الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4418 -
وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، «أَنَّ النَّجَاشِيَّ أَهْدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ: ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
(وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ)
ــ
4418 -
(وَعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ اهـ.
وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ كُنْيَتُهُ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ (عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيِّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، سَبَقَ ذِكْرُهُ (أَنَّ النَّجَاشِيَّ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَيُكْسَرُ وَبِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَالْيَاءِ وَتُشَدَّدُ، وَقَدْ تُسَكَّنُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَهُوَ أَصْخَمَةُ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا. (أَهَدَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالِاسْتِعْمَالَانِ شَائِعَانِ. فَفِي الصِّحَاحِ الْهَدِيَّةُ وَاحِدَةُ الْهَدَايَا، يُقَالُ: أَهْدَيْتُ إِلَيْهِ وَلَهُ بِمَعْنًى.
(خُفَّيْنِ أَسْوَدَيْنِ سَاذَجَيْنِ) : بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مُعَرَّبُ (سَادَةٍ) عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ أَيْ غَيْرَ مَنْقُوشَيْنِ، إِمَّا بِالْخِيَاطَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، أَوْ لَا شِيَةَ فِيهِمَا تُخَالِفُ لَوْنَهُمَا، أَوْ مُجَرَّدَيْنِ عَنِ الشَّعْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ. (فَلَبِسَهُمَا) : أَيْ عَلَى الطَّهَارَةِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ (عَنْ أَبِيهِ:، ثُمَّ تَوَضَّأَ) : أَيْ بَعْدَمَا أَحْدَثَ أَوْ بَعْدَمَا جَدَّدَ (وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا) : قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ دَلْهَمٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: «أَنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُكَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، وَهِيَ عَلَى دِينِكَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَهْدَيْتُكَ هَدِيَّةً جَامِعَةَ قَمِيصٍ وَسَرَاوِيلَ وَعِطَافٍ وَخُفَّيْنِ سَاذَجَيْنِ، فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا» .
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: رَاوِيهِ عَنِ الْهَيْثَمِ. قُلْتُ لِلْهَيْثَمِ: مَا الْعِطَافُ ; قَالَ: الطَّيْلَسَانُ.
وَفِي الشَّمَائِلِ: «أَهَدَى دِحْيَةُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خُفَّيْنِ وَجُبَّةً فَلَبِسَهُمَا حَتَّى تَخْرَّقَا لَا يَدْرِي أَذَكَّاهُمَا أَمْ لَا» . وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَجْهُولَةِ هُوَ الطَّهَارَةُ، ثُمَّ نَفَى الصَّحَابِيُّ دِرَايَتَهُ صلى الله عليه وسلم إِمَّا لِتَصْرِيحِهِ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ قَرِينَةِ عَدَمِ سُؤَالِهِ وَتَفَحُّصِ حَالِهِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ الْخُفَّ وَمَسَحَ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ حَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ.
[بَابُ التَّرَجُّلِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4419 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا حَائِضٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(3)
بَابُ التَّرَجُّلِ
بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ فِي النِّهَايَةِ: التَّرَجُّلُ وَالتَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ وَتَنْظِيفُهُ وَتَحْسِينُهُ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رَجَّلَ شَعْرَهُ أَيْ أَرْسَلَهُ بِالْمُشْطِ، وَتَرَجَّلَ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ اهـ. أَوْ طَلَبَ مِنْ غَيْرِهِ ذَلِكَ.
وَفِي الْقَامُوسِ: شَعْرٌ رَجِلٌ وَكَكَتِفٍ وَكَجَبِلٍ بَيْنَ السُّبُوطَةِ وَالْجُعُودَةِ، وَقَدْ رَجِلَ كَفَرِحَ وَرَجَّلْتُهُ تَرْجِيلًا، وَفِي تَنْوِيرِ الْمَصَابِيحِ: التَّرَجُّلُ التَّطَهُّرُ وَالتَّزَيُّنُ وَالتَّرْجِيلُ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ بِالْمُشْطِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4419 -
(عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ (وَأَنَا حَائِضٌ) : فِيهِ جَوَازُ الْمُخَالَطَةِ مَعَ الْحَائِضِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.
قَالَ مِيرَكُ: كَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ عَنْهُ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ:«أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ حَائِضٌ يُخْرِجُهُ إِلَيْهَا» . أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى طَهَارَةِ بَدَنِ الْحَائِضِ وَعَرَقِهَا، وَأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ الْمَمْنُوعَةَ لِلْمُعْتَكِفِ هِيَ الْجِمَاعُ وَمُقَدِّمَاتُهُ، وَأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ كَذَا قَالُوا. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُطْلَقًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوُضُوءُ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِلَا فَضْلٍ بِالصَّلَاةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَسُّ الشَّعْرِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
4420 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4420 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: الْفِطْرَةُ) : أَيْ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ (خَمْسٌ) : قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: فُسِّرَتِ الْفِطْرَةُ بِالسُّنَّةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْأَنْبِيَاءُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ، وَكَأَنَّهَا أَمْرٌ جَبْلِيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهِ.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا وَأَجْمَعُهُ. (الْخِتَانُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: خَتَنَهُ يَخْتِنُهُ فَهُوَ خَتِينٌ وَمَخْتُونٌ قُطِعَ غُرْلَتُهُ، وَالِاسْمُ كَكِتَابٍ، وَالْغُرْلَةُ بِالضَّمِّ الْقُلْفَةُ. قَالَ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ: مِنَ السُّنَّةِ الْخِتَانُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّهُ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَشَدَّدَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ وَقَالَ: الْأَقْلَفُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَصَلَاتُهُ وَذَبِيحَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ اتِّفَاقًا، فَلَوْلَا وُجُوبُ الْخِتَانِ لَمْ يَجُزْ كَشْفُهَا، فَجَوَازُ الْكَشْفِ دَلِيلُ وُجُوبِهِ، كَذَا فِي التَّنْوِيرِ. وَيُمْكِنُ أَنَّ مُرَادَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، لَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لَكِنَّ غَالِبَ الْكُتُبِ مَشْحُونٌ بِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يُولَدْ مَخْتُونًا تَامًّا، وَإِنَّمَا قُيِّدْنَا بِهِ لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ وَمَجْمَعِ الْفَتَاوَى: صَبِيٌّ وُلِدَ مَخْتُونًا بِحَيْثُ لَوْ رَآهُ إِنْسَانٌ يَرَاهُ كَأَنَّهُ خُتِنَ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِ الْخِتَانُ مَرَّةً أُخْرَى، وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَصِيرَةِ مِنَ الْحَجَّامِينَ تُرِكَ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ. وَذَكَرَ زَيْنُ الْعَرَبِ: أَنَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وُلِدُوا مَخْتُونِينَ: آدَمُ، وَشَيْثُ، وَنُوحٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَزَكَرِيَّا، وَسُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَحَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ وَهُوَ نَبِيُّ أَصْحَابِ الرَّسِّ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الشِّرْعَةِ: أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مَخْتُونِينَ مَسْرُورِينَ أَيْ مَقْطُوعِينَ السُّرَّةَ كَرَامَةً لَهُمْ، لِئَلَّا يَنْظُرَ أَحَدٌ إِلَى عَوْرَاتِهِمْ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام فَإِنَّهُ قَدْ خَتَنَ نَفْسَهُ لِيُسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ بَعْدَهَا، هَذَا لِلرَّجُلِ، وَأَمَّا لِلنِّسَاءِ فَمَكْرُمَةٌ، فَفِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: خِتَانُ الرِّجَالِ سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي خِتَانِ الْمَرْأَةِ، قَالَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: مَكْرُوهٌ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: سُنَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَاجِبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَرْضٌ. قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " «الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَمَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ وَالِدِ أَبِي الْمَلِيحِ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَكْرُمَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَاحِدَةُ الْمَكَارِمِ، وَفِي فَتَاوَى الصُّوفِيَّةِ: أَنَّ وَقْتَ الْخِتَانِ سَبْعُ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ اهـ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الْوَقْتَ الْأَفْضَلَ الْأَعْدَلَ.
(وَالِاسْتِحْدَادُ) : أَيْ حَلْقُ الْعَانَةِ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَدِيدِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ مِنْ نَحْوِ الْمُوسَى فِي حَلْقِ الْعَانَةِ ذِي الشَّعْرِ الَّذِي حَوَالَيْ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَفَرْجِ الْمَرْأَةِ. زَادَ ابْنُ شُرَيْحٍ: وَحَلْقَةُ الدُّبُرِ، فَجَعَلَ الْعَانَةَ مَنْبَتَ الشَّعْرِ مُطْلَقًا، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ أَزَالَ شَعْرَهُ بِغَيْرِ الْحَدِيدِ لَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ. كَذَا فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ شَيْئًا مِنْ شَعْرٍ وَهُوَ جُنُبٌ. (وَقَصُّ الشَّارِبِ) : وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى طَرَفِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَلِلنَّسَائِيِّ: وَحَلْقُ الشَّارِبِ، وَلَهُ أَيْضًا: وَتَقْصِيرُ الشَّارِبِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَقُصَّهُ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَلَا يَحْفِيهُ، وَأَمَّا رِوَايَةُ: أَحِفُّوا فَمَعْنَاهَا أَزِيلُوا مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَصُّ الشَّارِبِ أَنْ يَأْخُذَ مَا طَالَ عَلَى الشَّفَةِ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي الْآكِلَ، وَلَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْوَسَخُ. وَقَالَ: الْإِحْفَاءُ هُوَ الْقَصُّ الْمَذْكُورُ، وَلَيْسَ بِالِاسْتِئْصَالِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَذَهَبَ الْكُوفِيُّونَ: أَيْ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ الِاسْتِئْصَالُ، وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى التَّخْيِيرِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِحْفَاءَ الِاسْتِئْصَالُ، وَكَذَا النَّهْكُ بِالنُّونِ وَالْكَافِ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَلَا تَعَارُضَ ; فَإِنَّ الْقَصَّ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ، وَالْإِحْفَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِ الْكُلِّ، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَرَجَّحَ ذَلِكَ ثُبُوتُ الْأَمْرَيْنِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، كَذَا حَقَّقَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي الْمُحِيطِ: لَا يَحْلِقُ شَعْرَ حَلْقِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ شَعْرَ الْحَاجِبَيْنِ وَشَعْرَ وَجْهِهِ مَا لَمْ يَتَشَبَّهْ بِالْمُخَنَّثِينَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُكْرَهُ أَنْ يَحْلِقَ قَفَاهُ إِلَّا عِنْدَ الْحِجَامَةِ، وَأَمَّا حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالظَّهْرِ، فَفِيهِ تَرْكُ الْأَدَبِ كَذَا فِي الْقِنْيَةِ.
(وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ) : وَالْمُسْتَحَبُّ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي الْإِحْيَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الرِّجْلَيْنِ، فَيَبْدَأُ بِمُسَبِّحَةِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ الْبِنْصِرِ، ثُمَّ الْخِنْصِرِ، ثُمَّ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْيُسْرَى، فَيَبْدَأُ بِخِنْصِرِهَا، ثُمَّ بِنْصِرِهَا إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يَبْدَأُ بِخِنْصِرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى، وَيَخْتِمُ بِبِنْصِرِ الْيُسْرَى، وَفِي الْقِنْيَةِ:
إِذَا قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ أَوْ جَزَّ شَعْرَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفِنَ قُلَامَتَهُ، فَإِنْ رَمَى بِهِ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الْكَنِيفِ أَوِ الْمُغْتَسَلِ يُكْرَهُ. وَفِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ:«كَانَ صلى الله عليه وسلم يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّلَاةِ» . وَرَوَى النَّوَوِيُّ كَالْعِبَادِيِّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْغِنَى عَلَى كُرْهٍ فَلْيُقَلِّمْ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ:«يَا عَلِيُّ! قُصَّ الْأَظْفَارَ، وَانْتِفِ الْإِبِطَ، وَاحْلِقِ الْعَانَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَالْغُسْلُ وَالطِّيبُ وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» . قِيلَ: وَلَمْ يَثْبُتْ فِي قَصِّ الظُّفْرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَدِيثٌ، بَلْ كَيْفَمَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَلَا فِي تَعْيِينِ يَوْمٍ لَهُ شَيْءٌ وَمَا يُعْزَى مِنَ النَّظْمِ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ بَاطِلٌ. ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
وَمِنَ الْفَوَائِدِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظُّفْرِ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لِبَاسُ آدَمَ الظُّفْرَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيشِ عَلَى الطَّيْرِ، فَلَمَّا عَصَى سَقَطَ مِنْهُ لِبَاسُهُ، وَتُرِكَتِ الْأَظْفَارُ زِينَةً وَمَنَافِعَ. وَرَوَى أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ آدَمُ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فَكَسَاهُ اللَّهُ هَذَا الْجِلْدَ، وَأَعَانَهُ بِالظُّفْرِ يَحُكُّ بِهِ، كَذَا فِي إِتْمَامِ الدِّرَايَةِ لِقُرَّاءِ النُّقَايَةِ. (وَنَتْفُ الْإِبِطِ) : أَيْ نَتْفُ شَعْرِهِ، وَالْإِبِطُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ. وَحُكِيَ كَسْرُهَا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا أَيْ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا: الْآبَاطُ بِالْجَمْعِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِبِطُ بَاطِنُ الْمَنْكِبِ وَبِكَسْرِ الْبَاءِ وَقَدْ يُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ آبَاطٌ. قَالَ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الْمَفْهُومُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ حَلْقَ الْإِبِطِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، بَلِ السُّنَّةُ نَتْفُهُ لِأَنَّ شَعْرَهُ يَغْلُظُ بِالْحَلْقِ، وَيَكُونُ أَعْوَنَ لِلرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: النَّتْفُ أَفْضَلُ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ، لِمَا حُكِيَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَحْلِقُ إِبِطَهُ فَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّ السُّنَّةَ نَتْفُهُ، لَكِنْ لَا أَقْوَى عَلَى الْوَجَعِ. وَفِي الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشِيرٍ رحمه الله مَرْفُوعًا " «لَا تَنْتِفُوا الشَّعْرَ الَّذِي كُوِّنَ فِي الْأَنْفِ ; فَإِنَّهُ يُورِثُ الْآكِلَةَ وَلَكِنْ قُصُّوهُ قَصًّا» " ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ. . إِلَخْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ. قَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ: الْفِطْرَةُ خُمْسٌ مَعْنَاهُ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَلَيْسَتِ الْفِطْرَةُ مُنْحَصِرَةً فِي الْعَشْرِ، ثُمَّ إِنَّ مُعْظَمَ هَذِهِ الْخِصَالِ سُنَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٌ كَالْخِتَانِ، وَلَا يُمْتَنَعُ قِرَانُ الْوَاجِبِ بِغَيْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، فَالْإِيتَاءُ وَاجِبٌ، وَالْأَكْلُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَالْخِتَانُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ الْوَاجِبُ فِي الرَّجُلِ أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ حَتَّى تَنْكَشِفَ، وَفِي الْمَرْأَةِ يَجِبُ قَطْعُ أَدْنَى جُزْءٍ مِنَ الْجِلْدَةِ الَّتِي فِي أَعْلَى الْفَرْجِ.
4421 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ: أَوْفِرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَنْهِكُوا الشَّوَارِبَ، وَأَعْفُوا اللِّحَى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4421 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ) : أَيْ: فَإِنَّهُمْ يَقُصُّونَ اللِّحَى وَيَتْرُكُونَ الشَّوَارِبَ حَتَّى تَطُولَ، كَمَا فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ:(أَوْفِرُوا) : أَيْ أَكْثِرُوا (اللِّحَى) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا وَبِالْقَصْرِ جَمْعُ لِحْيَةٍ بِالْكَسْرِ مَا يَنْبُتُ عَلَى الْخَدَّيْنِ وَالذَّقَنِ، ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَالْمَعْنَى اتْرُكُوا اللِّحَى كَثِيرًا بِحَالِهَا وَلَا تَتَعَرَّضُوا لَهَا وَاتْرُكُوهَا لِتَكْثُرَ. (وَأَحِفُّوا) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ أَيْ قُصُّوا (الشَّوَارِبَ) : فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قَدَّمَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ عَلَى الْأُولَى، ثُمَّ فِي الْمُغْرِبِ: أَحْفَى شَارِبَهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَالَغَ فِي جَزِّهِ. قِيلَ: الْإِحْفَاءُ قَرِيبٌ مِنَ الْحَلْقِ، وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَمْ يَرِدْ، بَلْ كَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَرَآهُ بِدْعَةً. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: الْإِحْفَاءُ الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلِاسْتِقْصَاءِ فِي أَخْذِ الشَّارِبِ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ:(وَفِي رِوَايَةٍ: " أَنْهِكُوا الشَّوَارِبَ) : وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ مَكْسُورَةٍ وَفَتْحِ الْهَاءِ، يُقَالُ: نَهِكَ كَفَرِحَ وَأَنْهَكَ بَالَغَ فِي قَصِّهِ. (وَأَعْفُوا اللِّحَى) : بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ. بِمَعْنَى أَوْفِرُوا، وَفِي الْإِحْيَاءِ عَشْرُ خِصَالٍ مَكْرُوهَةٌ، وَبَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ خِضَابُهَا بِالسَّوَادِ، وَتَبْيِيضُهَا بِالْكَبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، وَنَتْفُهَا وَنَتْفُ الشَّيْبِ، وَالنُّقْصَانُ مِنْهَا وَالزِّيَادَةُ فِيهَا، وَتَسْرِيحُهَا تَصَنُّعًا لِأَجْلِ الرِّيَاءِ، وَتَرْكُهَا شَعِثَةً إِظْهَارًا لِلزُّهْدِ، وَالنَّظَرُ إِلَى سَوَادِهَا عَجَبًا بِالشَّبَابِ، وَإِلَى بَيَاضِهَا تَكْبُّرًا بِعَلَقِ السِّنِ، وَخِضَابُهَا بِالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ تَشْبِيهًا بِالصَّالِحِينَ لَا لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَزَادَ النَّوَوِيُّ: وَعَقْدُهَا وَتَصْفِيفُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ وَحَلْقُهَا إِلَّا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا حَلْقُهَا، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَسَيَجِيءُ اسْتِحْبَابُ أَخْذِ اللِّحْيَةِ طُولًا وَعَرْضًا، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ، وَهَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَأَمَّا بَعْدَمَا طَالَتْ فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ قَصُّهَا كَرَاهَةَ أَنْ تَصِيرَ مِثْلَهُ. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُدْرَجَ فِي أَخْذِهَا لِتَصِيرَ مِقْدَارَ قَبْضَةٍ عَلَى مَا هُوَ السُّنَّةُ وَالِاعْتِدَالُ الْمُتَعَارَفُ، لَا أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِالْمَرَّةِ فَيَكُونُ مِثْلَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4422 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4422 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: وُقِّتَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ التَّوْقِيتِ أَيْ وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيَّنَ وَعَيَّنَ (لَنَا) : أَيْ لِأَجْلِنَا (فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ) : أَيْ نَحْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ (أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : وَالْمَعْنَى أَنْ لَا نَتْرُكَ تَرْكًا يَتَجَاوَزُ أَرْبَعِينَ، لَا أَنَّهُ وُقِّتَ لَهُمُ التَّرْكُ أَرْبَعِينَ ; لِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنْ يُضْبَطَ الْحَلْقُ وَالتَّقْلِيمُ وَالْقَصُّ بِالطُّولِ، فَإِذَا طَالَ حَلَقَ وَقَصَّ وَقَلَّمَ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُصُّ شَارِبَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَظْفَارِهِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ» اهـ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّ حَلْقَ الْعَانَةِ وَنَتْفَ الْإِبِطِ كَانَ يُؤَخِّرُهُمَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ إِطَالَتِهِمَا فِي أُسْبُوعٍ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ أَظْفَارَهُ، وَيُحْفِي شَارِبَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَيَحْلِقُ الْعَانَةَ فِي عِشْرِينَ يَوْمًا، وَيَنْتِفُ الْإِبِطَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا» ، وَفِي الْقِنْيَةِ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ وَيُحْفِيَ شَارِبَهُ وَيَحْلِقَ عَانَتَهُ وَيُنَظِّفَ بَدَنَهُ بِالِاغْتِسَالِ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَلَا عُذْرَ فِي تَرْكِهِ وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ، فَالْأُسْبُوعُ هُوَ الْأَفْضَلُ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَالْأَرْبَعُونَ هُوَ الْأَبْعَدُ، وَلَا عُذْرَ فِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ، وَيَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ عِنْدَنَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ الْمَظْهِرُ: وَقَدْ جَاءَ فِي تَوْقِيتِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَحَادِيثُ لَيْسَتْ فِي الْمَصَابِيحِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَغَرِّ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُصُّ شَارِبَهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ أَظْفَارِهِ كُلَّ جُمُعَةٍ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ» ، وَقِيلَ: كَانَ يَحْلِقُ الْعَانَةَ وَيَنْتِفُ الْإِبِطَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ فِي كُلِّ شَهْرٍ اهـ. وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ كَمَا لَا يَخْفَى. قَالَ قَاضِيخَانْ: رَجُلٌ وَقَّتَ لِقَلْمِ أَظَافِيرِهِ وَحَلْقِ رَأْسِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالُوا: إِنْ كَانَ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِهَا تَأْخِيرًا فَاحِشًا كَانَ مَكْرُوهًا ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ ظُفْرُهُ طَوِيلًا كَانَ رِزْقُهُ ضَيِّقًا، فَإِنْ لَمْ يُجَاوِزِ الْحَدَّ وَأَخَّرَهُ تَبَرُّكًا بِالْأَخْبَارِ، فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ مَرْفُوعًا:" «مَنْ قَلَّمَ أَظَافِيرَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنَ الْبَلَايَا إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» " اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَ حَلْقِ الرَّأْسِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّهُ لَا تَعْيِينَ لَهُ بِلَا كَلَامٍ، وَالصَّوَابُ فِي عِلَّةِ كَرَاهَةِ تَأْخِيرِ قَلْمِ الظُّفْرِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ لَا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ يُوجِبُ تَضْيِيقُ الرِّزْقِ، مَعَ أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى تِلْكَ الْمُخَالَفَةِ، لَا أَنَّهُ أَصْلٌ فِي التَّعْلِيلِ فَتَأَمَّلْ.
4423 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4423 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ» ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَفِي أُخْرَى بِكَسْرِهَا، فَفِي الْقَامُوسِ صَبَغَ كَمَنَعَ وَضَرَبَ وَنَصَرَ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى لَا يَخْضِبُونَ لِحَاهُمْ (فَخَالِفُوهُمْ) : أَيْ فَأَخْضِبُوهَا أَنْتُمْ بِالْحِنَّاءِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
4424 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4424 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُتِيَ) : أَيْ جِيءَ (بِأَبِي قُحَافَةَ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَهُوَ وَالِدُ الصِّدِّيقِ، وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ قُرَشِيٌّ تَيْمِيٌّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَاشَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ، وَمَاتَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَلَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ الصِّدِّيقُ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ. (يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) : أَيْ أَوَّلَ مَا أَسْلَمَ (وَرَأَسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ مِيرَكُ شَاهْ. " وَقِيلَ بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنَّ فِي الْقَامُوسِ: الثَّغَامُ كَسَحَابٍ نَبْتٌ فَارِسِيَّتُهُ " دَرْمَثَهْ " وَاحِدَتُهُ بِهَاءٍ، وَالرَّأْسُ صَارَ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا، وَفِي النِّهَايَةِ: هُوَ نَبْتٌ شَدِيدُ الْبَيَاضِ زَهْرُهُ وَثَمَرُهُ يُشَبَّهُ بِهِ الشَّيْبُ، وَقَوْلُهُ: (بَيَاضًا) : تَمْيِيزٌ عَنِ النِّسْبَةِ الَّتِي هِيَ التَّشْبِيهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ. (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " غَيِّرُوا هَذَا) : أَيِ الْبَيَاضَ (بِشَيْءٍ) : أَيْ مِنَ الْخِضَابِ (وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قِيلَ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْغُزَاةِ، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْغُزَاةِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لَا لِلتَّزْيِينِ فَلَا بَأْسَ لَهُ، رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ خَضَبُوا لِحَاهُمْ بِالسَّوَادِ لِلْمَهَابَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ:
«جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ أَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ وَرَأَسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثُّغَامَةِ بَيَاضًا» . . إِلَخْ. وَزَادَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ: فَذَهَبُوا بِهِ وَحَمَّرُوهُ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَحْمَدَ وَابْنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ: غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تُقَرِّبُوهُ السَّوَادَ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخِضَابِ أَقْوَالٌ، وَأَصَحُّهَا أَنَّ خِضَابَ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ يُسْتَحَبُّ وَبِالسَّوَادِ حَرَامٌ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مُوَطِّئِهِ: لَا نَرَى بِالْخِضَابِ بِالْوَسْمَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالصُّفْرَةِ بَأْسًا، وَإِنْ تَرَكَهُ أَبْيَضَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَفِي الشِّرْعَةِ: الْخِضَابُ سُنَّةٌ ثَبَتَ قَوْلًا وَفِعْلًا. قَالَ شَارِحُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَمَّا قَالَ ابْنُ عُمَرَ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَفِّرَ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ» ، وَسَيَأْتِي، وَفِي مَجْمَعِ الْفَتَاوَى: اخْتُلِفَتِ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هَلْ فَعَلَ الْخِضَابَ فِي عُمْرَةٍ؟ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، يَعْنِي الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الْخِضَابَ فِي لِحْيَتِهِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا خِضَابُ رَأْسِهِ بِالْحِنَّاءِ فَهُوَ مَشْهُورٌ وَقِيلَ: كَانَ فِعْلُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ لِدَفْعِ الصُّدَاعِ وَالْحَرَارَةِ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي الْخِضَابِ مِنَ الْأَحَادِيثِ مِنْهَا: «اخْتَضِبُوا بِالْحِنَّاءِ ; فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي شَبَابِكُمْ وَجَمَالِكُمْ وَنِكَاحِكُمْ» ، رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَنَسٍ. وَمِنْهَا:«اخْتَضِبُوا بِالْحِنَّاءِ ; فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرِّيحِ يُسَكِّنُ الرَّوْعَ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى عَنْ أَنَسٍ، وَمِنْهَا:«اخْتَضِبُوا وَافْرِقُوا وَخَالِفُوا الْيَهُودَ» ، رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا بَحْثٌ.
4425 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرِقُونَ رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4425 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا) : أَيْ فِي أَمْرٍ (لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ) : أَيْ بِشَيْءٍ مِنْ مُخَالَفَتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ حُكْمٌ بِالْمُخَالَفَةِ (وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ) : أَيِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (يَسْدُلُونَ) : بِضَمِّ الدَّالِّ وَيُكْسَرُ، فَفِي الْمُغْرِبِ: سَدَلَ مِنْ بَابِ (طَلَبَ)، وَ (أَسْدَلَ) خَطَأٌ. وَفِي الْقَامُوسِ: سَدَلَهُ يَسْدُلُهُ وَأَسْدَلَهُ أَرْخَاهُ وَأَرْسَلَهُ. (أَشْعَارَهُمْ) : وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِرْسَالُ الشَّعْرِ حَوْلَ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَسَّمَ نِصْفَيْنِ، نِصْفٌ مِنْ جَانِبِ يَمِينِهِ وَنَحْوَ صَدْرِهِ، وَنِصْفٌ مِنْ جَانِبِ يَسَارِهِ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: سَدَلَ الشَّعْرَ إِذَا أَرْسَلَهُ وَلَمْ يَضُمَّ جَوَانِبَهُ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ إِرْسَالُهُ عَلَى الْجَبِينِ وَاتِّخَاذُهُ كَالْقُصَّةِ وَالْفَرْقُ فَرْقُ الشَّعْرِ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ: السَّدْلُ أَنْ يُرْسِلَ الشَّخْصُ شَعْرَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَلَا يَجْعَلَهُ فِرْقَتَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِرْقَتَيْنِ، كُلَّ فِرْقَةٍ ذُؤَابَةً. وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ:(وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرِقُونَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِضَمٍّ وَرُوِيَ مِنَ التَّفْرِيقِ (رُءُوسَهُمْ) : أَيْ شَعْرَ رُءُوسِهِمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَيَكْشِفُوا عَنْ جَبِينِهِمْ.
قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْفَرْقُ قِسْمَةُ الشَّعْرِ، وَالْمِفْرَقُ: وَسَطُ الرَّأْسِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ (فَسَدَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ) : أَيْ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ (ثُمَّ فَرَقَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَقَدْ يُشَدَّدُ وَزَادَ فِي الشَّمَائِلِ رَأْسَهُ أَيْ شَعْرَهُ (بَعْدُ) : بِضَمِّ الدَّالِّ أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَانِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَتَاهُ وَأَمَرَهُ بِالْفَرْقِ فَفَرَقَ الْمُسْلِمُونَ رُءُوسَهُمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، فَقِيلَ فَعَلَهُ ائْتِلَافًا لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَمُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَلَمَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ خَالَفَهُمْ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: صَبْغُ الشَّيْبِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِيمَا عُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ شَرْعُنَا بِخِلَافِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا ; لِأَنَّهُ قَالَ: يُحِبُّ مُوَافَقَتَهُمْ فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ، وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا لَتَحَتَّمَ اتِّبَاعُهُ. قَالُوا: وَالْفَرْقُ سُنَّةٌ ; لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ لِقَوْلِهِ: إِنَّمَا كَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضُ: نُسِخَ السَّدْلُ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، وَلَا اتِّخَاذُ النَّاصِيَةِ وَالْجُمَّةِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ جَوَازُ الْفَرْقِ وَلَا وُجُوبُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ اجْتِهَادًا فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا بِوَحْيٍ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ مُسْتَحَبًّا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ «كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَّةٌ، فَإِنِ افْتَرَقَتْ فَرَقَهَا وَإِلَّا تَرَكَهَا» . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ جَوَازُ السَّدْلِ، وَالْفَرْقُ أَفْضَلُ اهـ.
وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: جَزَمَ الْحَازِمِيُّ أَنَّ السَّدْلَ نُسِخَ بِالْفَرْقِ، وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ: ثُمَّ أَمَرَ بِالْفَرْقِ، وَكَانَ الْفَرْقُ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا وَالْأُمُورُ الَّتِي وَافَقَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْكِتَابِ، ثُمَّ خَالَفَهُمُ السَّدْلُ، ثُمَّ الْفَرْقُ، وَتَرْكُ صَبْغِ الشَّعْرِ ثُمَّ فَعَلَهُ، وَصَوْمُ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ خَالَفَهُمْ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَاسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ الْكَعْبَةَ، وَتَرْكُ مُخَالَطَةِ الْحَائِضِ، ثُمَّ الْمُخَالَطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ، وَصَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ النَّهْيُ عَنْهُ وَالْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، ثُمَّ تَرْكُهُ. وَمِنْهَا: النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَنَاسِخُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ يَتَحَرَّى ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْكُفَّارِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» .
وَفِي لَفْظِ: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صِيَامِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: يَوْمَا عِيدٍ، إِنَّ السَّبْتَ عِيدُ الْيَهُودِ وَالْأَحَدَ عِيدُ النَّصَارَى» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4426 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الْقَزَعِ. قِيلَ لِنَافِعٍ: مَا الْقَزَعُ؟ قَالَ: يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ الْبَعْضُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمُ التَّفْسِيرَ بِالْحَدِيثِ.
ــ
4426 -
(وَعَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنِ الْقَزَعِ) : بِفَتْحِ قَافٍ وَزَايٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَصْلُ الْقَزَعِ قِطَعُ السَّحَابِ الْمُتَفَرِّقَةُ، شَبَّهَ تَفَارِيقَ الشَّعْرِ فِي رَأْسِهِ بِهَا. (قِيلَ لِنَافِعٍ: مَا الْقَزَعُ ; قَالَ: يُحْلَقُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ، وَيُتْرَكُ الْبَعْضُ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْقَزَعُ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرَّاوِي وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى كَرَاهَةِ الْقَزَعِ إِذَا كَانَ فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِمُدَاوَاةٍ وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ) : أَيْ بَعْضُ الرُّوَاةِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ (التَّفْسِيرَ) : أَيِ الْمَوْقُوفَ (بِالْحَدِيثِ) : أَيِ الْمَرْفُوعِ بِأَنْ حُذِفَ قَوْلُهُ لِنَافِعٍ، وَسُرِدَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ.
4427 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ بَعْضُ رَأْسِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: " احْلِقُوا كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوا كُلَّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4427 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى صَبِيًّا قَدْ حُلِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (بَعْضُ رَأْسِهِ وَتُرِكَ بَعْضُهُ، فَنَهَاهُمْ) : أَيْ أَهْلَ الصَّبِيِّ (عَنْ ذَلِكَ) : أَيْ عَمَّا ذُكِرَ مِنْ حَلْقِ الْبَعْضِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ (فَقَالَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَالَ (احْلِقُوا كُلَّهُ) : أَيْ كُلَّ الرَّأْسِ أَيْ شَعْرَهُ (أَوِ اتْرُكُوا كُلَّهُ) : فِي إِشَارَةٍ إِلَى أَنَّ الْحَلْقَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَائِزٌ، وَأَنَّ الرَّجُلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحَلْقِ وَتَرْكِهِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَحْلِقَ إِلَّا فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَانْفَرَدَ مِنْهُمْ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - كَمَا سَبَقَ أَوَّلُ الْكِتَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ.
4428 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ: " أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
4428 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُخَنَّثِينَ) : بِفَتْحِ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ وَكَسْرِهَا، وَالْأَوَّلُ أَشْهُرُ أَيِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ (مِنَ الرِّجَالِ) : فِي الزِّيِّ وَاللِّبَاسِ وَالْخِضَابِ وَالصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَالتَّكَلُّمِ وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ مِنْ خَنِثَ يَخْنَثُ كَعَلِمَ يَعْلَمُ إِذَا لَانَ وَتَكَسَّرَ، فَهَذَا الْفِعْلُ مَنْهِيٌّ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ (وَالْمُتَرَجِّلَاتِ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ " الْمُتَشَبِّهَاتِ بِالرِّجَالِ (مِنَ النِّسَاءِ) : زِيًّا وَهَيْئَةً وَمِشْيَةً وَرَفْعَ صَوْتٍ وَنَحْوَهَا لَا رَأْيًا وَعِلْمًا، فَإِنَّ التَّشَبُّهَ بِهِمْ مَحْمُودٌ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ رَجُلَةَ الرَّأْيِ أَيْ: رَأْيُهَا كَرَأْيِ الرِّجَالِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. (وَقَالَ) : أَيْ خِطَابًا عَامًّا (أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) : أَيْ مِنْ مَسَاكِنِكُمْ وَمِنْ بَلَدِكُمْ، فَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمُخَنَّثٍ قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ، فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى الْبَقِيعِ» ، فَفِي شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ الْحِنَّاءُ سُنَّةٌ لِلنِّسَاءِ، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِهِنَّ اهـ.
وَمَفْهُومُهُ أَنَّ تَخْلِيَةَ النِّسَاءِ عَنِ الْحِنَّاءِ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِتُشَبُّهِهِنَّ بِالرِّجَالِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ اهـ. وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ وَالْعَجَبُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي أَنَّ رِجَالَهُمْ يَتَحَنَّوْنَ مَعَ أَنَّ هَذَا شِعَارُ الرَّافِضَةِ أَيْضًا، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
4429 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
4429 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَنَ اللَّهُ) : يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ وَالدُّعَاءَ (الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخَنَّثُ ضَرْبَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَتَكَلَّفِ التَّخَلُّقَ بِأَخْلَاقِ النِّسَاءِ وَزِيِّهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ وَحَرَكَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا ذَمَّ عَلَيْهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عَيْبَ وَلَا عُقُوبَةَ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَالثَّانِي مِنْ يَتَكَلَّفُ أَخْلَاقَ النِّسَاءِ وَحَرَكَاتِهِنَّ وَسَكَنَاتِهِنَّ وَكَلَامِهِنَّ وَزِيِّهِنَّ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ الَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَعْنُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
4430 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ، وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ، وَالْمُسْتَوْشِمَةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4430 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ) : أَيِ الَّتِي تُوصِلُ شَعْرَهَا بِشِعْرٍ آخَرَ زُورًا وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ بِنَفْسِهَا أَوْ تَأْمُرَ غَيْرَهَا بِأَنْ يَفْعَلَهُ، (وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) : أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِهَا، وَتَأْمُرُ مَنْ يَفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ، وَهِيَ تَعُمُّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، فَالتَّاءُ إِمَّا بِاعْتِبَارِ النَّفْسِ ; أَوْ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْآمِرَةُ وَالرَّاضِيَةُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي تَحْرِيمِ الْوَصْلِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُخْتَارُ، وَقَدْ فَصَّلَهُ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: إِنْ وَصَلَتْ بِشَعْرِ آدَمِيٍّ فَهُوَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ ; لِأَنَّهُ يَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ لِكَرَامَتِهِ، وَأَمَّا الشَّعْرُ الطَّاهِرُ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْحٌ وَلَا سَيِّدٌ فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا ; وَإِنْ كَانَ فَثَلَاثَةُ أَوْجَهٍ، أَصَحُّهَا: إِنْ فَعَلَتْهُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ جَازَ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ: عَلَى أَنَّ الْوَصْلَ مَمْنُوعٌ بِكُلِّ شَيْءٍ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ خِرَقٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّهْيُ مُخْتَصٌّ بِالشَّعْرِ فَلَا بَأْسَ بِوَصْلِهِ بِصُوفٍ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عَنْهَا كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. (وَالْوَاشِمَةَ) : اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْوَشْمِ وَهُوَ غَرْزُ الْإِبْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا فِي الْجِلْدِ حَتَّى يَسِيلَ الدَّمُ، ثُمَّ حَشْوُهُ بِالْكُحْلِ أَوِ النِّيلِ أَوِ النَّوْرَةِ فَيَخْضَرُّ ; (وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) : أَيْ مَنْ أَمَرَ بِذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْفَاعِلَةِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي وُشِمَ يَصِيرُ نَجِسًا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِزَالَتُهُ بِالْعِلَاجِ وَجَبَتْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا بِالْجَرْحِ، فَإِنْ خَافَ مِنْهُ التَّلَفَ أَوْ فَوْتَ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَتَهُ أَوْ شَيْئًا فَاحِشًا فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهُ، وَإِذَا تَابَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِزَالَتُهُ وَيَعْصَى بِتَأْخِيرِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ.
4431 -
ــ
4431 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ هِيَ الَّتِي تَطْلُبُ إِزَالَةَ الشَّعْرِ مِنَ الْوَجْهِ بِالْمِنْمَاصِ أَيِ الْمِنْقَاشِ، وَالَّتِي تَفْعَلُهُ نَامِصَةٌ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ حَرَامٌ إِلَّا إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ (وَالْمُتَفَلِّجَاتِ) : بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَطْلُبُ الْفَلَجَ، وَهُوَ بِالتَّحْرِيكِ فُرْجَةٌ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ السِّنِينَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِنَّ النِّسَاءُ اللَّاتِي تَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَسْنَانِهِنَّ رَغْبَةً فِي التَّحْسِينِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الَّتِي تُبَاعِدُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرُّبَاعِيَّاتِ بِتَرْقِيقِ الْأَسْنَانِ بِنَحْوِ الْمِبْرَدِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تُرَقِّقُ الْأَسْنَانَ وَتُزَيِّنُهَا، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:(لِلْحُسْنِ) : لِلتَّعْلِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّنَازُعُ فِيهِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَخِيرِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْحَرَامَ هُوَ الْمَفْعُولُ لِطَلَبِ الْحُسْنِ، أَمَّا لَوِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِعِلَاجٍ أَوْ عَيْبٍ فِي السِّنِّ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. (الْمُغَيِّرَاتِ) : صِفَةٌ لِلْمَذْكُورَاتِ جَمِيعًا وَمَفْعُولُهُ
(خَلْقَ اللَّهِ) : وَالْجُمْلَةُ كَالتَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ اللَّعْنِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (فَجَاءَتْهُ) : أَيْ: ابْنَ مَسْعُودٍ (امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنَّهُ) : أَيِ الشَّأْنَ (بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ) : أَيِ الْوَاشِمَاتِ وَمَا بَعْدَهُنَّ، وَالْمَعْنَى أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أَخْبَرْتَ عَنْ لَعْنِ اللَّهِ، أَوْ أَنْشَأْتَ اللَّعْنَ مِنْ عِنْدِكَ عَلَى الْمَذْكُورَاتِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لَعْنُهُنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ لَعْنُ مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُ اللَّهُ، (فَقَالَ) : أَيِ ابْنُ مَسْعُودٍ (مَا لِي) : " مَا " نَافِيَةٌ أَوِ اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَالْمَعْنَى كَيْفَ (لَا أَلْعَنُ مِنْ لَعَنَ) : أَيْ لَعَنَهُ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : فَصَارَ الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا بَعْدَمَا كَانَ مَوْقُوفًا (وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ) : عَطْفٌ عَلَى الْمَوْصُولِ الْأَوَّلِ أَيْ وَمَنْ هُوَ مَلْعُونٌ فِيهِ أَيْ مَذْكُورٌ فِيهِ لَعْنُهُ ضِمْنًا، وَلَمَّا أَبْهَمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا سَارَعَتْ (فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ) : فِي كِتَابِ اللَّهِ أَيْ (مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ) : أَيِ الدَّفَّتَيْنِ، الْمُرَادُ أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَآخِرُهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيعَابِ بِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ، وَكَأَنَّهَا أَرَادَتْ بِاللَّوْحَيْنِ جِلْدَيْ أَوَّلِ الْمُصْحَفِ وَآخِرِهِ أَيْ قَرَأْتُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ (فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ) : أَيْ صَرِيحًا (قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ) : بِإِشْبَاعِ كَسْرَةِ التَّاءِ إِلَى تَوَلُّدِ الْيَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: اللَّامُ الْأُولَى مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وَالثَّانِيَةُ لِجَوَابِ الْقَسَمِ الَّذِي سَدَّ مَسَدَّ جَوَابِ الشَّرْطِ أَيْ لَوْ قَرَأْتِيهِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ لَعَرَفْتِ ذَلِكَ. (أَمَا قَرَأْتِ) : هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيَّةُ وَمَا النَّافِيَةُ وَمَفْعُولُهُ (قَوْلُهُ: مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] : فَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ (قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّهُ) : أَيِ الرَّسُولَ الْمَذْكُورَ (قَدْ نَهَى عَنْهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعِبَادُ مَأْمُورِينَ بِانْتِهَاءِ مَا نَهَاهُمُ الرَّسُولُ، وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، فَكَانَ جَمِيعُ مَنْهِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم مَنْهِيًّا مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ لَعْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَاشِمَاتِ. . إِلَخْ كَلَعْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى قَوْلِهِ: خَلْقَ اللَّهِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ.
4432 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَيْنُ حَقٌّ " وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
4432 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْعَيْنُ) : أَيْ إِصَابَتُهَا (حَقٌّ) : أَيْ أَمْرٌ مُتَحَقِّقُ الْوُقُوعِ لَهَا تَأْثِيرٌ مَقْضِيٌّ بِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ. وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَصَابَتْ فُلَانًا عَيْنٌ إِذَا نَطَرَ إِلَيْهِ عَدُوٌّ أَوْ حَسُودٌ، فَأَثَّرَتْ فِيهِ، فَمَرِضَ بِسَبَبِهَا. (وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ) : عَطْفٌ عَلَى قَالَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ اقْتِرَانَ النَّهْيِ عَنِ الْوَشْمِ بِإِصَابَةِ الْعَيْنِ رَدٌّ لِزَعْمِ الْوَاشِمَةِ أَنَّهُ يَرُدُّ الْعَيْنَ اهـ. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اقْتِرَانِهِمَا فِي زَمَانِ تَكَلُّمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِمَا فَتَأَمَّلْ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيِ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ، وَإِلَّا فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْعَيْنُ حَقٌّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ أَيِ الْجَبَلَ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَدِيٍّ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ:«الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ» . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَ (إِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» ) أَيْ إِذَا طَلَبَ مَنْ أَصَابَهُ الْعَيْنُ أَنْ يَغْتَسِلَ مَنْ أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ فَلْيُجِبْهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَرَوَى الْكَجِّيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ: «الْعَيْنُ حَقٌّ يُحْضِرُهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ» .
4433 -
«وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُلَبِّدًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
4433 -
( «وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُلَبِّدًا» ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ، فِي الْفَائِقِ: التَّلْبِيدُ أَنْ يَجْعَلَ فِي رَأْسِهِ لُزُوقًا صَمْغًا أَوْ عَسَلًا لِيَتَلَبَّدَ فَلَا يَقْمُلُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَهُ كَاللُّبَدِ بِالصَّبْغِ لِأَجْلِ السَّفَرِ لِئَلَّا يَتَلَوَّثَ بِالْغُبَارِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّلْبِيدِ فِي غَيْرِ حَالِ الْإِحْرَامِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
4434 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4434 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» ) : أَيْ يَسْتَعْمِلَ الزَّعْفَرَانَ فِي ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ ; لِأَنَّهُ عَادَةُ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الْقَلِيلُ مِنْهُ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْهُ لَمَّا رَآهَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ، قَالَ أَبُو عِيسَى: مَعْنَى كَرَاهَةِ التَّزَعْفُرِ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّزَعْفُرِ لِلرَّجُلِ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ، أَمَّا الْقَلِيلُ مِنْهُ فَقَدْ رُوِيَ التَّرْخِيصُ فِيهِ لِلْمُتَزَوِّجِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَلَيْهِ دِرْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ الْتَصَقَ بِثَوْبِهِ مِنَ الْعَرُوسِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنِ التَّطَيُّبِ بِهِ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَكَمَا يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«طِيبُ الرِّجَالِ مَا خَفِيَ لَوْنُهُ» " قَالَ: وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّقُونَ وَلَا يَرَوْنَ بِالْخَلُوقِ بَأْسًا. قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ مَا بَلَغَهُمُ النَّهْيُ أَوْ مَا صَحَّ عِنْدَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَخُلِّقَ بِخَلُوقٍ، ثُمَّ غَسَلَهُ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ كَانَ لِمُدَاوَاةٍ ; مَعَ أَنَّ تَخَلُّقَهُ ثُمَّ غَسْلَهُ لَا يُسَمَّى تَطَيُّبًا فِي الْعُرْفِ، وَسَيَأْتِي أَحَادِيثُ أُخَرُ فِي الْمَنْعِ عَنِ الْخَلُوقِ مُطْلَقًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
4435 -
«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا نَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4435 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أُطَيِّبُ) : بِكَسْرِ التَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ أُعَطِّرُ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِأَطْيَبِ مَا نَجَدُ) : أَيْ نُصَادِفُ نَحْنُ مَعْشَرَ النِّسَاءِ مِنْ أَنْوَاعِ طِيبِ الرِّجَالِ، وَجُرَّ (أَطْيَبِ) بِالْإِضَافَةِ (حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ) : بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ أَيْ بَرِيقَهُ وَلَمَعَانَهُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: وَلَا يُشْكِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ: «طِيبُ الرِّجَالِ مَا خَفِيَ لَوْنُهُ» ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لَهُ لَوْنٌ يُظْهِرُ زِينَةً وَجَمَالًا كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فَهُوَ جَائِزٌ اهـ. وَفِي مَعْنَاهُمَا الْكَافُورُ وَالزَّبَادُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: كَانَ يَأْخُذُ الْمِسْكَ فَيَمْسَحُ بِهِ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ. رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.
4436 -
وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ:«كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ بِأَلُوَّةٍ غَيْرِ مُطَرَّاةٍ، وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأَلُوَّةِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4436 -
(وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا اسْتَجْمَرَ) : أَيْ تَبَخَّرَ وَتَعَطَّرَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اسْتَعْمَلَ الْجَمْرَ وَحَصَلَ الْجَمْرُ فِيهِ لِلْبَخُورِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْرَةِ، وَمِنْهُ الْمِجْمَرَةُ وَهِيَ وِعَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ النَّارُ، ثُمَّ الْعُودُ وَيُتَبَخَّرُ بِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الِاسْتِجْمَارُ هُنَا اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَالتَّبَخُّرُ بِهِ مَأْخُوذٌ مِنْ مِجْمَرَةٍ وَهُوَ الْبَخُورُ اهـ. وَقَيَّدَهُ لِقَوْلِهِ هُنَا لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ أَوْ مُطْلَقًا (اسْتَجْمَرَ بِأَلُوَّةٍ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَيُضَمُّ، بِضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ بِكَسْرِ اللَّامِ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتُشَدَّدُ وَتَخَفَّفُ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: أَرَاهَا فَارِسِيَّةً مُعَرَّبَةً وَهِيَ عَوْدٌ يُتَخَبَّرُ بِهِ وَقَوْلُهُ: (غَيْرُ مُطَرَّاةٍ) : صِفَةٌ، وَهِيَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ غَيْرُ مَخْلُوطَةٍ بِغَيْرِهَا مِنَ الطِّيبِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَالْمُطَرَّاةُ هِيَ الْمُرَبَّاةُ بِمَا يَزِيدُ فِي الرَّائِحَةِ مِنَ الطِّيبِ، وَالْمَعْنَى اسْتَجْمَرَ بِهَذِهِ وَحْدَهَا تَارَةً (وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ) : صِفَةُ كَافُورٍ (مَعَ الْأَلُوَّةِ) : أَيْ تَارَةً أُخْرَى (ثُمَّ قَالَ) : أَيِ ابْنُ عُمَرَ (هَكَذَا) : أَيِ انْفِرَادًا وَاجْتِمَاعًا (كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
4437 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ، أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - صَلَوَاتُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ - يَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
4437 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُصُّ، أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ) : أَيِ الْقَصَّ أَوِ الْأَخْذَ أَيْضًا، وَلَعَلَّ ذِكْرَهُ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ كَمَا سَيَأْتِي مُصَرَّحًا بِهِ فِي آخِرِ الْبَابِ، فَالِاقْتَدَاءُ بِالْحَبِيبِ بَعْدَ الْخَلِيلِ يُورِثُ الْأَجْرَ الْجَمِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَزِيلَ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّبِعُ سُنَّةَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، قِيلَ: الْكَلِمَاتُ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ الْفَرْقُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَالسِّوَاكُ وَغَيْرُ ذَلِكَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
4438 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4438 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا» ) : أَيْ مِنْ مُوَافِقِينَا فِي هَذَا الْفِعْلِ كَذَا قِيلَ، وَهُوَ لَا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَقِيلَ لَيْسَ مِنَّا فِي وُصُولِ ثَوَابِ هَذِهِ السُّنَّةِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنْ كُمَّلِ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا، أَوْ تَهْدِيدٌ لِتَارِكِ هَذِهِ السُّنَّةِ، أَوْ تَخْوِيفٌ لَهُ عَلَى الْمَوْتِ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمِلَّةِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) .
4439 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
ــ
4439 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ عَرْضِهَا وَطُولِهَا» ) : بَدَلٌ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: " «أَعْفُوا اللِّحَى» " ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ هُوَ قَصُّهَا كَفِعْلِ الْأَعَاجِمِ أَوْ جَعْلُهَا كَذَنَبِ الْحَمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِعْفَاءِ التَّوْفِيرُ مِنْهَا كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، وَالْأَخْذُ مِنَ الْأَطْرَافِ قَلِيلًا لَا يَكُونُ مِنَ الْقَصِّ فِي شَيْءٍ اهـ. وَعَلَيْهِ سَائِرُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ زَيْنِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ، وَقُيِّدَ الْحَدِيثُ فِي شَرْحِ الشِّرْعَةِ بِقَوْلِهِ: إِذَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْقُبْضَةِ، وَجَعَلَهُ فِي التَّنْوِيرِ مِنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ فِي الشِّرْعَةِ: وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْخَمِيسِ أَوِ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَتْرُكُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَفِي النِّهَايَةِ شَرْحُ الْهِدَايَةِ: وَاللِّحْيَةُ عِنْدَنَا طُولُهَا بِقَدْرِ الْقُبْضَةِ بِضَمِّ الْقَافِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَجِبُ قَطْعُهُ. رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنَ اللِّحْيَةِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا» . أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: مِنْ سَعَادَةِ الرَّجُلِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ اهـ.
وَقَوْلُهُ: يَجِبُ بِمَعْنَى يَنْبَغِي، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: تَسْوِيَةُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ سُنَّةٌ وَهِيَ أَنْ يَقُصَّ كُلَّ شَعْرَةٍ أَطْوَلَ مِنْ غَيْرِهَا لِيَسْتَوِيَ جَمِيعُهَا. وَفِي الْإِحْيَاءِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا طَالَ مِنَ اللِّحْيَةِ، فَقِيلَ: إِنْ قَبَضَ الرَّجُلُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَأَخَذَ مَا تَحْتَ الْقُبْضَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ فَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَاسْتَحْسَنَهُ الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمَا.
وَقَالُوا: تَرْكُهَا عَافِيَةٌ أَحَبُّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ( «أَعْفُوا اللِّحَى» ) . لَكِنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الطُّولَ الْمُفْرِطَ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ، وَيُطْلِقُ أَلْسِنَةَ الْمُغْتَابِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ. قَالَ النَّخَعِيُّ: عَجِبْتُ لِرَجُلٍ عَاقِلٍ طَوِيلِ اللِّحْيَةِ كَيْفَ لَا يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ فَيَجْعَلُهَا بَيْنَ لِحْيَتَيْنِ أَيْ طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ، فَإِنَّ التَّوَسُّطَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنُ، وَمِنْهُ قِيلَ: خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: كُلَّمَا طَالَتِ اللِّحْيَةُ نَقَصَ الْعَقْلُ اهـ كَلَامُ الْإِمَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .
4440 -
«وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَيْهِ خَلُوقًا، فَقَالَ: " أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ لَا تَعُدْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4440 -
(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ) : بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى عَلَيْهِ خَلُوقًا) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ لَهُ لَوْنٌ، وَقِيلَ: هُوَ طِيبٌ فِيهِ صُفْرَةٌ، وَقِيلَ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ مِنَ الزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ. (فَقَالَ: " أَلَكَ امْرَأَةٌ؟) : قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي إِنْ كَانَ لَكَ امْرَأَةٌ أَصَابَكَ مِنْ بَدَنِهَا وَثَوْبِهَا الْخَلُوقُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْصِدَ اسْتِعْمَالَهُ فَأَنْتَ مَعْذُورٌ، وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَقِيلَ: رُخِّصَ لِلْمُتَزَوِّجِ قَلِيلُهُ لَا الْكَثِيرُ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ قَوْلُ الْمُظْهِرِ لِمَا سَبَقَ لِمَا سَيَأْتِي. (قَالَ: لَا) : أَيْ لَيْسَ لِي امْرَأَةٌ (قَالَ: " فَاغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ، ثُمَّ اغْسِلْهُ) قَالَ الْمُظْهِرُ: أَمَرَهُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى لَوْنُهُ إِلَّا بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا (ثُمَّ لَا تَعُدْ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ لَا تَرْجِعْ إِلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرِّجَالِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ)
4441 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ فِي جَسَدِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4441 -
(وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ رَجُلٍ فِي جَسَدِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ» ) : وَفِي تَنْكِيرِ شَيْءٍ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ رَدٌّ لِمَنْ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالْكَثِيرِ. قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْمُرَادُ نَفْيُ ثَوَابِ الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ لِلتَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ تَهْدِيدٌ وَزَجْرٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْخَلُوقِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4442 -
ــ
4442 -
( «وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ تَشَقَّقَتْ يَدَايَ، فَخَلَّقُونِي» ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ جَعَلُوا الْخَلُوقَ فِي شُقُوقِ يَدَيَّ لِلْمُدَاوَاةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، فَقَوْلُهُ:(بِزَعْفَرَانٍ)، لِلتَّأْكِيدِ أَوْ بِنَاءً عَلَى التَّجْرِيدِ (فَغَدَوْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ جِئْتُهُ وَقْتَ الْغُدْوَةِ (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ) : وَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ رَدٍّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْقَلِيلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ (وَقَالَ: اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْكَ) . وَلَعَلَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ عُذْرُهُ، أَوْ مَا أَعْجَبَهُ خُرُوجُهُ بِهِ، أَوْ إِبْقَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلِهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4443 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4443 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: طِيبُ الرِّجَالِ) : الطِّيبُ قَدْ جَاءَ مَصْدَرًا وَاسْمًا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمَعْنَاهُ: مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. (مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ) : كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ. ( «وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَخَفِيَ رِيحُهُ» ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ سَعْدٌ: أَرَاهُمْ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَطِيبُ النِّسَاءِ عَلَى مَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا فَلْتَتَطَيَّبْ بِمَا شَاءَتْ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، فَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ وَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا يَعْنِي زَانِيَةً اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدُ مَعَنَا الْعِشَاءَ» " قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمَا خَفِيَ رِيحُهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: وَكَالْحِنَّاءِ، وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُمْ إِذْ هُمْ شَافِعِيُّونَ، وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَحَسَّنَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ تَابِعِيٌّ، وَالرَّاوِي ثِقَةٌ عَنْهُ، فَجَهَالَتُهُ تَنْتَفِي مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. قُلْتُ: أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى تَعَدُّدِ أَسَانِيدِهِ فَيَكُونُ حَسَنًا لِغَيْرِهِ. (وَالنَّسَائِيُّ) : قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَأَبُو دَاوُدَ بَيْنَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ اهـ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ.
4444 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُكَّةٌ يَتَطَيَّبُ مِنْهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4444 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ) : وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُكَّةٌ،: بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ: نَوْعٌ مِنَ الطِّيبِ عَزِيزٌ، قِيلَ: يُتَّخَذُ مِنَ الْمِسْكِ، وَفِي الصِّحَاحِ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ عَرَبِيٌّ، وَقِيلَ: هُوَ مَعْجُونٌ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، وَفِي الْقَامُوسِ: السُّكَّةُ بِالضَّمِّ طِيبٌ يُتَّخَذُ مِنَ الرَّامِكِ مَدْقُوقًا مَنْخُولًا مَعْجُونًا بِالْمَاءِ وَيُعْرَكُ شَدِيدًا وَيُقْرَصُ وَيُتْرَكُ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ يُثْقَبُ بِمِسَلَّةٍ وَيُنَظَمُ فِي خَيْطِ قُنَّبٍ، وَيُتْرَكُ سَنَةً، وَكُلَّمَا عُتِّقَ طَابَتْ رَائِحَتُهُ. قَالَ: وَالرَّامِكُ كَصَاحِبٍ وَيُفْتَحُ، شَيْءٌ أَسْوَدُ يَخْلَطُ بِالْمِسْكِ وَالْقُنَّبُ كَدُنَّمِ وَسُكَّرٍ نَوْعٌ مِنَ الْكَتَّانِ. وَفِي النِّهَايَةِ: السُّكَّةُ طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطِّيبِ وَيُسْتَعْمَلُ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هِيَ طِيبٌ مُرَكَّبٌ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ظَرْفٌ فِيهَا طِيبٌ وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: يَتَطَيَّبُ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ لَقَالَ: (تَطَيَّبَ بِهَا) : قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: السُّكُّ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ طِيبٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَخْلَاطِ وَالسُّكَّةُ قِطْعَةٌ مِنْهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وِعَاءً. قَالَ مِيرَكُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: كَلِمَةُ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّهُ كَانَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا بِدُفْعَاتٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِهَا، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْوِعَاءَ فَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ.
4445 -
وَعَنْهُ، قَالَ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ، وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ، وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ، كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.
ــ
4445 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ) : مِنَ الْإِكْثَارِ (دَهْنَ رَأْسِهِ) : بِفَتْحِ الدَّالِ اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ بِضَمِّهَا (وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ) : مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى دَهْنَ وَمَنْ جَرَّهُ بِالْعَطْفِ عَلَى رَأْسِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَالْمُرَادُ تَمْشِيطُهَا وَإِرْسَالُ شَعْرِهَا، وَحَلُّهَا يُمَشِّطُهَا، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَضَعَ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ وَمُشْطَهُ، فَإِذَا نَبَّهَهُ اللَّهُ عز وجل مِنَ اللَّيْلِ. . الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«خَمْسٌ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَعُهُنَّ فِي سِفْرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِدْرَى وَالسِّوَاكُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: وَقَارُورَةُ دُهْنٍ بَدَلُ الْمِدْرَى، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«كَانَ لَا يُفَارِقُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سِوَاكُهُ وَمُشْطُهُ، وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ إِذَا سَرَّحَ لِحْيَتَهُ» . وَرَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عِلْوَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:«سَبْعٌ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتْرُكُهُنَّ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرٍ: الْقَارُورَةُ وَالْمُشْطُ وَالْمِرْآةُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالسِّوَاكُ وَالْمِقَصُّ وَالْمِدْرَى. قُلْتُ لِهِشَامٍ: الْمِدْرَى مَا بَالُهُ؟ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ وَفْرَةٌ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، فَكَانَ يُحَرِّكُهَا بِالْمِدْرَى» ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، عُودٌ تُدْخِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي رَأْسِهَا لِئَلَّا يَنْضَمَّ بَعْضُ الشُّعُورِ إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِقَصُّ بِكَسْرِ الْمِيمِ آلَةُ الْقَصِّ بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَهِيَ الْمِقْرَاضُ، هَذَا وَذَكَرَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيُّ فِي حَاشِيَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ الشَّيْخُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ هُوَ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ فَيُجْتَنَبُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ» .
قَالَ، فَإِنْ قُلْتَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ دُهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ» . قُلْتُ: لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِكْثَارِ التَّسْرِيحُ كُلَّ يَوْمٍ، بَلِ الْإِكْثَارُ قَدْ يَصْدُقُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي يُفْعَلُ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ. قُلْتُ: لَمْ أَقِفْ عَلَى هَذَا بِإِسْنَادٍ، وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَهُ إِلَّا الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا. (وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ) : أَيْ لُبْسَهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ إِعَادَةِ الْعَامِلِ وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ وَخِفَّةِ النُّونِ وَفِي آخِرِهِ مُهْمَلَةٍ: خِرْقَةٌ تُلْقَى عَلَى الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وِقَايَةً لِلْعِمَامَةِ مِنْ أَثَرِ الدُّهْنِ وَاتِّسَاخِهَا بِهِ، شُبِّهَتْ بِقِنَاعِ الْمَرْأَةِ. وَفِي الصِّحَاحِ: هُوَ أَوْسَعُ مِنَ الْمِقْنَعَةِ، وَهُوَ الَّذِي تُلْقِيهِ الْمَرْأَةُ فَوْقَ الْمِقْنَعَةِ. قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي يُكْثِرُ اتِّخَاذَهُ أَوِ اسْتِعْمَالَهُ بَعْدَ الدُّهْنِ.
(كَأَنَّ) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَفِي الشَّمَائِلِ: حَتَّى كَانَ وَهِيَ غَايَةٌ لِيُكْثِرَ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: (ثَوْبَهُ) : أَيْ قِنَاعَهُ (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ أَيْ بَائِعِ الزَّيْتِ أَوْ صَانِعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِثَوْبِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى بَدَنِهِ لِإِكْثَارِ دَهْنِهِ وَلِمُلَابَسَةِ قِنَاعِهِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَنْظَفَ النَّاسِ ثَوْبًا، وَأَحْسَنَهُمْ هَيْئَةً، وَأَجْمَلَهُمْ سَمْتًا، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ فَقَالَ: أَمَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ» ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَصْلِحُوا ثِيَابَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالشَّامَةِ بَيْنَ النَّاسِ» ". وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ: كَانَ مِلْحَفَتُهُ مِلْحَفَةَ زَيَّاتٍ، أَوْرَدَهُ الذَّهَبِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ:«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ التَّقَنُّعَ بِثَوْبٍ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ أَوْ دَهَّانٍ» ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقِنَاعِ فَائِدَةٌ، وَلَا لِغَايَةِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ (ثَوْبُ زَيَّاتٍ) : لِقَوْلِهِ: كَانَ يُكْثِرُ الْقِنَاعَ نَتِيجَةً، بَلْ كَانَ الْمُنَاسِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ حَتَّى كَأَنَّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ، هَذَا وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنِ الْمُضْمَرِ إِلَى الْمُظْهَرِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَكَأَنَّهُ ثَوْبُ زَيَّاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْقِنَاعِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِثَوْبِهِ ثَوْبُهُ الْخَاصُّ الْمُسْتَعْمَلُ لِلدَّهْنِ لَا مُطْلَقَ ثَوْبِهِ، فَتَأَمَّلْ لِيَرْتَفِعَ الْخَلَلُ، لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِكْثَارِ الدُّهْنِ مَعَ التَّشْبِيهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ (كَأَنَّ) يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ اللَّابِسَ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِنَاعَ الَّذِي يُغَطَّى بِهِ الْمَدْهُونُ يُشْبِهُ ثَوْبَ الزَّيَّاتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ ثَوْبُهُ عَلَى ثَوْبٍ خَاصٍّ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي لَابَسَهُ حِينَ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِيهِ صلى الله عليه وسلم لِيُخِلَّ بِالنَّظَافَةِ، بَلْ كَانَ يَقْلَعُهُ وَيَلْبَسُ غَيْرَهُ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْهُ خَادِمُهُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ وَهَذَا التَّجْوِيلُ أَتَمُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ مَعَ إِيرَادِهِ فِي الْمَصَابِيحِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَعْفِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَشَمَائِلِهِ، وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ، فَلَا يَضُرُّ مَا قَالَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ أَحَدِ رُوَاةِ التِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ، أَنَّهُ كَانَ عَابِدًا، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، وَعَدُّوا مِنْ مَنَاكِيرِهِ قَوْلَهُ: كَانَ ثَوْبُهُ ثَوْبَ زَيَّاتٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ عَادَتِهِ مِنَ النَّظَافَةِ، وَقَدْ عَرَفْتَ تَأْوِيلَهُ، فَارْتَفَعَ وَجْهُ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ قَرَّرَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْفَاسِدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4446 -
وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ رضي الله عنها قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا بِمَكَّةَ قَدْمَةً، وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
4446 -
(وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ) : مَرَّ ذِكْرُهَا (قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا بِمَكَّةَ) : أَيْ يَوْمَ الْفَتْحِ (قَدْمَةً) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْقُدُومِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِـ (قَدِمَ)، وَكَانَ لَهُ صلى الله عليه وسلم قَدُومَاتٌ أَرْبَعَةٌ: بِمَكَّةَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَفَتْحُ مَكَّةَ، وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ. وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَقْدِمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ اغْتَسَلَ وَصَلَّى الضُّحَى فِي بَيْتِهَا. (وَلَهُ أَرْبَعُ غَدَائِرَ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ جَمْعُ غَدِيرَةٍ بِمَعْنَى ضَفِيرَةٍ، وَيُقَالُ: لَهَا ذُؤَابَةٌ أَيْضًا، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ (وَابْنُ مَاجَهْ) .
4447 -
«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِذَا فَرَقْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ صَدَّعْتُ فَرْقَهُ عَنْ يَافُوخِهِ، وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4447 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِذَا فَرَقْتُ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ قَسَمْتُ (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ) : أَيْ شَعْرَ رَأْسِهِ قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مِنْ جَانِبِ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ: مِنْ جَانِبِ يَسَارِهِ (صَدَّعْتُ فَرْقَهُ) : بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَظْهَرُ بَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا قُسِمَ قِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ الْخَطُّ هُوَ بَيَاضُ بَشْرَةِ الرَّأْسِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الشَّعْرِ، ذَكَرَهُ
الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى شَقَقْتُ وَفَرَقْتُ فَرْقَةً، أَيْ: جَعَلْتُ شَعْرَهُ الْمَفْرُوقَ نِصْفَيْنِ (عَنْ يَافُوخِهِ) : أَيْ جُلِّهِ وَمُعْظَمِهِ عَنْ جَانِبِ مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ مِمَّا يَلِي الْقَفَا أَوْ صَدْعًا صَادِرًا عَنْ يَافُوخِهِ، (وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ) : وَهِيَ شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ (بَيْنَ عَيْنَيْهِ) : أَيْ مُحَاذِيًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ قِبَلِ الْوَجْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْيَافُوخُ وَسَطُ الرَّأْسِ وَمَوْضِعُ مَا يَتَحَرَّكُ مِنْ رَأْسِ الطِّفْلِ، وَالْمَعْنَى كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْ ذَلِكَ الْخَطِّ عِنْدَ الْيَافُوخِ، وَالطَّرْفُ الْآخَرُ عِنْدَ جَبْهَتِهِ مُحَاذِيًا لِمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَوْلُهَا: وَأَرْسَلْتُ نَاصِيَتَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، أَيْ جَعَلْتُ رَأْسَ فَرْقِهِ مُحَاذِيًا لِمَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ نِصْفُ شَعْرِ نَاصِيَتِهِ مِنْ جَانِبِ يَمِينِ ذَلِكَ الْفَرْقِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرِ مِنْ جَانِبِ يَسَارِ ذَلِكَ الْفَرْقِ اهـ. وَتَأَمَّلْ فِيمَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْفَرْقِ، فَإِنَّهُ فَرْقٌ دَقِيقٌ، بِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ لِمَنْ لَهُ تَوْفِيقٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4448 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّرَجُّلِ إِلَّا غِبًّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4448 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّرَجُّلِ) : أَيِ التَّمَشُّطِ (إِلَّا غِبًّا) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ. قَالَ الْقَاضِي: الْغِبُّ أَنْ يَفْعَلَ يَوْمًا وَيَتْرُكَ يَوْمًا، وَالْمُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ وَالِاهْتِمَامُ بِهِ ; لِأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّزْيِينِ وَتَهَالُكٌ فِي التَّحْسِينِ. وَقَالَ شَارِحٌ: الْغِبُّ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَالْمَعْنَى نَهَى عَنْ دَوَامِ تَسْرِيحِ الرَّأْسِ وَتَدْهِينِهِ ; لِأَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي التَّزْيِينِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ عَنْ عِبَارَتِهِ أَنَّ تَمْشِيطَ اللِّحْيَةِ كُلَّ يَوْمٍ لَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْغِبُّ بِالْكَسْرِ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ، وَوِرْدُ يَوْمٍ وَظَمْءُ آخَرَ، وَفِي الزِّيَارَةِ أَنْ تَكُونَ كُلَّ أُسْبُوعٍ اهـ.
فَالْغِبُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَفْعَالِ وَالْأَشْخَاصِ كَمَا وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ: زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْغِبُّ مِنْ أَوْرَادِ الْإِبِلِ أَنْ تُورِدَ الْإِبِلُ يَوْمًا وَتَدَعَهُ يَوْمًا، ثُمَّ تَعُودُ فَنُقِلَ إِلَى الزِّيَارَةِ أَنْ جَاءَ بَعْدَ أَيَّامٍ يُقَالُ: غِبُّ الرَّجُلِ إِذَا جَاءَ زَائِرًا بَعْدَ أَيَّامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ اهـ. وَبِهِ ظَهَرَ الْمُدَّعِي ; لِأَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مُغَفَّلٍ فَلَا تَغْفَلْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي شَمَائِلِهِ بِإِسْنَادَيْنِ (وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَرْبَعَ سِنِينَ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْتَشِطَ أَحَدُنَا كُلَّ يَوْمٍ» .
4449 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ:«قَالَ رَجُلٌ لِفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: مَا لِي أَرَاكَ شَعِثًا؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفَاهِ. قَالَ: مَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكَ حِذَاءً؟ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ أَحْيَانًا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4449 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ)، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَسْلَمِيٌّ قَاضِي مَرْوَ، تَابِعِيٌّ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، رَوَى عَنِ ابْنِهِ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ، مَاتَ بِمَرْوَ، وَلَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ (قَالَ) : أَيْ أَبُو بُرَيْدَةَ (قَالَ رَجُلٌ لِفَضَالَةَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ (ابْنِ عُبَيْدٍ) : بِالتَّصْغِيرِ أَيِ الْأَنْصَارِيِّ الْأَوْسِيِّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدُ، ثُمَّ شَهِدَ مَا بَعْدَهَا، وَبَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ، سَكَنَ دِمَشْقَ وَقَضَى بِهَا لِمُعَاوِيَةَ زَمَنَ خُرُوجِهِ إِلَى صِفِّينَ، وَمَاتَ بِهَا فِي عَهْدِ مُعَاوِيَةَ. (مَا لِي) : بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا، وَمَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ تَعَجُّبِيَّةٌ: أَيْ كَيْفَ الْحَالُ إِنِّي (أَرَاكَ) : أَيْ أَحْيَانًا لِمَا سَيَأْتِي (شَعِثًا) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ أَيْ مُتَفَرِّقَ الشَّعْرِ غَيْرَ مُتَرَجِّلٍ فِي شَعْرِكَ وَلَا مُتَمَشْطٍ فِي لِحْيَتِكَ (قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْهَانَا عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْإِرْفَاهِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى التَّنَعُّمِ ; فَإِنَّ التَّعَوُّذَ بِهِ يَجْعَلُ النَّفْسَ مُتَكَبِّرَةً غَافِلَةً بَطْرَانَةً كَالْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَحِينَئِذٍ تَغَلِبُ عَلَى رَاكِبِهِ الَّذِي بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ، وَلِأَنَّ اعْتِيَادَ ذَلِكَ يُحَوِّجُ صَاحِبَهُ إِلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ وَمَعَاصٍ كَثِيرَةٍ ; وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْدُثُ بِهِ فَقْرٌ وَسُوءُ عَيْشٍ، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَيَضُرُّهُ حَالُهُ، وَالِاقْتِصَادُ هُوَ
التَّوَسُّطُ الْعَدْلُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ فِعْلٍ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ: أَصْلُهُ مِنْ وُرُودِ الْإِبِلِ فِي الْمَاءِ مَتَى شَاءَ، وَأَرْفَهَ الْقَوْمُ إِذَا فَعَلَتْ إِبِلُهُمْ ذَلِكَ، شَبَّهَ كَثْرَةَ التَّدَهُّنِ وَادِّهَانِهِ بِهِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: الْإِرْفَاهُ التَّنَعُّمُ وَمُظَاهَرَةُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، وَاللِّبَاسِ عَلَى اللِّبَاسِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَمِنْهُ أُخِذَتِ الرَّفَاهِيَةُ، فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْإِفْرَاطَ فِي التَّنَعُّمِ مِنَ التَّدْهِينِ وَالتَّرْجِيلِ عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْأَعَاجِمِ، وَأَمَرَ بِالْقَصْدِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ الطَّهَارَةُ وَالتَّنْظِيفُ ; فَإِنَّ النَّظَافَةَ مِنَ الدِّينِ (قَالَ) : أَيِ الرَّجُلُ (مَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكَ حِذَاءً؟) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ مَمْدُودًا أَيْ نَعْلًا (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا أَنْ نَحْتَفِيَ) : أَيْ نَمْشِيَ حُفَاةً تَوَاضُعًا وَكَسْرًا لِلنَّفْسِ وَتَمَكُّنًا مِنْهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ:(أَحْيَانًا) : أَيْ حِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَهُوَ أَوْسَعُ مَعْنًى مِنْ غِبًّا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4450 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4450 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ كَانَ لَهُ شَعَرٌ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَيُسَكَّنُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَعْرُ الرَّأْسِ (فَلْيُكْرِمْهُ) : أَيْ فَلْيُزَيِّنْهُ وَلْيُنَظِّفْهُ بِالْغَسْلِ وَالتَّدْهِينِ وَلَا يَتْرُكُهُ مُتَفَرِّقًا ; فَإِنَّ النَّظَافَةَ وَحُسْنَ الْمَنْظَرِ مَحْبُوبٌ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4451 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ الشَّيْبُ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4451 -
(وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ (بِهِ) : لِلسَّبَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ:(الشَّيْبُ) : نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ (الْحِنَّاءُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ خَبَرُ إِنَّ (وَالْكَتَمُ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَتَخْفِيفُ التَّاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْكَتَّمُ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَالْمَشْهُورُ التَّخْفِيفُ، وَهُوَ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ وَيُصْبَغُ بِهِ الشَّعْرُ أَسْوَدَ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَسْمَةُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَصْبُغُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَيُشْبِهُ أَنْ يُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْكَتَمِ مُفْرَدًا عَنِ الْحِنَّاءِ، فَإِنَّ الْحِنَّاءَ إِذَا خُضِّبَ بِهِ، مَعَ الْكَتَمِ جَاءَ أَسْوَدَ، وَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنِ السَّوَادِ، وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ بِالْحِنَّاءِ أَوِ الْكَتَمِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ اهـ. فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: بِالْحِنَّاءِ تَارَةً فَيَكُونُ لَوْنُهُ أَحْمَرَ، وَبِالْكَتَمِ أُخْرَى فَيَكُونُ لَوْنُهُ أَخْضَرَ. وَالْوَاوُ قَدْ تَأْتِي بِمَعْنَى " أَوْ " وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ; أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا فِي التَّقْسِيمِ كَقَوْلِهِمْ: الْكَلِمَةُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا فِي الْإِبَاحَةِ، كَقَوْلِكَ: جَالَسَ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ، وَثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَاهَا فِي التَّخْيِيرِ:
وَقَالُوا نَأْتِ فَاخْتَرْ لَهَا الصَّبْرَ وَالْبُكَا
…
فَقُلْتُ الْبُكَا أَشْفَى إِذًا لِغَلِيلِي
فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَوِ الْبُكَاءُ إِذْ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الصَّبْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاطِبِيِّ رحمه الله: وَصِلْ وَاسْكُتْنَ إِذْ لَا جَمْعَ بَيْنَ الْوَصْلِ وَالسَّكْتِ، فَإِنَّهُ وَقْفٌ بِلَا تَنَفُّسٍ، وَبِهِ حَصَلَ الْفَصْلُ. ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَفَضُّلُهُمَا فِي تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِهِمَا عَلَى غَيْرِهَا لَا لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَّغْيِيرِ. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْكَتَمُ الصَّرَفُ يُوجِبُ سَوَادًا مَائِلًا إِلَى الْحُمْرَةِ، وَالْحِنَّاءُ تُوجِبُ الْحُمْرَةَ فَاسْتِعْمَالُهُمَا يُوجِبُ مَا بَيْنَ السَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الصِّحَاحِ: الْكَتَمُ نَبْتٌ يُخْلَطُ مَعَ الْوَسْمَةِ لِلْخِضَابِ، وَالْمَكْتُومَةُ دُهْنٌ لِلْعَرَبِ أَحْمَرُ، وَيُجْعَلُ مِنْهُ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الْكَتَمُ، وَيُقَوِّيهِ مَا فِي الْمُغْرِبِ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ: أَنَّ الْكَتَمَ نَبْتٌ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ كَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: قَدْ جَرَّبَ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ جَمِيعًا فَلَمْ يُسَوِّدْ، بَلْ يُغَيِّرُ صُفْرَةَ الْحِنَّاءِ وَحُمْرَتَهُ إِلَى الْخُضْرَةِ وَنَحْوِهَا فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْلُغَ إِلَى السَّوَادِ، كَذَا رَأَيْنَاهُ وَشَاهَدْنَاهُ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْخَلْطَ يَخْتَلِفُ، فَإِنْ غَلَبَ
الْكَتَمُ اسْوَدَّ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا، إِنْ غَلَبَ الْحِنَّاءُ احْمَرَّ، هَذَا وَفِي الشَّمَائِلِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:«قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ» ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ إِنَّمَا كَانَ شَيْئًا، وَفِي رِوَايَةٍ شَيْبًا، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ: إِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ فِي صُدْغَيْهِ، أَيْ فِيمَا بَيْنَ عَيْنِهِ وَأُذُنِهِ، وَلَكِنْ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ. قَالَ مِيرَكُ: الْحَدِيثُ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ قَتَادَةَ، وَوَافَقَهُ ابْنُ سِيرِينَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْهُ يَذْكُرُ أَبِي بَكْرٍ فَقَطْ، وَلَفْظُهُ: قُلْتُ لَهُ: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ بِلَفْظٍ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ خَضَبَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَأَظُنُّ أَنَّ ذِكْرَ عُمَرَ فِيهِ وَهْمٌ، لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ: وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا، أَيْ صِرْفًا. قُلْتُ: الْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً، وَوَافَقَ أَبَا بَكْرٍ أُخْرَى أَفْضَلُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْوَهْمِ، وَبِهَذَا قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا دَائِمًا، لَكِنَّ الدَّوَامَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
4452 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ بِهَذَا السَّوَادِ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4452 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ يُغَيِّرُونَ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ مِنَ الشَّيْبِ الْوَاقِعِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ (بِهَذَا السَّوَادِ) : أَرَادَ جِنْسَهُ لَا نَوْعَهُ الْمُعَيَّنَ، فَمَعْنَاهُ بِاللَّوْنِ الْأَسْوَدِ وَكَأَنَّهُ كَانَ مُتَعَارَفًا فِي زَمَانِهِ الشَّرِيفِ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِهَذَا السَّوَادِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ السَّوَادَ الصِّرْفَ لِيُخْرِجَ الْأَحْمَرَ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى السَّوَادِ كَالْكَتَمِ وَالْحِنَّاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُهُ لِقَوْلِهِ:(كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ) : أَيْ كَصُدُورِهَا ; فَإِنَّهَا سُودٌ غَالِبًا، وَأَصْلُ الْحَوْصَلَةِ الْمَعِدَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا صَدْرُهُ الْأَسْوَدُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَلَيْسَ لِجَمِيعِ حَوَاصِلِ الْحَمَامِ سَوَادٌ، بَلْ لِبَعْضِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ فِي الْغَالِبِ ; لِأَنَّ حَوَاصِلَ بَعْضِ الْحَمَامَاتِ لَيْسَ بِسُودٍ. (لَا يَجِدُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) : يَعْنِي وَرِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ. فَالْمُرَادُ بِهِ التَّهْدِيدُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، أَوْ مُقَيَّدٌ بِمَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْقَبْرِ أَوِ الْمَوْقِفِ أَوِ النَّارِ. قَالَ مِيرَكُ: ذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسَّوَادِ، وَجَنَحَ النَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّهَا كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ، وَأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ فِي الْجِهَادِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ; فَأَجَازَهُ لَهَا دُونَ الرَّجُلِ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ. وَأَمَّا خَضْبُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَيُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَيَحْرُمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ إِلَّا لِلتَّدَاوِي. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . قَالَ مِيرَكُ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَفَعَهُ:" «مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ سَوَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» " وَسَنَدُهُ لَيَّنٌ.
4453 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَيَصْفِرُّ لِحْيَتَهُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
4453 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ» ) : بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَفَوْقِيَّةٍ وَيَاءِ نِسْبَةٍ. فِي النِّهَايَةِ: السِّبْتُ بِالْكَسْرِ جُلُودُ الْبَقَرِ الْمَدْبُوغَةُ بِالْقَرَظِ يُتَّخَذُ مِنْهَا النِّعَالُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ شَعْرَهَا قَدْ سُبِتَ عَنْهَا أَيْ حُلِقَ وَأُزِيلَ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا سَبِتَتْ بِالدِّبَاغِ أَيْ لَانَتْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي تَسْمِيَتِهِمْ لِلنَّعْلِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ السِّبْتِ سِبْتِيًّا اتِّسَاعٌ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَلْبَسُ الصُّوفَ وَالْقُطْنَ وَالْإِبْرَيْسَمَ أَيِ الثِّيَابَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْهَا اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ لِأَنَّ مَعَ وُجُودِ يَاءِ النِّسْبَةِ يَمْتَنِعُ مَعْنَى الِاتِّسَاعِ، كَمَا إِذَا قِيلَ: لَبِسَ الْقُطْنِيَّةَ (وَيَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ) : بِتَشْدِيدِ
الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ يَجْعَلُهَا أَصْفَرَ (بِالْوَرْسِ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ نَبْتٌ أَصْفَرُ بِالْيَمَنِ (وَالزَّعْفَرَانِ) . وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ يَخْلِطُ بَيْنَهُمَا وَيَخْضِبُ بِهِمَا لِحْيَتَهُ، لَكِنْ يُنَافِيهِ مَا سَبَقَ عَنْ أَنَسٍ بِطُرُقٍ صَحِيحَةٍ، وَمِنْهَا مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَخْضِبْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الذَّقْنِ وَالشَّفَةِ السُّفْلَى، وَفِي الصُّدْغَيْنِ، وَفِي الرَّأْسِ نُبَذٌ: بِضَمٍّ فَفَتْحٍ أَوْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ شَعَرَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، وَجَمَعَ الْعَسْقَلَانِيُّ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ:«سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَضَبَ؟ قَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ» ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ عَنْ ثَابِتٍ «عَنْ أَنَسٍ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ» . زَادَ ابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ: مَا شَأْنُهُ بِالشَّيْبِ؟ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا دَهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، فَإِنْ لَمْ يَدْهُنْ تَبَيَّنَ» اهـ. كَلَامُهُ.
قَالَ مِيرَكُ: لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ الْجَمْعِ بِمَا ذَكَرَ فَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ. أَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ مُقْتَطَعٌ، فَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ مَعَ تَضَمُّنِ الْجَوَابِ عَنِ الْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ فِي الْبَابِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم الْخِضَابُ، فَأَشَارَ إِلَى دَفْعِهِ بِأَنَّ مُرَادَ أَنَسٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَعْرِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْخِضَابِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْخِضَابَ الثَّابِتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّهُ قَالَ:«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ» ، وَحَاصِلُ الْجَمْعِ أَنَّهُ صَبَغَ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْقَلِيلَةَ فِي حِينٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَتَرَكَهُ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى، وَكِلَاهُمَا صَادِقَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ نَفَى الصَّبْغَ أَرَادَ نَفْيَهُ بِصِفَةِ الدَّوَامِ وَالْأَغْلَبِيَّةِ، وَمَنْ أَثْبَتَهُ أَرَادَ إِثْبَاتَهُ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: رِوَايَةُ أَنَسٍ لَمْ يَخْضِبْ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِ فَبَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَادِمُهُ اللَّازِمُ لَهُ بِحَيْثُ لَا يَخْفَى، وَمَا أَبْعَدَ مَنْ قَالَ يُرِيدُ الْمُثْبِتَ أَيِ ابْنَ عُمَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ أَنَّهُ يَصْبُغُ ثَوْبَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ كَانَ يَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ. (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ لُبْسِ النِّعَالِ السِّبْتِيَّةِ وَتَصْفِيرِ اللِّحْيَةِ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ: لِحْيَتَهُ، فَتَدَبَّرْ.
4454 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ: " مَا أَحْسَنَ هَذَا ". قَالَ: فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ فَقَالَ: " هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا ". ثُمَّ مَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالصُّفْرَةِ. فَقَالَ: " هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4454 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ قَدْ خَضَبَ) : بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ صَبَغَ رَأْسَهُ أَوْ لِحْيَتَهُ (بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا) : وَهُوَ إِحْدَى صِيغَتَيِ التَّعَجُّبِ، (قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (فَمَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ) : أَيْ بِحَيْثُ مَا وَصَلَ إِلَى السَّوَادِ، وَهُوَ يُرِيدُ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ أَنَّ الْوَاوَ عَلَى بَابِهَا مِنْ مَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَسْطُورِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَبَيْنَ انْفِرَادِ الْحِنَّاءِ، أَنَّ فِي الْأَوَّلِ حُمْرَةً تَضْرِبُ إِلَى الْخُضْرَةِ، وَفِي الثَّانِي حُمْرَةً تَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ. (فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) : أَيْ بَقَاءً أَوْ بَهْجَةً (ثُمَّ مَرَّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالصُّفْرَةِ) : أَيْ بِخَلْطِ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ كَمَا سَبَقَ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام (فَقَالَ: هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا) : أَيْ مِنْ جِنْسِ مَا سَبَقَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ (كُلِّهِ) : لِلتَّأْكِيدِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.
4455 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
4455 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: غَيِّرُوا الشَّيْبَ) : أَيْ بِالْخِضَابِ (وَلَا تَشْبَّهُوا) : حَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (بِالْيَهُودِ) : أَيْ فِي تَرْكِ خِضَابِ الشَّيْبِ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ اخْتَصَّ بِالْحَالَةِ الَّتِي يَخْتَلِطُ الشَّعْرُ الْأَبْيَضُ فِيهَا بِالْأَسْوَدِ، لِمَا فِي اخْتِلَافِ اللَّوْنَيْنِ مِنْ قُبْحِ التَّضَادِّ، وَمُشَابَهَةِ الْمُوَافَقَةِ بِأَهْلِ
النِّفَاقِ، فَأَمَّا إِذَا ابْيَضَّ كُلُّهُ وَصَارَ اللَّوْنُ وَاحِدًا فَلَا يُغَيَّرُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَغْيِيرُ الشَّيْبِ يَخْتَصُّ بِمَنْ شَابَ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ أَسْلَمَ لِيَشِيبَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ التَّغْيِيرِ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَضِيَّةُ أَبِي قُحَافَةَ أَوَّلَ مَا أَسْلَمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِأَهْلِ الْجِهَادِ إِظْهَارًا لِلْهَيْبَةِ وَتَرْهِيبًا لِلْعَدُوِّ. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ غَالِبِ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ. قَالَ: وَاحْتَمَلَ أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى نَفْسِهِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ. قُلْتُ: وَهَذَا بِالْإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ مِنَ الْعِبَارَاتِ الصُّورِيَّةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
4456 -
، 4457 - وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ.
ــ
4456 -
، 4457 - (وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَالزُّبَيْرِ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، لَكِنْ بِزِيَادَةِ: وَالنَّصَارَى، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ:«غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تُقَرِّبُوهُ السَّوَادَ» ، وَفِي الْإِحْيَاءِ: الْخِضَابُ بِالسَّوَادِ خِضَابُ الْكُفَّارِ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ خَضَبَ بِالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ.
4458 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ ; فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ. مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4458 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَنْتِفُوا) : بِكَسْرِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ (الشَّيْبَ) : أَيِ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ (فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ) : الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيْ وَقَارُهُ الْمَانِعُ مِنَ الْغُرُورِ بِسَبَبِ انْكِسَارِ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ وَالْفُتُورِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى نُورِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَيَصِيرُ نُورًا فِي قَبْرِهِ، وَيَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ فِي ظُلُمَاتِ حَشْرِهِ، وَلَا يُنَافِيهِ التَّغْيِيرُ السَّابِقُ لِإِرْغَامِ الْأَعْدَاءِ وَإِظْهَارِ الْجَلَّادَةِ لَهُمْ كَيْلَا يَظُنُّوا بِهِمُ الضَّعْفَ فِي سِنِّهِمْ، وَالْقَدْحَ فِي شَجَاعَتِهِمْ وَطَعْنِهِمْ (مَنْ شَابَ شَيْبَةً) : أَيْ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ (فِي الْإِسْلَامِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، وَكَفَّرَ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ شَابَ مِنْ بَنِي آدَمَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام فَلَمَّا رَأَى الشَّيْبَ فِي لِحْيَتِهِ قَالَ: مَا هَذَا يَا رَبِّ؟ قَالَ: هَذَا وَقَارٌ. قَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قَلَّ هَذَا الْوَقَارُ الصُّورِيُّ فِي الشَّعْرِ الْمُصْطَفَوِيِّ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِحُبِّ النِّسَاءِ، وَهُنَّ يَكْرَهْنَ الشَّيْبَ بِالصَّبْغِ، فَحُفِظْنَ بِهَذَا عَنِ الْكَرَاهَةِ الطَّبِيعِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَسْرَارِ النُّبُوَّةِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ سَعْدٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا شَانَهُ اللَّهُ بِبَيْضَاءَ، وَفِيهِ إِشْكَالٌ ; لِمَا سَبَقَ أَنَّهُ شَابَ بَعْضَ الشَّيْبِ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الشَّعَرَاتِ الْبِيضَ لَمْ تُغَيِّرْ شَيْئًا مِنْ حُسْنِهِ، بَلْ زَادَتْ جَمَالًا وَكَمَالًا لِحُصُولِ الْوَقَارِ مَعَ نُورِ الْأَنْوَارِ، فَصَارَ نُورًا عَلَى نُورٍ، وَسُرُورًا عَلَى سُرُورٍ. قَالَ مِيرَكُ: نَتْفُ الشَّيْبِ يُكْرَهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا " «لَا تَنْتِفُوا الشَّيْبَ» ; فَإِنَّهُ نُورُ الْمُسْلِمِ " رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ يُكْرَهُ نَتْفُ الرَّجُلِ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُكْرَهُ نَتْفُ الشَّيْبِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ التَّزَيُّنِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنَّمَا نَهَى عَنِ النَّتْفِ دُونَ الْخَضْبِ ; لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ الْخِلْقَةِ مِنْ أَصْلِهَا بِخِلَافِ الْخَضْبِ، فَإِنَّهُ لَا يُغَيِّرُ الْخِلْقَةَ عَلَى النَّاظِرِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
4459 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4459 -
(وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا» ) : أَيْ ضِيَاءً وَمَخْلَصًا عَنْ ظُلُمَاتِ الْمَوْقِفِ وَشَدَائِدِهِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ أَيْضًا وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْرَهُ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ» . قَالَ مِيرَكُ: وَلِهَذَا لَمْ يَخْضِبْ عَلِيٌّ وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَجَمٌّ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ خَضَبَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ:«خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ بِيضٌ لِحَاهُمْ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ حَمِّرُوا أَوْ صَفِّرُوا، وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَبِأَحَادِيثَ أُخَرَ تَقَدَّمَتْ فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَجَمَعَ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخِضَابِ، وَالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى خِلَافِهِ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِمَنْ يَكُونُ شَيْبُهُ مُسْتَبْشَعًا، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْخِضَابُ، وَمَنْ كَانَ خِلَافَهُ فَلَا يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ، وَلَكِنَّ الْخِضَابَ مُطْلَقًا أَوْلَى ; لِأَنَّ فِيهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَفِيهِ صِيَانَةً لِلشَّعْرِ عَنْ تَعَلُّقِ الْغُبَارِ وَغَيْرِهِ، إِلَّا إِنْ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ تَرْكُ الصَّبْغِ، فَالتَّرْكُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى اهـ. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: مَا لَمْ يُغَيِّرْهَا أَيْ تَكَبُّرًا عَنِ الْكِبَرِ، وَتَسَتُّرًا عَنِ الْعِبَرِ، وَتَجَبُّرًا عَنِ الْغَيْرِ، فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنَ اسْتِحْبَابِ التَّغْيِيرِ فِي الْجِهَادِ. وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: "«مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ فَهِيَ لَهُ نُورٌ إِلَّا أَنْ يَنْتِفَهَا أَوْ يَخْضِبَهَا» " لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَلَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ.
4460 -
«وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ لَهُ شَعْرٌ فَوْقَ الْجُمَّةِ، وَدُونَ الْوَفْرَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
4460 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالنَّصْبِ. قَالَ مِيرَكُ شَاهْ قَوْلُهُ: وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالنَّصْبِ مَفْعُولٌ مَعَهُ، وَبِالرَّفْعِ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَأَبْرَزَ الضَّمِيرَ لِيَصِحَّ الْعَطْفُ أَيْ: أَغْتَسِلُ أَنَا وَيَغْتَسِلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَطْفٌ عَلَى الْمُسْتَتِرِ، وَفِيهِ تَغْلِيبُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَفِيهِ:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، تَغْلِيبُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْغَائِبِ. فَإِنْ قُلْتَ: الْفَائِدَةُ فِي تَغْلِيبِ " اسْكُنْ " أَنَّ آدَمَ كَانَ أَصْلًا فِي سُكْنَى الْجَنَّةِ، وَحَوَّاءَ تَابِعَةٌ لَهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ؟ قُلْنَا: وَكَذَلِكَ هُنَا، فَإِنَّ النِّسَاءَ مَحَلُّ الشَّهَوَاتِ، أَوْ حَامِلَاتٌ لِلْغُسْلِ، فَكَأَنَّهُنَّ أَصْلٌ فِي هَذَا الْبَابِ اهـ. وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الطِّيبِيِّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِخْبَارُ الشَّخْصِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مُعَدًّا لِغُسْلِهَا، وَشَارَكَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَا قِيلَ. وَلَكِنْ مَعَ بُعْدِهِ يَأْبَى عَنْهُ قَوْلُهَا: كُنْتُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عُرْفًا أَوْ لُغَةً عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، ثُمَّ قَوْلُهَا:(مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَغْتَسِلُ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ الْغُسْلَانِ مُتَعَاقِبَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ تَقَدُّمُهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَدَبِ، وَيَحْتَمِلُ الْمَعِيَّةَ، وَعَلَى تَقْدِيرِهَا يَحْتَمِلُ التَّسَتُّرَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ جَمَالِ حَالِهِمَا وَكَمَالِ حَيَائِهِمَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّكَشُّفِ يَحْتَمِلُ عَدَمَ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، بَلْ هُوَ صَرِيحٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:«مَا رَأَيْتُ فَرْجَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم» - كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنْهَا، وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهَا:«مَا رَأَيْتُ مِنْهُ وَلَا رَأَى مِنِّي يَعْنِي الْفَرْجَ» ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ وَبِالْعَكْسِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَا يَصِحُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ. قَالَ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ مُوسَى سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعْنِي عَنِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى عَوْرَةِ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءً، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَذَكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ اهـ.
وَفِي كَوْنِهِ نَصًّا مَحَلَّ نَظَرٍ إِذْ عَلَى تَقْدِيرِهِ يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ عَنْهَا، فَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُحْمَلُ عَلَى مَا عَدَا الْفَرْجَ مِنَ الْأَفْخَاذِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ، وَبِهِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. ثُمَّ قِيلَ: فِي
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يَجْعَلُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا، وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا غَسْلُ أَيْدِيهِمَا خَارِجَ الْإِنَاءِ، ثُمَّ تَنَاوَلُهُمَا الْمَاءَ. قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ فَقِيلَ: " مِنْ " الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مِنْ قَدَحٍ بَدَلَ مِنْ إِنَاءٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ، فَـ " مِنَ " الثَّانِيَةُ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ هَذَا الْإِنَاءُ مِنْ شَبَهٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ نُحَاسٌ أَصْفَرُ، وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَلَفْظُهُ: مِنْ تَوْرٍ مِنْ شَبَهٍ، وَالتَّوْرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ إِنَاءٌ يُشْرَبُ فِيمَا يُذْكَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: مِنْ إِنَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُرْوَى بِتَسْكِينِ الرَّاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَقِيلَ: صَاعَانِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: قَدْرُهُ سِتَّةُ أَقْسَاطٍ، وَالْقِسْطُ بِكَسْرِ الْقَافِ نِصْفُ صَاعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْرِ وَالْفَرَقِ أَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مَوْضُوعًا، وَالتَّوْرُ جُعِلَ آلَةً لِلْفَرَقِ، وَبِهِ بَطَلَ اسْتِدْلَالُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ بِكُلِّ حَالٍ، هَذَا وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ اغْتِسَالِ الرَّجُلِ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ طَهَارَةِ الْمَرْأَةِ بِفَضْلِ الرَّجُلِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا خَلَيَا بِهِ، وَالْجَوَازُ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَا، وَتَمَسَّكَ كُلٌّ بِظَاهِرِ خَبَرٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْجَمِيعِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَوَازِ عَلَى مَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ بِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيُّ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْجَوَازَ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَا مَعًا، وَالْمَنْعُ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَ أَحَدُهَا قَبْلَ الْآخَرِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا تَسَاقَطَ الْمَاءُ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْإِنَاءِ، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْفِعْلَ عَلَى الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَكَانَ لَهُ) : أَيْ لِرَأْسِهِ الشَّرِيفِ (شَعْرٌ) : أَيْ نَازِلٌ (فَوْقَ الْجُمَّةِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا سَقَطَ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ (وَدُونَ الْوَفْرَةِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهُ رَاءٌ مَا وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَالنِّهَايَةِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَمْرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجُمَّةِ وَالْوَفْرَةِ، وَلَيْسَ بِجُمَّةٍ وَلَا وَفْرَةٍ إِذْ مَعْنَى فَوْقَ الْجُمَّةِ أَنَّ شَعْرَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَحَلِّ الْجُمَّةِ وَهُوَ الْمَنْكِبُ، وَمَعْنَى (دُونَ الْوَفْرَةِ) أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ شَحْمَةِ الْأُذُنِ، لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ» ، وَهَذَا ظَاهِرُ أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ جُمَّةً، وَعَلَى أَنَّ جُمَّتَهُ مَعَ عِظَمِهَا إِلَى أُذُنَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ اهـ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ فِي شَمَائِلِهِ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: «كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ» ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي الشَّمَائِلِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَوْقَ وَدُونَ تَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِقْدَارِ، فَقَوْلُهُ: فَوْقَ الْجُمَّةِ أَيْ أَرْفَعَ مِنْهَا فِي الْمَحَلِّ، وَدُونَ الْجُمَّةِ أَيْ أَقَلَّ مِنْهَا فِي الْمِقْدَارِ، وَكَذَا فِي الْعَكْسِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى اهـ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: فِيهِ بَحْثٌّ لِأَنَّ مَآلَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِبَارَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَوْ مَنْ دُونَهَا أَدَّتْ أَوْ أَدَّى مَعْنًى وَاحِدًا لِعِبَارَتَيْنِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ اغْتِسَالَ عَائِشَةَ وَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَعَ مُتَعَدِّدًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ نَاشِئًا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ: وَكَانَ. . إِلَخْ. حَالٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَيَكُونُ الْمَرْوِيُّ حَدِيثَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، وَإِنْ كَانَا وَقَعَا مُتَعَاطِفَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا قَالَ مِنَ الْحَالِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ اغْتِسَالٍ يَخْتَلِفُ الْحَالُ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النَّهْيِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ حَجْرٍ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي شَمَائِلِهِ بِلَفْظِ: وَأَنْزَلَ مِنَ الْوَفْرَةِ. قَالَ: أَيْ مِنْ مَحَلِّهَا وَهُوَ شَحْمَةُ الْأُذُنِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِمَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ فِي نَسْخٍ هُنَا فَوْقَ الْجُمَّةِ دُونَ الْوَفْرَةِ، وَهَذِهِ عَكْسُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ اهـ. وَقَوْلُهُ:" أَنْزَلَ مِنَ الْوَفْرَةِ " غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الشُّرَّاحِ أَيْضًا ذَكَرَهُ.
4461 -
وَعَنِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ رضي الله عنه رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «نِعْمَ الرَّجُلُ خُرَيْمٌ الْأَسْدِيُّ، لَوْلَا طُولُ جُمَّتِهِ، وَإِسْبَالُ إِزَارِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ خُرَيْمًا، فَأَخَذَ شَفْرَةً، فَقَطَعَ بِهَا جُمَّتَهُ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَرَفَعَ إِزَارَهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4461 -
(وَعَنِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّ جَدِّهِ، وَقِيلَ أُمُّهُ وَبِهَا يُعْرَفُ، وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ وَاسْمُ أَبِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ سَهْلُ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ فَاضِلًا مُعْتَزِلًا عَنِ النَّاسِ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَكَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِدِمَشْقَ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. (رَجُلٍ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنِ (ابْنِ)، وَيَجُوزُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا لِقَوْلِهِ:(مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : وَنُطِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15] وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " نِعْمَ الرَّجُلُ خُرَيْمٌ) : بِضَمِّ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ مُصَغَّرًا كَذَا فِي الْمُغْنِي، وَالْقَامُوسِ، وَتَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالزَّايِ، وَلَعَلَّهُ أُخِذَ مِنْ سِيَاقِ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ إِيَّاهُ بَعْدَ أَسْمَاءِ خُزَيْمَةَ بِالزَّايِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ أَسْمَاءَ رِجَالِهِ مَا وَقَعَتْ مُرَتَّبَةً، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَتَبُّعِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ رَاعَى أَوَّلَ الْحُرُوفِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَلَا نَظَرَ إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهَا خُرَيْمَ بْنَ الْأَخْرَمِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ فَاتِكٍ، عِدَادُهُ فِي الشَّامِيِّينَ، وَقِيلَ فِي الْكُوفِيِّينَ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ قَوْلِهِ:(الْأَسْدِيُّ) ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ السِّينِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْأَسْدُ الْأَزْدُ أَبُو حَيٍّ مِنَ الْيَمَنِ، وَهُوَ أَزْدُ بْنُ الْغَوْثِ وَبِالسِّينِ أَفْصَحُ، وَمِنْ أَوْلَادِهِ الْأَنْصَارُ كُلُّهُمْ، وَيُقَالُ أَزْدُ شَنُوءَةَ وَعُمَانَ وَالسَّرَاةِ. (لَوْلَا طُولُ جُمَّتِهِ) ، لَا شَكَّ أَنَّ طُولَ الشَّعْرِ لَيْسَ مَذْمُومًا وَلَا جَاءَ أَمْرٌ بِقَطْعِ مَا زَادَ عَلَى مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ، فَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى هَذَا الرَّجُلَ يَتَبَخْتَرُ بِطُولِ جُمَّتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(وَإِسْبَالُ إِزَارِهِ) : أَيْ إِطَالَةُ ذَيْلِهِ، قَالُوا: وَفِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ الْغَائِبَ بِمَا فِيهِ مِنْ مَكْرُوهٍ شَرْعًا إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ يَرْتَدِعُ عَنْهُ وَيَتْرُكُهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ، (فَبَلَغَ ذَلِكَ خُرَيْمًا فَأَخَذَ شَفْرَةً) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ سِكِّينًا (فَقَطَعَ بِهَا جُمَّتَهُ إِلَى أُذُنَيْهِ) : أَيْ دَفْعًا لِمَا يُورِثُ الْخُيَلَاءَ وَالتَّبَخْتُرَ، وَمِنْ لَطَائِفِ مَا حُكِيَ أَنَّ شَيْخًا كَانَ يَشْتَغِلُ دَائِمًا بِتَحْسِينِ لِحْيَتِهِ، فَأُلْهِمَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ إِلَّا تَعَلُّقُهُ بِذَقْنِهِ، فَبَقِيَ يَنْتِفُ شَعْرَهُ نَدَمًا عَلَى فِعْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: الْآنَ أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِمَا كُنْتَ مُتَعَلِّقًا بِهِ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا أَيْ جَوَازُ قَطْعِ الْجُمَّةِ إِلَى الْأُذُنِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ، فَإِنَّهُنَّ يُرْسِلْنَ شُعُورَهُنَّ لَا يَتَّخِذْنَ جُمَّةً. (وَرَفَعَ) : أَيْ خُرَيْمٌ (إِزَارَهُ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) : وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4462 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ لِي ذُؤَابَةٌ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: لَا أَجُزُّهَا، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمُدُّهَا، وَيَأْخُذُهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4462 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَتْ لِي ذُؤَابَةٌ) : بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ وَفَتْحِ هَمْزَةٍ وَيُبْدَلُ وَاوًا وَهِيَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: النَّاصِيَةُ أَوْ مَنْبَتُهَا مِنَ الرَّأْسِ (فَقَالَتْ لِي أُمِّي: لَا أَجُزُّهَا) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ لَا أَقْطَعُهَا (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمُدُّهَا) : أَيِ الذُّؤَابَةَ (وَيَأْخُذُهَا) : أَيْ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ وَيَلْعَبُ بِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَسِطُ مَعَهُ، وَقِيلَ: يَمُدُّهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْأُذُنِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الزَّائِدَ مِنَ الْأُذُنِ فَيَقْطَعُهُ، وَجُمْلَةُ (كَانَ) اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا لَا يُخَالِفُ الْحَدِيثَ السَّابِقَ ; لِأَنَّهَا عَلَّلَتْ عَدَمَ الْجَزِّ بِأَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا اهـ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَزَّ مَا هُوَ أَمْرٌ مَحْتُومٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِعُرُوضِ حَادِثٍ وَهُوَ التَّبَخْتُرُ، فَالْقَطْعُ الْمَخْصُوصُ مَخْصُوصٌ فِيهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ، أَوْ بِمَنْ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِطْلَاقِ ; لِأَنَّ إِرْسَالَ الشَّعْرِ الْمُتَجَاوِزِ عَنِ الْأُذُنِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4463 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: " لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدِ الْيَوْمِ ". ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي " فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ. فَقَالَ: " ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ " فَأَمَرَهُ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4463 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ) : أَيْ تَرَكَ أَهْلَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ يَبْكُونَ وَيَحْزَنُونَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا) : أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ لِظُلُمَاتِ الْحُزْنِ مَعَ أَنَّ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ مُتَلَازِمَانِ ; وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام مَوْضِعَ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَفِي مَكَانِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لِلطِّيبِيِّ إِلَى قَوْلِهِ: أَيْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تَبَعًا لِلشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، إِنَّمَا قَالَ ثَلَاثًا عِنَايَةً لِلَّيَالِي مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَدْعَاهُ، بَلْ هُوَ مُشِيرٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى عِنَايَةٍ، ثُمَّ الثَّالِثُ وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْبُكَاءِ وَالتَّحَزُّنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا التَّعْزِيَةِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (ثُمَّ أَتَاهُمْ) : أَيْ مُسَلِّيًا لَهُمْ (فَقَالَ: لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي) : أَيْ فِي الدِّينِ، أَوْ فِي النَّسَبِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْقَرِيبَ أَخًا (بَعْدَ الْيَوْمِ) : أَيْ هَذَا الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنْ لَا يُزَادَ فِي الْبُكَاءِ وَالتَّحَزُّنِ عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا التَّعْزِيَةِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي) : أَيْ لِأَجْلِي (بَنَى أَخِي) : وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَعَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ أَوْلَادُ جَعْفَرٍ. (فَجِيءَ بِنَا) : أَيْ وَكُنَّا صِغَارًا (كَأَنَّا أَفْرُخٌ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمٍّ جَمْعُ فَرْخٍ، وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ، (فَقَالَ: ادْعُوا لِي) : أَيْ لِأَمْرِي (الْحَلَّاقَ) : أَيِ الْمُزَيِّنَ (فَأَمَرَهُ) : أَيْ بَعْدَ مَجِيئِهِ (فَحَلَقَ رُءُوسَنَا) . وَإِنَّمَا حَلَقَ رُءُوسَهُمْ مَعَ أَنَّ إِبْقَاءَ الشَّعْرِ أَفْضَلُ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ لِمَا رَأَى مِنِ اشْتِغَالِ أُمِّهِمْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ عَنْ تَرْجِيلِ شُعُورِهِمْ بِمَا أَصَابَهَا مِنْ قَتْلِ زَوْجِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَسَخِ وَالْقَمْلِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْوَلِيِّ التَّصَرُّفَ فِي الْأَطْفَالِ حَلْقًا وَخِتَانًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .
4464 -
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رضي الله عنها: «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَا تُنْهِكِي، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ، وَأَحَبُّ إِلَى الْبَعْلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَفِي رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ.
ــ
4464 -
(وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ) : بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَتُمَرِّضُ الْمَرْضَى وَتُدَاوِي الْجَرْحَى (أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ أَيْ تَخْتِنُ الْبَنَاتَ وَتُطَهِّرُهُنَّ بِالْخِتَانِ (فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُنْهِكِي) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ لَا تُبَالِغِي فِي قَطْعِ مَوْضِعِ الْخِتَانِ، بَلِ اتْرُكِي بَعْضَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَيُرْوَى: أَشِمِّي وَلَا تُنْهِكِي، فَقَوْلُهُ: لَا تُنْهِكِي تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَشِمِّي أَيْ لَا تَسْتَقْصِي (فَإِنَّ ذَلِكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ عَدَمَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ (أَحْظَى) : بِسُكُونِ مُهْمَلَةٍ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ أَيْ أَنْفَعُ (لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ) : أَيْ أَلَذُّ (إِلَى الْبَعْلِ) : أَيِ الزَّوْجِ، فَإِنَّهُ إِذَا بُولِغَ فِي خِتَانِهَا لَا تَلْتَذُّ هِيَ وَلَا هُوَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: هَذَا حَدِيثٌ (ضَعِيفٌ. وَفِي رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِرُوَاتِهِ جِنْسَ رُوَاتِهِ، وَيُؤَيِّدَهُ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَرَاوِيهِ مَجْهُولٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ أَحَدَ رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ، وَفِي رُوَاتِهِ مَجْهُولٌ، لَكِنْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَلَفْظُهُ:" «اخْفِضِي وَلَا تُنْهِكِي، فَإِنَّهُ أَنْضَرُ لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوْجِ» ".
4465 -
وَعَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ هَمَّامٍ أَنَّ «امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ خِضَابِ الْحِنَّاءِ. فَقَالَتْ: لَا بَأْسَ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ، كَانَ حَبِيبِي يَكْرَهُ رِيحَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4465 -
(وَعَنْ كَرِيمَةَ بِنْتِ هُمَامٍ) : بِضَمِّ هَاءٍ وَتَخْفِيفِ مِيمٍ، كَذَا ضَبَطَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، فِي الْمُغْنِي (هَمَّامٍ) مَفْتُوحَةٌ وَشَدَّةُ مِيمٍ جَمَاعَةٌ وَبِضَمِّ هَاءٍ وَخِفَّةِ مِيمٍ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَمَّامٍ، وَكَذَا فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ لِلْعَسْقَلَانِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ، عَنْ خِضَابِ الْحِنَّاءِ) :
الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الرَّأْسِ (فَقَالَتْ: لَا بَأْسَ) : أَيْ لَا بَأْسَ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ (وَلَكِنِّي) : وَفِي نُسْخَةٍ وَلَكِنْ (أَكْرَهُهُ) : أَيْ أَكْرَهُ فِعْلَهُ لِعَارِضٍ بَيَّنَتْهُ بِقَوْلِهَا: (كَانَ حَبِيبِي صلى الله عليه وسلم: أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ رِيحَهُ) : اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَ بِطِيبٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الطِّيبَ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الطِّيبِ لَمْ يَكُنْ يُلَائِمُ طَبْعَهُ الطَّيِّبَ، كَمَا لَا يُلَائِمُ الزَّبَادُ مَثَلًا طَبْعَ الْبَعْضِ، وَكَمَا كَانَ يُحِبُّ اللَّحْمَ، وَامْتَنَعَ عَنْ أَكْلِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ لِمَا تَعَافُّهُ نَفْسُهُ الشَّرِيفَةُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ كُرْهَهُ مُخْتَصٌّ بِالشَّعْرِ، فَإِنَّهُ يَبْقَى فِيهِ زُهُومَتُهُ وَخَمَاجَتُهُ، وَلِذَا عَدَلَ عَنِ الْحِنَّاءِ فِي صَبْغِ لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ إِلَى الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَأَمَّا فِي يَدِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَكْرَهُهُ، لِمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي، وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْإِنْكَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تُكُنْ مُتَحَنِّيَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .
4466 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ بَايِعْنِي. فَقَالَ: " لَا أُبَايِعُكِ حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْكِ، فَكَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4466 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدًا بِنْتَ عُتْبَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيِ ابْنِ رَبِيعَةَ امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ مُعَاوِيَةَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْحِ بَعْدَ إِسْلَامِ زَوْجِهَا، فَأَقَرَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَكَانَ لَهَا فَصَاحَةٌ وَعَقْلٌ، فَلَمَّا بَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم النِّسَاءُ قَالَ لَهُنَّ:" «لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ". قَالَتْ: مَا رَضِيتُ بِالشِّرْكِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَيْفَ فِي الْإِسْلَامِ! فَقَالَ: " وَلَا تَسْرِقْنَ " قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ شَحِيحٌ. قَالَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ ". فَقَالَ: " وَلَا تَزْنِينَ ". قَالَتْ: وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ ، فَقَالَ:" لَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ ". قَالَتْ: فَهَلْ تَرَكْتَ لَنَا وَلَدًا إِلَّا قَتَلْتَهُ يَوْمَ بَدْرٍ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلَتَهُمْ كِبَارًا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، يَوْمَ مَاتَ أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم رَوَتْ عَنْهَا عَائِشَةُ (قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! بَايِعْنِي) : الظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ غَيْرُ مُبَايَعَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ حِينَ أَسْلَمَتْ عَلَى مَا سَبَقَ (فَقَالَ: لَا أُبَايِعُكِ) : أَيْ بِاللِّسَانِ (حَتَّى تُغَيِّرِي كَفَّيْكِ)، أَيْ بِالْحِنَّاءِ (فَكَأَنَّهُمَا كَفَّا سَبُعٍ) : شَبَّهَ يَدَيْهَا حِينَ لَمْ تَخْضِبْهُمَا بِكَفَّيْ سَبُعٍ فِي الْكَرَاهِيَةِ ; لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ شَبِيهَةٌ بِالرِّجَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، وَفِيهِ بَيَانُ كَرَاهِيَةِ خِضَابِ الْكَفَّيْنِ لِلرِّجَالِ تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4467 -
وَعَنْهَا، قَالَتْ:«أَوَمَتِ امْرَأَةٌ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، بِيَدِهَا كِتَابٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ. فَقَالَ: " مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ أَمْ يَدُ امْرَأَةٍ؟ " قَالَتْ: بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ، قَالَ: " لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ " يَعْنِي الْحِنَّاءَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4467 -
(وَعَنْهَا) : أَيْ عَنْ عَائِشَةَ. (قَالَتْ: أَوْمَتِ) : هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ بِلَا هَمْزٍ بَعْدَ الْمِيمِ، وَهُوَ مُومٍ إِلَى أَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبُ الْقَامُوسِ مَادَّتَهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْمَهْمُوزَاتِ وَمَأَ كَوَضَعَ أَشَارَ كَأَوَمَا وَوَمَأَ، فَوَجَّهَهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُ أَوْمَاتْ بِالْهَمْزِ فَخَفَّفَ بِإِبْدَالِهِ أَلْفًا، فَحُذِفَ بِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَشَارَتْ (امْرَأَةٌ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حِجَابٍ (بِيَدِهَا كِتَابٌ) : الْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ الْمُؤَخَّرِ وَالْخَبَرِ الْمُقَدَّمِ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ حَالًا مِنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ،: وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ أَنَّ كِتَابًا فَاعِلٌ لِلْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ لَا مُبْتَدَأٌ لِلُزُومِ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ حَالًا بِغَيْرِ وَاوٍ، وَإِنْ جَازَ عَلَى ضَعْفٍ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ صِحَّةَ الْحَالِ هُنَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَوْصُوفَةٌ بِقَوْلِهَا مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهَا أَوْمَتِ عَلَى أَنَّهَا لِلِابْتِدَاءِ، كَمَا تَعَلَّقَ بِهَا لِلِانْتِهَاءِ قَوْلُهَا:(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ) : أَيْ كَفَّ كُمَّهُ عَنْ كَفِّهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ مُبَايَعَتُهُ لِلنِّسَاءِ بِالْيَدِ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ فِي الْجُمْلَةِ إِيمَاءً إِلَى الْمُبَايَعَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَيَكْتَفِي بِالْمُبَايَعَةِ اللِّسَانِيَّةِ فِي النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَصِلَ يَدُهُ إِلَى يَدِ الْمَرْأَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ مَلْفُوفَةٌ، فَكُنَّ يَتَبَرَّكْنَ بِأَخْذِ كُمِّهِ الْقَائِمِ مَقَامَ يَدِهِ، كَمَا وَرَدَ فِي حَقِّ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الْأَسْعَدِ أَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يُصَافِحُ بِهِ عِبَادَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَالْأَزْرَقِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْقُوفًا، وَلَفْظُهُمَا: الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فَمَنْ مَسَحَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ.
(فَقَالَ) : أَيْ فِي سَبَبِ قَبْضِ قَبْضَتِهِ عَنِ الْيَدِ الْمَمْدُودَةِ (مَا أَدْرِي أَيَدُ رَجُلٍ) : أَيْ هِيَ (أَمْ يَدُ امْرَأَةٍ؟ قَالَتْ) : أَيِ الْمَرْأَةُ (بَلِ امْرَأَةٌ) : بِالرَّفْعِ أَيْ صَاحِبَتُهَا أَوْ أَنَا امْرَأَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ، بَلْ يَدُ امْرَأَةٍ بِالْإِضَافَةِ (قَالَ: لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً) : أَيْ مُرَاعِيَةً شِعَارَ النِّسَاءِ (لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ) : أَيْ لَخَضَبْتِ لَوْنَهَا بِالْحُمْرَةِ أَوِ السَّوَادِ بِاسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ أَوِ الْعَفْصِ. (يَعْنِي) : تَفْسِيرٌ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الرُّوَاةِ أَيْ يُرِيدُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (تَغْيِيرَهَا بِالْحِنَّاءِ) : إِمَّا لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ، أَوْ لِكَوْنِهِ الْمُعْتَادَ الْمُتَعَارَفَ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْحِنَّاءُ مَثَلًا، فَيَشْمَلُ تَغْيِيرَهَا بِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «لَوْ كُنْتِ امْرَأَةً لَغَيَّرْتِ أَظْفَارَكِ بِالْحِنَّاءِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ، وَبِهَذَا، يُعْرَفُ أَنَّ التَّفْسِيرَ السَّابِقَ مِنْ غَيْرِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4468 -
وَعَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لُعِنَتِ الْوَاصِلَةُ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ، وَالنَّامِصَةُ، وَالْمُتَنَمِّصَةُ، وَالْوَاشِمَةُ، وَالْمُسْتَوْشِمَةُ مِنْ غَيْرِ دَاءٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4468 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لُعِنَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ؛ أَيْ لَعَنَهَا اللَّهُ أَوْ لُعِنَتْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الرِّوَايَاتِ (الْوَاصِلَةُ) : أَيْ شَعْرَ الْغَيْرِ بِشِعْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ صُورَةِ الزُّورِ (وَالْمُسْتَوْصِلَةُ) : أَيِ النَّفْسُ الطَّالِبَةُ لِذَلِكَ (وَالنَّامِصَةُ)، أَيِ النَّاتِفَةُ لِلشَّعْرِ مِنْ غَيْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ. قِيلَ: هُوَ مِنَ النَّمْصِ وَهُوَ أَخْذُ الشَّعْرِ مِنَ الْوَجْهِ بِالْخَيْطِ أَوْ بِالْمِنْمَاصِ أَيْ بِالْمِنْقَاشِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا النَّاقِشَةُ أَيِ الْمَاشِطَةُ الَّتِي تُزَيِّنُ النِّسَاءَ بِالنَّمْصِ، (وَالْمُتَنَمِّصَةُ) : أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ أَنْ تَنْتِفَ شَعْرَ وَجْهِهَا (وَالْوَاشِمَةُ) : أَيِ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَغْرِزُ الْإِبْرَةَ أَوِ الشَّوْكَةَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهَا أَوْ سَاعِدِهَا أَوْ غَيْرِهِمَا لِيَخْرُجَ مِنْهَا الدَّمُ وَتَجْعَلَ فِيهَا كُحْلًا أَوْ نِيلًا، أَوْ غَيْرَهُمَا لِيَخْضَرَّ لَوْنُهُ، وَيَبْقَى نُقُوشًا أَوْ تَكْتُبَ بِهِ اسْمَهَا (وَالْمُسْتَوْشِمَةُ) : أَيِ الَّتِي تَطْلُبُ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا الْوَشْمُ، فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِصَغِيرَةٍ تَأْثَمُ فَاعِلَتُهُ، وَلَا تَأْثَمُ الْمُفَعْوِلَةُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِهَذَا الْمَبْحَثِ (مِنْ غَيْرِ دَاءٍ) : مُتَعَلِّقٍ بِالْوَشْمِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: إِنِ احْتَاجَتْ إِلَى الْوَشْمِ لِلْمُدَاوَاةِ جَازَ، وَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ أَثَرٌ اهـ. وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ أَيْ لَوْ كَانَ بِهَا عِلَّةٌ فَاحْتَاجَتْ إِلَى أَحَدِهَا لَجَازَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَتَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِرِوَايَةِ الصِّحَاحِ السِّتِّ.
4469 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4469 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ) ، بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] ، (وَالْمَرْأَةَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الرَّجُلِ أَيْ وَلَعَنَ الْمَرْأَةَ (تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ. . إِلَخْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
4470 -
وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:«قِيلَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: إِنَّ امْرَأَةً تَلْبَسُ النَّعْلَ. قَالَتْ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ مِنَ النِّسَاءِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4470 -
(وَعَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً تَلْبَسُ النَّعْلَ)، أَيِ الَّتِي يُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ فَمَا حُكْمُهَا؟ (قَالَتْ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَةَ) : بِضَمِّ الْجِيمِ (مِنَ النِّسَاءِ) : بَيَانٌ لِلرَّجُلَةِ لِأَنَّ التَّاءَ فِيهَا الْإِرَادَةُ الْوَصْفِيَّةُ أَيِ الْمُتَشَبِّهَةُ فِي الْكَلَامِ وَاللِّبَاسِ بِالرِّجَالِ، وَيُقَالُ: كَانَتْ عَائِشَةُ رَجُلَةَ الرَّأْيِ أَيْ رَأْيُهَا رَأْيُ الرِّجَالِ، فَالتَّشَبُّهُ بِالرَّأْيِ وَالْعِلْمِ غَيْرُ مَذْمُومٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) ، أَيْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
4471 -
ــ
4471 -
(وَعَنْ ثَوْبَانِ) : أَيْ مَوْلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ مِنْ عَادَتِهِ (إِذَا سَافَرَ، كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ) : أَيْ وَصِيَّتُهُ وَأَمْرُهُ وَحَدِيثُهُ وَمُوَادَعَتُهُ (بِإِنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ) : أَيْ مِنْ بَيْنِ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ (فَاطِمَةَ) : أَيْ عَهِدَهَا لِيَصِحَّ الْحَمْلُ وَهِيَ خَبَرُ كَانَ (وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا) : أَيْ مِنْ أَهْلِهِ إِذَا قَدِمَ (فَاطِمَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ (فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ) : أَصْلُهَا عَزَوَةٌ فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الزَّايِ، وَقُلِبَتْ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا فِي الْأَصْلِ، وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا الْآنَ، وَقِيلَ: مَا قَبْلَ تَاءِ التَّأْنِيثِ مُتَحَرِّكٌ تَقْدِيرًا إِذِ السُّكُونُ عَارِضٌ (وَقَدْ عَلَّقَتْ) : أَيْ فَاطِمَةُ (مَسْحًا) : بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ بَلَاسًا (أَوْ سِتْرًا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَوْ لِلشَّكِّ (عَلَى بَابِهَا) : أَيْ لِلزِّينَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلسُّتْرَةِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ فِيهَا تَمَاثِيلُ فَالْإِنْكَارُ بِسَبَبِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَحَلَّتِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَأَصْلُهُ حَلَّيَتْ مِنَ التَّحْلِيَةِ فَقُلِبَتِ الْيَاءُ أَلْفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، ثُمَّ حُذِفَتِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَإِنَّمَا حُرِّكَتِ التَّاءُ هُنَا فِي الْوَصْلِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ أَيْضًا، فَحَرَكَتُهَا عَارِضِيَّةٌ لَا أَصْلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى زَيَّنَتْ فَاطِمَةُ بِإِلْبَاسِهَا (الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ سُوَارَيْنِ (مِنْ فِضَّةٍ) : وَفِيهِ احْتِمَالَانِ، وَهُوَ أَلْبَسَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُلْبَيْنِ أَوْ قُلْبًا (فَقَدِمَ) : تَأْكِيدٌ لِلطُّولِ بِالْجُمَلِ الْحَالِيَّةِ، وَتَقْرِيبٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُصُولِ الْفُصُولِ (فَلَمْ يَدْخُلْ) : أَيْ بَيْتَ فَاطِمَةَ لِمَا رَأَى بِنُورِ النُّبُوَّةِ وَظُهُورِ الْمُكَاشَفَةِ تَسَتُّرَ بَابِهَا وَتَغْيِيرَ جَنَابِهَا بِإِلْبَاسِ أَوْلَادِهَا مَا لَا يَجُوزُ لَهُمَا مِنَ اللُّبْسِ. (فَظَنَّتْ أَنَّ مَا) : هِيَ مَوْصُولَةٌ فَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً أَيْ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ الَّذِي (مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ) : أَيْ مِنْ دُخُولِ بَيْتِهَا أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْمُعْتَادِ (مَا رَأَى) : هِيَ صَدْرِيَّةٌ فَاعِلُ مَنَعَهُ، أَوْ مَوْصُولَةٌ أَيْ مَا رَآهُ مِنَ التَّسَتُّرِ وَالتَّغَيُّرِ، وَتَوْضِيحُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِحُصُولِ الْمَرَامِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ هُوَ أَنَّ (أَنَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَ " مَا " أَيْ أَنَّ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَافَّةً بِمَعْنَى " مَا " وَفَاعِلُ مَنَعَهُ مَا رَأَى أَيْ مَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا مَا رَآهُ مِنْ تَعْلِيقِ أَحَدِ السِّتْرَيْنِ وَتُحِلِّيهِ الْحَسَنَيْنِ، فَحِينَئِذٍ تُكْتَبُ " مَا " مَوْصُولَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَمَنَعَهُ صِلَتُهُ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى " مَا " وَرَأَى خَبَرُ أَنَّ أَيِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ مَا رَآهُ، فَعَلَى هَذَا تُكْتَبُ " مَا " مَوْصُولَةً، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ، وَ " مَا " فِي رَأَى مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَهَتَكَتِ السِّتْرَ) : شَقَّتْهُ وَكَشَفَتْهُ (وَفَكَّتْ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ (الْقُلْبَيْنِ) : أَيْ تَقْلِيبَهُمَا وَتَطْوِيقَهُمَا (عَنِ الصَّبِيَّيْنِ، وَقَطَعَتْهُ) : أَيْ مَا بِأَيْدِي الصَّبِيَّيْنِ أَوْ كُلًّا مِنَ الْقَلْبَيْنِ (مِنْهُمَا) : أَيْ أَيْدِي الصَّبِيَّيْنِ أَوْ فَصَلَتْ كُلًّا مِنَ الصَّبِيَّيْنِ عَنِ الْقَلْبَيْنِ وَهُوَ عَطْفُ تَفْسِيرٍ، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْقُلْبَيْنِ بِالْقَلْبَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ} [الأحزاب: 4](فَانْطَلَقَا) : أَيِ الْحَسَنَانِ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِيَانِ) ، أَيْ عَلَى عَادَةِ الصِّغَارِ مِنَ التَّعَلُّقِ وَلَوْ بِالْأَحْجَارِ (فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا)، قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ أَخَذَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِمَا.
قُلْتُ: لَا يُلَائِمُهُ مَا بَعْدَهُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَقْدِيرِ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فَاطِمَةَ بَعْدَ فَكِّ الْقُلْبَيْنِ أَرْسَلَتْهُمَا فِي أَيْدِي الْحَسَنَيْنِ لِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِمَا، فَأَخَذَهُ أَيْ مَا فِي أَيْدِهِمَا أَوْ كُلًّا مِنَ الْقَلْبَيْنِ مِنْهُمَا أَيْ مِنَ الْحَسَنَيْنِ وَأَعْطَاهُ لِثَوْبَانَ (فَقَالَ يَا ثَوْبَانُ! اذْهَبْ بِهَذَا) أَيْ بِكُلٍّ مِنَ الْقُلْبَيْنِ، وَقِيلَ: إِشَارَةً إِلَى الْقَلْبِ، أَوْ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ (إِلَى آلِ فُلَانٍ) ، أَيْ أَهْلِ بَيْتٍ مَشْهُورٍ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ الْأَشْرَفِ - وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ وَاقِعًا مَوْقِعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ أَيِ الْقُلْبَ الْمُفَكَّكَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ التَّصْرِيحُ لِقَوْلِهِ اذْهَبْ بِهَذَا وَهَذَا لِلتَّحْقِيرِ اهـ. وَفِي كَوْنِ الْإِشَارَةِ مَحَلَّ تَفْتِيشٍ وَتَنْقِيرٍ، نَعَمْ إِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّحْقِيرُ الْمَعْنَوِيُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ مِنْ زِيَادَةِ التَّنَعُّمِ الصُّورِيِّ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ، وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ هَؤُلَاءِ) : أَيِ الْحَسَنَانِ وَوَالِدَاهُمَا
(أَهْلِي) : أَيْ أَهْلَ بَيْتِي بِالْخُصُوصِ مِنْ بَيْنِ الْعُمُومِ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِهَؤُلَاءِ وَخَبَرُ أَنَّ قَوْلُهُ: (أَكْرَهُ) : أَوْ أَهْلِي هُوَ الْخَبَرُ وَأَكْرَهُ اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ لِأَنِّي أَكْرَهُ لَهُمْ كَمَا لِنَفْسِي (أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ) : أَيْ يَتَلَذَّذُوا بِطَيِّبِ طَعَامٍ وَلُبْسِ نَفِيسٍ وَنَحْوِهَا (فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا) ، بَلِ اخْتَارَ لَهُمُ الْفَقْرَ وَالرِّيَاضَةَ فِي حَيَاتِهِمْ لِيَكُونَ دَرَجَاتُهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَعْلَى، وَمُقَدِّمَاتُهُمْ فِي مَرَاتِبِ لَذَّاتِهِمْ أَعْلَى، وَلِئَلَّا يَكُونُوا مُتَشَبِّهِينَ بِمَنْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20]، فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَلْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شَبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: " إِنَّ هَؤُلَاءِ " اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمُوجِبِ لِلْمَنْعِ، وَأَهْلِي خَبَرٌ لِـ (أَنَّ) فَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّعْظِيمِ، فَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ هَذَا الْمُحَقَّرُ لِهَؤُلَاءِ الْعِظَامِ، وَقَوْلُهُ:(أَكْرَهُ) اسْتِئْنَافٌ آخَرُ (يَا ثَوْبَانُ! اشْتَرِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ وَجُوِّزَ سُكُونُهَا (لِفَاطِمَةَ قِلَادَةً) : بِكَسْرِ الْقَافِ مَا يُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ (مِنْ عَصْبٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَيُفْتَحُ، سِنُّ حَيَوَانٍ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ: إِنْ تَكُنِ الثِّيَابَ الْيَمَانِيَةَ فَلَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَمَا أَرَى أَنَّ الْقِلَادَةَ تَكُونُ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: يُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ الرِّوَايَةَ إِنَّمَا هِيَ الْعَصَبُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ إِطْنَابُ مَفَاصِلِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ شَيْءٌ مُدَوَّرٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ عَصَبَ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ فَيَقْطَعُونَهُ: وَيَجْعَلُونَهُ شِبْهَ الْخَرَزِ، فَإِذَا يَبِسَ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ الْقَلَائِدَ، إِذَا جَازَ وَأَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ عِظَامِ السُّلَحْفَاةِ وَغَيْرِهَا الْأَسْوِرَةُ جَازَ، وَأَمْكَنَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ عَصَبِ أَشْبَاهِهَا خَرَزٌ يُنْظَمُ مِنْهَا الْقَلَائِدُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ فِي بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ الْعَصَبَ مِنْ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ تُسَمَّى فَرَسَ فِرْعَوْنَ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْخَرَزُ وَغَيْرُهَا مِنْ نِصَابِ سِكِّينٍ وَغَيْرِهِ، وَيَكُونُ أَبْيَضَ. (وَسُوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّيْلُ، وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ، وَمِنَ الْعَجِيبِ الْعُدُولُ عَنِ اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ إِلَى مَا لَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْعَاجَ عَظْمُ أَنْيَابِ الْفِيَلَةِ، وَعَلَى هَذَا يُفَسِّرُهُ النَّاسُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ، قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ الْعُدُولِ أَنَّ عَظْمَ الْمَيِّتِ نَجِسٌ عِنْدَهُمْ، بَلْ عِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْفِيلَ نَجِسُ الْعَيْنِ. وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: طَهَارَةُ عَظْمِ الْحَيَوَانِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالزَّكَاةِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ إِذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ أَنَّ عِظَامَ الْمَيْتَةِ طَاهِرَةٌ ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَذَكَرَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ أَنَّهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ نَاقِلًا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ: إِنَّ الْعَاجَ هُوَ الذَّيْلُ وَهُوَ عَظْمُ ظَهْرِ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ جُزْءُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ بَحْرِيٍّ، وَأَمَّا الْعَاجُ أَيْ عَظْمُ الْفِيلِ فَنَجِسٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِيهِ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فَلَا يَبْعُدُ حَمْلُهُ هَاهُنَا اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْعَاجُ الذَّيْلُ، وَعَظْمُ الْفِيلِ، وَالذَّيْلُ جِلْدُ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ أَوِ الْبَرِّيَّةِ، أَوْ عِظَامُ ظَهْرِ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ يُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَسْوِرَةُ وَالْأَمْشَاطُ اهـ. وَلَعَلَّ الْقُلْبَيْنِ كَانَا فِي يَدَيْ فَاطِمَةَ رضي الله عنها وَأَلْبَسَتْهُمَا الْحَسَنَيْنِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمَا لُبْسُهُمَا، فَلَمَّا عَاقَبَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِجْرَتِهَا، وَعَاتَبَهَا عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهَا فِي صُورَةِ عِصْيَانِهَا، وَكَفَّرَهَا بِالصَّدَقَةِ عَنْهَا وَعَنْ أَوْلَادِهَا جَبَرَهَا بِشِرَاءِ الْقِلَادَةِ وَالسُّوَارَيْنِ لِتَلْبَسَهُمَا احْتِرَازًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ، وَإِظْهَارًا لِلتَّقَنُّعِ بِأَخْشَنِ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبِ لِأَحْسَنِ الْآمَالِ فِي الْمَآلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
4472 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ ". وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ، ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
4472 -
( «وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: اكْتَحِلُوا بِالْإِثْمِدِ» ) : أَيْ دُومُوا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا مُثَلَّثَةٌ سَاكِنَةٌ حَجَرٌ يُكْتَحَلُ بِهِ. قِيلَ: هُوَ الْكُحْلُ الْمَعْرُوفُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهُ لِمَا فِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ خَيْرَ أَكْحَالِكُمُ الْإِثْمِدِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هُوَ الْحَجَرُ الْمَعْدَنِيُّ، وَقِيلَ: هُوَ الْكُحْلُ الْأَصْفَهَانِيُّ يُنَشِّفُ الدَّمْعَةَ وَالْقُرُوحَ وَيَحْفَظُ صِحَّةَ الْعَيْنِ وَيُقَوِّي غُصْنَهَا، لَا سِيَّمَا لِلشُّيُوخِ وَالصِّبْيَانِ. وَفِي تَاجِ الْأَسَامِي: الْإِثْمِدِ هُوَ التُّوتِيَاءُ، وَفِي رِوَايَةٍ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ، وَهُوَ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمِسْكُ الْخَالِصُ قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ عِنْدَ النَّوْمِ،: قَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ. وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكْتَحِلُ بِالْإِثْمِدِ» ، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ، وَلِأَبِي الشَّيْخِ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ «كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِثْمِدٌ
يَكْتَحِلُ بِهِ عِنْدَ نَوْمِهِ فِي كُلِّ عَيْنٍ ثَلَاثًا» (فَإِنَّهُ) : أَيِ الْإِثْمِدَ أَوِ الِاكْتِحَالَ بِهِ (يَجْلُو الْبَصَرَ) : مِنَ الْجَلَاءِ أَيْ يُحْسِنُ النَّظَرَ، وَيَزِيدُ نُورَ الْعَيْنِ، وَيُنَظِّفُ الْبَاصِرَةَ لِدَفْعِ الْمَوَادِّ الرِّدْيَةِ النَّازِلَةِ إِلَيْهَا مِنَ الرَّأْسِ. (وَيُنْبِتُ) : مِنَ الْإِنْبَاتِ (الشَّعَرَ) : بِفَتْحَتَيْنِ، وَيَجُوزُ إِسْكَانُ الْعَيْنِ، لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: الرِّوَايَةُ بِفَتْحِهَا. قُلْتُ: وَلَعَلَّ وِجْهَةَ مُرَاعَاةِ لِفْظِ الْبَصَرِ، وَهُوَ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْبَدِيعِيَّةِ وَالْمُنَاسِبَاتِ السَّجْعِيَّةِ، وَنَظِيرُهُ وُرُودُ الْمُشَاكَلَةِ فِي لَا مَلْجًا وَلَا مَنْجًا، وَرِوَايَةُ: أَذْهَبَ الْبَاسَ رَبُّ النَّاسِ بِإِبْدَالِ هَمْزَةِ الْبَأْسِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالشَّعَرِ هُنَا الْهُدَبُ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ مَثْرَهْ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى أَشْفَارِ الْعَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي عَاصِمٍ وَالطَّبَرِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشَّعَرِ مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ.
(وَزَعَمَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحٌ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، وَرِوَايَاتٍ لِلتِّرْمِذِيِّ فِي الشَّمَائِلِ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْرَبُ، وَبِالِاسْتِدْلَالِ أَنْسَبُ، وَقِيلَ: أَيْ مُحَمَّدُ بْنُ شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَزَعَمَ بِالْفَاءِ، وَالزَّعْمُ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْمُحَقَّقُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَشْكُوكِ فِيهِ. أَوْ فِي الظَّنِّ الْبَاطِلِ. قَالَ تَعَالَى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التغابن: 7]، وَفِي الْحَدِيثِ: بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا، عَلَى مَا رَوَاهُ فِي أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ حُذَيْفَةَ، فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْقَوْلُ الْمُحَقَّقُ «كَقَوْلِ أُمِّ هَانِئٍ عَنْ أَخِيهَا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ لِاثْنَيْنِ مِنْ أَصْهَارِهَا أَجَارَتْهُمَا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ» . وَإِنْ كَانَ لِمُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ، فَالزَّعْمُ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مَعْنَاهُ الْمُتَبَادَرِ إِشَارَةً إِلَى ضَعْفِ حَدِيثِهِ بِإِسْقَاطِ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَائِلُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَقِيلَ: وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ (زَعَمَ) فَائِدَةٌ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ أَتَى بِهِ لِطُولِ الْفَصْلِ، كَمَا يَقَعُ عَادَةً. قَالَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعِبَارَاتِ: وَجَاءَ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ، بِأَنَّ الْأُولَى حَدِيثٌ قَوْلِيٌّ، وَالثَّانِيَةُ حَدِيثٌ فِعْلِيٌّ، هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ السُّيُوطِيَّ جَعَلَ الْحَدِيثَ حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ: رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَةً فِي هَذِهِ، وَثَلَاثَةً فِي هَذِهِ» ، وَلَمَّا كَانَ زَعَمَ يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا بِمَعْنَى ظَنَّ ضَبَطَ قَوْلَهُ. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَخَبَّرَ أَنَّ قَوْلَهُ: (كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ) : بِضَمَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا سَاكِنَةٌ اسْمُ آلَةِ الْكُحْلِ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هَاهُنَا مَا فِيهِ الْكُحْلُ، (يَكْتَحِلُ بِهَا) : كَذَا بِالْبَاءِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ، وَفِي جَمِيعِ رِوَايَاتِ الشَّمَائِلِ بِلَفْظِ " مِنْهَا " فَالْبَاءُ بِمَعْنَى " مِنْ " كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ; {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ لِسَبَبِيَّةِ (كُلَّ لَيْلَةٍ) : أَيْ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَعِنْدَ النَّوْمِ كَمَا فِي أُخْرَى، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَبْقَى لِلْعَيْنِ، وَأَمْكَنُ فِي نُفُوذِ السَّرَايَةِ إِلَى طَبَقَاتِهَا (ثَلَاثَةً) : أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَةٍ (فِي هَذِهِ) : أَيِ الْيُمْنَى (وَثَلَاثَةً) : أَيْ مُتَتَابِعَةً (فِي هَذِهِ) : أَيِ الْيُسْرَى، وَالْمُشَارُ إِلَيْهَا عَيْنُ الرَّاوِي بِطْرِيقِ التَّمْثِيلِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "«مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوْتِرْ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي الْإِيتَارِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا سَبَقَ، وَعَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ، وَهُوَ أَقْوَى فِي الِاعْتِبَارِ لِتَكْرَارِ تَحَقُّقِ الْإِيتَارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ عُضْوٍ، كَمَا اعْتُبِرَ التَّثْلِيثُ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكْتَحِلَ فِيهِمَا خَمْسَةً، ثَلَاثَةً فِي الْيُمْنَى، وَمَرَّتَيْنِ فِي الْيُسْرَى، عَلَى مَا رُوِيَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ وَالِانْتِهَاءُ بِالْيَمِينِ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الْيَسَارِ، كَمَا أَفَادَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْفَيْرُوزَآبَادِي، وَيُجَوِّزُ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَوَاحِدَةً بَيْنَهُمَا، أَوْ فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا مُتَعَاقِبَةً، وَفِي الْيُسْرَى اثْنَتَيْنِ، فَيَكُونُ الْوَتْرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَأَرْجَحُهُمَا الْأَوَّلُ لِمَا ذُكِرَ مِنْ حُصُولِ الْوَتْرِ شَفْعًا، مَعَ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكْتَحِلَ فِي كُلٍّ غَيْرَ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ وَثُمَّ وَيَئُوَلُ أَمْرُهُ إِلَى الْوَتْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُضْوَيْنِ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ عَلَى بَابِ طَهَارَةِ الْأَعْضَاءِ بِجَامِعِ التَّنْظِيفِ وَالتَّزْيِينِ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأْمَّلْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَكَذَا فِي الشَّمَائِلِ بِأَسَانِيدَ مُخْتَلِفَةٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيِّ مَرْفُوعًا: ( «اكْتَحَلُوا بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ» ) . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: "«عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ» ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا الْحَاكِمُ عَنْهُ بِلَفْظِ: "«عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ» " إِلَخْ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عَلِيٍّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "«عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشَّعَرِ مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ» ". وَرَوَاهُ الْبَغَوَيُّ فِي مُسْنَدِ عُثْمَانَ عَنْهُ بِلَفْظِ: "«عَلَيْكُمْ بِالْكُحْلِ، فَإِنَّهُ يُنْبِتُ الشَّعْرَ وَيَشُدُّ الْعَيْنَ» ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا اكْتَحَلَ اكْتَحَلَ وَتْرًا، وَإِذَا اسْتَجْمَرَ اسْتَجْمَرَ وَتْرًا» ".
4473 -
وَعَنْهُ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْتَحِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ بِالْإِثْمِدِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ» . قَالَ: وَقَالَ: " «إِنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ: اللَّدُودُ، وَالسَّعُوطُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشِيُّ. وَخَيْرَ مَا اكْتَحَلْتُمْ بِهِ الْإِثْمِدُ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ، وَإِنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمُ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ» "«وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ عُرِجَ بِهِ، مَا مَرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
4473 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَكْتَحِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ بِالْإِثْمِدِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ» قَالَ) : أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (وَقَالَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ اللَّدُودُ) : بِفَتْحٍ فَضَمٍّ وَهُوَ مَا يُسْقَى الْمَرِيضُ مِنَ الدَّوَاءِ فِي أَحَدِ شِقَّيْ فِيهِ (وَالسَّعُوطُ) : عَلَى وَزْنِهِ وَهُوَ مَا يُصَبُّ مِنَ الدَّوَاءِ فِي الْأَنْفِ (وَالْحِجَامَةُ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ بِمَعْنَى الِاحْتِجَامِ (وَالْمَشِيُّ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ فَعِيلٌ مِنَ الْمَشْيِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، وَجَوَّزَهُ فِي الْمُغْرِبِ وَقَالَ: وَهُوَ مَا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ لِإِطْلَاقِ الْبَطْنِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الدَّوَاءُ الْمُسَهِّلُ مَشِيًّا لِأَنَّهُ يَحْمِلُ شَارِبَهُ عَلَى الْمَشْيِ وَالتَّرَدُّدِ إِلَى الْخَلَاءِ. (وَخَيْرَ مَا اكْتَحَلْتُمْ بِهِ) : بِالنَّصْبِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُ (الْإِثْمِدُ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ، وَإِنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ) : أَيْ مِنَ الْأَيَّامِ (يَوْمُ سَبْعَ عَشْرَةَ) : بِسُكُونِ الشِّينِ وَيُكْسَرُ وَيَوْمُ مُضَافٌ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ أَنَّ (وَيَوْمُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ) : كَذَا فِي النُّسَخِ، وَالظَّاهِرُ وَيَوْمُ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ (وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : إِلَخْ جُمْلَةٌ مُسْتَطْرِدَةٌ قَالَهُ الرَّاوِي حَثًّا عَلَى الْحِجَامَةِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ مَنْقُولًا بِالْمَعْنَى.
(حَيْثُ عُرِجَ بِهِ) : أَيْ حِينِ صُعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ (مَا مَرَّ) : أَيْ هُوَ (عَلَى مَلَأٍ) : أَيْ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ تَمْلَأُ الْعُيُونَ مِنْ كَثْرَتِهَا (إِلَّا قَالُوا: عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ) : أَيِ الْزَمْهَا لُزُومًا مُؤَكَّدًا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَجْهُ مُبَالِغَةِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْحِجَامَةِ سِوَى مَا عَرَفُوا فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى الْأَبْدَانِ، هُوَ أَنَّ الدَّمَ رُكِّبَ مِنَ الْقُوَى النَّفْسَانِيَّةِ الْحَائِلَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ التَّرَقِّي إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الْكُشُوفِ الرُّوحَانِيَّةِ وَبِغَلَبَتِهِ يَزْدَادُ جِمَاعُ النَّفْسِ وَصَلَابَتُهَا، فَإِذَا نَزَفَ الدَّمُ يُورِثُهَا ذَلِكَ خُضُوعًا وَخُمُودًا وَلِينًا وَرِقَّةً، وَبِذَلِكَ تَنْقَطِعُ الْأَدْخِنَةُ الْمُنْبَعِثَةُ عَنِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ وَتَنْحَسِمُ مَادَّتُهَا فَتَزْدَادُ الْبَصِيرَةُ نُورًا إِلَى نُورِهَا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ سَمُرَةَ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ عَلِيٍّ بِزِيَادَةِ: وَالْفِصَادُ، وَفِيهِ أَيْضًا:«الْحِجَامَةُ تَنْفَعُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ أَلَا فَاحْتَجِمُوا» . رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ تَنْفَعُ مِنَ الْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالْأَضْرَاسِ، وَالنُّعَاسِ. رَوَاهُ الْعَقِيلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ:«الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعٍ إِذَا مَا نَوَى صَاحِبُهَا: مِنَ الْجُنُونِ، وَالصُّدَاعِ، وَالْجُذَامِ، وَالْبَرَصِ، وَالنُّعَاسِ، وَوَجَعِ الضِّرْسِ، وَظُلْمَةٍ يَجِدُهَا فِي عَيْنِهِ» .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:" «الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ أَمْثَلُ وَفِيهَا شِفَاءٌ وَبَرَكَةٌ وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ وَالْعَقْلِ، فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي عَافَى اللَّهُ فِيهِ أَيُّوبَ مِنَ الْبَلَاءِ، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتُلِيَ فِيهِ أَيُّوبُ، وَمَا يَبْدُو جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ» ".
وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْحَضْرَمِيِّ مُعْضِلًا: الْحِجَامَةُ تُكْرَهُ فِي أَوَّلِ الْهِلَالِ، وَلَا يُرْجَى نَفْعُهَا حَتَّى يَنْقُصَ الْهِلَالُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ لَهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» ". وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ: " مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ كَانَ دَوَاءً لِدَاءِ سَنَةٍ ". وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ لَهُ شِفَاءٌ مَنْ كُلِّ دَاءٍ ". وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ فَرَأَى فِي جَسَدِهِ وَضَحًا فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ".
4474 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوا بِالْمَيَازِرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
4474 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ، ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ يَدْخُلُوا بِالْمَيَازِرِ» ) : جَمْعُ مِئْزَرٍ وَهُوَ الْإِزَارُ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «نَهَى أَنْ يُدْخَلَ الْمَاءُ إِلَّا بِمِئْزَرٍ» . قَالَ الْمُظْهِرُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُرَخِّصْ لِلنِّسَاءِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ، لِأَنَّ جَمِيعَ أَعْضَائِهِنَّ عَوْرَةٌ وَكَشْفَهَا غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ مِثْلَ أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً تَدْخُلُ لِلدَّوَاءِ، أَوْ تَكُونَ قَدِ انْقَطَعَ نِفَاسُهَا تَدْخُلُ لِلتَّنْظِيفِ، أَوْ تَكُونَ جُنُبًا وَالْبَرْدُ شَدِيدٌ وَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى تَسْخِينِ الْمَاءِ وَتَخَافُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ ضَرَرًا، وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِزَارٍ سَاتِرٍ لِمَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ حِكْمَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي النَّهْيِ، فَإِنَّ النِّسَاءَ مَعَ النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ مَعَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ فِي مَنْعِ النِّسَاءِ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ أَنَّهُنَّ فِي الْغَالِبِ لَا يَسْتَحْيِ بِعَضُهُنَّ مِنْ بَعْضٍ، وَيَنْكَشِفْنَ وَيَنْظُرُ بِعَضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى فِي الْأَجَانِبِ فَضْلًا عَنِ الْقَرَائِبِ، وَأَمَّا الْبِنْتُ مَعَ الْأُمِّ أَوْ مَعَ الْجَارِيَةِ وَأَمْثَالِهِمَا، فَلَا تَكَادُ تُوجَدُ أَنْ تَتَسَتَّرَ حَتَّى فِي الْبَيْتِ فَضْلًا عَنِ الْحَمَّامِ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَمَّامَاتِ لِلنِّسَاءِ خُصُوصًا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، وَأَنَّهُ لَا تَتَّزِرُ مِنْهَا إِلَّا نَادِرَةُ الْعَصْرِ مِنْ نِسْوَانِ السَّلَاطِينِ، أَوِ الْأُمَرَاءِ، فَإِنِ ائْتَزَرَتْ وَاحِدَةٌ مِنَ الرَّعَايَا عَزَّرْنَهَا فِي الْحَمَّامِ بِضَرْبِهَا وَطَرْدِهَا، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى بِنُورِ النُّبُوَّةِ مَا جَرَى فَسَدَّ عَنْهُنَّ هَذَا الْبَابَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
4475 -
وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، قَالَ:«قَدِمَ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها نِسْوَةٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ. فَقَالَتْ: مَنْ أَيْنَ أَنْتُنَّ؟ قُلْنَ: مِنَ الشَّامِ قَالَتْ: فَلَعَلَّكُنَّ مِنَ الْكُورَةِ الَّتِي تَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ؟ قُلْنَ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا تَخْلَعُ امْرَأَةٌ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا إِلَّا هَتَكَتِ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إِلَّا هَتَكَتْ سِتْرَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
4475 -
(وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ أُسَامَةَ الْهُذَلِيُّ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ (قَالَ: قَدِمَ عَلَى عَائِشَةَ نِسْوَةٌ) : بِكَسْرِ النُّونِ اسْمُ جَمْعٍ لِلنِّسَاءِ (مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ) : بِكَسْرِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مِيمٍ فَمُهْمَلَةٍ بَلْدَةٌ مِنَ الشَّامِ، (فَقَالَتْ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُنَّ ; قُلْنَ: مِنَ الشَّامِ) : بِهَمْزٍ وَبَدَلٍ (قَالَتْ: فَلَعَلَّكُنَّ مِنَ الْكُورَةِ) : بِضَمِّ الْكَافِ أَيِ الْبَلْدَةِ أَوِ النَّاحِيَةِ (الَّتِي تَدْخُلُ نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ ; قُلْنَ: بَلَى) : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمَلُ بَلَى فِي تَصْدِيقِ مَا بَعْدَ النَّفْيِ وَغَيْرِهِ (قَالَتْ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَا تَخْلَعُ) : بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَا تَنْزِعُ (امْرَأَةٌ ثِيَابَهَا) : أَيِ السَّاتِرَةَ لَهَا (فِي غَيْرِ بَيْتِ زَوْجِهَا) : أَيْ وَلَوْ فِي بَيْتِ أَبِيهَا وَأُمِّهَا (إِلَّا هَتَكَتِ السِّتْرَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ حِجَابَ الْحَيَاءِ وَجِلْبَابَ الْأَدَبِ (بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا) : لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالتَّسَتُّرِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ أَنْ يَرَاهَا أَجْنَبِيٌّ حَتَّى لَا يَنْبَغِيَ لَهُنَّ أَنْ يَكْشِفْنَ عَوْرَتَهُنَّ فِي الْخَلْوَةِ أَيْضًا إِلَّا عِنْدَ أَزْوَاجِهِنَّ، فَإِنْ كَشَفَتْ أَعْضَاءَهَا فِي الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَقَدْ هَتَكَتِ السِّتْرَ الَّذِي أَمَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ. (وَفِي رِوَايَةٍ: فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إِلَّا هَتَكَتْ سِتْرَهَا) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَيَجُوزُ فَتْحُهُ (فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ لِبَاسًا لِيُوَارِيَ بِهِ سَوْآتِهِنَّ، وَهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَتَّقِينَ اللَّهَ وَكَشَفْنَ سَوْآتِهِنَّ هَتَكْنَ السِّتْرَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
4476 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا، يُقَالُ لَهَا: الْحَمَّامَاتُ، فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ إِلَّا بِالْأُزُرِ، وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ، إِلَّا مَرِيضَةً، أَوْ نُفَسَاءَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4476 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قَدَّمْنَاهُ (وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا) : قِيلَ: أَسْنَدَ الْوِجْدَانَ إِلَيْهِمْ دُونَ الْفَتْحِ لِأَنَّ الْفَتْحَ لَيْسَ مُضَافًا إِلَى فِعْلِهِمْ، بَلْ
بِأَمْرٍ مِنْهُ سُبْحَانَهُ (يُقَالُ لَهَا) : أَيْ لِتِلْكَ الْبُيُوتِ (الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلَنَّهَا الرِّجَالُ) : نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ (إِلَّا بِالْأُزُرِ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ إِزَارٍ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قُرِئَ عَلَيْنَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِالشَّامِ: لَا يُدْخُلُ الرَّجُلُ الْحَمَّامَ إِلَّا بِمِئْزَرٍ، وَلَا تَدْخُلُهُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مِنْ سَقَمٍ، وَاجْعَلُوا اللَّهْوَ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: الْخَيْلِ وَالنِّسَاءِ وَالنِّصَالِ.
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ فَيَقُولُ: نِعْمَ الْبَيْتُ الْحَمَّامُ يُذْهِبُ الصِّنَّةِ وَيُذَكِّرُ النَّارَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: أَرَادَ بِالصِّنَّةِ الصُّنَانَ يَعْنِي بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ: هُوَ زَفْرُ الْإِبِطِ، وَرَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ حَمَّامًا بِالْجُحْفَةِ فَدَخَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ: مَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِأَوْسَاخِنَا شَيْئًا. قَالَ الْإِمَامُ فِي الْإِحْيَاءِ: دَخَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَمَّامَاتِ الشَّامِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِعْمَ الْبَيْتُ بَيْتُ الْحَمَّامِ يُطَهِّرُ الْبَدَنَ وَيُذَكِّرُ النَّارَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ،: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِئْسَ الْبَيْتُ بَيْتُ الْحَمَّامِ يُبْدِي الْعَوْرَاتِ وَيُذْهِبُ الْحَيَاءَ، فَهَذَا يُعْرِضُ لِآفَتِهِ وَذَاكَ لِخَصْلَتِهِ وَلَا بَأْسَ لِطَلَبِ فَائِدَتِهِ عِنْدَ الِاحْتِرَازِ عَنْ آفَتِهِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ آدَابَ الْحَمَّامِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي كِتَابِهِ الْإِحْيَاءِ. (وَامْنَعُوهَا) : أَيِ الْحَمَّامَاتِ (النِّسَاءَ) : أَيْ وَلَوْ بِالْأُزُرِ (إِلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ) . فَتُدْخُلُهَا إِمَّا وَحْدَهَا أَوْ بِإِزَارٍ عَلَيْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُدْخُلَ الْحَمَّامَ إِلَّا بِضَرُورَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4477 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ تُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4477 -
(وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، ذَكَرَ طَرَفَيِ الْإِيمَانِ اخْتِصَارًا وَإِشْعَارًا بِأَنَّهُمَا الْأَصْلُ، وَالْمُرَادُ لَهُ كَمَالُ الْإِيمَانِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّهْدِيدُ. (فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ) : مِنْ بَابِ الْإِدْخَالِ أَيْ فَلَا يَأْذَنُ بِالدُّخُولِ (حَلِيلَتَهُ) : أَيْ زَوْجَتَهُ (الْحَمَّامَ) : وَفِي مَعْنَاهُمَا كَرِيمَتَهُ، مِنْ أُمِّهِ وَبِنْتِهِ وَأُخْتِهِ وَغَيْرِهَا مِمَّنْ يَكُنْ تَحْتَ حُكْمِهِ، فِي الْإِحْيَاءِ: يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَهَا أُجْرَةَ الْحَمَّامِ، فَيَكُونُ مُعِينًا لَهَا عَلَى الْمَكْرُوهِ.
(وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ) : أَيْ لَا يَحْضُرُ فِي بُقْعَةٍ (تُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ) : أَيْ وَيَشْرَبُهَا أَهْلُهَا، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ نَهْيُهُمْ عَنْهَا، فَإِذَا جَلَسَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُعْرِضْ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْرِضْ عَلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا كَامِلًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَبُو دَاوُدَ بَدَلَ التِّرْمِذِيِّ، وَيُؤَيِّدُهُ الْأَوَّلُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَخَبَرُ: " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ " مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ زَعَمَ الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ وُرُودَهُ، وَفِي خَبَرٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ لَا يَتَنَوَّرُ، وَكَانَ إِذَا كَثُرَ شَعْرُهُ أَيْ شَعْرُ عَانَتِهِ حَلَقَهُ» ، وَصَحَّ لَكِنْ أُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ أَنَّهُ «كَانَ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ بِعَانَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنَّوْرَةِ وَسَائِرِ جَسَدِهِ» .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
4478 -
عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ:«سُئِلَ أَنَسٌ رضي الله عنه عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: لَوْ شِئْتَ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ ; فَعَلْتُ. قَالَ: وَلَمْ يَخْتَضِبْ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
4478 -
(عَنْ ثَابِتٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ ثَابِتُ بْنُ أَسْلَمَ الْبُنَانِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، تَابِعِيٌّ. مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَثِقَاتِهِمْ، اشْتَهَرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَصَحِبَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ. (قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ، عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ عَنْ إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ (فَقَالَ) : أَيْ مُشِيرًا إِلَى عَدَمِ احْتِيَاجِهِ لِلْخِضَابِ (لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ أَيْ أُحْصِيَ (شَمَطَاتٍ) : جَمْعُ الشَّمَطَةِ وَفِي
الْقَامُوسِ مُحَرَّكَةٌ: بَيَاضُ شَعْرِ الرَّأْسِ يُخَالِطُ سَوَادَهُ (كُنَّ فِي شَعْرِهِ) : فِي النِّهَايَةِ: الشَّمَطَاتُ الشَّعَرَاتُ الْبِيضُ الَّتِي كَانَتْ فِي شَعْرِ رَأْسِهِ يُرِيدُ: قِلَّتَهَا. (فَعَلْتُ) : أَيْ عَدَّدْتُ أَوْ فَعَلْتُ الْعَدَّ (قَالَ) : أَيْ صَرِيحًا (وَلَمْ يَخْتَضِبْ) : أَيْ رَأْسُهُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي اخْتِضَابُ لِحْيَتِهِ الْمَرْوِيَّ السَّابِقَ، وَالْآتِي عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَتَدَبَّرْ. (زَادَ) : أَيْ أَنَسٌ (فِي رِوَايَةٍ: وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ)، وَتَحْقِيقُهُ تَقَدَّمَ (وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ) : أَيْ صِرْفًا وَمَحْضًا وَخَالِصًا، سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ أَيْضًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4479 -
«وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ ثِيَابُهُ مِنَ الصُّفْرَةِ فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تُصْبِغُ بِالصُّفْرَةِ؟ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا، حَتَّى عِمَامَتَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
4479 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَصْفِّرُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ) : أَيْ بِالْوَرْسِ وَهُوَ نَبْتٌ يُشْبِهُ الزَّعْفَرَانَ، وَقَدْ يُخْلَطُ بِهِ كَمَا سَبَقَ (حَتَّى يَمْتَلِئَ) : بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ وَيُؤَنَّثُ (ثِيَابُهُ) : أَيْ مِنَ الْقِنَاعِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَعَالِيهِ (مِنَ الصُّفْرَةِ فَقِيلَ: لِمَ تَصْبُغُ) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَيُفْتَحُ وَيُكْسَرُ (بِالصُّفْرَةِ؟) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ غَيْرَكَ لَمْ يَصْبُغْ. (قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْبُغُ بِهَا) : أَيْ بِالصُّفْرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ; وَلِأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِصَبْغِ ابْنِ عُمَرَ لِحْيَتَهُ، وَفِي حَاشِيَةِ الْمُوَطَّأِ لِلسُّيُوطِيِّ قِيلَ: الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ صَبْغُ الشَّعْرِ، وَقِيلَ: صَبْغُ الثَّوْبِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَبَغَ شَعْرَهُ، وَقَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: ثَبَتَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ» ، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ لَبِسَ الثَّوْبَ الْمُعَصْفَرَ وَالْمُزَعْفَرَ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ؟ فَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَبَغَ فِي وَقْتٍ، وَتَرَكَ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ، فَأَخَبَرَ كُلٌّ بِمَا رَأَى وَهُوَ صَادِقٌ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ كَالتَّعَيُّنِ لِلْجَمْعِ فِيهِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ اهـ. وَهُوَ نِهَايَةُ الْمُدَّعِي.
(وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (مِنْهَا) : أَيْ مِنَ الصُّفْرَةِ فِي اللِّحْيَةِ (وَقَدْ كَانَ) : أَيِ ابْنُ عُمَرَ (يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا، حَتَّى عِمَامَتَهُ) : وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّ ثِيَابَهُ جَمِيعَهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ تَتَصَفَّرُ مِنْ أَثَرِ تِلْكَ الصُّفْرَةِ، لَا أَنَّهُ يَصْبُغُهَا بِهَا، ثُمَّ يَلْبَسُهَا، لِمَا سَبَقَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) . وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَصَفِّرُ لِحْيَتَهُ حِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَفِّرُونَ لِحَاهُمْ، وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ، وَيَكْرَهُونَ الْخِضَابَ بِالسَّوَادِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْمَدُ أَحَدُكُمْ إِلَى نُورٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي وَجْهِهِ فَيُطْفِئُهُ. وَكَانَ شَدِيدَ بَيَاضِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ.
4480 -
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ:«دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَخْضُوبًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
4480 -
(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ) : أَيِ التَّيْمِيِّ، رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عَوَانَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. وَقَالَ فِي أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ: هُوَ الْفِلَسْطِينِيُّ الشَّامِيُّ كَانَ قَاضِيَ فِلَسْطِينَ، رَوَى عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَسَمِعَ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَقِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ تَمِيمًا، وَإِنَّمَا سَمِعَ قَبِيصَةَ عَنْ تَمِيمٍ، رَوَى عَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَوْهَبٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الْهَاءِ فَمُوَحَّدَةٍ عَلَى مَا فِي الْمُغْنِي وَحَاشِيَةِ الزَّرْكَشِيِّ لِلْبُخَارِيِّ، وَفِي الْقَامُوسِ، مَوْهَبٌ كَمَقْعَدٍ اسْمٌ فَمَا ضُبِطَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرِ الْهَاءِ فَهُوَ غَيْرُ ضَبْطٍ. (قَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ ( «دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَخْضُوبًا» ) .
قَالَ مِيرَكُ: وَزَادَ ابْنُ مَاجَهْ وَأَحْمَدُ: بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَلِابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ نُصَيْرِ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ:«أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ أَرَتْهُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْمَرَ» ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، «عَنْ أَنَسٍ: رَأَيْتُ شَعْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَخْضُوبًا» ، وَقَدْ مَرَّ عَنْ أَنَسٍ فِيمَا صَحَّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَخْضِبْ» ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْيِ أَكْثَرَ أَحْوَالِهِ عليه الصلاة والسلام وَبِالْإِثْبَاتِ الْأَقَلَّ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْآخَرُ عَلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّعَرَ كَانَ مُتَغَيِّرًا لَوْنُهُ بِسَبَبِ وَضْعِ الْحِنَّاءِ عَلَى الرَّأْسِ لِدَفْعِ الصُّدَاعِ
أَوْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ التَّطَيُّبِ سَمَّاهُ مَخْضُوبًا أَوْ سَمَّى مُقَدِّمَةَ الشَّيْبِ مِنَ الْحُمْرَةِ خِضَابًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ نَفْيَ الْخِضَابِ مَحْمُولٌ عَلَى بِرِّ خِضَابِ الرَّأْسِ لِلشَّيْبِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى شَعْرِ بَعْضِ اللِّحْيَةِ مِنَ الْبَيَاضِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، ثُمَّ رَأَيْتُ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ لِلْإِسْمَاعِيلِيِّ قَالَ:«كَانَ مَعَ أُمِّ سَلَمَةَ مِنْ شَعْرِ لِحْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ أَثَرُ الْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ» ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنَ الْإِطْلَاقَاتِ كَمَا فِي الشَّمَائِلِ:«أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سُئِلَ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ» ، وَقَدْ مَرَّ بَعْضُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.
4481 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمُخَنَّثٍ، قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا بَالُ هَذَا؟ " قَالُوا: يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى النَّقِيعِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا تَقْتُلُهُ ; فَقَالَ: " إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4481 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ جِيءَ (بِمُخَنَّثٍ) : تَقَدَّمَ ضَبْطُهُ وَمَعْنَاهُ (قَدْ خَضَبَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ بِالْحِنَّاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا بَالُ هَذَا؟) : أَيِ الشَّخْصِ أَوِ الرَّجُلِ (قَالُوا: يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ) : أَيْ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَاسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ (فَأَمَرَ بِهِ) : أَيْ بِنَفْيِهِ (فَنُفِيَ) : أَيْ أُخْرِجَ (إِلَى النَّقِيعِ) : بِالنُّونِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ كَانَ حِمًى (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا نَقْتُلُهُ؟) : أَيْ نَحْنُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْخِطَابِ أَيْ أَلَا تَأْمُرُ بِقَتْلِهِ ; (فَقَالَ: إِنِّي نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ) : لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مُتَعَمِّدًا يُقْتَلُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ وَصْفَ الْمُصَلِّي يَكُونُ لِمَنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ بِتَرْكِهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَلَا يُقَالُ الْمُصَلِّي فِي الْعُرْفِ لِمَنْ صَلَّى مَرَّةً أَوْ أَزْيَدَ، وَلَمْ يَكُنْ يَغْلُبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: مَنْ قَالَ لِسُلْطَانِ زَمَانِنَا إِنَّهُ عَادِلٌ، فَهُوَ كَافِرٌ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَعْدِلُ، نَعَمْ يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ أَنَّ تَارِكِي الصَّلَاةِ يُقْتَلُونَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا أَكْبَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ قَتْلَهُمْ بِطَرِيقِ الْمُقَاتَلَةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَوْ تَرَكَ أَهْلُ بَلْدَةٍ أَذَانَ الصَّلَاةِ لَقَاتَلْتُهُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4482 -
وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ، فَيَدْعُو لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ، وَيَمْسَحُ رُءُوسَهُمْ، فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَأَنَا مُخَلَّقٌ، فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4482 -
(وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا وَهْبٍ الْقُرَشِيَّ، أَخُو عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَدْ نَاهَزَ الِاحْتِلَامَ، وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ. وَكَانَ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ وَشُعَرَائِهِمْ، رَوَى عَنْهُ أَبُو مُوسَى الْهَمْدَانِيُّ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالرِّقَّةِ. (قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ) : أَيْ طَفِقُوا وَشَرَعُوا (يَأْتُونَهُ بِصِبْيَانِهِمْ، فَيَدْعُو لَهُمْ) : أَيْ لِصِبْيَانِهِمْ أَوْ لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي صِبْيَانِهِمْ (بِالْبَرَكَةِ، وَيَمْسَحُ رُءُوسَهُمْ) : يُؤَيِّدُ الِاحْتِمَالَ الْأَوَّلَ فَتَأَمَّلْ. (فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَأَنَا مُخَلَّقٌ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ مُلَطَّخٌ بِالْخَلُوقِ: هُوَ طِيبٌ مَخْلُوطٌ بِالزَّعْفَرَانِ (فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِ الْخَلُوقِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ. فِي الْمُهَذَّبِ: نَوْعُ طِيبٍ يَضْرِبُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَامْتِنَاعُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ ; لِأَنَّهُ مَنْ طِيبِ النِّسَاءِ، فَيَلْزَمُ مَنْ مَسَّهِ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلرِّجَالِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4483 -
ــ
4483 -
(وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِي جُمَّةً) : بِضَمِّ جِيمٍ وَتَشْدِيدِ مِيمٍ أَيْ شَعْرًا يَصِلُ إِلَى الْمَنْكِبِ (أَفَأُرَجِّلُهَا؟) : بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ أُسَرِّحُهَا وَأُمَشِّطُهَا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ) : أَيْ رَجِّلْهَا (وَأَكْرِمْهَا) : أَيْ بِزِيَادَةِ التَّدْهِينِ (قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ رُبَّمَا دَهَّنَهَا) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَتُخَفَّفُ، فَفِي الْمُغْرِبِ: دَهَنَ رَأْسَهُ أَوْ شَارِبَهُ إِذَا طَلَاهُ بِالدُّهْنِ، وَفِي الْقَامُوسِ: دَهَنَ رَأْسَهُ إِذَا بَلَّهُ بِالدُّهْنِ. (فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ وَأَكْرِمْهَا) : قَدْ يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْرِيحِ اللِّحْيَةِ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ خِلَافًا لِمَا سَبَقَ مِنْ مُنَازَعَةِ
الْعِرَاقِيِّ فِي ذَلِكَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا. " «إِذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ» ".
4484 -
وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ، قَالَتْ: وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ، وَلَكَ قَرْنَانِ، أَوْ قُصَّتَانِ، فَمَسَحَ رَأْسَكَ، وَبَرَّكَ عَلَيْكَ، وَقَالَ:" احْلِقُوا هَذَيْنِ أَوْ قُصُّوهُمَا ; فَإِنَّ هَذَا زِيُّ الْيَهُودِ ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4484 -
(وَعَنِ الْحَجَّاجِ) : بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ الْأُولَى (ابْنِ حَسَّانَ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَصْرُوفًا وَقَدْ لَا يُصْرَفُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: حَنَفِيٌّ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ. (قَالَ: دَخَلْنَا) : أَيْ أَنَا وَأَهْلِي (عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي الْمُغِيرَةُ) : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ فَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (قَالَتْ) : بَدَلٌ مِنْ حَدَّثَتْ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ (وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ) : أَيْ حِينَ دَخَلْنَا عَلَى أَنَسٍ (غُلَامٌ) : أَيْ وَلَدٌ صَغِيرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجُمْلَةُ حَالٌ عَنْ مُقَدَّرٍ، يَعْنِي أَنَّا دَخَلْنَا عَلَى أَنَسٍ مَعَ جَمَاعَةٍ، وَلَكِنْ أُنْسِيتُ كَيْفِيَّةَ الدُّخُولِ. فَحَدَّثَتْنِي أُخْتِي وَقَالَتْ: أَنْتَ يَوْمَ دُخُولِكَ عَلَى أَنَسٍ غُلَامٌ. . إِلَخْ. وَالْمُغِيرَةُ هَذِهِ رَأَتْ أَنَسًا وَرَوَتْ عَنْهُ. زَادَ الْمُؤَلِّفُ: وَرَوَى عَنْهَا أَخُوهَا الْحَجَّاجُ حَدِيثَهَا فِي بَابِ التَّرَجُّلِ. (وَلَكَ قَرْنَانِ) : أَيْ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ فِي الرَّأْسِ (أَوْ قُصَّتَانِ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ شَعْرُ النَّاصِيَةِ وَ " أَوْ " لِلشَّكِّ مِنَ الرُّوَاةِ الْمُتَأَخِّرَةِ (فَمَسَحَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (رَأْسَكَ، وَبَرَّكَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. بِمَعْنَى بَارَكَ (عَلَيْكَ) : أَيْ دَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ (وَقَالَ: احْلِقُوا هَذَيْنِ) : أَيِ الْقَرْنَيْنِ (أَوْ قُصُّوهُمَا) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِلشَّكِّ (فَإِنَّ هَذَا) : أَيِ الزِّيَّ (زِيُّ الْيَهُودِ) : بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَيْ زِينَتُهُمْ وَعَادَتُهُمْ فِي رُءُوسِ أَوْلَادِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَتَقَدَّمَ النَّهْيُّ عَنِ الْقَزَعِ، وَحَدِيثُ:" احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ " مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
4485 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
4485 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا» ) : وَذَلِكَ لِأَنَّ الذَّوَائِبَ لِلنِّسَاءِ كَاللِّحَى لِلرِّجَالِ فِي الْهَيْئَةِ وَالْجَمَالِ، وَفِيهِ بِطْرِيقِ الْمَفْهُومِ جَوَازُ حَلْقِ الرَّجُلِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، بَلْ فِي أَنَّهُ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ لِمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَقَرَّرَهُ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:" «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ» " أَوْ لَيْسَ سُنَّةً لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَعَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ وَاظَبَ عَلَى تَرْكِ حَلْقِهِ إِلَّا بَعْدَ فَرَاغِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فَالْحَلْقُ رُخْصَةٌ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ.
4486 -
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ رَجَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ.
ــ
4486 -
(وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّابِعِينَ الْمَشْهُورَيْنِ بِالْمَدِينَةِ، كَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ. (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ) : أَيْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُهُ، فَاللَّامُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ (فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ) : بِالْإِضَافَةِ أَيْ مُتَفَرِّقُ شَعْرِهَا (فَأَشَارَ إِلَيْهِ) : أَيْ إِلَى الرَّجُلِ، أَوْ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ فَفَعَلَ) : أَيْ فَفَهِمَ الرَّجُلُ وَخَرَجَ وَأَصْلَحَهُمَا. (ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) :
أَيْ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِمُخَاطَبٍ (أَلَيْسَ هَذَا) : أَيِ الْإِصْلَاحُ (خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ) : أَيْ جِنِّيٌّ فِي قُبْحِ الْمَنْظَرِ مِنْ تَفْرِيقِ الشَّعْرِ (رَوَاهُ مَالِكٌ) : قَالَ مِيرَكُ: عَطَاءٌ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ: رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى شُهْرَتِهِ، وَإِلَّا فَكَانَ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ التَّنْبِيهُ، فَالتَّعْبِيرُ بِالْأُولَى لِهَذَا الْمَعْنَى.
4487 -
وَعَنِ ابْنِ الْمَسَيَّبِ رضي الله عنه سُمِعَ يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا - أُرَاهُ قَالَ - أَفْنِيَتَكُمْ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» ". قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنِيهِ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ:" نَظِّفُوا أَفْنِيتَكُمْ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
4487 -
(وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ وَقَدْ تُكْسَرُ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، يُكَنَّى أَبَا مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيَّ الْمَخْزُومِيَّ الْمَدَنِيَّ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ سَيِّدَ التَّابِعِينَ مِنَ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ، جَمَعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبِقَضَايَا عُمَرَ، لَقِيَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُمْ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَكَثِيرٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ مَكْحُولٌ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، فَمَا لَقِيتُ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، حَجَجْتُ أَرْبَعِينَ حَجَّةً، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. (سُمِعَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى ابْنِ الْمُسَيَّبِ (يَقُولُ) : حَالٌ مِنْهُ أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ) : أَيْ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ مُقَدَّسٌ عَنِ الْعُيُوبِ (يُحِبُّ الطِّيبَ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ أَيْ طِيبَ الْحَالِ وَالْقَالِ أَوِ الرِّيحَ الطَّيَّبِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّ اسْتِعْمَالَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَرْضَى عَنْهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ، وَهَذَا يُلَائِمُ مَعْنَى قَوْلِهِ:(نَظِيفٌ) : أَيْ طَاهِرٌ (يُحِبُّ النَّظَافَةَ) : أَيِ الطَّهَارَةَ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ، فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُوصَفُ بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ. (كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ، جَوَادٌ) : بِفَتْحِ جِيمٍ وَتَخْفِيفِ وَاوٍ (يُحِبُّ الْجُودَ) : قَالَ الرَّاغِبُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْجُودِ وَالْكَرَمِ أَنَّ الْجُودَ بَذْلُ الْمُقْتَنَيَاتِ، وَيُقَالُ رَجُلٌ جَوَادٌ وَفَرَسٌ جَوَادٌ يَجُودُ بِمُدَّخَرِ عَدْوِهِ، وَالْكَرَمُ إِذَا وُصِفَ الْإِنْسَانُ بِهِ، فَهُوَ اسْمٌ لِلْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْهُ وَلَا يُقَالُ هُوَ كَرِيمٌ حَتَّى يَظْهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْرَمَ الْأَفْعَالِ الْمَحْمُودَةِ وَأَشْرَفَهَا مَا يُقْصَدُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى.
فَمَنْ قَصَدَ ذَلِكَ بِمَحَاسِنِ فِعْلِهِ فَهُوَ التَّقِيُّ، فَإِنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ أَتْقَاهُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ تَشْرُفُ فِي بَابِهِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْكَرَمِ. قَالَ تَعَالَى:{أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ - وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7 - 58]، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] ، (فَنَظِّفُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ فِيهِ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَطَيِّبُوا كُلَّ مَا أَمْكَنَ تَطْيِيبُهُ، وَنَظِّفُوا كُلَّ مَا سَهُلَ لَكُمْ تَنْظِيفُهُ حَتَّى أَفْنِيَةِ الدَّارِ، وَهِيَ مُتَّسَعٌ أَمَامَ الدَّارِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نِهَايَةِ الْكَرَمِ وَالْجُودِ، فَإِنَّ سَاحَةَ الدَّارِ إِذَا كَانَتْ وَاسِعَةً نَظِيفَةً طَيِّبَةً كَانَتْ أَدْعَى بِجَلْبِ الضِّيفَانِ، وَتَنَاوُبِ الْوَارِدِينَ وَالصَّادِرِينَ اهـ.
(أُرَاهُ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّهُ وَالْقَائِلُ هُوَ السَّامِعُ مِنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَيْ أَظُنُّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ (قَالَ: أَفْنِيتَكُمْ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ نَظِّفُوا وَهِيَ جَمْعُ الْفِنَاءِ بِالْكَسْرِ أَيْ سَاحَةَ الْبَيْتِ وَقُبَالَتَهُ وَقِيلَ: عَتَبَتَهُ وَسُدَّتَهُ، (وَلَا تَشَبَّهُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ عَطْفًا عَلَى نَظِّفُوا أَيْ لَا تَكُونُوا مُتَشَبِّهِينَ (بِالْيَهُودِ) : أَيْ فِي عَدَمِ النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ وَقِلَّةِ التَّطَيُّبِ وَكَثْرَةِ الْبُخْلِ وَالْخِسَّةِ وَالدَّنَاءَةِ، وَذَلِكَ لَمَّا ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، بِخِلَافِ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ أُعْطُوا الْعِزَّةَ الظَّاهِرَةَ وَالسَّلْطَنَةَ، وَلَعَلَّ أَصْلَهُ مَا قَالَ تَعَالَى:{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] .