المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

4882 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ]

- ‌[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الضِّيَافَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

- ‌[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ]

- ‌[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي]

- ‌[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ الْخَاتَمِ]

- ‌[بَابُ النِّعَالِ]

- ‌[بَابُ التَّرَجُّلِ]

- ‌[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

- ‌[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]

- ‌[بَابُ الْكِهَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

- ‌[كِتَابُ الْآدَابِ] [

- ‌بَابُ السَّلَامِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِيَامِ]

- ‌[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

- ‌[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ]

- ‌[بَابُ الضَّحِكِ]

- ‌[بَابُ الْأَسَامِي]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

- ‌[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ]

- ‌[بَابُ الْوَعْدِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَاحِ]

- ‌[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الفصل: 4882 - «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه

4882 -

«وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟ " قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذِبَةٌ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

4882 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيٌّ، خَالُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِهِ فَتَفَلَ عَلَيْهِ وَعَوَّذَهُ، وَرَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا وَلَا حَفِظَ عَنْهُ، وَمَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْبَصْرَةَ وَخُرَاسَانَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا أَفْضَى الْأَمْرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ رَدَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَ سَخِيًّا كَرِيمًا كَثِيرَ الْمَنَاقِبِ، وَهُوَ افْتَتَحَ خُرَاسَانَ، وَقُتِلَ كِسْرَى فِي وِلَايَتِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ افْتَتَحَ أَطْرَافَ فَارِسَ، وَعَامَّةَ خُرَاسَانَ وَأَصْفَهَانَ وَكِرْمَانَ وَحُلْوَانَ، وَهُوَ الَّذِي شَقَّ نَهْرَ الْبَصْرَةِ. (قَالَ: دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا) أَيْ: نَادَتْنِي وَطَلَبَتْنِي وَأَنَا صَغِيرٌ ( «وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا» ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (فَقَالَتْ: هَا) : لِلتَّنْبِيهِ أَوِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى خُذْ، فَقَوْلُهَا:(تَعَالَ) : بِفَتْحِ اللَّامِ بِلَا أَلِفٍ تَأْكِيدٌ (أُعْطِيكَ) أَيْ: أَنَا، فَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبْرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ (أُعْطِكَ) بِغَيْرِ يَاءٍ، عَلَى أَنَّهُ مَجْزُومٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ بِالْجَزْمِ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَفِي بَعْضِهَا بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَشُعَبِ الْإِيمَانِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} [مريم: 5] بِالرَّفْعِ. اهـ. وَفِي الْآيَةِ الْوَجْهَانِ مُتَوَاتِرَانِ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْيَاءَ حَصَلَ مِنَ الْإِشْبَاعِ، فَلَا يُنَافِي الْجَزْمَ عَلَى أَنَّ إِثْبَاتَ الْيَاءِ فِي الْمَجْزُومِ لُغَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ. ( «فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا أَرَدْتِ» ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ نَوَيْتِ (أَنْ تُعْطِيهِ؟) : بِسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ ; لِأَنَّ الصِّيغَةَ لِلْمُخَاطَبَةِ وَعَلَامَةُ نَصْبِهَا حَذَفُ النُّونِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَبَعْضِ النُّسَخِ هَيَا بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَهُوَ مِنْ زَلَّةِ الْقَلَمِ أَوْ زَلِقَةِ الْقَدَمِ. ( «قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ» ) أَيْ: وَاحِدًا أَوْ شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: فَقَالَ لَهَا: " «مَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟ " قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَهُ تَمْرًا» . لَيْسَ فِي الْمَصَابِيحِ، فَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنَ النُّسَّاخِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ لِلتَّنْبِيهِ ( «إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ» ) : بِالْيَاءِ، فَإِنَّهَا ضَمِيرُ الْكَلِمَةِ لَا لَامُهَا، أَيْ: لَوْ لَمْ تَنْوِي بِإِعْطَائِهِ ( «شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ» ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ أَيْ: مَرَّةً مِنَ الْكَذِبِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ عَلَى زَعْمِ صَاحِبِهِ مِنْ ضَبْطِهِ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ مِنْ نَقْلِ اللُّغَةِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ كَلَامِ ابْنِ الْمَلَكِ ; حَيْثُ قَالَ بِفَتْحِ الْكَافِ ثُمَّ السُّكُونُ، وَبِفَتْحِهَا مَعَ كَسْرِ الذَّالِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الْفَتْحَ مَعَ كَسْرِ الذَّالِ لَمْ يُوجَدْ مَعَ التَّاءِ لُغَةً، وَقَدْ نَصَّ النَّوَوِيُّ أَنَّ الذَّالَ سَاكِنَةٌ فِيهِمَا، فَكَلَامُ ابْنِ الْمَلَكِ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 3060

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4883 -

عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ وَعَدَ رَجُلًا فَلَمْ يَأْتِ أَحَدُهُمَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذَهَبَ الَّذِي جَاءَ لِيُصَلِّيَ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4883 -

(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ وَعَدَ رَجُلًا» ) أَيْ: مَثَلًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الرَّجُلَ وَعَدَهُ أَيْضًا فِي مَكَانٍ وَزَمَانٍ مُعَيَّنَيْنِ ( «فَلَمْ يَأْتِ أَحَدُهُمَا إِلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ» ) أَيْ: قِيَامِهَا، وَقَدْ أَتَى الْآخَرُ ( «وَذَهَبَ الَّذِي جَاءَ لِيُصَلِّيَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ) أَيْ: عَلَى الْجَائِي لِوَعْدِهِ، وَالذَّاهِبِ لِصَلَاتِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِحُضُورِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الدِّينِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِذَا ذَهَبَ لِضَرُورَاتِ أَمْرِ الْبَدَنِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ وَنَحْوِهَا (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

ص: 3060

[بَابُ الْمُزَاحِ]

ص: 3060

(12)

بَابُ الْمُزَاحِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4884 -

«عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ " كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(12)

بَابُ الْمُزَاحِ

بِضَمِّ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ. قَالَ شَارِحٌ: الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ اسْمُ الْمِزَاحِ بِالْكَسْرِ، وَقِيلَ بِالضَّمِّ اسْمٌ مِنْ مَزَحَ يَمْزَحُ، وَبِالْكَسْرِ مَصْدَرُ مَازَحَ، وَفِي الْقَامُوسِ: مَزَحَ كَمَنَعَ مَزْحًا وَمُزَاحَةً وَمُزَاحًا: دَعَبَ، وَمَازَحَهُ مُمَازَحَةً وَمِزَاحًا - بِالْكَسْرِ - وَتَمَازُحًا. ثُمَّ الْمِزَاحُ انْبِسَاطٌ مَعَ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ، فَإِنْ بَلَغَ الْإِيذَاءَ يَكُونُ سُخْرِيَّةً، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:«لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ» ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، فَقَدْ رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبُخَارِيِّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُسْتَقِيمٌ، وَلَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ - فَقَدْ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مَقْرُونًا، وَكَانَ عَالِمًا ذَا صَلَاةٍ وَصِيَامٍ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَالْحَدِيثُ لَهُ تَتِمَّةٌ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهَى: لَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفْهُ، وَالْحَدِيثُ سَيَأْتِي فِي أَصْلِ الْكِتَابِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُزَاحَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ إِفْرَاطٌ وَيُدَاوَمُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الضَّحِكَ وَقَسْوَةَ الْقَلْبِ، وَيَشْغَلُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِ الدِّينِ، وَيَؤُولُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَى الْإِيذَاءِ، وَيُورِثُ الْأَحْقَادَ، وَيُسْقِطُ الْمَهَابَةَ وَالْوَقَارَ، فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَهُوَ الْمُبَاحُ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ عَلَى النُّدْرَةِ لِمَصْلَحَةِ تَطْيِيبِ نَفْسِ الْمُخَاطَبِ وَمُؤَانَسَتِهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ، فَاعْلَمْ هَذَا، فَإِنَّهُ مِمَّا يَعْظُمُ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهِ. اهـ.

وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مُزَاحًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -. قُلْتُ: يُلَائِمُهُ مِنْ حَيْثُ أَنَّ غَيْرَهُ مَا كَانَ يَتَمَالَكُ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلَهُ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ تَرْكُ الْمُزَاحِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ أَوْلَى، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ: " إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» . وَالْمَعْنَى لَا يُقَالُ الْمُلُوكُ بِالْحَدَّادِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ غَيْرَهُ صلى الله عليه وسلم دَاخِلٌ تَحْتَ نَهْيِهِ، إِلَّا إِذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا فِي الِاسْتِقَامَةِ عَلَى حَدِّهِ وَعَدَمِ الْعُدُولِ عَنْ جَادَّتِهِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4884 -

(عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنْ) : مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ، أَيْ: أَنَّهُ ( «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيُخَالِطُنَا» ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَتُسَمَّى لَامَ الْفَارِقَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ لِلشَّمَائِلِ لَيُخَاطِبُنَا، وَالْمَعْنَى: لَيُخَالِطُنَا غَايَةَ الْمُخَالَطَةِ، وَيُعَاشِرُنَا غَايَةَ الْمُعَاشَرَةِ، وَيُجَالِسُنَا وَيُمَازِحُنَا. (حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي) أَيْ: مِنْ أُمِّي وَأَبُوهُ أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ (صَغِيرٍ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ وَاسْمُهُ كَبْشَةُ (مَا فَعَلَ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ، أَيْ: مَا صَنَعَ (النُّغَيْرُ؟) : بِضَمٍّ فَفَتَحٍ، تَصْغِيرُ نُغَرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، طَائِرٌ يُشْبِهُ الْعُصْفُورَ أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ، وَقِيلَ: هُوَ الْعُصْفُورُ، وَقِيلَ: هُوَ الصَّعْوُ صَغِيرُ الْمِنْقَارِ أَحْمَرُ الرَّأْسِ، وَقِيلَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَهُ الْبُلْبُلَ، وَالْمَعْنَى: مَا جَرَى لَهُ حَيْثُ لَمْ أَرَهُ مَعَكَ، وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُ عَلَى فَقْدِهِ بِمَوْتِهِ، بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ ( «كَانَ لَهُ نُغَيْرٌ يَلْعَبُ بِهِ فَمَاتَ» ) أَيِ: النُّغَيْرُ، وَحَزَنَ الْوَلَدُ لِفَقْدِهِ عَلَى عَادَةِ الصِّغَارِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: (حَتَّى) غَايَةُ قَوْلِهِ: (يُخَالِطُنَا) وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَنَسٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، أَيْ: انْتَهَتْ مُخَالَطَتُهُ لِأَهْلِنَا كُلِّهِمْ حَتَّى الصَّبِيُّ، وَحَتَّى الْمُلَاعَبَةُ مَعَهُ، وَحَتَّى السُّؤَالُ عَنْ فِعْلِ النُّغَيْرِ. وَفِي مُسْلِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَدْخُلُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِ إِلَّا أُمَّ سُلَيْمٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَأُمُّ سُلَيْمٍ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفِعْلُ التَّأْثِيرُ مِنْ جِهَةٍ مُؤَثِّرَةٍ، وَالْعَمَلُ كُلُّ فِعْلٍ يَكُونُ مِنَ الْحَيَوَانِ بِقَصْدٍ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يَقَعُ مِنْهَا بِغَيْرِ قَصْدٍ، وَقَدْ يُنْسَبُ إِلَى الْجَمَادَاتِ. اهـ كَلَامُهُ. فَالْمَعْنَى: مَا حَالُهُ وَشَأْنُهُ؟ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَلَوْ رُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ وَتَنْبِيهٌ نَبِيهٌ، وَصَارَ الْمَعْنَى: مَا فُعِلَ بِهِ؟ .

ص: 3061

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: أَنَّ صَيْدَ الْمَدِينَةِ مُبَاحٌ بِخِلَافِ صَيْدِ مَكَّةَ. قُلْتُ: لَوْ ثَبَتَ هَذَا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمَدِينَةَ لَهَا حَرَمٌ أَمْ لَا. لَكِنْ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ نَصٌّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ صِيدَ مِنْ خَارِجِهَا وَأُدْخِلَ فِيهَا. وَحِينَئِذٍ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ الصَّيْدَ لَوْ أُخِذَ خَارِجَ مَكَّةَ، ثُمَّ أُدْخِلَ فِي الْحَرَمِ وَذُبِحَ كَانَ حَلَالًا

عِنْدَهُمْ، فَكَذَا هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطَى الصَّبِيُّ الطَّيْرَ لِيَلْعَبَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَذِّبَهُ. قُلْتُ: هَذَا فَرْعٌ آخَرُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ، إِذْ لَوْ ثَبَتَ حَرَمِيَّةُ الْمَدِينَةِ لَوَجَبَ إِرْسَالُ الصَّيْدِ إِنْ أُخِذَ مِنْهَا، وَكَذَا عِنْدَنَا بَعْدَ دُخُولِهِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ. قَالَ: وَإِبَاحَةُ تَصْغِيرِ الْأَسْمَاءِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اللُّطْفِ وَالشَّفَقَةِ، لَا سِيَّمَا وَفِيهِ مُرَاعَاةُ السَّجْعِ، وَهُوَ مُبَاحُ الْكَلَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِالتَّكَلُّفِ. قَالَ: وَإِبَاحَةُ الدُّعَابَةِ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا؟ قُلْتُ: بَلِ اسْتِحْبَابُهُ إِذَا كَانَ تَطْيِيبًا وَمُطَايَبَةً. قَالَ: وَجَوَازُ تَكَنِّي الصَّبِيِّ وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْكَذِبِ. قُلْتُ: لِأَنَّهُ قُصِدَ بِهِ التَّفَاؤُلُ. قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْكَبِيرِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَهِيَ أَنْ يَجُوزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَيْتٍ فِيهِ امْرَأَةٌ أَجْنَبِيَّةٌ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْفِتْنَةَ. قُلْتُ: فِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ جَوَازَ الْخَلْوَةِ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَهُوَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا، فَهُوَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا شُبْهَةَ فِي جَوَازِهِ، حَتَّى مَعَ عَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ أَيْضًا، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا. وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْخَلْوَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَكَانَ جَوَازُهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ صلى الله عليه وسلم، مَعَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا مَعَ أَنَّهُ أَبٌ لِلْأُمَّةٍ وَلَيْسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ وَلِيًّا، فَإِنَّ الْحِفْظَ مَرْتَبَةٌ دُونَ الْعِصْمَةِ، وَلِذَا لَمَّا سُئِلَ الْجُنَيْدُ: أَيَزْنِي الْعَارِفُ؟ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَإِنَّمَا أَطَلْتُ هَذَا الْمَبْحَثَ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْضُ الزَّنَادِقَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْمُبَاحِيَّةِ، مَعَ أَنَّا لَا نَشُكُّ فِي جَلَالَةِ الشَّيْخِ قُدِّسَ سِرُّهُ ; حَيْثُ أَثَّرَ نَظَرُهُ فِي الْكَلْبِ. قَالَ: وَأَنْ يَجُوزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا هُوَ عَالِمٌ بِهِ تَعْجُّبًا مِنْهُ. قُلْتُ: هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقَدُّمِ عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِ النُّغَيْرِ، لِاحْتِمَالِ صُدُورِ هَذَا الْقَوْلِ بِمُجَرَّدِ فَقْدِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ حُصُولِ مَوْتِهِ. قَالَ: وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ رِعَايَةَ الضُّعَفَاءِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِمَالَةُ قُلُوبِ الصِّغَارِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قُلُوبِهِمْ. قُلْتُ كَيْفَ لَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِ الْكَرِيمِ فِي كَلَامِهِ الْقَدِيمِ:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] . . . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3062

الْفَصْلُ الثَّانِي

4885 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ: " إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

4885 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،) أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا) مِنَ الدُّعَابَةِ أَيْ: تُمَازِحُنَا، وَكَأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوهُ مِنْهُ، فَلِذَلِكَ أَكَّدُوا الْكَلَامَ بِأَنْ وَبِاللَّامِ أَيْضًا عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ: لَتُدَاعِبُنَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَنْشَأَ سُؤَالِهِمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُمْ عَنِ الْمُزَاحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (قَالَ: إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا) أَيْ: عَدْلًا وَصِدْقًا، وَلَا كُلَّ أَحَدٍ مِنْكُمْ قَادِرٌ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِيكُمْ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3062

4886 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ، فَقَالَ: مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ إِلَّا النُّوقُ؟» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

4886 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا) : قِيلَ: وَكَانَ بِهِ بَلَهٌ ( «اسْتَحْمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -) أَيْ: سَأَلَهُ الْحِمْلَانَ، وَالْمَعْنَى: طَلَبَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى دَابَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَمُولَةً يَرْكَبُهَا ( «فَقَالَ: إِنِّي حَامِلُكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» ) : قَالَهُ مُبَاسِطًا لَهُ بِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ شِفَاءً لِبَلَهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (فَقَالَ) أَيْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمَا فِي الشَّمَائِلِ ( «مَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟» ) : حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الصَّغِيرِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلرُّكُوبِ.

ص: 3062

( «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَلِدُ الْإِبِلُ» ) أَيْ: جِنْسُهَا مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ (إِلَّا النُّوقُ؟) : بِضَمِّ النُّونِ جَمْعُ النَّاقَةِ، وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَوْ تَدَبَّرْتَ لَمْ تَقُلْ ذَلِكَ، فَفِيهِ مَعَ الْمُبَاسَطَةِ لَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى إِرْشَادِهِ وَإِرْشَادِ غَيْرِهِ، بِأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلَهُ، وَلَا يُبَادِرَ إِلَى رَدِّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُدْرِكَ غَوْرَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3063

4887 -

وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: " يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

4887 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا ذَا الْأُذُنَيْنِ» ) : مَعْنَاهُ الْحَضُّ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى حُسْنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا يُقَالُ لَهُ ; لِأَنَّ السَّمْعَ بِحَاسَّةِ الْأُذُنِ، وَمَنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْأُذُنَيْنِ وَغَفَلَ وَلَمْ يُحْسِنِ الْوَعْيَ لَمْ يُعْذَرْ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ مُدَاعَبَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَطِيفِ أَخْلَاقِهِ. قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَمِدَهُ عَلَى ذَكَائِهِ وَفِطْنَتِهِ وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِانْبِسَاطِ إِلَيْهِ وَالْمُزَاحِ مَعَهُ. قُلْتُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يُجْعَلَ قَوْلَانِ فِي مَعْنَاهُ، فَإِنَّ مَزْحَهُ الصُّورِيَّ اللَّفْظِيَّ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مَزْحِ حَقِّهِ الْمَعْنَوِيِّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي أُذُنِهِ نَوْعُ طُولٍ أَوْ قِصَرٌ أَوْ قُصُورٌ، فَأَشَارَ بِذَلِكَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ) .

ص: 3063

4888 -

وَعَنْهُ، «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِامْرَأَةٍ عَجُوزٍ:" إِنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ ". فَقَالَتْ: وَمَا لَهُنَّ؟ وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ لَهَا:" أَمَا تَقْرَئِينَ الْقُرْآنَ؟ {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35 - 36] » ، رَوَاهُ رَزِينٌ. وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ ".

ــ

4888 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ( «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِامْرَأَةٍ عَجُوزٍ» ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَأَمَّا الْعُجُوزُ بِالضَّمِّ فَهُوَ الضَّعْفُ، وَفِي الْقَامُوسِ: وَلَا تَقُلْ عَجُوزَةً، أَوْ هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قِيلَ: هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَيَأْتِي أَنَّهَا غَيْرُهَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (إِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ ( «لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ قَالَتْ: وَمَا لَهُنَّ؟» ) أَيْ: وَأَيُّ مَانِعٍ لِلْعَجَائِزِ مِنْ دُخُولِهَا وَهُنَّ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ أَيِ: الدَّاخِلَاتُ فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. ( «وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ» ) أَيْ: وَلِذَا سَأَلَتْهُ مُسْتَغْرِبَةً لِمَعْنَى كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم ( «فَقَالَ لَهَا: أَمَا تَقْرَئِينَ الْقُرْآنَ؟» ) أَيْ: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35]، الضَّمِيرُ لِمَا عَلَيْهِ سِيَاقُ السِّبَاقِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ: فُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ، وَالْمُرَادُ النِّسَاءُ، أَيْ: أَعَدْنَا إِنْشَاءَهُنَّ إِنْشَاءً خَاصًّا، وَخَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 36] ، أَيْ: عَذَارَى، كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا. وَفِي الْحَدِيثِ:«هُنَّ اللَّوَاتِي قُبِضْنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَجَائِزَ خَلَقَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ، فَجَعَلَهُنَّ عَذَارَى مُتَعَشِّقَاتِ عَلَى مِيلَادٍ وَاحِدٍ أَفْضَلَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، كَفَضْلِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ، وَمَنْ يَكُونُ لَهَا أَزْوَاجٌ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا» . الْحَدِيثُ فِي الطَّبَرَانِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ مُطَوَّلًا (رَوَاهُ رَزِينٌ) أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمِشْكَاةِ.

(وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: لِلْبَغَوِيِّ بِإِسْنَادِهِ (بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ) : وَهُوَ: رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَجُوزٍ: " «إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعُجُزُ» " بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ عَجُوزٍ ذَكَرَهُ شَارِحٌ، فَوَلَّتْ تَبْكِي. قَالَ:" «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35 - 36] » ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا قَالَ: «أَتَتْ عَجُوزٌ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. فَقَالَ: " يَا أُمَّ فُلَانٍ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تَدْخُلُهَا عَجُوزٌ ". قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي. فَقَالَ: " أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35 - 36] » . وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37]، وَالْعُرُبُ: بِضَمَّتَيْنِ وَيُسَكَّنُ الثَّانِي جَمْعُ عَرُوبٍ، كَرُسُلٍ وَرَسُولٍ، أَيْ: عَوَاشِقُ وَمُتَحَبِّبَاتُ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، وَقِيلَ: الْعَرُوبُ الْمَلِقَةُ ; وَالْمَلَقُ الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّدِ، وَمِنْهُ التَّمَلُّقُ. وَقِيلَ: الْغَنِجَةُ، وَالْغَنَجُ فِي الْجَارِيَةِ تَكَسُّرٌ وَتَدَلُّلٌ، وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ الْكَلَامِ. وَالْأَتْرَابُ: الْمُسْتَوِيَاتُ فِي السِّنِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا بَنَاتُ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ كَأَزْوَاجِهِنَّ عَلَى مَا فِي الْمَدَارِكِ، وَهَذَا أَكْمَلُ أَسْنَانِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.

ص: 3063

وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَسَنٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:«دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا عَجُوزٌ فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ؟ " قَالَتْ: هِيَ عَجُوزٌ مِنْ أَخْوَالِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ الْعُجُزَ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ "، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنْشِئُهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ خَالِدٍ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ:«أَنَّ عَجُوزًا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَتْهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ لَهَا، وَمَازَحَهَا: " إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ "، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلَاةِ، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، حَتَّى رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ تَبْكِي لِمَا قُلْتَ لَهَا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَضَحِكَ وَقَالَ: " أَجَلْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً - فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا - عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35 - 37] ، وَهُنَّ الْعَجَائِزُ الرُّمْصُ» . قَالَ مِيرَكُ: هُوَ جَمْعُ الرَّمْصَاءَ، وَالرَّمَصُ وَسَخُ الْعَيْنِ يَجْتَمِعُ فِي الْمُوقِ، هَذَا وَجَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَ {أَنْشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة: 35] لِلْحُورِ الْعِينِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ السِّيَاقِ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى: خَلَقْنَاهُنَّ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ وِلَادَةٍ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ ثُمَّ رَبَّيْنَاهُنَّ حَتَّى وَصَلْنَ لِحَدِّ التَّمَتُّعِ، وَيُحْتَمَلُ - وَهُوَ الظَّاهِرُ - أَنَّهُنَّ خُلِقْنَ ابْتِدَاءً كَامِلَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَدْرِيجٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَالسِّنِّ، لَكِنَّ وَجْهَ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى هَذَا، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ الضَّمِيرُ إِلَى نِسَاءِ الْجَنَّةِ بِأَجْمَعِهِنَّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ أَنْشَأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا آخَرَ يُنَاسِبُ الْكَمَالَ وَالْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ الْخُلُقِ وَتَوَفُّرَ الْقُوَى الْبَدَنِيَّةِ وَانْتِفَاءَ صِفَاتِ النَّقْصِ عَنْهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 3064

4889 -

وَعَنْهُ، «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ، وَكَانَ يُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَادِيَةِ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ ". وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ، وَكَانَ دَمِيمًا، فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لَا يُبْصِرُهُ. قَالَ: أَرْسِلْنِي، مَنْ هَذَا؟ فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ لَا يَأْلُو مَا أَلْزَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ عَرَفَهُ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

4889 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ) : فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّهُ كَانَ حِجَازِيًّا يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَشْجَعِيٌّ شَهِدَ بَدْرًا. (كَانَ اسْمُهُ زَاهِرَ بْنَ حَرَامٍ) أَيْ: ضِدُّ حَلَالٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (وَكَانَ يُهْدِي) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: لِأَجْلِهِ أَوْ إِلَيْهِ وَفِي الشَّمَائِلِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً (مِنَ الْبَادِيَةِ) أَيْ: حَاصِلَةٌ مِمَّا يُوجَدُ فِي الْبَادِيَةِ مِنَ الثِّمَارِ وَالنَّبَاتِ وَالرَّيَاحِينِ وَالْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا. (فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ، بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى مَا فِي الشَّمَائِلِ، أَيْ: يُعِدُّ لَهُ وَيُهَيِّئُ لَهُ أَسْبَابَهُ، وَيُعَوِّضُهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْبَادِيَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبُلْدَانِ (إِذَا أَرَادَ) أَيْ: زَاهِرٌ (أَنْ يَخْرُجَ) أَيْ: مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَادِيَةِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا) أَيْ: سَاكِنُ بَادِيَتِنَا أَوْ صَاحِبُهَا أَوْ أَهْلُهَا، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: بَادِينَا مِنْ غَيْرِ تَاءٍ، وَالْبَادِي الْمُقِيمُ بِالْبَادِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي} [الحج: 25]، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى أَظْهَرُ مِنَ الْأَوَّلِ (وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ) : مِنَ الْحُضُورِ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى. قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّا نَسْتَفِيدُ مِنْهُ مَا يَسْتَفِيدُ الرَّجُلُ مِنْ بَادِيَتِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتَاتِ، وَنَحْنُ نُعِدُّ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْبَلَدِ. اهـ. وَصَارَ الْمَعْنَى كَأَنَّهُ بَادِيَتُهُ، وَقِيلَ: تَاؤُهُ لِلْمُبَالَغَةِ، وَقِيلَ: مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحِلِّ عَلَى الْحَالِ. (وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّهُ) أَيْ: حُبًّا شَدِيدًا (وَكَانَ) : مَعَ حُسْنِ سِيرَتِهِ (رَجُلًا دَمِيمًا) ، بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، أَيْ: قَبِيحَ الْمَنْظَرِ كَرِيهَ الصُّورَةِ (فَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) : بِالرَّفْعِ، أَيْ: فَجَاءَهُ أَوْ مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (يَوْمًا وَهُوَ) أَيْ: زَاهِرٌ (يَبِيعُ مَتَاعَهُ) أَيْ: فِي سُوقٍ أَوْ فَضَاءٍ (فَاحْتَضَنَهُ) : وَفِي الشَّمَائِلِ بِالْوَاوِ، أَيْ: أَخَذَهُ مِنْ حِضْنِهِ وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبْطِ إِلَى الْكَشْحِ (مِنْ خَلْفِهِ) أَيْ: مِنْ جِهَةِ وَرَائِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ عَانَقَهُ مِنْ خَلْفِهِ بِأَنْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ تَحْتَ إِبْطَيْ زَاهِرٍ، وَأَخَذَ عَيْنَيْهِ بِيَدَيْهِ لِئَلَّا يَعْرِفَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ عَقِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ عَيْنَيْهِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ. (وَهُوَ لَا يُبْصِرُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَفِي الشَّمَائِلِ وَلَا يُبْصِرُ، وَفِي نُسْخَةٍ: وَلَا يُبْصِرُهُ (فَقَالَ: أَرْسِلْنِي) أَيْ: أَطْلِقْنِي (مَنْ هَذَا؟) أَيِ: الْمُعَانِقُ، وَفِي الشَّمَائِلِ مَنْ هَذَا أَرْسِلْنِي

ص: 3064

(فَالْتَفَتَ) أَيْ: زَاهِرٌ، فَرَآهُ بِطَرَفِ عَيْنِهِ (فَعَرَفَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ) أَيْ: شَرَعَ وَطَفِقَ (لَا يَأْلُو) : بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَضَمِّ اللَّامِ، أَيْ: لَا يَقْصُرُ (مَا أَلْزَقَ ظَهْرَهُ) : وَفِي الشَّمَائِلِ مَا أَلْصَقَ بِالصَّادِ، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ مَنْصُوبَةُ الْمَحَلِّ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ: فِي إِلْزَاقِ ظَهْرِهِ (بِصَدْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: تَبْرُّكًا (حِينَ عَرَفَهُ) : قِيلَ: ذَكَرَهُ ثَانِيًا اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْإِلْزَاقِ لَيْسَ إِلَّا مَعْرِفَتَهُ (وَجَعَلَ) ، بِالْوَاوِ، وَفِي الشَّمَائِلِ فَجَعَلَ ( «النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟» ) : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: هَذَا الْعَبْدُ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهِ عَبْدًا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الِاشْتِرَاءِ الَّذِي يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مُقَابَلَةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ تَارَةً، وَعَلَى الِاسْتِبْدَالِ أُخْرَى، أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ يُقَابِلُ هَذَا الْعَبْدَ بِالْإِكْرَامِ، أَوْ مَنْ يَسْتَبْدِلُهُ مِنِّي بِأَنْ يَأْتِيَنِي بِمِثْلِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ، وَالْمَعْنَى مَنْ يَأْخُذُ هَذَا الْعَبْدَ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، أَيْ: إِنْ بِعْتَنِي أَوْ عَرَضْتَنِي لِلْبَيْعِ أَوِ الْأَخْذِ إِذًا ( «وَاللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا» ) أَيْ: رَخِيصًا أَوْ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ: إِذًا تَجِدُنِي وَاللَّهِ كَاسِدًا، بِتَأْخِيرِ كَلِمَةِ الْقَسَمِ عَنِ الْفِعْلِ، أَيْ: مَتَاعًا كَاسِدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمَامَةِ، وَتَجِدُّ بِالرَّفْعِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالنَّصْبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ نَحْوَ: إِذًا وَاللَّهِ نَرْمِيهِمْ بِحَرْبِ

وَلَعَلَّ وَجْهَ الرَّفْعِ هُوَ أَنْ يُرَادَ بِالْفِعْلِ مَعْنَى الْحَالِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّمَائِلِ تَجِدُونِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفٍ. قُلْتُ: صِيغَةُ الْجَمْعِ قَدْ تَأْتِي لِلتَّعْظِيمِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ لَهُ أَوْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ ( «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ» ) : تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ وَعَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ، وَفِي الشَّمَائِلِ: أَوْ قَالَ: أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ، وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ "، وَفِي نُسْخَةٍ: لَكِنْ عِنْدَ اللَّهِ غَالٍ، وَفِيهِ زِيَادَةُ مَنْقَبَةٍ لَا تَخْفَى. (رَوَاهُ) أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ. هَذَا وَنَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَى أَبُو يَعْلَى «أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُهْدِي إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الْعَكَّةَ مِنَ السَّمْنِ أَوِ الْعَسَلِ، فَإِذَا طُولِبَ بِالثَّمَنِ جَاءَ بِصَاحِبِهِ فَيَقُولُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِهِ مَتَاعَهُ، أَيْ: ثَمَنَهُ، فَمَا يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَتَبَسَّمَ وَيَأْمُرَ بِهِ فَيُعْطَى» . وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ طَرْفَةً إِلَّا اشْتَرَى، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا هَدِيَّةٌ لَكَ، فَإِذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهُ بِثَمَنِهِ جَاءَ بِهِ فَقَالَ: أَعْطِ هَذَا الثَّمَنَ، فَيَقُولُ: أَلَمْ تُهْدِهِ لِي؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي، فَيَضْحَكُ وَيَأْمُرُ لِصَاحِبِهِ بِثَمَنِهِ» . قُلْتُ: فَكَأَنَّهُ رضي الله عنه مِنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كُلَّمَا رَأَى طُرْفَةً أَعْجَبَتْ نَفْسَهُ اشْتَرَاهَا وَآثَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِهَا وَأَهْدَاهَا إِلَيْهِ عَلَى نِيَّةِ أَدَاءِ ثَمَنِهَا إِذَا حَصَلَ لَدَيْهِ، فَلَمَّا عَجَزَ وَصَارَ كَالْمُكَاتِبِ، رَجَعَ إِلَى مَوْلَاهُ وَأَبْدَى لَهُ صَنِيعَ مَا أَوْلَاهُ، فَإِنَّ الْمُكَاتِبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، فَتَرْجِعُ الْمُطَالَبَةُ إِلَى سَيِّدِهِ، فَلَعَلَّهُ هَذَا حَقٌّ مَمْزُوجٌ بِمِزَاجِ صِدْقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3065

4890 -

«وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ: " ادْخُلْ " فَقُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " كُلُّكَ "، فَدَخَلْتُ. قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ: إِنَّمَا قَالَ: أَدْخُلُ كُلِّي مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4890 -

(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ، وَكَانَ مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ. (قَالَ:«أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي قُبَّةٍ» ) أَيْ: خَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ (مِنْ أَدَمٍ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: جِلْدٌ (فَسَلَّمْتُ) أَيْ: سَلَامُ الِاسْتِئْذَانِ أَوْ سَلَامُ الْمُلْقَاةِ (فَرَدَّ عَلَيَّ) أَيِ: السَّلَامَ ( «وَقَالَ: " ادْخُلْ " فَقُلْتُ: أَكُلِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كُلُّكَ» ) : بِالرَّفْعِ وَيُنْصَبُ قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ، وَالتَّقْدِيرُ أَيَدْخُلُ كُلِّي؟

ص: 3065

فَقَالَ: " كُلُّكَ يَدْخُلُ "، أَوْ أَدْخُلُ كُلِّي؟ فَقَالَ:" ادْخُلْ كُلَّكَ ". (فَدَخَلْتُ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ) : أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ (إِنَّمَا قَالَ: أَدْخُلُ كُلِّي) : بِمُتَكَلِّمٍ ثُلَاثِيٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْمَزِيدِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَضْمُومُ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَى الْفَتْحِ فَوَجْهُهُ أَنْ يُحْمَلَ كُلِّي عَلَى أَنَّهُ تَأْكِيدٌ وَهُوَ بَعِيدٌ. (مِنْ صِغَرِ الْقُبَّةِ) : وَيُمْكِنُ مِنْ كِبَرِ عَوْفِ لَا سِيَّمَا مَعَ صِغَرِهَا، أَوْ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ مُزَاحِ أَصْحَابِهِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم وَطْءٌ لِبِسَاطِ الْأَدَبِ عِنْدَ انْبِسَاطِ الْحُبِّ وَتَرْكُ التَّكَلُّفِ فِي مَقَامِ الْقُرْبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3066

4891 -

وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: «اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا وَقَالَ: لَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْجُزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: " كَيْفَ رَأَيْتِنِي أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ ". قَالَتْ: فَمَكَثَ أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا: أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " قَدْ فَعَلْنَا، قَدْ فَعَلْنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4891 -

(وَعَنِ النُّعْمَانِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (ابْنِ بَشِيرٍ) : قِيلَ: مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ ثَمَانِي سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ. ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةٌ فِي تَرْجَمَتِهِ. (قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعَ) أَيْ: أَبُو بَكْرٍ (صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ) أَيْ: بَعْدَ الْإِذْنِ (تَنَاوَلَهَا) أَيْ: أَخَذَهَا (لِيَلْطِمَهَا) : بِكَسْرِ الطَّاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا مِنَ اللَّطْمِ وَهُوَ ضَرْبُ الْخَدِّ وَصَفْحَةِ الْجَسَدِ بِالْكَفِّ مَفْتُوحَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ. (وَقَالَ: لَا أَرَاكِ) أَيْ: بَعْدَ هَذَا، وَهُوَ نَفْيٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ مِنْ قَبِيلِ: لَا أَرَيْنَكِ هَهُنَا، أَوْ عَلَى لُغَةِ إِثْبَاتِ حَرْفِ الْعِلَّةِ مَعَ الْجَازِمِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَزَرِيِّ:

أَلَا قُولُوا لِشَخْصٍ قَدْ تَقْوَّى

عَلَى ضَعْفِي وَلَمْ يَخْشَ رَقِيبَهُ

وَقَوْلِ غَيْرِهِ:

أَلَمْ يَأْتِيكَ وَالْأَنْبَاءُ تَنْمِي

وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ رِوَايَةُ قُنْبُلٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف: 90]، ( «تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -) : الْجُمْلَةُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَرَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَا أَرَاكِ دُعَاءً، وَهَمْزَةُ الْإِنْكَارِ مُقَدَّرَةٌ عَلَى قَوْلِهِ تَرْفَعِينَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: لَا تَتَعَرَّضِي لِمَا يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ صَوْتِكِ، فَالنَّهْيُ وَارِدٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَلِفُ فِي لَا أَرَاكِ لِلْإِشْبَاعِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ عَلَى النَّفْيِ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ النَّهْيِ، أَيْ: لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرَاكِ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ ( «فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحْجُزُهُ» ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَالزَّايِ، أَيْ: يَمْنَعُ أَبَا بَكْرٍ مِنْ لَطْمِهَا وَضَرْبِهَا. (وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا) : بِفَتْحِ الضَّادِ، أَيْ: غَضْبَانَ عَلَيْهَا ( «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي» ) أَيْ: أَبْصَرْتِنِي أَوْ عَرَفْتِنِي (أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ) أَيْ: خَلَّصْتُكِ مِنْ ضَرْبِهِ وَلَطْمِهِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ مِنْ أَبِيكِ، فَعَدَلَ إِلَى الرَّجُلِ أَيْ: مِنَ الرَّجُلِ الْكَامِلِ فِي الرُّجُولِيَّةِ حِينَ غَضِبَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. (قُلْتُ: فَمَكُثَ) : قِيلَ: هَكَذَا وُجِدَ فِي أَصْلِ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّعْمَانَ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عَائِشَةَ. قُلْتُ: فَيَكُونُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ إِجْمَاعًا، ثُمَّ هُوَ بِضَمِّ الْكَافِ وَيُفْتَحُ، أَيْ: فَلَبِثَ (أَبُو بَكْرٍ أَيَّامًا) أَيْ: لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا عِنْدَهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَهَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهَا فَمَكُثَ أَبُو بَكْرٍ بَدَلُ أَبِي لِمَا حَدَثَ فِي سَجِيَّتِهَا مِنْ غَضَبِهِ عَلَيْهَا، فَجَعَلَتْهُ كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ، إِذْ فِي الْأُبُوَّةِ اسْتِعْطَافٌ. قُلْتُ: هَذَا يَبْعُدُ مِنْهَا كُلَّ الْبُعْدِ مَعَ كَمَالِ عَقْلِهَا وَفَهْمِهَا وَأَدَبِهَا وَعِلْمِهَا بِمَرْتَبَةِ النُّبُوَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَأَنْ يَكُونَ غَضَبُ أَبِيهَا فِي بَاطِنِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ بِمُجَرَّدِ قَصْدِهِ أَنْ يَلْطِمَهَا، أَوْ مَعَ تَحَقُّقِ لَطْمِهَا رِعَايَةً لِأَجْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَأْدِيبًا لَهَا، وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُهُ كَثِيرًا فِي الصَّحَابَةِ أَنْ يَذْكُرُوا آبَاءَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَهَذَا مِنْ عَدَمِ تَكَلُّفَاتِهِمْ.

ص: 3066