المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب الشفقة والرحمة على الخلق] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ]

- ‌[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الضِّيَافَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

- ‌[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ]

- ‌[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي]

- ‌[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ الْخَاتَمِ]

- ‌[بَابُ النِّعَالِ]

- ‌[بَابُ التَّرَجُّلِ]

- ‌[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

- ‌[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]

- ‌[بَابُ الْكِهَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

- ‌[كِتَابُ الْآدَابِ] [

- ‌بَابُ السَّلَامِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِيَامِ]

- ‌[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

- ‌[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ]

- ‌[بَابُ الضَّحِكِ]

- ‌[بَابُ الْأَسَامِي]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

- ‌[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ]

- ‌[بَابُ الْوَعْدِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَاحِ]

- ‌[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الفصل: ‌[باب الشفقة والرحمة على الخلق]

وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، لَكِنَّ فِي عِبَارَتِهِمَا خَطَأً فَاحِشًا إِذْ مَفْهُومُهُ أَنَّ مَغْفِرَةَ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ مُسْتَثْنًى، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِهَا مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِيرَادُ مَا شَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِإِخْرَاجِ الشِّرْكِ فَقَطْ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، فَالصَّوَابُ أَنَّ مَعْنَاهُ: كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ الَّتِي قَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَغْفُورٌ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ مَشِيئَةُ الْمَغْفِرَةِ. وَفِي هَذَا أَوْفَى زَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ إِلَّا عُقُوقَهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَشِيئَةُ مُطْلَقًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ وَالتَّشْدِيدِ ; لِأَنَّ كَلَامَهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ مَشِيئَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِمَا عَدَا الشِّرْكَ.

ص: 3099

4946 -

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «حُقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ". رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

4946 -

(وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) : هُوَ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ أَحَدَ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ كَتَبُوا الْمُصْحَفَ لِعُثْمَانَ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَغَزَا بِالنَّاسِ طَبَرِسْتَانَ، فَافْتَتَحَهَا وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «حَقُّ كَبِيرِ الْإِخْوَةِ عَلَى صَغِيرِهِمْ حَقُّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» ) أَيْ: كَحَقِّهِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ مُبَالَغَةٌ (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْخَمْسَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَلَفْظُ الْجَامِعِ: كَحَقِّ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3099

[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4947 -

عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

[15]

بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ

الشَّفَقَةُ: الِاسْمُ مِنَ الْإِشْفَاقِ، وَهُوَ الْخَوْفُ، وَالشَّفَقَةُ عِنَايَةٌ مُخْتَلِطَةٌ بِخَوْفٍ ; لِأَنَّ الْمُشْفِقَ يُحِبُّ الْمُشْفَقَ عَلَيْهِ، وَيَخَافُ مَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَفِي الْقَامُوسِ: أَشْفَقَ أَيْ حَاذَرَ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4947 -

(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: الْبَجَلِيُّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» ) أَيْ: مَنْ لَا يَتَعَطَّفُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَرْأَفُ بِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْفَائِزِينَ بِالرَّحْمَةِ الْكَامِلَةِ، وَالسَّابِقِينَ إِلَى دَارِ الرَّحْمَةِ، وَإِلَّا فَرَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الرَّحْمَةُ الثَّانِيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَوْلَى عَلَى الْمَجَازِ ; لِأَنَّ الرَّحْمَةَ مِنَ الْخَلْقِ التَّعَطُّفُ وَالرِّقَّةُ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ، وَالرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ الرِّضَا عَمَّنْ رَحِمَهُ ; لِأَنَّ مَنْ رَقَّ لَهُ الْقَلْبُ فَقَدْ رَضِيَ عَنْهُ، أَوِ الْإِنْعَامُ وَإِرَادَةُ الْخَيْرِ ; لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ رَقَّ لَهُمْ وَأَصَابَهُمْ بِمَعْرُوفِهِ وَإِنْعَامِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالشَّيْخَانِ عَنْ جَرِيرٍ أَيْضًا بِلَفْظِ:" «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ جَرِيرٍ، وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ:" «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ، عَنْ جَرِيرٍ:" «مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» "، وَفِي أُخْرَى لَهُ عَنْهُ أَيْضًا:" «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ، وَمَنْ لَا يَغْفِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ» " كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَفْظُ الْمِشْكَاةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3099

4948 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4948 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ؟) أَيِ: الصِّغَارُ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ (فَمَا نُقَبِّلُهُمْ) أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُقَبِّلُونَهُمْ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ، وَهُوَ إِمَّا لِلِاسْتِكْبَارِ أَوْ لِلِاسْتِحْقَارِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ اسْتِبْعَادِيَّةٌ أَيْ: أَتَفْعُلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُسْتَبْعَدٌ عِنْدَنَا؟ قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِبْعَادَ مَفْهُومٌ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ لَا مِنَ الْفَاءِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي مَعَانِيهَا. (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوَأَمْلِكُ لَكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ الْإِنْكَارِيَّةِ وَوَاوِ الْعَاطِفَةِ أَوِ الرَّابِطَةِ (أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنْ) فَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ وَقَعَ مَوْقِعَ الظَّرْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا، فَإِنْ شَرْطِيَّةٌ دَلَّ عَلَى جَزَائِهَا مَا قَبْلَهَا. قَالَ الْأَشْرَفُ: يُرْوَى (أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ فَهِيَ مَصْدَرِيَّةٌ، وَيُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ: لَا أَمْلِكُ لَكَ دَفْعَ نَزْعِ اللَّهِ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ، أَوْ لَا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أَضَعَ فِي قَلْبِكَ مَا نَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِهَا، فَتَكُونُ شَرْطِيَّةً وَالْجَزَاءُ مَحْذُوفٌ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ أَيْ: إِنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ لَا أَمْلِكُ لَكَ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3100

4949 -

وَعَنْهَا، قَالَتْ:«جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: " مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4949 -

(وَعَنْهَا) أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي)، أَيْ: عَطِيَّةً (فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا)، أَيِ: التَّمْرَةَ وَلَمْ تَسْتَحْقِرْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، وَلِقَوْلِهِ عليه السلام:" «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» "(فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا)، أَيْ: مَعَ جُوعِهَا إِذْ يُسْتَبْعَدُ أَنْ تَكُونَ شَبْعَانَةً مَعَ جُوعِ ابْنَتَيْهَا (ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ)، أَيْ: بِمَا جَرَى (فَقَالَ: مَنِ ابْتُلِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ: امْتُحِنَ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُنَّ غَالِبًا (مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ) ، مُتَعَلِّقٌ بِـ (ابْتُلِيَ) وَ (مِنْ) بَيَانِيَّةٌ مَعَ مَجْرُورِهَا حَالٌ مِنْ (شَيْءٍ)، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الْجِنْسِ. وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ قَوْلُهُ: مَنْ بَلِيَ مِنَ الْإِبْلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا، أَيْ: بِشَيْءٍ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ وَهُوَ الصَّوَابُ، وَرَوَى لَفْظَ الْمَصَابِيحِ: يَلِيَ مِنَ الْوَلَايَةِ لِمَكَانٍ شَيْئًا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، هَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الصَّوَابُ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ يَتَخَبَّطُ النَّاسُ فِيهَا ; لِمَكَانِ قَوْلِهِ شَيْئًا، وَرَوَى يَلِي بِالْيَاءِ مِنَ الْوِلَايَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالصَّوَابُ فِيهِ مَنْ بَلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ. اهـ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الرِّوَايَةَ الثَّانِيَةَ إِمَّا ابْتُلِيَ كَمَا فِي الْمِشْكَاةِ، وَإِمَّا بَلِيَ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَإِنَّ الصَّوَابَ فِيهِمَا بِشَيْءٍ، وَإِنَّ (شَيْئًا) بِالنَّصْبِ خَطَأٌ، وَكَذَا يَلِي مِنَ الْوِلَايَةِ، بَلْ هُوَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الرِّوَايَةُ فِي الْبُخَارِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ وَشَرْحِ السُّنَّةِ: مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ وَلَمْ نَقِفْ عَلَى مَا فِي الْمَصَابِيحِ، وَهُوَ: مَنْ يَلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فِي الْأُصُولِ. اهـ. (فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ) قِيلَ: بِتَزْوِيجِهِنَّ الْأَكْفَاءَ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُمَّ الْإِحْسَانُ (كُنَّ لَهُ) أَيْ: لِلْمُبْتَلَى (سِتَرًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ: حِجَابًا دَافِعًا (مِنَ النَّارِ) أَيْ: دُخُولُهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِنَّ أَنَّ احْتِيَاجَهُنَّ إِلَى الْإِحْسَانِ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الصِّبْيَانِ، فَمَنْ سَتَرَهُنَّ بِالْإِحْسَانِ عَنْ لُحُوقِ الْعَارِ يُجَازَى بِالسَّتْرِ عَنِ النَّارِ جَزَاءً وِفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالِابْتِلَاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِنَّ، أَوِ الِابْتِلَاءُ بِمَا صَدَرَ مِنْهِنَّ، أَوِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ؟ وَكَذَا اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْسَانِ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْوَاجِبِ، أَوْ مَا زَادَ عَلَيْهِ؟ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي، ثُمَّ شَرْطُ الْإِحْسَانِ أَنْ يُوَافِقَ الشَّرْعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ إِذَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ اسْتِغْنَاؤُهُنَّ عَنْهُ بِزَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ الْمِشْكَاةِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

ص: 3100

4950 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ هَكَذَا، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4950 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ) أَيْ: أَنْفَقَ عَلَيْهِمَا وَقَامَ بِمُؤْنَتِهِمَا (حَتَّى تَبْلُغَا) أَيْ: تُدْرِكَا الْبُلُوغَ أَوْ تَصِلَا إِلَى زَوْجِهِمَا (جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ بِغَيْرِ وَاوٍ أَيْ: جَاءَ مُصَاحِبًا لِي (وَضَمَّ أَصَابِعَهُ) أَيْ: أُصْبُعَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تُدْرِكَا دَخَلْتُ أَنَا وَهُوَ الْجَنَّةَ كَهَاتَيْنِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَفْظُهُ:" «مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَأَدَّبَهُنَّ وَزَوَّجَهُنَّ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ» ".

ص: 3101

4951 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالسَّاعِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". وَأَحْسَبُهُ قَالَ: " كَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4951 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا. قِيلَ: سَوَاءٌ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً، وَفِيهِ بُعْدٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ يَعُمُّهُمَا (وَالْمِسْكِينِ) وَفِي مَعْنَاهُ: الْفَقِيرُ، بَلْ بِالْأَوْلَى عِنْدَ بَعْضِهِمْ (كَالسَّاعِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: ثَوَابُ الْقَائِمِ بِأَمْرِهِمَا وَإِصْلَاحِ شَأْنِهِمَا وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، كَثَوَابِ الْغَازِي فِي جِهَادِهِ، فَإِنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ، وَفِي بَذْلِهِ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ وَمُطَالَبَةُ رِضَا الرَّبِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالسَّاعِي الْكَاسِبُ لَهُمَا الْعَامِلُ لِمُؤْنَتِهِمَا، وَالْأَرْمَلَةُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، سَوَاءٌ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَمْ لَا، وَقِيلَ: الَّتِي فَارَقَهَا زَوْجُهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَتْ أَرْمَلَةً لِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنَ الْإِرْمَالِ، وَهُوَ الْفَقْرُ وَذَهَابُ الزَّادِ بِفَقْدِ الزَّوْجِ. يُقَالُ: أَرْمَلَ الرَّجُلُ: إِذَا فَنِيَ زَادُهُ، قُلْتُ: وَهَذَا مَأْخَذٌ لَطِيفٌ فِي إِخْرَاجِ الْغَنِيَّةِ مِنْ عُمُومِ الْأَرْمَلَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ مَعْنَى السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَّاهُ بِـ (عَلَى) مُضَمِّنًا فِيهِ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ. (وَأَحْسِبُهُ) بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا أَيْ: أَظُنُّهُ (قَالَ: كَالْقَائِمِ) قِيلَ: قَائِلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ الرَّاوِي عَنْ مَالِكٍ، كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي الْبُخَارِيِّ، وَمَعْنَاهُ أَظُنُّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: كَالْقَائِمِ، وَظَاهِرُ الْمِشْكَاةِ أَنَّ قَائِلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَالتَّقْدِيرُ أَحْسَبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَيْضًا: كَالْقَائِمِ، أَوْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ فِي التَّشْبِيهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ بِلَفْظِ:«السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ الْقَائِمِ اللَّيْلِ الصَّائِمِ النَّهَارِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ» " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُهُ: كَالْقَائِمِ أَيْ بِاللَّيْلِ لِلْعِبَادَةِ (لَا يَفْتُرُ) ، مِنَ الْفُتُورِ وَهُوَ الْمَلَلُ وَالْكَسَلُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ نَصَرَ كَمَا فِي الْمَفَاتِيحِ، وَمِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَأَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمُعَوَّلُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَضْعُفُ عَنِ الْعِبَادَةِ (وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ) أَيْ: فِي نَهَارِهِ، بَلْ يَصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي كَالْقَائِمِ وَالصَّائِمِ غَيْرُ مُعَرِّفَيْنِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ كُلُّ وَاحِدٍ بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ بَعْدَهُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا عِبَارَتَانِ عَنِ الصَّوْمِ بِالنَّهَارِ وَالْقِيَامِ بِاللَّيْلِ، كَقَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ وَلَيْلُهُ قَائِمٌ، يُرِيدُونَ الدَّيْمُومَةَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَتَقَدَّمَ رِوَايَةُ غَيْرِهِمَا.

ص: 3101

4952 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا " وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

4952 -

(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ: السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ) أَيِ: الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ أَيْ: مُرَبِّيهِ (لَهُ)، أَيْ: كَائِنًا لِذَلِكَ الْكَافِلِ كَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَإِنْ أَسْفَلَ، أَوِ ابْنِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ (وَلِغَيْرِهِ)، الْوَاوُ بِمَعْنَى:" أَوْ " أَيْ أَوْ كَائِنًا لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ (فِي الْجَنَّةِ) خَبَرُ أَنَا وَمَعْطُوفَةٌ (هَكَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الْقُرْبِ (وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ) أَيِ: الْمُسَبِّحَةُ (وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: فَرَّقَ (بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ: قَلِيلًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْكَثِيرِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِذَلِكَ إِلَى عُلُوِّ مَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَإِنْ تَلَاهَا رُتْبَةُ الْفُتُوَّةِ وَالْمُرُوَّةِ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ: الْكَافِلُ هُوَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ الْيَتِيمِ الْمُرَبِّي لَهُ، وَهُوَ مِنَ الْكَفِيلِ بِمَعْنَى: الضَّمِينِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ وَلِغَيْرِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكَافِلِ أَيْ: أَنَّ الْيَتِيمَ سَوَاءٌ كَانَ لِلْكَافِلِ مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ وَأَنْسَابِهِ، أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا لِغَيْرِهِ وَتَكَفَّلَ بِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ:(فِي الْجَنَّةِ) خَبَرُ (أَنَا) وَهَكَذَا نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْخَبَرِ، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى أَيْ: أَشَارَ بِهِمَا إِلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ عليه السلام مِنْ مَعْنَى الِانْضِمَامِ وَهُوَ بَيَانُ (هَكَذَا) . اهـ.

ص: 3101

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ضَمَّ أُصْبُعَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هَكَذَا، فَعَبَّرَ الرَّاوِي عَنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: وَأَشَارَ إِذِ الْإِشَارَةُ عَمَّا فِي ضَمِيرِ عليه السلام غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِلرَّاوِي، قِيلَ: الْيَتِيمُ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ، وَمِنَ الدَّوَابِّ مَنْ مَاتَ أُمُّهُ، وَكَافِلُ الْيَتِيمِ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ وَيَعُولُهُ وَيُرَبِّيهِ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:" «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. اهـ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْمِشْكَاةِ:(لَهُ وَلِغَيْرِهِ) مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ، أَوْ مَنْ بَعْدَهُ أُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ هُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَفِيهَا زِيَادَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(وَأَشَارَ) فَهُوَ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ اخْتِصَارًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3102

4953 -

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا اشْتَكِي عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4953 -

(وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : مَرَّ ذِكْرُهُمَا رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَى الْمُؤْمِنِينَ) أَيِ: الْكَامِلِينَ (فِي تَرَاحُمِهِمْ) أَيْ: فِي رَحْمِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَانِ لَا بِسَبَبِ رَحِمٍ وَنَحْوِهِ (وَتَوَادِّهِمْ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: تَوَاصُلِهِمُ الْجَالِبِ لِلْمَحَبَّةِ كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي (وَتَعَاطُفِهِمْ) أَيْ: بِإِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا (كَمَثَلِ الْجَسَدِ) أَيْ: جِنْسِهِ (الْوَاحِدِ) : الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَنْوَاعِ الْأَعْضَاءِ (إِذَا اشْتَكَى) أَيِ: الْجَسَدُ (عُضْوًا) لِعَدَمِ اعْتِدَالِ حَالِ مِزَاجِهِ، وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا تَأَلَّمَ الْجَسَدُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، وَفِي نُسْخَةٍ إِذَا اشْتَكِي عُضْوٌ بِالرَّفْعِ أَيْ: إِذَا تَأَلَّمَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ جَسَدِهِ (تَدَاعَى لَهُ) أَيْ: ذَلِكَ الْعُضْوُ (سَائِرُ الْجَسَدِ) أَيْ: بَاقِي أَعْضَائِهِ (بِالسَّهَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: عَدَمِ الرُّقَادِ (وَالْحُمَّى) أَيْ: بِالْحَرَارَةِ وَالتَّكَسُّرِ وَالضَّعْفِ، لِيَتَوَافَقَ الْكُلُّ فِي الْعُسْرِ كَمَا كَانُوا فِي حَالِ الصِّحَّةَ مُتَوَافِقِينَ فِي الْيُسْرِ، ثُمَّ أَصْلُ التَّدَاعِي أَنْ يَدْعُوَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَتَّفِقُوا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ عِنْدَ تَأَلُّمِ بَعْضِ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ يَسْرِي ذَلِكَ إِلَى كُلِّهِ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِذَا أَصَابَ وَاحِدًا مِنْهُمْ مُصِيبَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَمَّ جَمِيعُهُمْ وَيَهْتَمُّوا بِإِزَالَتِهَا عَنْهُ، وَفِي النِّهَايَةِ: كَانَ بَعْضُهُ دَعَا بَعْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَدَاعَتِ الْحِيطَانُ أَيْ: تَسَاقَطَتْ أَوْ كَادَتْ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ التَّوَافُقُ فِي الْمَشَقَّةِ وَالرَّاحَةِ وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3102

4954 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4954 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ) أَيْ: كَأَعْضَاءِ رَجُلٍ (وَاحِدٍ) لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ (إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ) بِالرَّفْعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهُ (اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

ص: 3102

4955 -

وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» "، ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4955 -

(وَعَنْ أَبِي مُوسَى) أَيِ: الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ) التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْمُؤْمِنِ لِلْبَعْضِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ: كُلُّ مُؤْمِنٍ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لِلْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ فِي الْأَوَّلِ، وَلِلْجِنْسِ فِي الثَّانِي أَيِ: الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لِمُطْلَقِ الْمُؤْمِنِ (كَالْبُنْيَانِ) أَيِ: الْبَيْتِ الْمَبْنِيِّ (يَشُدُّ بَعْضُهُ) أَيْ: بَعْضُ الْبُنْيَانِ (بَعْضًا) وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَوْ صِفَةٌ أَوِ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْقَوِيَّ هُوَ الَّذِي يَشُدُّ الضَّعِيفَ وَيُقَوِّيهِ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَتَقَوَّى فِي أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ إِلَّا بِمَعُونَةِ أَخِيهِ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْبِنَاءِ يُقَوِّي بَعْضَهُ (ثُمَّ شَبَّكَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبُو مُوسَى (بَيْنَ أَصَابِعِهِ) أَيْ: أَدْخَلَ إِحْدَى يَدِهِ بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدِ الْأُخْرَى قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ (ثُمَّ شَبَّكَ) كَالْبَيَانِ لِوَجْهِ الشَّبَهِ أَيْ: شَدًّا مِثْلَ هَذَا الشَّدِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: اخْتُصَّ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِ التَّشْبِيكِ وَبِدُونِهِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، قُلْتُ: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِدُونِ التَّشْبِيكِ أَسْنَدَهُ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ ضَمِيرَ (شَبَّكَ) إِلَى أَبِي مُوسَى، فَمَنْ رَوَاهُ إِنَّمَا رَوَاهُ مُدْرَجًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَعْظِيمُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَحَثُّهُمْ عَلَى التَّرَاحُمِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعَاضُدِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّشْبِيهِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِتَقْرِيبِ الْمَعَانِي إِلَى الْأَفْهَامِ.

ص: 3102

4956 -

وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ قَالَ:" اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مَا شَاءَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4956 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَتَاهُ السَّائِلُ) أَيْ: لِلْعَطِيَّةِ (أَوْ صَاحِبُ الْحَاجَةِ) أَيْ: إِلَيْهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ السُّؤَالِ فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ (قَالَ: اشْفَعُوا) أَيْ: لَهُ (فَلْتُؤْجَرُوا) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبْدَلُ، وَهُوَ أَمْرُ الْمُخَاطَبِ بِاللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] ، بِالْخِطَابِ فِي رِوَايَةِ يَعْقُوبَ مِنَ الْعَشَرَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَرْفُوضِ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ قُرِئَ (فَافْرَحُوا) وَالْفَاءُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ شَفَعْتُمْ فَتُؤْجَرُوا، وَفِي الْمُغْنِي أَنَّ اللَّامَ الطَّلَبِيَّةَ قَدْ تَخْرُجُ عَنِ الطَّلَبِيَّةِ إِلَى غَيْرِهِ كَالَّتِي يُرَادُ بِهَا أَوْ بِمَصْحُوبِهَا الْخَيْرُ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} [مريم: 75]، {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] ، أَيْ: فَيَمُدُّ وَنَحْمِلُ. اهـ.

وَخُلَاصَةُ الْمَعْنَى اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَكَذَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، ثُمَّ رَأَيْتُ الطِّيبِيَّ قَالَ: الْفَاءُ فِي (فَلْتُؤْجَرُوا) أَوِ اللَّامُ مُقْحَمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، بَلْ كِلَاهُمَا مُؤَكِّدَانِ ; لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ: تُؤْجَرُوا جَوَابًا لِلْأَمْرِ تَمَّ كَلَامُهُ، وَلَا يَخْفَى مَا سَبَقَ مِنَ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَالْمَعْنَى إِذَا عَرَضَ صَاحِبُ حَاجَةٍ حَاجَتَهُ عَلَيَّ اشْفَعُوا لَهُ إِلَيَّ، فَإِنَّكُمْ إِنْ شَفَعْتُمْ لَهُ حَصَلَ لَكُمْ بِتِلْكَ الشَّفَاعَةِ أَجْرٌ، سَوَاءٌ قُبِلَتْ شَفَاعَتُكُمْ أَوْ لَمْ تُقْبَلْ، وَقَوْلُهُ: وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، أَيْ: يُجْرِي عَلَى لِسَانِي (مَا شَاءَ) أَيْ: إِنْ قَضَيْتُ حَاجَتَهُ مِنْ شَفَاعَتِكُمْ لَهُ فَهُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ أَقْضِ فَهُوَ أَيْضًا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ. اهـ.

وَقَوْلُهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَقْلًا بِالْمَعْنَى، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ نَوْعُ الْتِفَاتٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَفِي زِيَادَةِ الْمُضَافِ إِفَادَةُ أَنَّ غَيْرَهُ فِي هَذَا الْمِلَفِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ إِذِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ عَلَى لِسَانِي، كَأَنَّهُ قَالَ: اشْفَعُوا لِي وَلَا تَقُولُوا مَا نَدْرِي، أَيَقْبَلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَفَاعَتَنَا أَمْ لَا؟ فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَبِيَّهُ وَصَفِيَّهُ لَا أَدْرِي أَيْضًا أَقْبَلُ شَفَاعَتَكُمْ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْقَاضِي، فَإِنْ قَضَى فِي أَنْ أَقْبَلَ أَقْبَلُ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» " قُلْتُ: وَفِيهِ تَلْمِيحٌ وَتَلْوِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] . قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ بُلُوغِهَا إِلَى الْإِمَامِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَقَدْ أَجَازَ الشَّفَاعَةَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ صَاحِبَ شَرٍّ وَأَذًى لِلنَّاسِ، وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَالْوَاجِبُ التَّعْزِيرُ، فَيَجُوزُ الشَّفَاعَةُ وَالتَّشَفُّعُ فِيهَا سَوَاءٌ بَلَغَتِ الْإِمَامَ أَمْ لَا، ثُمَّ الشَّفَاعَةُ فِيهَا مُسْتَحَبَّةٌ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ فِيهِ مُؤْذِيًا وَشِرِّيرًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:" «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالثَّلَاثَةُ.

ص: 3103

4957 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا "، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ:" تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4957 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «انْصُرْ أَخَاكَ» ) أَيِ: الْمُسْلِمُ (ظَالِمًا) حَالٌ مِنَ الْمَفْعُولِ (أَوْ مَظْلُومًا) تَنْوِيعٌ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ) أَيْ: أَنَا (مَظْلُومًا)، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مَظْلُومًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَبْنَى (فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟)، فَإِنَّهُ خَفِيُّ الْمَعْنَى (قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ) ، أَيِ: الَّذِي يُرِيدُ فِعْلَهُ (فَذَلِكَ) أَيْ: مَنَعُكَ إِيَّاهُ مِنْهُ (نَصْرُكَ إِيَّاهُ) أَيْ: عَلَى شَيْطَانِهِ الَّذِي يُغْوِيهِ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ الَّتِي تُطْغِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ مِيرَكُ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا السِّيَاقِ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ أَيْضًا، نَعَمْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ بِلَفْظِ:«وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ» .

قُلْتُ: وَيَنْصُرُهُ صَنِيعُ صَاحِبِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ; حَيْثُ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ: " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ". قِيلَ كَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: " تَحْجِزْهُ عَنِ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ الدَّارِمِيِّ وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ: " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ يَكُ ظَالِمًا فَارْدُدْهُ عَنْ ظُلْمِهِ وَإِنْ يَكُ مَظْلُومًا فَانْصُرْهُ» ".

ص: 3103

4958 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4958 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» )، فِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمُؤْمِنَ وَاحِدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وَهُوَ مُجْمَلٌ تَفْصِيلُهُ مَا بَعْدَهُ، وَلِهَذَا وَرَدَ مُنْقَطِعًا عَمَّا بَعْدَهُ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سُوِيدَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ وَاثِلَةَ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْأَخُ لَا يَضُرُّ أَخَاهُ، بَلْ يَنْفَعُهُ فِي كُلِّ مَا يَرَاهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ مُبَالَغَةً، كَمَا وَرَدَ:" «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» "(لَا يَظْلِمُهُ) ، نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَظْلِمَهُ، وَفِي حُكْمِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا مَفْهُومَ لَهُ، فَإِنَّ الظُّلْمَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ لِلْمُوجَبِ أَوْ لِوَجْهِ الشَّبَهِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ يَنْحَطُّ أَوَّلًا عَنْ رُتْبَةِ النُّبُوَّةِ:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وَثَانِيًا عَنْ دَرَجَةِ الْوَلَايَةِ:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وَثَالِثًا عَنْ مَزِيدِ السَّلْطَنَةِ: لَبَيْتُ الظَّالِمِ خَرَابٌ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَرَابِعًا: عَنْ نَظَرِ الْخَلَائِقِ: جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا، وَخَامِسًا: عَنْ حِفْظِ نَفْسِهِ: " وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ".

لَا تَظْلِمْنَ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا

فَالظُّلْمُ آخِرُهُ يَأْتِيكَ بِالنَّدَمِ

نَامَتْ عُيُونُكَ وَالْمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ

يَدْعُو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللَّهِ لَمْ تَنَمِ

(وَلَا يُسْلِمُهُ)، بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ اللَّامِ أَيْ: لَا يَخْذُلُهُ، بَلْ يَنْصُرُهُ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَسْلَمَ فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا أَلْقَاهُ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَلَمْ يَحْمِهِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ أَسْلَمْتَهُ إِلَى شَيْءٍ، لَكِنْ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْإِلْقَاءُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ أَيْ: لَا يُزِيلُ سِلْمَهُ، وَهُوَ بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِهَا الصُّلْحُ (وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ) أَيْ: سَاعِيًا فِي قَضَائِهَا (كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ) هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ:" «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» "، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى فَضِيلَةِ عَوْنِ الْأَخِ عَلَى أُمُورِهِ، وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا بِجِنْسِهَا مِنَ الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَلْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ بِهِمَا لِدَفْعِ الْمَضَارِّ، أَوْ جَذْبِ الْمَنَافِعِ إِذِ الْكُلُّ عَوْنٌ (وَمَنْ فَرَّجَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيُخَفَّفُ، وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ نَفَّسَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَيْ: أَزَالَ وَكَشَفَ (عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً) أَيْ: مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَهِيَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْكُرْبَةُ بِضَمِّ الْكَافِ فُعْلَةٌ مِنَ الْكَرْبِ، وَهِيَ الْخَصْلَةُ الَّتِي يَحْزَنُ بِهَا وَجَمْعُهَا كُرَبٌ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، وَالتَّنْوِينُ فِيهَا لِلْإِفْرَادِ وَالتَّحْقِيرِ أَيْ: هَمًّا وَاحِدًا مِنْ هُمُومِهَا أَيُّ هَمٍّ كَانَ صَغِيرَهُ أَوْ كَبِيرَهُ عَرْضَهُ وَعِرْضَهُ عَدَدَهُ وَعُدَدَهُ، وَقَوْلُهُ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا أَيْ: بَعْضِ كُرَبِهَا أَوْ كُرْبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنْ كُرَبِهَا (فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) بِضَمِّ الْكَافِ وَالرَّاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيِ الَّتِي لَا تُحْصَى ; لِأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَتَنْفِيسُ الْكُرَبِ إِحْسَانٌ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ، وَلَيْسَ هَذَا مُنَافِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا تُجَازَى بِمَثَلِهَا وَضِعْفِهَا إِلَى عَشْرَةٍ إِلَى مِائَةٍ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ إِلَى غَيْرِ حِسَابٍ، عَلَى أَنَّ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ تُسَاوِي عَشْرًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْوِينُ التَّعْظِيمِ وَتَخْصِيصُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ دُونَ يَوْمٍ آخَرَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ إِمَّا فِي الْكَمِّيَّةِ أَوْ فِي الْكَيْفِيَّةِ (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا) أَيْ: بَدَنَهُ أَوْ عَيْبَهُ بِعَدَمِ الْغِيبَةِ لَهُ وَالذَّبِّ عَنْ مَعَايِبِهِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ، وَإِلَّا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُرْفَعَ قَصْعَتُهُ إِلَى الْوَالِي، فَإِذَا رَآهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَيُنْكِرُهَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَإِنْ عَجَزَ يَرْفَعُهَا إِلَى الْحَاكِمِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ ; كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ (سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ صُوفِيَّةٌ صَفِيَّةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ وَكَرَامَاتِ ذَوِي الْإِيقَانِ أَنْ يَحْفَظَ سِرَّهُ وَيَكْتُمَ أَمْرَهُ، فَإِنَّ كَشْفَ الْأَسْرَارِ عَلَى الْأَغْيَارِ يَسُدُّ بَابَ الْعِنَايَةِ وَيُوجِبُ الْحِرْمَانَ وَالْغِوَايَةَ.

مَنْ أَطْلَعُوهُ عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ

لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ مَا عَاشَ

(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ مُسْنَدًا إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ.

ص: 3104

4959 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا ". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4959 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ» ) ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَهُوَ تَرْكُ النُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ (وَلَا يَحْقِرُهُ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ: لَا يَحْتَقِرُهُ بِذِكْرِ الْمَعَايِبِ وَتَنَابُزِ الْأَلْقَابِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ إِذَا رَآهُ رَثَّ الْحَالِ، أَوْ ذَا عَاهَةٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ غَيْرَ لَائِقٍ فِي مُحَادَثَتِهِ، فَلَعَلَّهُ أَخْلَصُ ضَمِيرًا وَأَتْقَى قَلْبًا مِمَّنْ هُوَ عَلَى ضِدِّ صِفَتِهِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِتَحْقِيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللَّهُ (التَّقْوَى هَهُنَا) وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَا يَجُوزُ تَحْقِيرُ الْمُتَّقِي مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَالتَّقْوَى مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَمَا كَانَ مَحَلُّهُ الْقَلْبَ يَكُونُ مَخْفِيًّا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ مَخْفِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَمِ تَقْوَى مُسْلِمٍ حَتَّى يُحَقِّرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحَلُّ التَّقْوَى هُوَ الْقَلْبُ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّقْوَى فَلَا يُحَقِّرُ مُسْلِمًا ; لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ لَا يُحَقِّرُ الْمُسْلِمَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَوْجَهُ وَالنَّظْمُ لَهُ أَدْعَى ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا شَبَّهَ الْمُسْلِمَ بِالْأَخِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَأَنْ لَا يَرَى أَحَدٌ لِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَتَحْقِيرُهُ إِيَّاهُ مِمَّا يُنَافِي هَذِهِ الْحَالَةَ وَيَنْشَأُ مِنْهُ قَطْعُ وُصْلَةِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تُوصَلَ، وَمُرَاعَاةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ ; لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ السُّلْطَانِ وَأَدْنَى الْعَوَامِّ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَبَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ إِلَّا مَنِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلتَّقْوَى وَأَخْلَصَهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ، وَنَحْوِهَا إِخْلَاصَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنْ خُبْثِهِ وَنَقَّاهُ مِنْهَا، فَيُؤْثِرُ لِذَلِكَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى، كَذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " «التَّقْوَى هَهُنَا " (وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ) مُعْتَرِضًا بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَحْقِرُهُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ:( «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» ) ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامِ مَوْقِعُ التَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ:( «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ) هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْأَوْلَى، وَالسَّابِقُ كَالتَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمَ وَعِرْضَهُ جُزْءًا مِنْهُ تَلْوِيحًا إِلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ:«حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ، وَالْمَالُ يُبْذَلُ لِلْعِرْضِ. قَالَ:

أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ

لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ

وَلِمَا أَنَّ التَّقْوَى تَشُدُّ مِنْ عَقْدِ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ وَتَسْتَوْثِقُ مِنْ عُرَاهَا ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 10] يَعْنِي: إِنَّكُمْ إِنِ اتَّقَيْتُمْ لَمْ تَحْمِلْكُمُ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى التَّوَاصُلِ وَالِائْتِلَافِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى إِمَاطَةِ مَا يَفْرُطُ مِنْهُ، وَأَنَّ مُسْتَقَرَّ التَّقْوَى وَمَكَانَهَا الْمُضْغَةُ الَّتِي إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ قَالَ تَعَالَى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الرَّاوِي عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَفَصْلِ الْخِطَابِ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ صلى الله عليه وسلم إِلَى هُنَا كَلَامُ الطِّيبِيِّ قَدْ تَمَّ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ مِنْ زَوَائِدِ فَوَائِدِ شَرْحِهِ الْمُنِيفِ.

مِنْهَا، قَوْلُهُ:" التَّقْوَى هَهُنَا ". قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِي صَدْرِي، وَفُرُوعَهَا فِي قُلُوبِ جَمِيعِ الْخَلْقِ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ عَيْنِ الْجَمْعِ، وَمِرْآةُ كُشُوفِ الْغَيْبِ، كَمَا قَالَ:" «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» " بَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَادَ مَعْرِفَتُهُ زَادَ خَشْيَتُهُ وَتَقْوَاهُ، وَلَيْسَ فِي الْكَوْنَيْنِ أَعْرَفُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ:" «لِكُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنٌ وَمَعْدِنُ التَّقْوَى قُلُوبُ الْعَارِفِينَ» " ; لِأَنَّ الْعَارِفَ غَائِبٌ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، تَائِقٌ إِلَى لِقَائِهِ، هَائِمٌ فِي مَحَبَّتِهِ تَجْرِي عَيْنُ التَّقْوَى مِنْ بِحَارِ مَعْرِفَتِهِ مِنْ رُوحِهِ إِلَى قَلْبِهِ، وَمِنْ قَلْبِهِ إِلَى قَالَبِهِ، وَسِرُّهُ مَعْدِنُ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ تَجَلَّى فِيهِ بِنَعْتِ الْقِدَمِ، وَرُوحُهُ مَعْدِنُ الْمَعْرِفَةِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ تَجَلَّى بِوَصْفِ الْبَقَاءِ فِيهَا، وَقَلْبُهُ مَعْدِنُ الْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى ; لِأَنَّهُ تَجَلَّى بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، فَالتَّوْحِيدُ مِنْ عَيْنِ الْقِدَمِ، وَالْمَعْرِفَةُ مِنْ عَيْنِ الْبَقَاءِ، وَالتَّقْوَى مِنْ عَيْنِ الْكِبْرِيَاءِ، وَقَوْلُهُ:(ثَلَاثُ مِرَارٍ) بِرَاءٍ فِي آخِرِهِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ:(بِحَسْبِ امْرِئٍ) مُبْتَدَأٌ وَالْبَاءُ فِيهِ

ص: 3105

زَائِدَةٌ ; وَقَوْلُهُ: " أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ " خَبَرُهُ أَيْ: حَسْبُهُ وَكَافِيهِ مِنْ خِلَالِ الشَّرِّ وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ تَحْقِيرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ قَوْلَهُ:(يَحْقِرُ) مِنْ بَابِ التَّفْعِيلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْقَافِ فِي الْأُصُولِ.

قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَحَسْبُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّثْنِيَةُ، وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. قَالَ النُّحَاةُ: إِذَا كَانَ مَا بَعْدَهُ مَعْرِفَةً فَرَفْعُهُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَالْإِضَافَةُ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَرَفْعُهُ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَقَطْ، وَالْإِضَافَةُ مَعْنَوِيَّةٌ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْعِرْضِ مَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ شَرْعًا حِمَايَتُهُ لَا الْعَصَبِيَّةُ وَالْحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةُ الَّتِي اعْتَادَهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَيَصْرِفُونَ النَّاسَ لِطَلَبِ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْهَوَى الْمُتَّبَعِ الْمُهْلِكِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَمَا أَهْلَكَ النَّاسَ إِلَّا النَّاسُ، وَلَوْ أَنْصَفَ الْعُلَمَاءُ لَعَلِمُوا أَنَّ أَكْثَرَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْعِبَادَاتِ فَضْلًا عَنِ الْعِبَادَاتِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا إِلَّا مُرَاعَاةُ الْخَلْقِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الرِّيَاسَةُ مَيَادِينُ إِبْلِيسَ يَنْزِلُ هُوَ وَجُنُودُهُ، وَقِيلَ: آخِرُ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الصِّدِّيقِينَ مَحَبَّةُ الْجَاهِ، هَذَا وَزُبْدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يَقَعَ فِي عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ وَالطَّعْنِ وَالْقَذْفِ وَالشَّتْمِ وَالْغَمْزِ وَاللَّمْزِ وَالتَّجَسُّسِ عَنْ عَوْرَاتِهِ وَإِفْشَاءِ أَسْرَارِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَيَفْضَحُهُ، وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ، وَلَا يُمَارِيهِ، وَيَرَى الْفَضْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ، أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ اللَّهَ وَهُوَ قَدْ عَصَى، وَالْكَبِيرُ فَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ عِبَادَةً، وَالْعَالِمُ لِعِلْمِهِ، وَالْجَاهِلُ لِأَنَّهُ قَدْ عَصَى اللَّهَ بِجَهْلِهِ، فَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْعَالِمِ أَوْكَدُ، وَلِذَا وَرَدَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً، وَوَيْلٌ لِلْعَالَمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِأَنَّ حُسْنَ الْعَاقِبَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ، وَالْمَدَارُ عَلَى خَاتِمَتِهَا. خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بِالْحُسْنَى وَبَلَّغَنَا الْمَقَامَ الْأَسْنَى (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَهُوَ أَيْضًا بَعْضٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ، وَأَسْنَدَهُ إِلَى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمٍ» " الْحَدِيثُ.

ص: 3106

4960 -

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبٍ وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ. وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ فِيكُمْ تَبَعٌ لَا يَبْغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ، وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ. وَالشِّنْظِيرُ: الْفَحَّاشُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4960 -

(وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ) وَهُوَ اسْمُ الْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ، وَالْعَرَبُ مَا كَانُوا يَتَحَاشَوْنَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ حَتَّى كَانُوا يُسَمُّونَ أَوْلَادَهُمْ كَلْبًا وَكِلَابًا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ التَّمِيمِيُّ الْمُجَاشِعِيُّ، يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْلَمَ قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ) أَيْ: ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ (ذُو سُلْطَانٍ) أَيْ: حُكْمٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: سُلْطَانٌ ; لِأَنَّهُ ذُو قَهْرٍ وَغَلَبَةٍ مِنَ السَّلَاطَةِ، وَهِيَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْقَهْرِ. قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ} [النساء: 90] ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السُّلْطَانُ، وَقِيلَ: ذُو حُجَّةٍ لِأَنَّهُ يُقَامُ الْحُجَجُ بِهِ (مُقْسِطٌ) بِالرَّفْعِ صِفَةُ الْمُضَافِ أَيْ: عَادِلٌ، يُقَالُ: أَقْسَطَ فَهُوَ مُقْسِطٌ: إِذَا عَدَلَ، وَقَسَطَ فَهُوَ قَاسِطٌ: إِذَا جَارَ، فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلسَّلْبِ كَمَا يُقَالُ: شَكَا إِلَيْهِ فَأَشْكَاهُ (مُتَصَدِّقٌ) أَيْ: مُحْسِنٌ إِلَى النَّاسِ (مُوَفَّقٌ) أَيِ الَّذِي هُيِّئَ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ، وَفُتِحَ لَهُ أَبْوَابُ الْبِرِّ (وَرَجُلٌ رَحِيمٌ) أَيْ: عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ (رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى) خُصُوصًا (وَمُسْلِمٍ) أَيْ: لِكُلِّ مُسْلِمٍ عُمُومًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ (رَحِيمٌ) أَيْ: يَرِقُّ قَلْبُهُ، وَيَرْحَمُ لِكُلِّ مَنْ بَيْنِهِ وَبَيْنَهُ لُحْمَةُ الْقَرَابَةِ أَوْ صِلَةُ الْإِسْلَامِ. اهـ

وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّحِيمِ صِيغَةٌ فِعْلِيَّةٌ يَظْهَرُ وَجُودُهَا فِي الْخَارِجِ، وَبِالرَّقِيقِ صِفَةٌ قَلْبِيَّةٌ سَوَاءٌ ظَهَرَ أَثَرُهَا أَمْ لَا. وَالثَّانِي أَظْهَرُ، فَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّقَ رَحْمَةُ الرَّحِيمِ إِلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الشَّامِلِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالدَّوَابِّ، فَيَكُونُ الثَّانِي أَخَصَّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ.

(وَعَفِيفٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ الثَّالِثُ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَيْ: مُجْتَنِبٌ عَمَّا لَا يَحِلُّ (مُتَعَفِّفٌ) أَيْ: عَنِ السُّؤَالِ مُتَوَكِّلٌ عَلَى الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ عِيَالِهِ مَعَ فَرْضِ وَجُودِهِمْ، فَإِنَّهُ أَصْعَبُ، وَلِهَذَا قَالَ:(ذُو عِيَالٍ) أَيْ: لَا يَحْمِلُهُ حُبُّ الْعِيَالِ وَلَا خَوْفُ رِزْقِهِمْ عَلَى تَرْكِ التَّوَكُّلِ بِارْتِكَابِ سُؤَالِ الْخَلْقِ، وَتَحْصِيلِ الْمَالِ الْحَرَامِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِمْ عَنْ

ص: 3106

الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَشَارَ بِالْعَفِيفِ إِلَى مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْقُوَّةِ الْمَانِعَةِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَبِالْمُتَعَفِّفِ إِلَى إِبْرَازِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ وَاسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لِإِظْهَارِ الْعِفَّةِ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِذِ اسْتَقْرَيْتَ أَحْوَالَ الْعِبَادِ عَلَى اخْتِلَافِهَا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَيَحِقَّ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا وَهُوَ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ) إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَتِهِمْ (الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَا رَأْيَ وَلَا عَقْلَ كَامِلًا يَعْقِلُهُ، وَيَمْنَعُهُ عَنِ ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ وَرَدَ:«الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ، وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» ، وَفِي الْقَامُوسِ: الزَّبْرُ الْعَقْلُ وَالْكَمَالُ وَالصَّبْرُ وَالِانْتِهَارُ وَالْمَنْعُ وَالنَّهْيُ. اهـ. وَلِكُلٍّ وَجْهٌ فِي الْمَعْنَى.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَيْ: لَا عَقْلَ لَهُ، وَفِي الْغَرِيبَيْنِ يُقَالُ: مَا لَهُ زَبْرٌ أَيْ عَقْلٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْمَعْنَى لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَرَى الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ يُفَسَّرَ بِالتَّمَاسُكِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ لَا زَبْرَ لَهُ أَيْ: لَا تَمَاسُكَ لَهُ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَمَاسُكَ لَهُ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّهَوَاتِ، فَلَا يَرْتَدِعُ عَنْ فَاحِشَةٍ وَلَا يَتَوَرَّعُ عَنْ حَرَامٍ. قُلْتُ: التَّمَاسُكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ وَحَاصِلٌ بِالصَّبْرِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا.

وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّ الشَّيْخَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: (الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ) قِسْمٌ آخَرُ مِنَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ يَعْنِي بِهِ الْخُدَّامَ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِالشُّبُهَاتِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْقَاضِي ; حَيْثُ قَالَ: الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ يُرِيدُ بِهِ الْخُدَّامَ الَّذِينَ لَا مَطْمَحَ لَهُمْ وَلَا مَطْمَعَ إِلَّا مَا يَمْلَأُونَ بِهِ بُطُونَهُمْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَا تَتَخَطَّى هِمَمُهُمْ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ. أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّعِيفَ وَصْفٌ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ تَارَةً بِالْمُفْرَدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ أُخْرَى بِالْجَمْعِ، أَوِ الْمَوْصُولُ الثَّانِي بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِعَدَمِ الْعَاطِفِ كَمَا فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَلَيْهِ كَلَامُ الْأَشْرَفِ ; حَيْثُ قَالَ: الَّذِي فِي قَوْلِ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ بِمَعْنَى الَّذِينَ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ الَّذِي جَوَّزَ جَعْلَ قَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ. اهـ كَلَامُهُ. وَعَلَى هَذَا لَا يَتَوَجَّهُ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيَتَعَيَّنُ تَقْسِيمُ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ. أَحَدُهَا: الضَّعِيفُ، وَثَانِيهَا: الْخَائِنُ، وَثَالِثُهَا: رَجُلٌ، وَرَابِعُهَا: الْبَخِيلُ، وَخَامِسُهَا: الشِّنْظِيرُ. تَمَّ كَلَامُ الطِّيبِيِّ.

وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَالْقَاضِي مَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِهِ قِسْمًا آخَرَ، وَهُمَا أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يُخَالِفَا النَّصَّ عَلَى الْخَمْسِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ الْعَاطِفِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمَشْهُورَةِ، وَلَا دَلَالَةَ لِتَفْسِيرَيْهِمَا عَلَى مَا تَوَهَّمَ الْفَاضِلُ، إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصْفِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، بَلِ الثَّانِي مُمَيِّزٌ لِلْأَوَّلِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ هُوَ جِنْسُ الضَّعِيفِ فِي أَمْرِ دِينِهِ النَّاقِصُونَ فِي عُقُولِهِمُ الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعٌ (لَا يَبْغُونَ أَهْلًا) أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ زَوْجَةً وَلَا سُرِّيَّةً، فَأَعْرَضُوا عَنِ الْحَلَالِ وَارْتَكَبُوا الْحَرَامَ (وَلَا مَالًا) أَيْ: وَلَا يَطْلُبُونَ مَالًا حَلَالًا مِنْ طَرِيقِ الْكَدِّ وَالْكَسْبِ الطَّيِّبِ، فَقِيلَ: هُمُ الْخَدَمُ الَّذِينَ يَكْتَفُونَ بِالشُّبَهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي سَهُلَ عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا عَمَّا أُبِيحَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَاعِيَةٌ إِلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ يَدُورُونَ حَوْلَ الْأُمَرَاءِ وَيَخْدِمُونَهُمْ، وَلَا يُبَالُونَ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَأْكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ، لَيْسَ لَهُمْ مَيْلٌ إِلَى أَهْلٍ وَلَا إِلَى مَالٍ، بَلْ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، ثُمَّ الْإِشْكَالُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عَلَى مَعْنَى لَا زَبْرَ لَهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهُ قِسْمًا آخَرَ أَوْ لَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَوْلُهُ: تَبَعٌ هُوَ الْأَصْلُ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ جَمْعُ تَابِعٍ كَخَدَمٍ جَمْعُ خَادِمٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: تَبَعٌ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ مَرْفُوعٌ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ أَوْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ الظَّرْفُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُهُمْ، وَفِي بَعْضِهَا مَنْصُوبٌ كَمَا فِي الْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ. اهـ. وَقَوْلُهُ: لَا يَبْغُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَسْكِينِ الْمُوَحَّدَةِ وَضَمِّ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَسُكُونِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا يُتْبِعُونَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ يُخَفَّفُ وَيُشَدَّدُ مِنَ الِاتِّبَاعِ

ص: 3107

وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَبْغُونَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ) مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ قَالَ الْقَاضِي أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُطْمَعَ فِيهِ (وَإِنْ دَقَّ) بِحَيْثُ لَا يَكَادُ أَنْ يُدْرَكَ (إِلَّا خَانَهُ) أَيْ: إِلَّا وَهُوَ يَسْعَى فِي التَّفَحُّصِ عَنْهُ، وَالتَّطَلُّعِ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَهُ فَيَخُونُهُ، وَهَذَا هُوَ الْإِغْرَاقُ فِي الْوَصْفِ بِالْخِيَانَةِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ إِغْرَاقٌ فِي وَصْفِ الطَّمَعِ، وَالْخِيَانَةُ تَابِعَةٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عَنِ الطَّمَعِ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى الْخِيَانَةِ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: الطَّمَعُ فَسَادُ الدِّينِ وَالْوَرَعُ صَلَاحُهُ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ (خَفِيًّا) مِنَ الْأَضْدَادِ وَالْمَعْنَى لَا يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ يَطْمَعُ فِيهِ إِلَّا خَانَهُ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا. قُلْتُ: لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمَعْنَى الْأَسْبَقَ أَبْلَغُ وَأَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ دَقَّ، فَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَوْلَى وَأَحَقُّ، وَإِنْ كَانَ تَعْدِيَةُ (خَفِيَ) بِاللَّامِ فِي مَعْنَى الْإِظْهَارِ أَظْهَرُ، فَإِنَّهُ يُقَالُ خَفِيَ لَهُ أَيْ: ظَهَرَ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ أَيِ: اسْتَتَرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، لَكِنْ فِي الْقَامُوسِ خَفَاهُ يَخْفِيهِ: أَظْهَرَهُ وَخَفِيَ كَرَضِيَ لَمْ يَظْهَرْ، اهـ

فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ فِي فَتْحِ الْفَاءِ فِي لَا يَخْفَى إِلَّا إِنْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِكَسْرِهَا كَمَا لَا يَخْفَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ) أَيْ: بِسَبَبِهِمَا فَعَنْ بِمَعْنَى الْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ، عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36]، أَيْ: حَمَلَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَى الزَّلَّةِ بِسَبَبِهَا (وَذَكَرَ) أَيْ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنْ كَانَ الشَّكُّ الْآتِي مِنَ الصَّحَابِيِّ، أَوْ ذِكْرُ عِيَاضٍ إِنْ كَانَ مِنَ التَّابِعِيِّ وَهَلُمَّ جَرًّا (الْبُخْلَ) أَيْ: فِي الْقِسْمِ الرَّابِعِ (أَوِ الْكَذِبَ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيِ: الْبَخِيلُ وَالْكَذَّابُ أَقَامَ الْمَصْدَرَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ نَسِيَ أَلْفَاظًا ذَكَرَهَا صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ الْبَخِيلِ أَوِ الْكَذَّابِ، فَعَبَّرَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَإِلَّا كَانَ يَقُولُ: وَالْبَخِيلُ أَوِ الْكَذَّابُ. قُلْتُ: الْمَعْنَى كَمَا قَالَ الشَّيْخُ، سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ صِفَةٌ أُخْرَى لَهُمَا أَمْ لَا. هَذَا وَرُوِيَ بِالْوَاوِ وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يُجْعَلَ اثْنَيْنِ مِنَ الْخَمْسَةِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ:(وَالشِّنْظِيرَ) مَنْصُوبًا عَطْفًا عَلَى الْكَذِبِ تَتِمَّةً لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَا وَاحِدًا فَيَكُونُ الشِّنْظِيرُ مَرْفُوعًا. كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ، لَكِنْ قَوْلُهُ: تَتِمَّةً لَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْمَفْهُومَ مِنَ الْوَاوِ، وَهُوَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ وَاقِعٌ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الشِّنْظِيرُ عَطْفَ تَفْسِيرٍ لِلْكَذِبِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّبَايُنِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى " أَوْ " كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ الْمُعْتَمَدَةُ وَالنُّسَخُ الصَّحِيحَةُ، ثُمَّ الشِّنْظِيرُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَالظَّاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نُونٌ سَاكِنَةٌ السَّيِّئُ الْخُلُقِ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى التَّصْحِيحِ كَمَا سَبَقَ. قَوْلُهُ:(الْفَاحِشُ) نَعْتٌ لَهُ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى لَهُ أَيِ: الْمُكْثِرُ لِلْفُحْشِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَعَ سُوءِ خُلُقِهِ فَحَّاشٌ فِي كَلَامِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلَازُمِ الْغَالِبِيِّ، هَذَا وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ: أَوِ الْكَذِبَ بِأَوْ وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي نُسَخِ بِلَادِنَا، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رِوَايَتُنَا عَنْ جَمِيعِ شُيُوخِنَا بِالْوَاوِ إِلَّا ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الطَّبَرِيِّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ، وَبِهِ تَكُونُ الْمَذْكُورَاتُ خَمْسَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَالشِّنْظِيرُ مَرْفُوعٌ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى رَجُلٍ كَمَا سَبَقَ، وَعَلَى تَأْوِيلِ الْوَاوِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا مِنْ تَتِمَّةِ الْكَذِبِ أَوِ الْبُخْلِ أَوِ الْبَخِيلُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ الْفَحَّاشُ أَوِ الْكَذَّابُ السَّيِّئُ الْخُلُقِ الْفَحَّاشُ. اهـ. وَمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ التَّحْقِيقُ وَإِنْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ أَرْبَابِ التَّدْقِيقَ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3108

4961 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4961 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ) أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا (حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ) أَيِ: الْمُسْلِمِ (مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) أَيْ: مِثْلَ جَمِيعِ مَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: لَا يُؤْمِنُ الْإِيمَانَ التَّامَّ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الْإِيمَانِ يَحْصُلُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمُرَادُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مِنَ الْخَيْرِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا قَدْ يُعَدُّ مِنَ الصَّعْبِ الْمُمْتَنِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ مَعْنَاهُ لَا يَكْمُلُ إِيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَالْقِيَامُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُحِبَّ لَهُ حُصُولَ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ لَا يُزَاحِمُهُ فِيهَا، وَذَلِكَ سَهْلٌ عَلَى الْقَلْبِ السَّلِيمِ. اهـ.

ص: 3108

وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُتَّحِدُونَ بِحَسَبِ الْأَرْوَاحِ مُتَعَدِّدُونَ مِنْ حَيْثُ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ كَنُورٍ وَاحِدٍ فِي مَظَاهِرَ مُخْتَلِفَةٍ، أَوْ كَنَفْسِ وَاحِدَةٍ فِي أَبْدَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، بِحَيْثُ لَوْ تَأَلَّمَ الْوَاحِدُ تَأَثَّرَ الْجَمِيعُ، كَمَا لَوَّحَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» "، وَكَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ أَنَّهُ أَحَسَّ بِالْبُرُودَةِ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَغَطَّوْهُ فَجَاءَهُ مُرِيدٌ لَهُ وَقَعَ فِي مَاءٍ بَارِدٍ فِي شِتَاءٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ الشَّيْخُ: أَدْفِئُوهُ، فَلَمَّا دَفِئَ الْمُرِيدُ قَامَ الشَّيْخُ مُسْتَدْفِئًا، وَنَظِيرُهُ أَنَّ لَيْلَى افْتُصِدَتْ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ يَدِ الْعَامِرِيِّ، فَأَنْشَدَ:

أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا

نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا

لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ رُوحٌ وَاحِدٌ تَعَلَّقَ بِهَا بَدَنَانِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْأَبْدَانِ الْمُكْتَسَبَةِ الْوَاقِعَةِ لِلسَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُوهِمٌ لِلْحُلُولِ، ثُمَّ بَلْ لَوْ تَمَكَّنُوا فِيهِ صَحَّ ذَلِكَ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ ضَرَبَ عَبْدُهُ حِمَارًا، فَتَأَلَّمَ الشَّيْخُ بِحَيْثُ رُؤِيَ أَلَمُ الضَّرْبِ فِي عُضْوِهِ الَّذِي بِإِزَاءِ الْعُضْوِ الْمَضْرُوبِ لِلْحِمَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مِنْ أَثَرِ نُورِ الْهِدَايَةِ شَرْعًا وَطَرِيقَةً، وَمِنْ أَثَرِ نُورِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ نُورُ التَّوْحِيدِ مِنْ عَكْسِ نُورِ الْفَرْدَانِيَّةِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ فَأَرْوَاحُهُمُ اتَّحَدَتْ بِذَلِكَ النُّورِ الْمُقْتَضِي لِلْأُلْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِنْ حَزِنَ وَاحِدٌ حَزِنُوا، وَإِنْ فَرِحَ وَاحِدٌ فَرِحُوا، وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِ بِالرُّوحِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَ تَجَلِّي الرُّوحِ الْأَعْظَمِ عَنْ تَفْرِقَةِ الطَّبِيعَةِ وَتَتَّحِدُ الْأَرْوَاحُ، وَهُنَاكَ مَقَامٌ أَعْلَى يُقَالُ لَهُ: جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَ تَجَلِّي الْحَقِّ لَهُ عَنْ تَفْرِقَةِ الْغَيْرِ رُوحَانِيًّا وَنَفْسَانِيًّا مَلَكِيًّا وَمَلَكُوتِيًّا، فَلَا يُرَى غَيْرُ اللَّهِ لِاخْتِفَاءِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فِي نُورِ التَّوْحِيدِ، كَاخْتِفَاءِ النُّجُومِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، وَهَذَا رَشْحُهُ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مَعْنًى، فَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ وَفِي نُسْخَةٍ عَبْدٌ، وَفِي أُخْرَى أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ، أَوْ قَالَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، فَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ لَفْظَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَفْظًا هُوَ:«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، كَمَا رَوَاهُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ. وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَكَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالثَّلَاثَةُ.

ص: 3109

4962 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ". قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: " الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4962 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ) قَسَمٌ خَبَرُهُ (لَا يُؤْمِنُ) أَيْ: إِيمَانًا كَامِلًا أَوْ إِيمَانًا مُطَابِقًا لِمَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ (وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ) كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ وَهُوَ بِلَا عَاطِفَةٍ لِلتَّأْكِيدِ (قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) جَمْعُ بَائِقَةٍ بِالْهَمْزِ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ أَيْ: غَوَائِلَهُ وَشُرُورَهُ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ هُوَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] ، (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3109

4963 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4963 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مَعَ النَّاجِينَ (مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ) وَفِيهِ مُبَالَغَةٌ ; حَيْثُ جَعَلَ عَدَمَ الْأَمْنِ مِنْ وُقُوعِ الضَّرَرِ سَبَبًا لِنَفْيِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَكَيْفَ إِذَا تَحَقَّقَ لُحُوقُ الضَّرَرِ وَالشَّرِّ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3109

4964 -

وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَازَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4964 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا زَالَ جِبْرِيلُ) تَقَدَّمَ فِيهِ أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ (يُوصِينِي بِالْجَارِ) أَيْ: يَأْمُرُنِي بِحِفْظِ حَقِّهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ (حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ) أَيْ: جِبْرِيلُ (سَيُوَرِّثُهُ) أَيِ: الْجَارَ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَرِثَ أَبَاهُ وَمِنْهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَرِثُهُ كَيَعِدُهُ وَأَوْرَثَهُ جَعَلَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ أَيْ: سَيُشْرِكُهُ جِبْرِيلُ فِي الْمِيرَاثِ، كَمَا قَالَ شَارِحٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْكُمُ بِمِيرَاثِ أَحَدِ الْجَارَيْنِ مِنَ الْآخَرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِمَا، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحْدَهَا، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ:" «مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَرِّثُهُ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالْمَمْلُوكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا أَوْ وَقْتًا إِذَا بَلَغَهُ عَتَقَ» ".

ص: 3110

4965 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْزُنَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4965 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً) أَيْ: فِي الْمُصَاحَبَةِ سَفَرًا أَوْ حَضَرًا (فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ) أَيْ: لَا يَتَكَلَّمَا بِالسِّرِّ (دُونَ الْآخَرِ) أَيْ: مُجَازَيْنِ عَنْهُ غَيْرَ مُشَارِكَيْنِ لَهُ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ أَنَّ نَجْوَاهُمَا لِشَرٍّ مُتَعَلِّقٍ بِهِ (حَتَّى تَخْتَلِطُوا) أَيْ: جَمِيعُكُمْ (بِالنَّاسِ) وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ النَّهْيَ مَحَلُّهُ أَنْ يَكُونُوا فِي مَوْضِعٍ لَا يَأْمَنُ الْوَاحِدُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ (مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْزُنَهُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ ثَالِثِهِ، وَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَالْأُولَى أَشْهَرُ وَعَلَيْهَا الْأَكْثَرُ، وَأَمَّا مَا ضُبِطَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالزَّايِ فَخَطَأٌ ; لِأَنَّهُ لَازِمٌ وَهُنَا الْفِعْلُ مُتَعَدٍّ وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ لِلتَّنَاجِي وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ لِلْآخَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلنَّهْيِ أَيْ: لَا تَنَاجَوْا لِئَلَّا يَحْزَنَ صَاحِبُكَ، وَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَصْدُرَ مِنْكُمْ تَنَاجٍ هُوَ سَبَبٌ لِلْحُزْنِ، فَعُلِمَ أَنَّ هُنَاكَ تَنَاجِيًا غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ لِرِوَايَةِ: فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ.

قَالَ الْخَطَابِيُّ: وَإِنَّمَا يُحْزِنُهُ ذَلِكَ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ نَجْوَاهُمَا لِتَبْيِيتِ رَأَيٍ فِيهِ أَوْ دَسِيسِ غَائِلَةٍ لَهُ، أَوِ الْأَحْزَانُ لِأَجْلِ الِاخْتِصَاصِ بِالْكَرَامَةِ وَهُوَ يُحْزِنُ صَاحِبَهُ. قُلْتُ: وَيَرُدُّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلُهُ حَتَّى يَخْتَلِطُوا، وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذَا فِي السَّفَرِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْمَنُ الرَّجُلُ فِيهِ صَاحِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَمَّا فِي الْحَضَرِ وَبَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْعِمَارَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيلَ قُيِّدَ بِالثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً فَتَنَاجَى اثْنَانِ فَلَا بَأْسَ. وَقَالَ شَارِحٌ: إِنْ تَنَاجَى اثْنَانِ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ فَلَا بَأْسَ ; لِأَنَّهُ لَا يَظُنُّ الثَّالِثُ أَنَّهُمَا يَذْكُرَانِ مِنْهُ قَبِيحًا. قُلْتُ: وَلَوْ ظَنَّهُ أَيْضًا لَا يُبَالِي ; حَيْثُ إِنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالنَّاسِ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: قَدْ صَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّا كُنَّا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُ يَوْمًا فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ، فَلَمَّا رَآهَا رَحَّبَ، ثُمَّ سَارَّهَا» ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسَارَّةَ فِي الْجَمْعِ حَيْثُ لَا رِيبَةَ جَائِزَةٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا النَّهْيُ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ، وَكَذَا ثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرَ بِحَضْرَةِ وَاحِدٍ هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فَيَحْرُمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُنَاجَاةُ دُونَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَمَالِكٍ وَأَصْحَابِنَا وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ حَضَرًا وَسَفَرًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ:" «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى رَجُلَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْزُنُهُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

ص: 3110

4966 -

وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الدِّينُ النَّصِيحَةُ " ثَلَاثًا. قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: " لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4966 -

(وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ) : مَنْسُوبٌ إِلَى جَدٍّ لَهُ اسْمُهُ دَارٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَرْوِيَّاتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا وَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِلَّا هَذَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيُّ كَانَ نَصْرَانِيًّا أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ، وَرُبَّمَا رَدَّدَ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ كُلَّهَا إِلَى الصَّبَاحِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ نَامَ لَيْلَةً وَلَمْ يَقُمْ لِلتَّهَجُّدِ فِيهَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَقَامَ سَنَةً لَمْ يَنَمْ فِيهَا عُقُوبَةً لِلَّذِي صَنَعَ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْرَجَ السِّرَاجَ فِي الْمَسْجِدِ، رَوَى عَنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قِصَّةَ

ص: 3110

الدَّجَّالِ وَالْجَسَّاسَةِ وَعَنْهُ أَيْضًا جَمَاعَةٌ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الدِّينُ) أَيْ: أَعْمَالُهُ وَأَفْضَلُ أَعْمَالِهِ أَوِ الْأَمْرُ الْمُهِمُّ فِي الدِّينِ (النَّصِيحَةُ) : وَهِيَ تَحَرِّي قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فِيهِ صَلَاحٌ لِصَاحِبِهِ، أَوْ تَحَرِّي إِخْلَاصِ الْوُدِّ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَهُوَ لَفْظٌ جَامِعٌ لِمَعَانٍ شَتَّى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَجِيزَةٍ يُحْصِيهَا وَيَجْمَعُ مَعْنَاهَا غَيْرُهَا، كَمَا قَالُوا فِي الْفَلَاحِ لَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ كُلِّهِ أَجْمَعُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهُ، فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» " يُرِيدُ عِمَادَ الدِّينِ وَقِوَامَهُ، إِنَّمَا هُوَ النَّصِيحَةُ وَبِهَا ثَبَاتُهُ، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» " وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ» " فَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ أَحَدُ أَرْبَاعِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا عَلَى مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ مَدَارُ الْإِسْلَامِ كَمَا سَيَأْتِي، فَالْحَصْرُ حَقِيقِيٌّ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ نَصَحْتُ الْعَسَلَ: إِذَا صَفَّيْتَهُ مِنَ الشَّمْعِ، شَبَّهُوا تَخْلِيصَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مِنَ الْغِشِّ بِتَخْلِيصِ الْعَسَلِ مِنَ الشَّمْعِ (ثَلَاثًا) أَيْ: ذَكَرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ بِهَا وَالِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهَا، وَلَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْأَرْبَعِينَ لِلنَّوَوِيِّ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتِ النَّصِيحَةُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ اسْتُفْصِلَتْ، فَقَالَ الرَّاوِي:(قُلْنَا) أَيْ: مَعْشَرُ الصَّحَابَةِ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ (لِمَنْ؟) أَيِ: النَّصِيحَةُ لِمَنْ؟ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: (لِلَّهِ) أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَصِحَّةِ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وَتَرْكِ الْإِلْحَادِ فِي صِفَاتِهِ وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ، وَبَذْلِ الطَّاقَةِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَالِاعْتِرَافِ بِنِعْمَتِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَيْهَا، وَمُوَالَاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعَبْدِ فِي نَصِيحَةِ نَفْسِهِ لِلَّهِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ كُلِّ نَاصِحٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ، وَخُلَاصَتُهُ أَنَّ النَّصِيحَةَ لِلَّهِ هِيَ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِهِ وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: هِيَ الْإِيمَانُ بِوُجُودِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَرَاءَ التَّحَيُّزَاتِ مَوْجُودًا خَالِقًا وَبِصِفَاتِهِ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ، وَبِأَفْعَالِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ الْمُسَمَّى بِالْعَالَمِ، فَإِنَّمَا حَدَثَ بِقُدْرَتِهِ، وَهُوَ مِنَ الْعَرْشِ إِلَى الثَّرَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ أَقَلُّ مِنْ خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْعَالَمِ، وَبِأَحْكَامِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِغَرَضٍ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِهَا مَنَافِعُ عَائِدَةٌ إِلَى الْعَبْدِ، وَأَنَّ لَهُ الْحُكْمَ كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنْ أَثَابَ فَبِفَضْلِهِ وَإِنَّ عَذَّبَ فَبِعَدْلِهِ. وَأَسْمَائِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، ثُمَّ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَالْحُبِّ لَهُ وَالْبُغْضِ فِيهِ (وَلِكِتَابِهِ) أَيْ: وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَوَحْيُهُ وَتَنْزِيلُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَإِقَامَةُ حُرُوفِهِ فِي التِّلَاوَةِ، وَالتَّصْدِيقُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي عَجَائِبِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُحْكَمِهِ، وَالتَّسْلِيمُ بِمُتَشَابِهِهِ ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ.

وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يُكْرِمَهُ وَيَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي الذَّبِّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَابْتِهَالِ الْمُبْطِلِينَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُدَقِّقِينَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ، أَوْ جِنْسِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، إِذِ الْجِنْسُ الْمُضَافُ يُفِيدُ الْعُمُومَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ. عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْمِفْتَاحِ صَرَّحَ بِأَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ لِتَنَاوُلِهِ وُحْدَانَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْكُتُبِ، لَكِنْ حَقَّقَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ يَشْمَلُ كُلَّ فَرْدٍ مِثْلُ الْمُفْرَدِ. قُلْتُ: وَلَوْ سَلِمَ، فَلَيْسَ شُمُولُ الْجَمْعِ مِثْلَ شُمُولِ الْمُفْرَدِ، ثُمَّ وُقُوعُ الْكِتَابِ فِي جَوَابِ (مَنْ) عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ (وَلِرَسُولِهِ) بِالتَّصْدِيقِ لِنُبُوَّتِهِ وَقَبُولِ مَا جَاءَ بِهِ وَدَعَا إِلَيْهِ، وَبَذْلِ الطَّاعَةِ لَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَالِانْقِيَادِ لَهُ وَإِيثَارِهِ بِالْمَحَبَّةِ فَوْقَ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَالْمُرَادُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَوِ الْجِنْسُ لِيَشْمَلَ الْمَلَكَ أَيْضًا إِذْ هُمْ رُسُلٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1]، وَقَالَ:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] ، (وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) بِأَنْ يَنْقَادَ لِطَاعَتِهِمْ فِي الْحَقِّ، وَلَا يَخْرُجَ عَلَيْهِمْ إِذَا جَارُوا، وَيُذَكِّرَهُمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ، وَيُعْلِمَهُمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤَلِّفَ قُلُوبَ النَّاسِ لِطَاعَتِهِمْ، وَمِنَ النَّصِيحَةِ لَهُمْ: الصَّلَاةُ خَلْفَهُمْ وَالْجِهَادُ مَعَهُمْ وَأَدَاءُ الصَّدَقَاتِ إِلَيْهِمْ، وَأَنْ لَا يُغْرِيَهُمْ بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ، هَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَئِمَّةِ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُومُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلَايَةِ، وَمُجْمَلُ مَعْنَى الْإِمَامِ مَنْ لَهُ خِلَافَةُ الرَّسُولِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ

ص: 3111

بِحَيْثُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى الْكُلِّ، وَقَدْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ، وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتِهِمْ قَبُولَ مَا رَوَوْهُ، وَتَقْلِيدَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِحْسَانَ الظَّنِّ بِهِمْ (وَعَامَّتِهِمْ) أَيْ: وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ تَرْكِ إِعَادَةِ الْعَامِلِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى حَطِّ مَرْتَبَتِهِمْ بِسَبَبِ تَبَعِيَّتِهِمْ لِلْخَوَاصِّ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْمُولَاتِ مُسْتَقِلٌّ فِي قَصْدِ النَّصِيحَةِ، ثُمَّ نَصِيحَةُ الْعَامَّةِ بِإِرْشَادِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَتَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَيْهِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَسَتْرِ عَوْرَاتِهِمْ، وَسَدِّ خَلَّاتِهِمْ، وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ، وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ، وَأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ بِرِفْقٍ، وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَرَحْمِ صَغِيرِهِمْ، وَتَخَوُّلِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَتَرْكِ غِيبَتِهِمْ وَحَسَدِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، وَمُجْمَلُهُ أَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَيَكْرَهَ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الشَّرِّ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَجُمَّاعُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ النَّصِيحَةَ هِيَ خُلُوصُ الْمَحَبَّةِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ وَالتَّحَرِّي فِيمَا يَسْتَدْعِيهِ حَقُّهُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُدْخِلَ فِيهِ نَفْسَهُ بِأَنْ يَنْصَحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى طَرِيقَتِهَا مُتَدَارِكَةً لِلْفُرُطَاتِ مَاحِيَةً لِلسَّيِّئَاتِ، وَيَجْعَلَ قَلْبَهُ مَحَلًّا لِلنَّظَرِ وَالْفِكْرِ، وَرُوحَهُ مُسْتَقَرًّا لِلْمَحَبَّةِ، وَسِرَّهُ مَنَصًّا لِلْمُشَاهَدَةِ، وَعَلَى هَذَا أَعْمَالُ كُلِّ عُضْوٍ مِنَ الْعَيْنِ بِأَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى النَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ النَّازِلَةِ، وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، وَاللِّسَانِ عَلَى النُّطْقِ بِالْحَقِّ وَتَحَرِّي الصِّدْقِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَثَنَائِهِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ صَدْرَ الْحَدِيثِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُهُ:«الدِّينُ النَّصِيحَةُ» ، عَنْ ثَوْبَانَ وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ أَحَدُ أَرْبَاعِ الْإِسْلَامِ أَيِ: الْأَحَادِيثِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَجْمَعُ أُمُورَ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا، بَلِ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ أَنَّ النَّصِيحَةَ تُسَمَّى دِينًا وَإِسْلَامًا وَأَنَّ الدِّينَ يَقَعُ عَلَى الْعَمَلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْقَوْلِ، وَقَالُوا: النَّصِيحَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَالنَّصِيحَةُ لَازِمَةٌ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ إِذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ نَصِيحَتُهُ وَيُطَاعُ أَمْرُهُ، وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَكْرُوهَ، وَإِنْ خَشِيَ أَذًى فَهُوَ فِي سِعَةٍ وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.

ص: 3112

4967 -

وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4967 -

(وَعَنْ جَرِيرٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ وَهُوَ الْبَجَلِيُّ (قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ) أَيْ: إِقَامَتِهَا وَإِدَامَتِهَا وَحَذْفُ تَاءِ الْإِقَامَةِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لِلْإِطَالَةِ (وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) أَيْ: إِعْطَائِهَا وَتَمْلِيكِهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لِكَوْنِهِمَا أُمَّيِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَهُمَا أَهَمُّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَإِظْهَارِهَا. اهـ. لَا يُقَالُ لَعَلَّ غَيْرَهُمَا مِنَ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَبَقَ فِي تَرْجَمَتِهِ ; وَلِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَمَنْ أَقَامَ عَلَى مُحَافَظَةِ الصَّلَوَاتِ وَمُدَاوَمَتِهَا، فَبِالْأَوْلَى أَنْ يُقِيمَ بِالصَّوْمِ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَهْلِ الزَّمَانِ، وَالْحَجِّ مُرَكَّبٌ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، فَمَنْ قَامَ بِهِمَا قَامَ بِهِ، لَا سِيَّمَا وَمَحَلُّهُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ لَهَا أَوْقَاتًا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ (وَالنُّصْحِ) بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيْ: وَبِالنَّصِيحَةِ (لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أَيْ: مِنْ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ. قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِيَ «أَنَّ جَرِيرًا رضي الله عنه اشْتُرِيَ لَهُ فَرَسٌ بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَالَ جَرِيرٌ لِصَاحِبِ الْفَرَسِ: فَرَسُكَ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَتَبِيعُهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ؟ قَالَ: ذَلِكَ إِلَيْكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَرَسُكَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ أَتَبِيعُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ؟ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَزِيدُهُ مِائَةً مِائَةً حَتَّى بَلَغَ ثَمَانِمِائَةٍ، فَاشْتَرَاهُ بِهَا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3112