك فيه بشاهدين عدلين لا شبهة فيهما، فيما يتعلق بالسرقة وبأربعة شهود عدول فيما يتعلق بحد الزنا، وهكذا بقية الحدود، فالواجب على ولاة الأمر أن يعتنوا بذلك وأن يدرءوا الحد بالشبهة التي توجب الريبة والشك في الثبوت.
صفحة فارغة
كتاب الأقضية
114 -
الجمع بين حديثين متعلقين بالقضاء والاجتهاد
س: كيف نوفق بين الحديثين التاليين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (1) » . رواه أبو داود. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومعناه: «المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد (2) » . وفقوا بين الحديثين؟
ج: ليس بينهما بحمد الله تعارض، بل المعنى واضح؛ فالحديث الأول في من قضى للناس على جهل ليس عنده علم
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب القضاة، باب في القاضي يخطئ، برقم 3102
(2)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن الترمذي الأحكام (1326) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (4/198) .
لشرع الله يقضي به بين الناس فهو متوعد بالنار؛ لقوله على الله بغير علم، وهكذا الذي يعلم الحق ولكن يجور من أجل الهوى لمحبته لشخص أو لرشوة أو ما أشبه ذلك فيجور في الحكم فهذان في النار؛ لأن الأول ليس عنده علم يقضي به فهو جاهل فليس له القضاء، أما الثاني فقد تعمد الجور والظلم فهو في النار. أما الأول فقد عرف الحق وقضى به فهو في الجنة.
أما حديث الاجتهاد الذي رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه وما جاء في معناه وهو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (1) » . فهذا في العالم الذي يعرف الأحكام الشرعية وليس جاهلا، ولكن قد تخفى عليه بعض الأمور وتشتبه عليه بعض الأشياء فيجتهد ويتحرى الحق وينظر في الأدلة الشرعية من القرآن والسنة ويتحرى الحكم الشرعي لكنه لم يصبه، فهذا له أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب وخطؤه مغفور،
(1) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 6805، ومسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد، برقم 3240
لأنه عالم عارف بالقضاء ولكن في بعض المسائل قد يغلط بعد الاجتهاد والتحري والنية الصالحة فهذا يعطى أجر الاجتهاد ويفوته أجر الصواب.
الثاني اجتهد في طلب الحق واعتنى بالأدلة الشرعية وليس له قصد سيئ، بل هو مجتهد طالب للحق فوفق له واهتدى إليه وحكم بالحق فهذا له أجران أجر الإصابة وأجر الاجتهاد؛ وبذلك يعلم أنه ليس بين الحديثين تعارض، والحمد لله.
كتاب الصيد والذبائح
115 -
ما صحة حديث: "صيد البر لكم حل ما لم تصيدوه
"
س: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر رضي الله عنه: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم (1) » . هل هو صحيح؟
ج: لا بأس به، وإسناده حسن (2) . ويشهد له حديث أبي قتادة الأنصاري وحديث الصعب بن جثامة الليثي وغيرهما.
(1) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، برقم 1577، والترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، برقم 775
(2)
وهو في المحرم
116 -
ما صحة حديث: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع
…
"
س: بالنسبة لهذا الحديث لا ندري ما صحته، وهو:«نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع» .
ج: هذا يروى عن بعض الوفود وفي سنده ضعف، يروى أنهم قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم:«نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع» يعنون أنهم مقتصدون، هذا المعنى صحيح لكن السند فيه ضعيف. (يراجع في زاد المعاد، والبداية لابن كثير) .
وهذا ينفع الإنسان إذا كان يأكل على جوع أو حاجة، وإذا أكل لا يسرف في الأكل ويشبع الشبع الزائد، أما الشبع الذي لا يضر فلا بأس به.
فالناس كانوا يأكلون ويشبعون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره، ولكن يخشى من الشبع الظاهر الزائد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان يدعى إلى ولائم، ويضيف الناس ويأمرهم بالأكل فيأكلون ويشبعون، ثم يأكل بعد ذلك عليه الصلاة والسلام ومن بقي من الصحابة.
وفي عهده يروى «أن جابر بن عبد الله الأنصاري دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب -يوم غزوة الخندق- إلى طعام على ذبيحة صغيرة - سخلة - وعلى شيء من شعير، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع الخبز واللحم، وجعل يدعو عشرة عشرة، فيأكلون ويشبعون ثم يخرجون، ويأتي عشرة آخرون وهكذا، فبارك الله في الشعير وفي السخلة، وأكل منها جمع غفير،
وبقي منها بقية عظيمة، حتى صرفوها للجيران (1) » .
«والنبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم أيضا سقى أهل الصفة لبنا " قال أبو هريرة فسقيتهم حتى رووا، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم اشرب يا أبا هريرة قال: شربت. ثم قال: اشرب فشربت. ثم قال: اشرب فشربت. ثم قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكا، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ما بقي وشرب عليه الصلاة والسلام (2) » . وهذا يدل على جواز الشبع وجواز الري، لكن من غير مضرة.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، برقم 3792، 3793، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، برقم 3800.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الرقائق، باب كيف عيش النبي صلى الله عليه وسلم، برقم 5971.
117 -
حكم الأكل والشرب واقفا
س: هناك بعض الأحاديث النبوية المطهرة تنهى عن الأكل والشرب واقفا، وهناك أيضا بعض الأحاديث تسمح
للإنسان بالأكل والشرب واقفا، فهل معنى ذلك أننا لا نأكل ولا نشرب واقفين أم نأكل ونشرب جالسين وأي الأحاديث أجدر بالاتباع؟
ج: الأحاديث الواردة في هذا صحيحة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الشرب قائما والأكل مثل ذلك، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه شرب قائما، فالأمر في هذا واسع وكلها صحيحة والحمد لله، فالنهي عن ذلك للكراهة، فإذا احتاج الإنسان إلى الأكل واقفا أو إلى الشرب واقفا فلا حرج، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب قاعدا وقائما، فإذا احتاج الإنسان إلى ذلك فلا حرج أن يأكل قائما وأن يشرب قائما، وإن جلس فهو أفضل وأحسن، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم «أنه شرب من زمزم واقفا (1) » عليه الصلاة والسلام، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه شرب قائما وقاعدا، والأمر في هذا واسع، والشرب قاعدا والأكل قاعدا أفضل وأهنأ، وإن شرب قائما فلا حرج، وهكذا إن أكل قائما فلا حرج.
(1) صحيح البخاري الأشربة (5617) ، صحيح مسلم الأشربة (2027) ، سنن الترمذي الأشربة (1882) ، سنن النسائي مناسك الحج (2965) .
118 -
شرح حديث: «من أكل بصلا أو ثوما فلا يقربن مساجدنا ثلاثة أيام
(1) »
س: هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل بصلا أو ثوما أو كراثا فلا يقربن مساجدنا ثلاثة أيام فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم (2) » أو كما قال عليه الصلاة والسلام هل معنى ذلك أن الآكل لأي من هذه الأشياء لا تجوز له الصلاة في المسجد حتى تمضي عليه تلك المدة أم يعتبر أكلها غير جائز لمن تلزمه صلاة الجماعة؟ (3)
ج: هذا الحديث وما في معناه من الأحاديث الصحيحة يدل على كراهة حضور المسلم لصلاة الجماعة ما دامت الرائحة توجد منه ظاهرة تؤذي من حوله؛ سواء كان ذلك من أجل الثوم أو البصل أو الكراث أو غيرها من الأشياء المكروهة الرائحة كالدخان حتى تذهب الرائحة، أما التحديد بثلاثة أيام فلا أعلم له أصلا.
(1) صحيح البخاري الأذان (853) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (561) ، سنن أبو داود الأطعمة (3825) ، سنن الدارمي الأطعمة (2053) .
(2)
أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهي من أكل ثوما أو بصلا أو كراثا أو نحوها عن حضور المسجد، برقم 876
(3)
نشر في كتاب فتاوى إسلامية، جمع محمد المسند، ص 135
119 -
أحكام ماء زمزم
س: هل هناك حديث صحيح عن فائدة ماء زمزم؟
ج: ماء زمزم قد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه ماء شريف وماء مبارك، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم «قال في زمزم: إنها مباركة، إنها طعام طعم (1) » . وزاد في رواية عند أبي داود بسند جيد:«وشفاء سقم (2) » . فهذا الحديث الصحيح يدل على فضلها وأنها طعام طعم وشفاء سقم وأنها مباركة.
والسنة الشرب منها كما شرب منها النبي صلى الله عليه وسلم ولما فيها من البركة، وهي طعام طيب طعام مبارك، طعام يشرع التناول منه إذا تيسر، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم،
(1) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي ذر، برقم 4520
(2)
أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده برقم 459، والهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 286، والهندي في كنز العمال ج 12 برقم 34769، 3480
وهذا الحديث الصحيح يدلنا على ما تقدم من فضلها وأنها مباركة وأنها طعام طعم وشفاء سقم، وأنه يستحب للمؤمن أن يشرب منها إذا تيسر له ذلك، ويجوز له الوضوء منها، ويجوز أيضا الاستنجاء منها والغسل من الجنابة إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه نبع الماء من بين أصابعه ثم أخذ الناس حاجتهم من هذا الماء ليشربوا وليتوضئوا وليغسلوا ثيابهم وليستنجوا، كل هذا واقع، وماء زمزم إن لم يكن مثل الذي نبع من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فوق ذلك فكلاهما ماء شريف، فإذا جاز الوضوء والاغتسال والاستنجاء وغسل الثياب من الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فهكذا يجوز من ماء زمزم.
وبكل حال فهو ماء طهور طيب يستحب الشرب منه، ولا حرج في الوضوء منه، ولا حرج في غسل الثياب منه، ولا حرج في الاستنجاء منه إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما تقدم، والحمد لله.
120 -
شرح حديث: "بيت ليس فيه تمر جياع أهله
"
س: ما صحة هذا الحديث: "بيت ليس فيه تمر جياع أهله"؟ (1)
ج: الحديث صحيح أخرجه مسلم في صحيحه (2) . وهو محمول عند أهل العلم على من كان من طعامه التمر كأهل المدينة في وقته صلى الله عليه وسلم وأشباههم ممن يقتاتون التمر، والله ولي التوفيق.
(1) نشر في مجلة الدعوة العدد 1569 بتاريخ 17 رجب 1417 هـ
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب في ادخار التمر ونحوه من الأقوات للعيال، برقم 3812
كتاب اللباس والزينة
121 -
ما صحة حديث أنه صلى الله عليه وسلم «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها
(1) »
س: ما صحة حديث رواه الترمذي رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (2) » ؟ (3)
ج: هذا خبر باطل عند أهل العلم لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تشبث به بعض الناس، وهو خبر لا يصح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متهم بالكذب.
فلا يجوز للمؤمن أن يتعلق بهذا الحديث الباطل، ولا أن يترخص بما يقوله بعض أهل العلم أو يفعله من تخفيف اللحية أو أخذ ما زاد عن القبضة؛ لأن ذلك مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها وقص الشوارب وإحفائها، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وكما في صحيح مسلم من
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
(2)
سنن الترمذي الأدب (2762) .
(3)
سؤال شخصي أجاب عنه سماحته بتاريخ 4 \ 12 \ 1411 هـ
حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأن السنة حاكمة على الجميع، والله سبحانه وتعالى يقول:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (1) ويقول سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (2) ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والله ولي التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به.
(1) سورة النساء الآية 80
(2)
سورة النور الآية 54
(3)
سورة النور الآية 63
122 -
حكم صبغ اللحية بالسواد
س: ما مدى صحة الأحاديث التي وردت في صبغ اللحية بالسواد، فقد انتشر صبغ اللحية بالسواد عند كثير ممن ينتسبون إلى العلم؟
ج: في هذا الباب أحاديث صحيحة كثيرة، من أشهرها حديث جاء في قصة والد الصديق رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لما رأى رأس والد الصديق ولحيته كالثغامة بياضا: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد (1) » . وفي رواية: «وجنبوه السواد (2) » . وحديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة (3) » . وهذا وعيد شديد، وفي ذلك أحاديث أخرى كلها تدل على تحريم الخضاب بالسواد، وعلى شرعية الخضاب بغيره.
(1) أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة وتحريمه بالسواد، برقم 3925
(2)
أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين، برقم 13933، وابن ماجه في كتاب اللباس، باب الخضاب بالسواد، برقم 3614
(3)
أخرجه الإمام أحمد في من مسند بني هاشم برقم 2341، وأبو داود في كتاب الترجل، باب ما جاء في خضاب السواد، برقم 3679، والنسائي في كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد، برقم 4988
123 -
شرح حديث: "مائلات مميلات
"
س: ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث: "مائلات مميلات"؟ (1)
ج: هذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«صنفان من أهل النار لم أرهما رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس؛ ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (2) » . وهذا وعيد عظيم يجب الحذر مما دل عليه.
فالرجال الذين في أيديهم سياط كأذناب البقر هم من يتولى ضرب الناس بغير حق من شرط أو من غيرهم، سواء كان ذلك بأمر الدولة أو بغير أمر الدولة. فالدولة إنما تطاع في المعروف،
(1) نشر في هذا المجموع، ج 6، ص 355.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات، برقم 3971
قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » . وأما قوله صلى الله عليه وسلم: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، فقد فسر ذلك أهل العلم بأن معنى «كاسيات (3) » يعني من نعم الله «عاريات (4) » يعني من شكرها، لم يقمن بطاعة الله، ولم يتركن المعاصي والسيئات من إنعام الله عليهن بالمال وغيره، وفسر الحديث أيضا بمعنى آخر وهو أنهن كاسيات كسوة لا تسترهن إما لرقتها أو لقصورها، فلا يحصل بها المقصود، ولهذا قال:«عاريات (5) » ؛ لأن الكسوة التي عليهن لم تستر عوراتهن «مائلات (6) » يعني: عن العفة والاستقامة؛ أي عندهن معاص وسيئات كاللائي يتعاطين الفاحشة، أو يقصرن في أداء الفرائض، من الصلوات وغيرها «مميلات (7) » : يعني: مميلات لغيرهن، أي يدعون إلى الشر والفساد، فهن بأفعالهن وأقوالهن يملن غيرهن إلى الفساد والمعاصي ويتعاطين الفواحش، لعدم إيمانهن أو لضعفه
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم 6612، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية، برقم 3425
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة، برقم 1041
(3)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(4)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(5)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(6)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/356) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(7)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
وقلته، والمقصود من هذا الحديث الصحيح هو التحذير من الظلم وأنواع الفساد من الرجال والنساء، وقوله صلى الله عليه وسلم:«رءوسهن كأسنمة البخت المائلة (1) » قال بعض أهل العلم: إنهن يعظمن الرءوس بما يجعلن عليها من شعر ولفائف وغير ذلك، حتى تكون مثل أسنمة البخت المائلة، والبخت: نوع من الإبل لها سنامان، بينهما شيء من الانخفاض والميلان، هذا مائل إلى جهة وهذا مائل إلى جهة، فهؤلاء النسوة لما عظمن رؤوسهن وكبرن رءوسهن بما جعلن عليها أشبهن هذه الأسنمة. أما قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها (2) » ، فهذا وعيد شديد، ولا يلزم من ذلك كفرهن ولا خلودهن في النار كسائر المعاصي، إذا متن على الإسلام، بل هن وغيرهن من أهل المعاصي كلهم متوعدون بالنار على معاصيهم، ولكنهم تحت مشيئة الله إن شاء سبحانه عفا عنهم وغفر لهم وإن شاء سبحانه عفا عنهم وغفر لهم وإن شاء عذبهم، كما قال عز وجل في سورة النساء في موضعين:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ومن دخل النار من أهل المعاصي فإنه لا يخلد فيها
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(2)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .
(3)
سورة النساء الآية 48
خلود الكفار بل من يخلد منهم كالقاتل والزاني والقاتل نفسه لا يكون خلوده مثل خلود الكفار بل هو خلود له نهاية عند أهل السنة والجماعة، خلافا للخوارج والمعتزلة ومن سار على نهجهم من أهل البدع؛ لأن الأحاديث الصحيحة قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دالة على شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل المعاصي من أمته، وأن الله عز وجل يقبلها منه صلى الله عليه وسلم عدة مرات، في كل مرة يحد له حدا فيخرجهم من النار، وهكذا بقية الرسل والمؤمنون والملائكة والأفراط كلهم يشفعون بإذنه سبحانه، ويشفعهم عز وجل فيمن يشاء من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بمعاصيهم وهم مسلمون، ويبقى في النار بقية من أهل المعاصي لا تشملهم شفاعة الشفعاء، فيخرجهم الله سبحانه برحمته وإحسانه، ولا يبقى في النار إلا الكفار فيخلدون فيها أبد الآباد، كما قال عز وجل في حق الكفرة:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (1) وقال تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (2) وقال سبحانه في الكفرة من عباد الأوثان:
(1) سورة الإسراء الآية 97
(2)
سورة النبأ الآية 30
{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2){يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة. نسأل الله العافية والسلامة من حالهم
(1) سورة البقرة الآية 167
(2)
سورة المائدة الآية 36
(3)
سورة المائدة الآية 37
124 -
حكم الإسلام في الشعر الصناعي المسمى (الباروكة)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين «عن معاوية رضي الله عنه أنه خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول قصة من الشعر كانت بيد حرسي، فقال: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه
ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم (1) » وفي لفظ لمسلم: «إنما عذب بنو إسرائيل لما اتخذ هذه نساؤهم (2) » وفي الصحيحين أيضا، واللفظ لمسلم عن سعيد بن المسيب قال:«قدم معاوية المدينة فخطبنا وأخرج كبة من شعر فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور (3) » وفي لفظ آخر لمسلم: أن معاوية رضي الله عنه قال ذات يوم: «إنكم قد أحدثتم زي سوء وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور (4) »
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم عند كلامه على هذا الحديث: قوله قصة من شعر قال الأصمعي وغيره: هي شعر مقدم
(1) أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم 3209، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة، برقم 3968.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة، برقم 3968.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم 3229، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة برقم 3969.
(4)
رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة برقم 3970.
الرأس المقبل على الجبهة وقيل: شعر الناصية، قال: وقوله: أخرج كبة من شعر هي بضم الكاف وتشديد الباء وهي شعر مكفوف بعضه على بعض، وقال صاحب القاموس: القصة بالضم شعر الناصية.
وفي هذا الحديث الدلالة الصريحة على تحريم اتخاذ الرأس الصناعي المسمى (الباروكة) لأن ما ذكره معاوية رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح في حكم القصة والكبة ينطبق عليه، بل ما اتخذه الناس اليوم مما يسمى الباروكة أشد من التلبيس وأعظم من الزور إن لم يكن هو عين ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل فليس دونه، بل هو أشد منه في الفتنة والتلبيس والزور ويترتب عليه من الفتنة ما يترتب على القصة والكبة إن لم يكن هو عينهما، ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى؛ لأن العلة تعمهما جميعا وبذلك يكون محرما من وجوه أربعة: أحدها: أنه من جملة الأمور التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في النهي التحريم؛ لقول الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتبوه وما أمرتكم به
(1) سورة الحشر الآية 7
فأتوا منه ما استطعتم (1) » الحديث متفق على صحته. الثاني: أنه زور وخداع، والثالث: أنه تشبه باليهود وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » ، الرابع: أنه من موجبات العذاب والهلاك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هلكت بنو إسرائيل لما اتخذ مثل هذه نساؤهم (3) » ، ويؤيد ما ذكرنا تحريم اتخاذ هذا الرأس أنه أشد في التلبيس والزور والخداع من وصل الشعر بالشعر.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه «لعن الواصلة والمستوصلة (4) » ، والواصلة هي التي تصل شعرها بشعر آخر؛ ولهذا ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث أعني حديث معاوية في باب وصل الشعر، تنبيها منه رحمه الله على أن اتخاذ مثل هذا الرأس الصناعي في حكم الوصل، وذلك يدل على فقهه- رحمه الله وسعة علمه ودقة فهمه، ووجه
(1) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ، برقم 6744، ومسلم في كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم برقم 4348.
(2)
أخرجه أبو داود في كتاب اللباس والزينة، باب في لبس الشهرة، برقم 3512.
(3)
صحيح البخاري اللباس (5933) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن الترمذي الأدب (2781) ، سنن النسائي الزينة (5245) ، سنن أبو داود الترجل (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (4/98) ، موطأ مالك الجامع (1765) .
(4)
صحيح البخاري تفسير القرآن (4887) .
ذلك: أنه إذا كان وصل المرأة شعرها. بما يطوله أو يكثره ويكبره حراما تستحق عليه اللعنة، لما في ذلك من الخداع والتلبيس والزور، فاتخاذ رأس كامل مزور أشد في التدليس وأعظم في الزور والخداع، وهذا بحمد الله واضح.
فالواجب على المسلمين محاربة هذا الحدث الشنيع وإنكاره وعدم استعماله، كما يجب على ولاة الأمور وفقهم الله منعه والتحذير منه؛ عملا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنفيذا لمقتضاها، وحسما لمادة الفتنة، وحذرا من أسباب الهلاك والعذاب، وحماية للمسلمين من مشابهة أعداء الله اليهود، وتحذيرا لهم مما يضرهم في العاجل والآجل، والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفقههم في الدين وأن يعيذهم من كل ما يخالفه وأن يوفق ولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد في المعاش والمعاد إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
125 -
وجوب إعفاء اللحية وتحريم حلقها أو قصها
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد نشرت صحيفة المدينة في عددها الصادر في 24 \ 1 \ 1415هـ مقالا للشيخ محمد بن علي الصابوني عفا الله عنا وعنه، يتضمن ما نصه:
ومما يتعلق بالصورة والمظهر أن يهذب المسلم شعره، أو يقص أظافره ويتعاهد لحيته، فلا يتركها شعثة مبعثرة، دون تشذيب أو تهذيب، ولا يتركها تطول بحيث تخيف الأطفال، وتفزع الرجال فكل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده، فمن الشباب من يظن أن أخذ أي شيء من اللحية حرام، فنراه يطلق لها العنان حتى تصل إلى سرته ويصبح في مظهره كأصحاب الكهف {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (1)
(1) سورة الكهف الآية 18
إلى آخر ما ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولما كان في هذا الكلام مخالفة للسنة الصحيحة وإباحة لتشذيب اللحية وتقصيرها رأيت أن من الواجب التنبيه على ما تضمنه كلامه وفقه الله من الخطأ العظيم والمخالفة الصريحة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أنه قال:«قصوا الشوارب وأعفو اللحى (1) » ، وفي لفظ:«قصوا الشوارب ووفروا اللحى خالفوا المشركين (2) » ، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (3) » ففي هذه الأحاديث الصحيحة الأمر الصريح بإعفاء اللحى وتوفيرها وإرخائها وقص الشوارب مخالفة للمشركين والمجوس. والأصل في الأمر الوجوب فلا تجوز مخالفته إلا بدليل يدل على عدم الوجوب وليس هناك دليل يدل على جواز قصها وتشذيبها وعدم إطالتها. وقد قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4)
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2)
مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(3)
صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(4)
سورة الحشر الآية 7
وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (1) وقال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (3) » رواه البخاري في صحيحه. وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم (4) » متفق عليه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد احتج الشيخ محمد المذكور على ما ذكره بما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
(1) سورة النور الآية 54
(2)
سورة النور الآية 56
(3)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(4)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
وسلم أنه «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها، (1) » وهذا الحديث ضعيف الإسناد لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صح لكان حجة كافية في الموضوع ولكنه غير صحيح؛ لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي، وهو متروك الحديث.
واحتج أيضا الشيخ على ما ذكره بفعل ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأخذ من لحيته في الحج ما زاد عن القبضة، وهذا لا حجة فيه؛ لأنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنهما، والحجة في روايته لا في اجتهاده، وقد صرح العلماء أن رواية الراوي من الصحابة ومن بعدهم الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم هي الحجة وهي مقدمة على رأيه إذا خالف السنة.
فأرجو من صاحب المقال الشيخ محمد أن يتقي الله سبحانه وأن يتوب إليه مما كتب وأن يصرح بذلك في الصحيفة التي نشر فيها الخطأ، ومعلوم عند أهل العلم أن الرجوع إلى الحق شرف لصاحبه وواجب عليه وخير له من التمادي في الخطأ.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياه وجميع المسلمين للفقه في الدين وأن يعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يصلح
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
قلوبنا وأعمالنا، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء
وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
126 -
حكم إعفاء اللحية وخبر الآحاد
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فقد اطلعت على مقال لبعض الكتاب في عام 1391 هـ جزم فيه بأن حلق اللحية ليس حراما ولا مباحا ولكنه مكروه، وبنى ذلك على أمرين: أحدهما: أنه لم يرد في ذلك نص قطعي يدل على تحريم حلقها. والثاني: أن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم مخالفته لأمور منها:
أن المختار عن الحنفية أن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم ضده. ومنها: أن الأمر بالشيء إذا اقترن به علة معقولة المعنى -
وهي أن الشارع لم يطلبه لذاته، بل لمقصد آخر مقترن به عند صدور الأمر - إذا انفك عنه هذا المقصد لم يفد الأمر الوجوب، والأمر بالإعفاء والإحفاء المقصود منه مخالفة المجوس. ومنها: أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقا
…
إلخ.
ومنها: أنه ورد ما يدل على عدم التحريم؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصلون في نعالهم فخالفوهم (1) » ، ولم يقل أحد بوجوب الصلاة في النعال وأن خلعها حرام، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (2) » ، وقد فهم منه الصحابة الندب، فلم يصبغ بعضهم. ومنها أنه إذا ذكرت أفعال متعددة وأعطيت حكما واحدا سرى هذا الحكم عليها جميعا، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم:«عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار (3) » إلى آخر الحديث.
ومنها: أنه قد ثبت «أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (4) » ، ولو كان الأمر بالإعفاء على إطلاقه لما أخذ منها شيئا.
(1) سنن أبو داود الصلاة (652) .
(2)
صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3462) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2103) ، سنن النسائي الزينة (5071) ، سنن أبو داود الترجل (4203) ، سنن ابن ماجه اللباس (3621) ، مسند أحمد بن حنبل (2/309) .
(3)
صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(4)
سنن الترمذي الأدب (2762) .
هذه جملة ما بنى عليه هذا الكاتب حكمه بعدم تحريم حلق اللحية.
وقد تضمن مقاله تحبيذ الإعراض عن البحث في هذا الموضوع؛ لأن مسألة اللحية من المسائل الفرعية، ونحن المسلمين نقف في ميدان حرب بين الكفر والإيمان، ومن كان بيته مهددا بالنسف بالبارود لا يسأل عن زجاج النافذة من كسره؟ ومن كان على سرير العمليات يعمل الطبيب سكينه في رئته لاستخراج السرطان منها يخشى أن يعاجله الموت قبل أن يعالجه من المرض لا يدع عملية الرئة لاستخراج شوكة من تحت ظفر اليد.. إلى أن قال في آخر مقاله: وأكرر القول أننا نواجه اليوم أعنف هجوم على الإسلام، ونقابل حربا تخطط لها عقول كبيرة شريرة، وتنفق عليها الأموال الكثيرة الوفيرة
…
إلى أن قال: من الواجب توجيه القوى الإسلامية إلى ذلك العدو.. إلى أن قال: ومقصدي أن أقول لإخواننا الدعاة إلى الله: إن عدم إعفاء اللحية ليس من المحرمات الصريحة فلا يبدءوا الشباب بها ولا يحملوهم حملا عليها، بل نبدأ بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح الإيمان واجتناب الكبائر وإقامة الأركان. انتهى.
كما ذكر في أثناء المقال أنه ذهب إلى أوربا للعلاج فرأى أن إعفاء اللحية صار شعارا لطائفة من الهيبيين الفاسدين وأنها حلية المنحرفين
…
ثم قال: أقول هذا لمجرد البيان.
والجواب أن يقال: قد وقع في هذا المقال أخطاء كثيرة بعضها أشد من بعض، وسننبه عليها إن شاء الله بالتفصيل.
فنقول: أما اشتراطه للحكم بالتحريم أن يكون النص قطعي الورود والدلالة، فهو مجرد دعوى لا دليل عليها، بل قول باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن ذلك خلاف المعروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم وعمل العلماء بعدهم. فلم يزل صلى الله عليه وسلم يبعث الواحد والاثنين وأكثر من ذلك دعاة ومبلغين للإسلام وأحكام الشريعة، ولو كان ذلك لا تقوم به الحجة لم يفعله عليه الصلاة والسلام، ولم يزل أصحابه رضي الله عنهم يعملون بخبر الآحاد ويحتجون به في العقائد والأحكام، ولا نعلم أن أحدا منهم أنكر ذلك وليس كل خبر من أخبار الآحاد يفيد القطع. فعلم بذلك أن هذا الشرط لا أصل له
عندهم، والوقائع عنهم في ذلك كثيرة مشهورة؛ منها: عمل الصديق رضي الله عنه بشهادة المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في ميراث الجدة، وعمل عمر رضي الله عنه بشهادتهما في دية الجنين، وعمله بشهادة أبي موسى وأبي سعيد رضي الله عنهما في الاستئذان، وأمره لابنه عبد الله أن يقبل خبر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إذا أخبره عن الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء، ولا يسأل عنه غيره، ومنها: عمل أهل قباء بخبر الذي أخبرهم بنسخ القبلة من الشام إلى الكعبة.. إلى غير ذلك من الوقائع الكثيرة.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم والعلماء بعدهم على العمل بحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما في تحريم الجمع بين المرأة وخالتها وبين المرأة وعمتها، وخصوا بذلك قول الله سبحانه:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (1) والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصى.
الوجه الثاني: أنه يترتب على هذا الشرط إلغاء الكثير من الأحكام الشرعية الثابتة بالسنة المطهرة؛ لأن أدلتها ليست قطعية
(1) سورة النساء الآية 24
بالمعنى الذي يقصده هذا الكاتب؛ لأن القطعي من السنة عند أكثر المتأخرين هو المتواتر، أما الآحاد ليست قطعية عندهم، وهذا اللازم كاف في إبطال هذا الشرط وعدم اعتباره، فكيف وهو مخالف لجميع الأدلة الشرعية، ولما سار عليه المصطفى عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم وجميع العلماء بعدهم، كما سبق بيان ذلك في الوجه الأول.
الوجه الثالث: ما قد علم من إجماع علماء الإسلام على أنه يجب العمل بالأدلة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأحكام من التحريم والإباحة وغيرهما؛ وإنما اختلف علماء الأصول في إفادة أخبار الآحاد العلم؛ فقال قوم: إنها لا تفيد إلا الظن وإنما يستفاد العلم من نص القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، وقال آخرون: بل يستفاد العلم من أخبار الآحاد ويقطع صحتها بالقرائن الدالة على ذلك. أما العمل بها في إثبات العقائد والأحكام فلم يختلف العلماء في وجوبه.
وممن صرح بذلك الإمام أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله في كتابه: (جامع بيان العلم وفضله) قال ما نصه بعدما ذكر الضرب الأول من السنة وهو الخبر المتواتر، قال: والضرب الثاني من السنة خبر الآحاد الثقات الأثبات المتصل
الإسناد، فهذا يوجب العمل عند جماعة علماء الأمة الذين هم الحجة والقدوة، ومنهم من يقول: إنه يوجب العلم والعمل جميعا. انتهى المقصود.
وقال العلامة النووي رحمه الله في مقدمة شرحه لصحيح مسلم بعدما ذكر قول العلامة ابن الصلاح: إن أحاديث الصحيحين تفيد القطع والعلم النظري؛ لتلقي الأمة لهما بالقبول ما نصه: وهذا الذي ذكره الشيخ خلاف ما قاله المحققون والأكثرون؛ فإنهم قالوا: أحاديث الصحيحين التي ليست بمتواترة إنما تفيد الظن فإنها آحاد والآحاد إنما تفيد الظن على ما تقرر، ولا فرق بين البخاري ومسلم وغيرهما في ذلك، وتلقي الأمة لهما بالقبول إنما أفادنا وجوب العمل بما فيهما، وهذا متفق عليه. فإن أخبار الآحاد التي في غيرهما يجب العمل بها إذا صحت أسانيدها ولا تفيد إلا الظن، فكذا الصحيحان، وإنما يفترق الصحيحان وغيرهما من الكتب في كون ما فيهما صحيحا لا يحتاج إلى النظر فيه، بل يجب العمل به مطلقا، وما كان في غيرهما لا يعمل به حتى ينظر وتوجد فيه شروط الصحيح. ولا يلزم من إجماع الأمة
على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وهذا الذي ذكره النووي رحمه الله من إجماع الأمة على وجوب العمل بأحاديث الصحيحين وإن لم تفد القطع؛ لكونها أخبار آحاد موافق لما نقلناه آنفا عن الإمام ابن عبد البر ودال على أن الخلاف بين العلماء في أخبار الآحاد إنما هو في إفادتها العلم لا في وجوب العمل بها إذا صحت أسانيدها، وهذا مطابق لما ذكرنا في الوجه الأول والثاني من هذا الجواب، وهو معلوم من الدين بالضرورة، والقول بخلافه قول في غاية البطلان والمخالفة للأدلة الشرعية ولما اجتمعت عليه الأمة.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في النخبة وشرحها ما نصه: وقد يقع فيها - أي في أخبار الآحاد المنقسمة إلى مشهور وعزيز وغريب - ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار، خلافا لمن أبى ذلك، والخلاف في التحقيق لفظي؛ لأن من جوز إطلاق العلم قيده بكونه نظريا، وهو الحاصل عن الاستدلال، ومن أبى الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر، وما عداه عنده كله ظني،
لكنه لا ينفي أن ما احتف بالقرائن أرجح مما خلا عنها، والخبر المحتف بالقرائن أنواع: منها ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما مما لم يبلغ التواتر، فإنه احتفت به قرائن منها: جلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة على التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينتقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين؛ حيث لا ترجيح لاستحالة أن يفيد المتناقضان العلم بصدقهما من غير ترجيح لأحدهما على الآخر، وما عدا ذلك فالإجماع حاصل على تسليم صحته.
فإن قيل: إنما اتفقوا على وجوب العمل به لا على صحة معناه، وسند المنع أنهم متفقون على وجوب العمل بكل ما صح ولو لم يخرجه الشيخان، فلم يبق للصحيحين في هذا مزية، والإجماع حاصل على أن لهما مزية فيما يرجع إلى نفس الصحة.
وممن صرح بإفادة ما خرجه الشيخان العلم النظري الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، ومن أئمة الحديث أبو عبد الله الحميدي
وأبو الفضل ابن طاهر وغيرهما. ويحتمل أن يقال: المزية المذكورة كون أحاديثهما أصح الصحيح، ومنها المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة والعلل.
وممن صرح بإفادته العلم النظري الأستاذ أبو منصور البغدادي، والأستاذ أبو بكر ابن فورك وغيرهما. ومنها المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين حيث لا يكون غريبا كالحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل مثلا ويشاركه فيه غيره عن الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك بن أنس، فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم، ولا يتشكك من له أدنى ممارسة للعلم وأخبار الناس أن مالكا مثلا لو شافهه بخبر أنه صادق فيه، فإذا انضاف إليه من هو في تلك الدرجة ازداد قوة، وبعد عما يخشى عليه من السهو.
وهذه الأنواع التي ذكرناها لا يحصل العلم بصدق الخبر منها إلا للعالم بالحديث المتبحر فيه، العارف بأحوال الرواة، المطلع على العلل. وكون غيره لا يحصل له العلم بصدق ذلك؛ لقصوره عن الأوصاف المذكورة لا ينفي حصول العلم للمتبحر المذكور.
ومحصل الأنواع الثلاثة التي ذكرناها: أن الأول يختص بالصحيحين، والثاني: بما له طرق متعددة، والثالث: بما رواه الأئمة، ويمكن اجتماع الثلاثة في حديث واحد فلا يبعد حينئذ القطع بصدقه. والله أعلم.
وهذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله موافق لما نقلناه عن الإمام ابن عبد البر والعلامة النووي رحمة الله عليهما في بيان أن الخلاف إنما هو في إفادة أخبار الآحاد العلم والقطع، أما الاحتجاج بها ووجوب العمل بها إذا صحت أسانيدها فأمر مجمع عليه بين أهل العلم، وأحاديث الأمر بإعفاء اللحى وقص الشوارب أحاديث صحيحة قد روى بعضها الشيخان وروى بعضها الإمام مسلم في صحيحه، كما رواها غيرهما من أئمة أهل الحديث، فهي صحيحة بلا ريب ومفيدة للقطع - بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها - عند جمع من أئمة الحديث منهم أبو عبد الله الحميدي وأبو الفضل ابن طاهر وأبو عمرو ابن الصلاح وغيرهم رحمهم الله.
فعلم بما أوضحناه أن تعليل أحاديث الأمر بإعفاء اللحى وإرخائها وجز الشوارب بأنها ليست قطعية الورود والدلالة -
تعليل باطل مخالف لما أجمع عليه أهل العلم، لا يجوز التعلق به ولا التعويل عليه، بل يجب على قائله أن يعلن التوبة إلى الله منه؛ لكونه منكرا عظيما وقولا شنيعا، يترتب عليه أنواع من الباطل وطعن في كثير من أحكام الشرع المطهر، والمنكر إذا أعلن يجب على صاحبه أن يعلن التوبة منه حتى يعلم رجوعه عنه، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1){إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) فلم يكتف سبحانه في حق هؤلاء بمجرد التوبة والإصلاح، بل شرط في صحة ذلك البيان؛ فقال:{وَبَيَّنُوا} (3) فعلم أن التوبة الخالية من البيان لا تكفي، بل لا بد من بيان الحق للناس حتى يخرج بذلك من عهدة الكتمان. ولا شك أن من قال هذا القول المنكر لو تأمل المقام حين قال ما قال لم يقدم على هذه المقالة الشنيعة؛ لأن أهل العلم الراغبين في بيان الحق للناس لا يخفى عليهم أمرها لو تأملوا.
(1) سورة البقرة الآية 159
(2)
سورة البقرة الآية 160
(3)
سورة البقرة الآية 160
فالواجب على كل من قال هذا المقال الرجوع عن الخطأ وإظهار الحق كما هو سبيل أهل العلم، وليس في بيان الحق والرجوع إليه نقص ولا غضاضة على طالب العلم، بل ذلك دليل على فضله وإنصافه وإيثاره الحق على ما سواه.
وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه: (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) في هذا المقام كلاما جيدا عظيم النفع للقراء لعظم فائدته ومسيس الحاجة إليه في هذه المسألة وغيرها. وهذا نصه:
وأما المقام الرابع - وهو إفادتها للعلم واليقين - فنقول وبالله التوفيق: الأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام:
أحدها: متواتر لفظا ومعنى.
والثاني: أخبار متواترة معنى وإن لم تواتر بلفظ واحد.
الثالث: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة.
الرابع: أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما القسمان الأولان: فكالأخبار الواردة في عذاب القبر والشفاعة والحوض ورؤية الرب تعالى وتكليمه عباده يوم القيامة، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه، وأحاديث إثبات العرش، والأحاديث الواردة في إثبات المعاد والجنة والنار، ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن الرسول جاء بها، كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه وجاء بإثبات الصفات للرب تبارك وتعالى، فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر فيه المعنى المقصود عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترا معنويا لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة يمتنع في مثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمدا أو سهوا.
وإذا كانت العادة العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها تمنع التواطؤ على الاتفاق على الكذب في هذه الأخبار ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها أفادت العلم اليقين.
ثم للناس في حصول العلم بها طريقان: أحدهما: أنه ضروري. والثاني: أنه نظري.
فأصحاب الضرورة يستدلون بحصول العلم لهم ضرورة على حصول التواتر الموجب له، وأصحاب النظر يعكسون الأمر،
ويقولون: نحن نستدل بتواتر المخبرين على إفادة العلم، والطريق الأول أعلى التقديرين، فكل عالم بهذه الأحاديث وطرقها ونقلتها وتعددها يعلم علما يقينا لا شك فيه بل يجد نفسه مضطرة إلى ثبوتها أولا وثبوت مخبرها ثانيا، ولا يمكنه دفع هذين العلمين عن نفسه: العلم الأول: ينشأ من جهة معرفته بطريق الأحاديث وتعددها وتباين طرقها واختلاف مخارجها وامتناع التواطؤ زمانا ومكانا على وضعها.
والعلم الثاني: ينشأ من جهة إيمانه بالرسالة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يخبر به. وهذا عند أهل العلم أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس، فإنهما من أفاضل الأطباء، وأعظم من علم النحاة بوجود سيبويه والخليل والفراء وعلمهم بالعربية، ولكن أهل الكلام وأتباعهم في الغاية من قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به، وكثير منهم بل أفضلهم عند أصحابه لا يعتقد أنه روي في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان، كما يجده لأكابر شيوخ المعتزلة؛ كأبي الحسين البصري، يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير، ولم يعلم أن فيها ما يقارب ثلاثين حديثا. وقد ذكرناها في كتاب صفة الجنة
(حادي الأرواح) ، فإنكار هؤلاء لما علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة عند أتباعهم، وما يعلم أن كثيرا من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علما؛ لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها في قلبه، فإذا اتفق لها إعراض عنها أو نفرة عن روايتها وإحسان ظن بمن قال بخلافها أو تعارض خيال شيطاني يقول بقلبه فهناك يكون الأمر كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (1) فلو كانت أضعاف ذلك لم تحصل لهم إيمانا ولا علما، وحصول العلم في القلب بموجب التواتر؛ مثل الشبع والري ونحوهما.
وكل واحد من الأخبار يفيد قدرا من العلم، فإذا تعددت الأخبار وقويت أفادت العلم، إما للكثرة وإما للقوة وإما لمجموعهما، كما يحصل الشبع إما بكثرة أو بقوة المأكول وإما لمجموعهما، والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه بل بفهم معناه مع سماع لفظه، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه
(1) سورة فصلت الآية 44
الأخبار العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناه حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه دفعه، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين بأن من كذب بها أو أنكر مضمونها فهو كافر.
مع علم من له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة وأوفرهم عقولا وأشدهم تحفظا وتحريا للصدق ومجانبة للكذب، وأن أحدا منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريرا لم يبلغه أحد سواهم، لا من الناقلين عن الأنبياء، ولا عن غير الأنبياء، وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم، وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة، ومن تأمل ذلك أفاده علما ضروريا بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم ينقله كل طائفة عن صاحبه، وهذا أمر وجداني عندهم
لا يمكنهم جحده، بل هو بمنزلة ما يحسونه من الألم واللذة والحب والبغض حتى إنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه ويباهلون من خالفهم عليه
…
إلى أن قال: فصل: خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه؛ فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه، وتارة يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنيا، وتارة يتوقف فيه، فلا يترجح كذبه ولا صدقه، إذا لم يقم دليل أحدهما، وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به، وتارة يجزم بصدقه جزما لا يبقى معه شك، فليس خبر كل واحد يفيد العلم ولا الظن، ولا يجوز أن ينفي عن خبر الواحد مطلقا أنه يحصل العلم به، فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وإلا اجتمع النقيضان، بل نقول: خبر الواحد يفيد العلم في مواضع:
أحدها: خبر من قام الدليل القطعي على صدقه، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا، وخبر رسوله في كل ما يخبر به.
الثاني: خبر الواحد بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصدقه كخبر الحبر الذي أخبر بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على
أصبع والشجر على أصبع فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له، وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل البرد المحبر فقال: قد رأيته. ومن هذا ترتيبه صلى الله عليه وسلم على خبر المخبر له مقتضاه (كغزوه من أخبره بنقض قوم العهد) وخبر من أخبره عن رجل أنه شتمه ونال من عرضه فأمر بقتله، فهذا تصديق للمخبر بالفعل.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة الدجال وروى ذلك عنه على المنبر، ولم يقل: أخبرني جبريل عن الله بل قال: حدثني تميم الداري، ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيرا فيما يجزم بصدق أصحابه ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال. ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم ونجزم به جزما ضروريا لا يمكننا دفعه عن نفوسنا، ومن هذا أنه كان يجزم بصدقهم فيما يخبرونه به من رؤيا المنام ويجزم لهم بتأويلها ويقول:«إنها رؤيا حق» ، وأثنى الله تعالى عليه بذلك في قوله:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1)
(1) سورة التوبة الآية 61
فأثنى عليه ومدحه بتصديقه لمن أخبره من المؤمنين ومن هذا إخبار الصحابة به بعضهم بعضا، فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر، وتوقف من توقف منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد عن كونه خبر واحد وإنما كان يستثبت أحيانا نادرة جدا إذا استخبر، ولم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبو ذر ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر وأمثالهم من الصحابة، بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث، ولم يقل له أحد منهم يوما واحدا من الدهر: خبرك خبر واحد لا يفيد العلم، وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك، وكان
المخبر لهم أجل في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقولوا له مثل ذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع واليقين كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب، ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وضحكه وفرحه وإمساك سماواته على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له، من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق، ولم يرتب فيها، حتى إنهم ربما ثبتوا في بعض أحايث الأحكام حتى يستظهروا بآخر، كما استظهر عمر رضي الله عنه برواية أبي سعيد الخدري على خبر أبي موسى. وكما استظهر أبو بكر رضي الله عنه برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة بن شعبة في توريث الجدة.
ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات البتة، بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها
وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع.
فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم: مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه كأبي محمد ابن حزم، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي. قال ابن خويز منداد في كتاب أصول الفقه: وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان.
ويقع بهذا الضرب أيضا العلم الضروري، نص على ذلك مالك، وقال أحمد في حديث الرؤية: نعلم أنها حق ونقطع على العلم بها. وكذلك روى المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا
اثنان يقولان: إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما. فعابه وقال: لا أدري ما هذا. وقال القاضي: وظاهر هذا أنه يسوي بين العلم والعمل. وقال القاضي في أول المجرد: خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه وتلقته الأمة بالقبول.
وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم نتلقه بالقبول. قال: والمذهب على ما حكيت لا غيره. إلى أن قال: وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا وصية لوارث (1) » قالوا: مع أنه إنما روي من طريق الآحاد، قالوا: ونحوه حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا أن القول قول البائع أو يترادان. قالوا: ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوسي.
قالوا: وكذلك حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس، قد اتفق السلف والخلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم فإنهم عندنا
(1) سنن الترمذي الوصايا (2120) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2713) .
شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع. قال: وإنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل أنا إذا وجدنا السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه ولا معارضة بالأصول أو بخبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار والنظر فيها وعرضها على الأصول دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يعبروا إلى حكمه إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته فأوجب لنا العلم بصحته. هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه أصول الفقه.
ومن المعلوم لكل ذي حس سليم وعقل مستقيم استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من الصفات وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين وحديث لا وصية لوارث وحديث فرض الجدة، بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات واستفاضة هذه الأحاديث.
فهل يسوغ لعاقل أن يقول: إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه، إلا أن يكون مباهتا. وقد صرح الشافعي في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم، نص على ذلك صريحا في كتاب:(اختلاف مالك) ،
ونصره في الرسالة المصرية على أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر المتواتر.
إلى أن قال: وأما القسم الثاني من الأخبار: فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إنما الأعمال بالنيات (1) » ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما:«نهى عن بيع الولاء وهبته (2) » ، وخبر أنس رضي الله عنه:«دخل مكة وعلى رأسه المغفر (3) » ، وكخبر أبي هريرة رضي الله عنه:«لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها (4) » ، وكقوله:«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (5) » ، وقوله:«إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل (6) » ، وقوله في المطلقة ثلاثا:«حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك (7) » ، وقوله:«لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (8) » ، وقوله:«إنما الولاء لمن أعتق (9) » ، وقوله يعني ابن عمر:«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر والأنثى (10) » وأمثال ذلك. فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأولين والآخرين.
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2)
صحيح البخاري العتق (2535) ، صحيح مسلم العتق (1506) ، سنن الترمذي البيوع (1236) ، سنن النسائي البيوع (4657) ، سنن أبو داود الفرائض (2919) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2747) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، موطأ مالك العتق والولاء (1522) .
(3)
صحيح البخاري المغازي (4286) ، صحيح مسلم الحج (1357) ، سنن الترمذي الجهاد (1693) ، سنن النسائي مناسك الحج (2868) ، سنن أبو داود الجهاد (2685) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2805) ، مسند أحمد بن حنبل (3/231) ، موطأ مالك الحج (964) ، سنن الدارمي المناسك (1938) .
(4)
صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن النسائي النكاح (3292) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) ، موطأ مالك النكاح (1129) .
(5)
صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(6)
صحيح البخاري الغسل (291) ، صحيح مسلم الحيض (348) ، سنن النسائي الطهارة (191) ، سنن أبو داود الطهارة (216) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (610) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الطهارة (761) .
(7)
صحيح البخاري الشهادات (2639) ، صحيح مسلم النكاح (1433) ، سنن الترمذي النكاح (1118) ، سنن النسائي الطلاق (3409) ، سنن ابن ماجه النكاح (1932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، سنن الدارمي الطلاق (2267) .
(8)
صحيح البخاري الحيل (6954) ، صحيح مسلم الطهارة (225) ، سنن الترمذي الطهارة (76) ، سنن أبو داود الطهارة (60) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) .
(9)
صحيح البخاري البيوع (2156) ، سنن النسائي البيوع (4644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/100) .
(10)
صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن النسائي الزكاة (2505) ، سنن أبو داود الزكاة (1613) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/66) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .
أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع. وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة. والمسألة منقولة في كتب الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل: السرخسي وأبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ أبي حامد وأبي الطيب والشيخ أبي إسحاق من الشافعية، وابن خويز منداد وغيره من المالكية، ومثل القاضي أبي يعلى وابن أبي موسى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية، ومثل أبي إسحاق الإسفرائيني وابن فورك وأبي إسحاق النظام من المتكلمين.
وإنما نازع في ذلك طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل.
وقد ذكر أبو عمرو ابن الصلاح القول الأول وصححه واختاره، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به ليتقوى بهم. وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة. وظن من اعترض عليه من المشايخ الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو انفرد به عن الجمهور، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من كلام ابن الحاجب، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى السيف الآمدي وإلى ابن الخطيب،
فإن علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني، قال: وجميع أهل الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو.
والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم، والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعت على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ، فإن العصمة تثبت بالنسبة الإجماعية، كما أن خبر التواتر يجوز الخطأ والكذب على واحد واحد من المخبرين بمفرده، ولا يجوز على المجموع، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر (1) » فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها.
والأحاديث في هذا الباب قد تكون ظنونا بشروطها فإذا قويت صارت علوما وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات فاسدة.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1158) .
قال: وأيضا فلا يجوز أن يكون في نفي الأمر كذبا على الله ورسوله وليس في الأمة من ينكره إذ هو خلاف ما وصفهم الله تعالى به. انتهى المقصود.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في هذه المسألة لعظم شأنها. ونرجو أن يكون فيما نقلناه من ذلك الكفاية والإقناع لطالب الحق ومن أراد المزيد في ذلك فليراجع هذا الكتاب؛ أعني: الصواعق المرسلة، يجد ما يشفي ويكفي، والله المستعان.
وأما قول الكاتب: إن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم مخالفته لأمور منها: أن المختار عند الحنفية أن الأمر بالشيء لا يقتضي تحريم ضده فجوابه أن يقال: ليس الأمر كما ذكره، بل الصواب أن الأمر بالشيء إذا ورد مجردا عما يدل على إرادة الندب فإنه دال على وجوب الامتثال وعلى تحريم المخالفة ما لم يوجد دليل آخر يدل على أن الأمر للندب لا الوجوب، وهذا هو قول جمهور العلماء من الحنفية وغيرهم، وهو مقتضى الأدلة الشرعية، كما سنبين ذلك قريبا إن شاء الله.
وقد صرح أهل العلم رحمهم الله بما ذكرنا؛ قال الإمام أبو بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي أحد أئمة الحنفية المتوفى سنة 490 هـ رحمه الله في كتابه في الأصول في مباحث الأمر ما نصه: فأما الكلام في موجب الأمر فالمذهب عند جمهور الفقهاء أن موجب مطلقه الإلزام إلا بدليل. انتهى.
وقال الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة صاحب المغني المتوفي سنة 620 هـ رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) في مباحث الأمر ما نصه: (مسألة) : إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين. وقال بعضهم: يقتضي الإباحة؛ لأنها أدنى الدرجات، فهي مستيقنة، فيجب حمله على اليقين. وقال بعض المعتزلة: يقتضي الندب؛ لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب، وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم. أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه؛ ولأن الأمر طلب والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير، والمندوب حسن فيصح طلبه، وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليها مطلق الأمر، ولا يلزم منه؛
ولأن الشارع أمر بالمندوبات والواجبات معا، فعند وروده يحتمل الأمرين معا فيحمل على اليقين. وقالت الواقفية: هو على الوقف حتى يرد الدليل ببيانه؛ لأن كونه موضوعا لأحد هذه الأقسام إما أن يعلم بنقل أو عقل ولم يوجد أحدهما فيجب التوقف فيه، ولنا ظواهر الكتاب والسنة والإجماع وقول أهل اللسان.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر، فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك، وأيضا قول الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (3) ذمهم على ترك امتثال الأمر، والواجب ما يذم بتركه.
ومن السنة ما روى البراء بن عازب «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بفسخ الحج إلى العمرة فردوا عليه القول
(1) سورة النور الآية 63
(2)
سورة الأحزاب الآية 36
(3)
سورة المرسلات الآية 48
فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فقالت: من أغضبك أغضبه الله. فقال: وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع (1) » . فإن قيل: هذا في أمر اقترن به ما دل على الوجوب، قلنا: النبي صلى الله عليه وسلم إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره، ولولا أن أمره للوجوب لما غضب من تركه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (2) » والندب غير شاق، فدل على أن أمره اقتضى الوجوب، وقوله عليه السلام لبريرة:«لو راجعتيه. فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: إنما أنا شافع. فقالت: لا حاجة لي فيه (3) » . وإجابة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مندوب إليها فدلنا ذلك على أن أمره للإيجاب.
الثالث: إجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله تعالى وامتثال أوامره من غير سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما عنى بأوامره، وأوجبو أخذ الجزية من المجوس بقوله:«سنوا بهم سنة أهل الكتاب (4) » وغسل الإناء من الولوغ بقوله: «فليغسله سبعا (5) » والصلاة عند ذكرها بقوله: «فليصلها إذا ذكرها (6) » ، واستدل أبو بكر رضي الله عنه على إيجاب الزكاة بقوله
(1) سنن ابن ماجه المناسك (2982) ، مسند أحمد بن حنبل (4/286) .
(2)
صحيح البخاري الجمعة (887) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، موطأ مالك الطهارة (147) .
(3)
صحيح البخاري الطلاق (5283) ، سنن النسائي آداب القضاة (5417) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2075) ، سنن الدارمي كتاب الطلاق (2292) .
(4)
موطأ مالك الزكاة (617) .
(5)
صحيح البخاري الوضوء (172) .
(6)
صحيح البخاري مواقيت الصلاة (597) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (684) ، سنن الترمذي الصلاة (178) ، سنن النسائي المواقيت (613) ، سنن أبو داود الصلاة (442) ، سنن ابن ماجه الصلاة (696) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) ، سنن الدارمي الصلاة (1229) .
تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (1) ونظائر ذلك مما لا يخفى يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب.
الرابع: أن أهل اللغة عقلوا من إطلاق الأمر الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده فخالفه حسن عندهم لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته بمخالفة الأمر، والواجب ما يعاقب بتركه أو يذم بتركه. فإن قيل: إنما لزمت العقوبة؛ لأن الشريعة أوجبت ذلك، قلنا: إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب، ولو أذن له في الفعل أو حرمه عليه لم يجب عليه، ولأن مخالفة الأمر معصية، قال الله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} (2) وقال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} (3) ويقال: أمرتك فعصيتني.
وقال الشاعر:
أمرتك أمرا جازما فعصيتني
والمعصية موجبة للعقوبة، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (4) انتهى.
(1) سورة البقرة الآية 43
(2)
سورة التحريم الآية 6
(3)
سورة طه الآية 93
(4)
سورة الأحزاب الآية 36
وقال العلامة أبو الحسن الآمدي المتوفى سنة 631 هـ رحمه الله في كتابه: (الإحكام في أصول الأحكام) لما ذكر اختلاف الناس في مقتضى الأمر ما نصه: ومنهم من قال: إنه حقيقة في الوجوب مجاز فيما عداه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه والفقهاء وجماعة من المتكلمين كأبي الحسين البصري وهو قول الجبائي في أحد قوليه. انتهى المقصود.
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250 هـ رحمه الله في كتابه: (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الأصول) في مباحث الأمر ما نصه: الفصل الثالث: اختلف أهل العلم في صيغة (افعل) هل هي حقيقة في الوجوب أو فيه مع غيره فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب فقط وصححه ابن الحاجب والبيضاوي، قال الرازي: وهو الحق، وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي. قيل: وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه. انتهى المقصود.
وهذا قليل من كثير من كلام علماء الأصول في بيان أن الأمر عند الإطلاق يقتضي الوجوب عند أكثر العلماء ولا يجوز صرفه عن الوجوب إلا بدليل يدل عليه
وقد دل على صحة ما ذهب إليه الجمهور أدلة كثيرة منها: أن الله سبحانه وعد أهل الطاعة الفوز بالجنة والكرامة ووعد أهل المعصية بسوء المصير، وهكذا رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في سورة النساء:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1){وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) وقال في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (3) وقال تعالى في سورة الفتح {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل
(1) سورة النساء الآية 13
(2)
سورة النساء الآية 14
(3)
سورة الأحزاب الآية 36
(4)
سورة الفتح الآية 17
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى (1) » رواه البخاري في صحيحه، فلو كان امتثال أمر الله ورسوله غير واجب إلا بدليل آخر يدل على الوجوب لم يستحق العاصي هذا الوعيد الشديد لأنه معذور إذا لم يكن في النص ما يدل على أن الأمر مقصود به الوجوب
ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمتها في مقام الاحتجاج عليم يقينا أنهم يحملون أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند الإطلاق على الوجوب ويعيبون على من خالف ذلك إذا لم يكن معه دليل يدل على صرف الأمر عن ظاهره إلى غيره
ومن الأدلة الدالة على أن الأمر للوجوب ما لم يوجد دليل يدل على خلاف ذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس غضب عليه ولعنه وطرده من رحمته بسبب عصيانه الأمر المجرد وهو قوله سبحانه: {اسْجُدُوا لِآدَمَ} (2)
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(2)
سورة الأعراف الآية 11
وقال تعالى موبخا لإبليس على تخلفه عن الطاعة: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (1) فدل ذلك على أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب كما يقتضي ذم المخالف وتوبيخه والغضب عليه.
ومن الأدلة على ذلك أيضا قوله سبحانه في سورة المرسلات: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (2) فذمهم بذلك على مخالفة الأمر وهو قوله: {ارْكَعُوا} (3)
ومن ذلك أيضا قوله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) فتوعد من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصاب بالفتنة أو العذاب الأليم، فلو كان امتثال الأمر المجرد غير واجب لم يستحق المخالف له هذا الوعيد.
والأدلة في هذا الباب كثيرة لمن تدبر الكتاب والسنة طالبا للحق مؤثرا له (5) .
(1) سورة الأعراف الآية 12
(2)
سورة المرسلات الآية 48
(3)
سورة المرسلات الآية 48
(4)
سورة النور الآية 63
(5)
وقد سبق كثير منها من كلام صاحب الروضة أبي محمد المقدسي رحمه الله
وبما ذكرناه من الأدلة وكلام أهل العلم يعلم بطلان قول من قال: إن الأمر عند الإطلاق لا يدل على الوجوب وهو الذي اعتمده الكاتب في مقاله المذكور ورجح به قوله بعدم وجوب إعفاء اللحى، وهو قول ظاهر الفساد لمن تأمل الأدلة، والله ولي التوفيق.
وأما قوله في تبرير ما ذهب إليه من عدم اقتضاء الأمر الوجوب في قوله صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (1) » متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم:«جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » خرجه مسلم في صحيحه ما نصه: ومنها أن الأمر بالشيء إذا اقترن به علة معقولة المعنى - وهي أن الشارع لم يطلبه لذاته بل لمقصد آخر مقترن به عند صدور الأمر إذا انفك عنه هذا المقصد - لم يفد الأمر الوجوب، والأمر بالإعفاء والإحفاء المقصود به مخالفة المجوس. انتهى.
فجوابه أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علل قص الشوارب وإعفاء اللحى بعلتين:
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .
(2)
صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
إحداهما: أن ذلك من الفطرة، كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عشر من الفطرة (1) » فذكر منها قص الشارب وإعفاء اللحية
والعلة الثانية: أن إطالة الشوارب وحلق اللحى فيهما مشابهة للمجوس والمشركين، وهذه العلة لم تنفك عن الأمر بل لا تزال معتبرة إلى يوم القيامة؛ لأن الشارع عليه الصلاة والسلام قد أمر أمرا مطلقا بمخالفة المشركين في زيهم وأخلاقهم وشعائر دينهم، ولم يحدد ذلك بزمن معلوم ولم يجعل له نهاية معلومة، فوجب أن يكون ذلك أمرا مطلوبا من المسلمين إلى يوم القيامة.
والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى؛ منها ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (2) » .
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 384
(2)
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل برقم 3197، ومسلم في كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى برقم 4822
ومنها ما خرجه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة كتابا جليلا عظيم الفائدة سماه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ، وذكر فيه من الآيات والأحاديث والآثار وكلام أهل العلم ما يدل على أن الشرع المطهر جاء بالنهي عن مشابهة الكفار والأمر بمخالفتهم. فلنذكر من كلامه رحمه الله ما يبين لمن يطلع على هذه الكلمة ما في مشابهة الكفار في حلق اللحى وإطالة الشوارب وغير ذلك من صنوف المشابهة من الفساد الكبير والعواقب الوخيمة.
قال رحمه الله في الكتاب المذكور ما نصه:
الوجه الثامن من الاعتبار: أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين، مسند عبد الله بن عمر، برقم 4868
الرجلين إذا كانا في بلد واحدة ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك وإما على الدين وكذلك تجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها، إلا أن يمنع عن ذلك دين أو غرض خاص، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1){فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} (2){وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} (3)
(1) سورة المائدة الآية 51
(2)
سورة المائدة الآية 52
(3)
سورة المائدة الآية 53
وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1){كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2){تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (3){وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم، فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان؛ لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم. وقال سبحانه وتعالى:
(1) سورة المائدة الآية 78
(2)
سورة المائدة الآية 79
(3)
سورة المائدة الآية 80
(4)
سورة المائدة الآية 81
فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة، فتكون محرمة، كما تقدم تقرير مثل ذلك، واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبهنا عليه. والله أعلم. انتهى.
فتأمل رحمك الله قوله: فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة، يتضح لك في ذلك شيء من الحكمة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة المجوس والمشركين في إطالة الشوارب وعدم إعفاء اللحى وغير ذلك، وأن تلك المشابهة تورث المودة والمحبة؛ فلذلك أمر الشارع عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحى وإرخائها وجز الشوارب وإحفائها مخالفة للمشركين وحسما لمادة التشبه بهم المفضي إلى موالاتهم ومحبتهم علاوة على ما في ذلك من مخالفة الفطرة ومشابهة النساء، والله المستعان.
(1) سورة المجادلة الآية 22
وأما قول الكاتب - هداه الله - في مبررات صرف الأمر بإعفاء اللحى وجز الشوارب عن الوجوب إلى الندب ما نصه:
(ومنها أن مخالفة المسلمين غيرهم مطلوبة فيما هو من شعائر دينهم لا مطلقا
…
إلخ) - فجوابه أن يقال: قد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ذم مشابهة المسلمين للكفار والتحذير من ذلك ولم تخص شيئا من شئونهم دون شيء فتخصيص النهي بما هو من شعائر دينهم يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل يدل على ذلك، بل الأدلة الشرعية كلها تقتضي ذم التشبه بالمشركين فيما هو من شعائر دينهم وفي غيره، وقد أسلفنا في الأدلة ما يدل على ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (1) » الحديث، ولم يقل في شعائر دينهم. وقوله صلى الله عليه وسلم:«من تشبه بقوم فهو منهم (2) » ولم يقل في شعائر دينهم، ومنها: أحاديث الأمر بمخالفة المشركين والمجوس في جز الشوارب وإرخاء اللحى، وليس حلق اللحى وإطالة الشوارب من شعائر دينهم. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم في ذلك، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7320) ، صحيح مسلم العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (3/84) .
(2)
سنن أبو داود اللباس (4031) .
تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا - يعني الكفار - ولكم في الآخرة (1) » متفق على صحته، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، قالوا، يا رسول الله: كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك (2) » خرجه البخاري. والأدلة في هذا كثيرة ولا يجوز لأحد أن يخصص الأدلة الشرعية إلا بدليل شرعي يقتضي التخصيص، ولا ريب أن التشبه بالكفار في شعائر دينهم كأعيادهم ونحوها أشد في الإنكار وأعظم في الإثم، ولكن ليس النهي عن ذلك وتحريمه مختصا بما يتعلق بشعائر دينهم.
وأما احتجاج الكاتب على عدم اقتضاء الأمر الوجوب بالأحاديث الواردة في صبغ الشيب والصلاة في النعال، فجوابه أن يقال: إن الأصل وجوب الامتثال في الأمرين جميعا وهما مخالفة
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب آنية الفضة برقم 5202، ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال، برقم 3850
(2)
صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .
اليهود والنصارى بصبغ الشيب والصلاة في النعال والخفاف، ولكنه ترك ذلك لما ورد من الأحاديث الدالة على أن الأمر بتغيير الشيب والصلاة في النعال للندب لا للوجوب.
وبذلك لا يبقى له ولا لغيره من القائلين بعدم اقتضاء الأمر الوجوب حجة في الحديثين المذكورين؛ لأن محل البحث هو الأمر المجرد، أما الأمر الذي ورد في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه قد أريد به الندب لا الوجوب فليس محل البحث عند الجميع.
وأما احتجاجه على عدم اقتضاء الأمر الوجوب بما نصه: إذا ذكرت أفعال متعددة وأعطيت حكما واحدا سرى هذا الحكم عليها جميعا مستدلا على ذلك بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار (1) » إلخ الحديث.
فجوابه أن يقال: ليس الأمر كما ذكر، وليس في الحديث المذكور حجة على ما ذهب إليه؛ لأن البراهين الشرعية تحددت
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة باب خصال الفطرة، برقم 384، والترمذي في كتاب الأدب، باب ما جاء في تقليم الأظفار، برقم 2681
على أن بعض الأمور قد تشترك في كونها مشروعة أو منهيا عنها وينفرد بعضها عن بقية ما قرن به بكونه واجبا أو محرما، ومن ذلك الأمور المذكورة في هذا الحديث، فإن الأحاديث الصحيحة قد دلت على وجوب إعفاء اللحى وقص الشوارب والاستنشاق في الغسل والوضوء وانتقاص الماء، وهو الاستنجاء، كما دلت على أن السواك مستحب فقط وليس بواجب. وأما حلق العانة ونتف الإبط وقلم الأظفار ففي واجبها خلاف بين أهل العلم، والمشهور في كلامهم أنها سنة، وظاهر الأدلة يقتضي وجوبها لإطلاق الأحاديث الآمرة بذلك؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للمسلمين أن لا يتركوها مع قص الشارب أكثر من أربعين ليلة؛ كما روى ذلك مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:«وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة (1) » وإذا قال الصحابي مثل هذه الصيغة فهي في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: أمرنا أو نهينا؛ لأنه لا آمر ولا ناهي ولا مؤقت إلا هو
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب خصال الفطرة، برقم 379
عليه الصلاة والسلام، وقد جاء الرفع صريحا في رواية أحمد والنسائي والترمذي وأبي داود.
وأما احتجاجه على عدم وجوب إعفاء اللحى بقوله: ومنها: أنه قد ثبت «أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » ، ولو كان الأمر بالإعفاء على إطلاقه لما أخذ منها شيئا.
فجوابه: أن يقال: إن حكمه بثبوت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على أنه لم يراجع كلام أهل العلم على هذا الحديث، ولو راجعه لعلم أنه ليس بثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صرح أهل العلم بأن الواجب على من يتكلم في التحليل والتحريم وسائر الأحكام أن يعتني بالأدلة وأن لا يجزم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بما عرف صحته، فإن لم يعرف ذلك فالواجب أن يأتي بصيغة التمريض؛ ك (روي) و (يذكر) ونحو ذلك، كما نبه عليه الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح وغيره، وقال الحافظ العراقي رحمه الله في الألفية ما نصه:
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
وإن ترد نقلا لواه أو لما
…
يشك فيه لا بإسنادهما
فأت بتمريض كيروى واجزم
…
بنقل ما صح كقال فاعلم
وقد نص أهل العلم من شراح الحديث وغيرهم على ضعف هذا الحديث؛ لأن مداره على عمر بن هارون البلخي وهو ضعيف الحديث عند أئمة الحديث، وقد اتهمه بعضهم بالكذب.
ونحن نذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك؛ ليكون قارئ هذه الكلمة على بينة من هذا الحديث الذي قد اغتر به كثير من الناس واتخذه سلما لقص اللحى، وعدم توفيرها مع أنه لو صح لم يدل إلا على التخفيف من شعرها طولا وعرضا ولا يجوز أن يحتج به على حلقها لأنه تجاوز لما دل عليه الحديث لو صح. والله المستعان.
قال الشيخ أبو زكريا يحيى النووي رحمه الله في شرح المهذب ج1 ص 321 ما نصه: وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (1) » ، فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به.
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
وبما ذكرنا في هذا الجواب من الأدلة الشرعية وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق بطلان ما اعتمده هذا الكاتب في قوله بعدم تحريم حلق اللحى كما يتضح له بطلان قوله: بأن الأمر المطلق لا يفيد الوجوب ولا تحريم ضد المأمور به. وبطلان قوله: (إن خبر الآحاد ليس قطعيا، فلا ينهض للقول بوجوب إعفاء اللحى وتحريم حلقها) ويعلم أن الحق الذي لا ريب فيه هو أن الأمر عند الإطلاق يقتضي الوجوب عند جمهور العلماء، وأن خبر الآحاد إذا استقام سنده حجة يجب العمل به عند جميع أهل العلم في العقائد وغيرها، وإنما الخلاف بينهم إنما هو في إفادته العلم لا في وجوب العمل، وقد سبق في كلام أهل العلم المحققين أن خبر الآحاد يفيد العلم بالقرائن، وأن سلف هذه الأمة ما كانوا يخوضون في ذلك بل كانوا يتلقون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحت أسانيدها بالقبول وينقلونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صحت أسانيدها بالقبول وينقلونها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين أنه قالها، ويحتجون بها على جميع الأحكام، ولا يعلم عن واحد منهم انه قال لمن احتج عليه بحديث صحيح: إن هذا خبر آحاد لا تقوم به الحجة وإنما وقع مثل هذا
في كلام بعض المتأخرين الذين خاضوا في الكلام واغتروا بشبهة أهله.
كما يتضح مما سبق أن القول بوجوب إعفاء اللحى وتوفيرها وتحريم حلقها هو القول الحق، وأنه ليس مع من خالف ذلك إلا شبهات لا تسمن ولا تغني من جوع أو حديث ضعيف لا يجوز أن تعارض به الأحاديث الصحيحة.
وسأنقل لك بعض كلام أهل العلم في وجوب إعفاء اللحى وتحريم حلقها، تكميلا للفائدة وإيضاحا لما سبق بيانه من دلالة الأحاديث الواردة في هذا الباب عند أهل العلم على ما ذكرنا مع العلم بأن اللحية هي ما نبت على الخدين والذقن، كما في القاموس ولسان العرب، والله ولي التوفيق.
قال العلامة النووي رحمه الله في شرح مسلم في شرحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة لما ذكر كلام القاضي عياض رحمه الله في شرح حديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين آنفا، ما نصه:
(والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا، والمختار في الشارب ترك الاستئصال والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة..) اهـ
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن في كلامه على حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية (1) » . . . الحديث ما نصه: (وأما إعفاء اللحية فهو إرسالها وتوفيرها. كره لنا أن نقصها كفعل بعض الأعاجم وكان من زي آل كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب، فندب صلى الله عليه وسلم أمته إلى مخالفتهم في الزي والهيئة
…
) اه.
وقال العلامة ابن مفلح رحمه الله في الفروع ما نصه: (ويحرم حلقها - يعني اللحية - ذكره شيخنا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقال أيضا: (وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض) انتهى المقصود من كلامه.
وقال العلامة المباركفوري في كتابه تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي بعد كلام سبق ما نصه: (قلت: لو ثبت حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المذكور في الباب المتقدم لكان قول الحسن البصري وعطاء أحسن الأقوال وأعدلها، لكنه حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج به. وأما قول من قال إنه إذا زاد عن
(1) صحيح مسلم الطهارة (261) ، سنن الترمذي الأدب (2757) ، سنن النسائي الزينة (5040) ، سنن أبو داود الطهارة (53) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
القبضة يؤخذ الزائد واستدل بآثار ابن عمر وعمر وأبي هريرة رضي الله عنهم فهو ضعيف؛ لأن أحاديث الإعفاء المرفوعة الصحيحة تنفي هذه الآثار، فهذه الآثار لا تصلح للاستدلال بها مع وجود هذه الأحاديث المرفوعة الصحيحة، فأسلم الأقوال هو قول من قال بظاهر أحاديث الإعفاء، وكره أن يؤخذ شيء من طول اللحية وعرضها والله تعالى أعلم
…
) اه
ومراده بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما خرجه الترمذي رحمه الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (1) » وهو حديث لا يصلح كما قاله المباركفوري وغيره، وصرح به قبله النووي في شرح المهذب كما سبق بيان ذلك لأن في إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متروك الحديث، كما في التقريب؛ لكونه متهما بالكذب.
وقد انفرد برواية هذا الحديث عن أسامة بن زيد الليثي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وقال الشيخ علي محفوظ في كتابه (الإبداع في مضار الابتداع) ما نصه: (ومن أقبح العادات ما اعتاده الناس اليوم من حلق اللحية وتوفير الشارب، وهذه البدعة كالتي قبلها سرت إلى
(1) سنن الترمذي الأدب (2762) .
المصريين من مخالطة الأجانب واستحسان عوائدهم حتى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (1) » وروي أيضا عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى (2) » وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس (3) » . (التوفير) الإبقاء، (وأحفوا) بهمزة قطع: الإحفاء وهو المبالغة في الجز، (وأعفوا) : من أعفيته إذا تركته حتى كثر وزاد.
فإعفاء اللحية تركها لا تقص حتى تعفو وتكثر، وإرخاؤها وإبقاؤها بمعنى الإعفاء. والأحاديث في ذلك كثيرة، وكلها نص في وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ منها على ما سيأتي.
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) .
(2)
صحيح مسلم الطهارة (259) .
(3)
صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
ولا يخفى أن قوله: «خالفوا المشركين (1) » وقوله «خالفوا المجوس (2) » يؤيدان الحرمة، فقد أخرج أبو داود وابن حبان وصححه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (3) » وهو غاية في الزجر عن التشبه بالفساق أو بالكفار في أي شيء مما يختصون به من ملبوس أو هيئة. وفي ذلك خلاف للعلماء؛ فمنهم من قال بكفره وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال لا يكفر ولكن يؤدب.
فهذان الحديثان بعد كونهما أمرين دالان على أن هذا الصنع من هيئات الكفار الخاصة بهم، والنهي إنما يكون عما يختصون به، فقد نهانا صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم عموما في قوله (من تشبه) ومن أفراد هذا العام حلق اللحية، وخاصا في قوله:«وفروا اللحى (4) » «خالفوا المجوس (5) » «خالفوا المشركين (6) » .
ثم ما تقدم من الأحاديث ليس على إطلاقه؛ فقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من لحيته من عرضها وطولها (7) » وروى أبو داود والنسائي أن ابن عمر كان يقبض على لحيته فيقطع ما
(1) صحيح مسلم الطهارة (259) .
(2)
صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(3)
سنن أبو داود اللباس (4031) .
(4)
صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(5)
صحيح مسلم الطهارة (260) ، مسند أحمد بن حنبل (2/366) .
(6)
صحيح مسلم الطهارة (259) .
(7)
سنن الترمذي الأدب (2762) .
زاد على الكف، وفي لفظ: ثم يقص ما تحت القبضة، وذكره البخاري تعليقا، فهذه الأحاديث تفيد ما رويناه آنفا. فيحمل الإعفاء على إعفائها من أن يؤخذ غالبها أو كلها.
وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها والأخذ القريب منه.
الأول: مذهب الحنفية: قال في الدر المختار: ويحرم على الرجل قطع لحيته، وصرح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة "بالضم". وأما الأخذ منها وهي دون ذلك كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد. وأخذ كلها فعل يهود الهند ومجوس الأعاجم.. اه فتح.
وقوله: (وما وراء ذلك يجب قطعه) هكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذ من اللحية من طولها وعرضها كما رواه الإمام الترمذي في جامعه، ومثل ذلك في أكثر كتب الحنفية.
الثاني: مذهب السادة المالكية: حرمة حلق اللحية وكذا قصها إذا كان يحصل به مثلة. وأما إذا طالت قليلا وكان القص لا يحصل به مثلة فهو خلاف الأولى أو مكروه، كما يؤخذ من شرح الرسالة لأبي الحسن، وحاشيته للعلامة العدوي. رحمهم الله.
الثالث: مذهب السادة الشافعية: قال في شرح العباب: "فائدة": قال الشيخان: يكره حلق اللحية، واعترضه ابن الرفعة بأن الشافعي رضي الله عنه نص في الأم على التحريم. وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها
…
اه. ومثله في حاشية ابن قاسم العبادي على الكتاب المذكور.
الرابع: مذهب السادة الحنابلة: نص في تحريم حلق اللحية؛ فمنهم من صرح بأن المعتمد حرمة حلقها. ومنهم من صرح بالحرمة ولم يحك خلافا، كصاحب الإنصاف، كما يعلم ذلك بالوقوف على شرح المنتهى وشرح منظومة الآداب وغيرهما.
ومما تقدم تعلم أن حرمة حلق اللحية هي دين الله وشرعه الذي لم يشرع لخلقه سواه، وأن العمل على غير ذلك سفه وضلالة أو فسق وجهالة، أو غفلة عن هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..) اه كلام الشيخ علي محفوظ من كتاب " الإبداع في مضار الابتداع ".
وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير وأرجو أن يكون فيما نقلنا من كلام أهل العلم كفاية ومقنع لطالب الحق. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وسائر المسلمين لمعرفة الحق واتباعه وإيثاره على ما سواه وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن وطاعة الهوى والشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
حرر في 21\9\1411 هـ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث
العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
صفحة فارغة
كتاب البر والصلة والآداب
صفحة فارغة
127 -
كيفية التفريق في المضاجع
س: الأخ أ. م. ص. من مراكش في المغرب يقول في سؤاله: نرجو من سماحتكم إيضاح كيفية التفريق في المضاجع الوارد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، هل المقصود به التفريق بين البنين والبنات، أم بين البنين بعضهم بعضا وبين البنات بعضهن بعضا، وهل المقصود به التفريق بينهم في الفرش أم لا بد أن يكون كل منهم في غرفة مستقلة؟ نرجو بيان الحقيقة؛ لأن هذا الأمر يهم جميع المسلمين (1) .
ج: الحديث عام يعم البنين والبنات، والتفريق يكون بجعل كل واحد من البنين وكل واحدة من البنات في فراش مستقل ولو كانوا في غرفة واحدة؛ لأن وجود كل واحد مع الآخر في فراش واحد قد يكون وسيلة لوقوع الفاحشة. وفق الله الجميع لكل خير.
(1) نشر في المجلة العربية، عدد شهر رجب 1412هـ.
128 -
صلة الرحم من أسباب بركة العمر
س: كيف نوفق بين الأحاديث التي وردت في زيادة العمر وذلك حين صلة الرحم وليلة القدر وغير ذلك مما ورد فيها أحاديث التي ورد أنها مما يزاد في العمر وينسأ في الأجل، ومعنى الحديث الذي ورد أن الإنسان حينما يتكون أو يصير في أربعين يوما يكتب أجله وشقي أو سعيد أفيدونا مأجورين؟ (1)
ج: ليس بين الأحاديث منافاة ولا تناقض فإن الله جل وعلا قدر الأشياء، قدر الآجال، قدر الأرزاق، قدر الأعمال والشقاء والسعادة، وقدر أسبابها، وقدر أن هذا يبر والديه ويصل أرحامه، ويكون له بسبب ذلك زيادة في عمره، وقدر أن الآخر يكون قاطعا وغير بار، ويكون النقص في العمر وقد يكون هذا، هذا طويل العمر وهذا قصير العمر؛ لأسباب أخرى، فالله قدر الأشياء وقدر أسبابها سبحانه وتعالى فلا منافاة، فبر الوالدين وصلة الأرحام من أسباب بركة العمر وطوله، والقطيعة والعقوق من
(1) من أسئلة حج عام 1406هـ، الشريط الثالث.