المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[كتاب الطب والرقى] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ]

- ‌[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الضِّيَافَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

- ‌[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ]

- ‌[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي]

- ‌[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ الْخَاتَمِ]

- ‌[بَابُ النِّعَالِ]

- ‌[بَابُ التَّرَجُّلِ]

- ‌[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

- ‌[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]

- ‌[بَابُ الْكِهَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

- ‌[كِتَابُ الْآدَابِ] [

- ‌بَابُ السَّلَامِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِيَامِ]

- ‌[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

- ‌[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ]

- ‌[بَابُ الضَّحِكِ]

- ‌[بَابُ الْأَسَامِي]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

- ‌[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ]

- ‌[بَابُ الْوَعْدِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَاحِ]

- ‌[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الفصل: ‌[كتاب الطب والرقى]

لَعِبَ، كَسَمِعَ، لَعْبًا وَلَعِبًا وَلِعْبًا ضِدُّ جَدٍّ. (فَقَالَ: هِيَ) : أَيْ مُلَاعَبَتُهُ أَوْ هَذِهِ اللُّعْبَةُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: أَنْتَ الرَّاجِعُ إِلَى الشِّطْرَنْجِ بِاعْتِبَارِ التَّمَاثِيلِ (مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا يُحِبُّ اللَّهُ الْبَاطِلَ) : وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ شَهَادَةِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَنْ أَدْمَنَهَا فَمَا أَرَى شَهَادَتَهُمْ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الضَّلَالِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ؟ فَقَالَ: أَمِنَ الْحَقِّ هِي؟ قِيلَ: لَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] اهـ.

وَبِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَبِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: الْكُوبَةُ هِيَ الشِّطْرَنْجُ، وَبِكَوْنِهِ دَاخِلًا فِي الْمَيْسِرِ حَقِيقَةً أَوْ صُورَةً وَبِتَعَدُّدِ الطُّرُقِ الْحَدِيثِيَّةِ مِنْهَا مَا سَبَقَ، وَمِنْهَا مَا فِي الدُّرِّ أَيْضًا. أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَيْسِرُ كِعَابُ فَارِسٍ وَقِدَاحُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْقِمَارُ كُلُّهُ أَيْ حَقِيقَةً أَوْ حَكَمًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْمَيْسِرُ الْقِمَارُ كُلُّهُ حَتَّى الْجَوْزِ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَسَدِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:( «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي يُزْجَرُ بِهَا زَجْرًا فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ» ) . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْكِعَابَ الْمَوْسُومَةَ الَّتِي تُزْجَرُ زَجْرًا، فَإِنَّهَا مِنَ الْمَيْسِرِ» ". وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:" «إِيَّاكُمْ وَهَاتَيْنِ اللُّعْبَتَيْنِ الْمَوْسُومَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُزْجَرَانِ زَجْرًا، فَإِنَّهُمَا مَيْسِرُ الْعَجَمِ» ".

وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: النَّرْدُ وَالشِّطْرَنْجُ مِنَ الْمَيْسِرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: الشِّطْرَنْجُ مَيْسِرُ الْأَعَاجِمِ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي ذَمِّ الْمَلَاهِي، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ النَّرْدُ تَكْرَهُونَهَا فَمَا بَالُ الشِّطْرَنْجِ؟ قَالَ: كُلُّ مَا أَلْهَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، صَحَّ الْقَوْلُ لِأَنَّ الشِّطْرَنْجَ مَكْرُوهٌ لَعِبُهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ مِنْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ ذِكْرُ الشِّطْرَنْجِ فِي أَحَادِيثَ لَا أَعْلَمُ لِشَيْءٍ مِنْهَا إِسْنَادًا صَحِيحًا وَلَا حَسَنًا عَلَى مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْهُ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ يُورِثُ الْحَدِيثَ حُسْنًا، وَلَوْ كَانَ لِغَيْرِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ مَعَ أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَعْدُودٌ مِنَ الْمَيْسِرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ، فَاشْتِرَاطُ الْقِمَارِ فِي الشِّطْرَنْجِ دُونَ النَّرْدِ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَى الْبَيْهَقِيُّ الْأَحَادِيثَ الْأَرْبَعَةَ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 2859

4513 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَدُونَهُمْ دَارٌ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ، وَلَا تَأْتِي دَارَنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لِأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبًا. قَالُوا: إِنَّ فِي دَارِهِمْ سِنَّوْرًا. فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " السِّنَّوْرُ سَبْعٌ» ". رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

ــ

4513 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي دَارَ قَوْمٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَدُونَهُمْ) : أَيْ قَرِيبُهُمْ (دَارٍ) : أَيْ أَهْلُ دَارٍ لَمْ يَأْتِهِمْ (فَشَقَّ ذَلِكَ) : أَيْ إِتْيَانُهُ إِيَّاهُمْ (عَلَيْهِمْ) : أَيْ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ غَيْرِهِمْ وَتَرْكِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ قَرِيبٌ مِنْهُمْ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ تَأْتِي دَارَ فُلَانٍ، وَلَا تَأْتِي دَارَنَا؟) : أَيْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَوْ فَمَا التَّقْصِيرُ مِنَّا؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ الِاسْتِفْهَامُ التَّعَجُّبِيُّ. (قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِأَنَّ فِي دَارِكُمْ كَلْبٌ) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ كَلْبُ صَيْدٍ أَوْ حِرَاسَةٍ (فَقَالُوا: إِنِّ فِي دَارِهِمْ) : أَيْ دَارِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْضًا (سِنَّوْرًا) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ نُونٍ مَفْتُوحَةٍ أَيْ هِرًّا (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: السِّنَّوْرُ سَبْعٌ) : بِفَتْحٍ فَضَمَّ وَفِي الْقَامُوسِ: بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا وَسُكُونِهَا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَعَلَى الْإِخْبَارِ، وَهُوَ الْوَجْهُ أَيِ السِّنَّوْرُ سَبْعٌ، وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ كَالْكَلْبِ النَّجِسِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ سَبَبَ امْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ كَوْنُهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَةَ، وَلِأَنَّ بَعْضَهُ يُسَمَّى شَيْطَانًا وَالْمَلَائِكَةُ ضِدُّ الشَّيَاطِينِ اهـ. وَكَذَا الْأَنْبِيَاءُ عَلَى طَبْعِ الْمَلَائِكَةِ. (رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:«السِّنَّوْرُ سَبْعٌ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا:" «السِّنَّوْرُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَإِنَّهُ مِنَ الطَّوَّافِينَ أَوِ الطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» ". أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْجَوَابَ يَتِمُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مُنْضَمًّا إِلَى مَا سَبَقَ، وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، فَإِنَّ السَّبُعَ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ هُوَ الْمُفْتَرِسُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْهِرِّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّشْبِيهِ.

ص: 2859

[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

ص: 2859

كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4514 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى

الطِّبُّ: بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ مُثَلَّثُ الطَّاءِ عِلَاجُ الْأَمْرَاضِ، وَمَدَارُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءٍ: حِفْظُ الصِّحَّةِ، وَالِاحْتِمَاءُ عَنِ الْمُؤْذِي، وَاسْتِفْرَاغُ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ اهـ. وَفِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ: جَاءَ فُلَانٌ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ أَيْ يَسْتَوْصِفُ الطَّبِيبَ قَالَ:

لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُ بِهِ

إِلَّا الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا.

وَالرُّقَى بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ رُقْيَةٍ، وَهِيَ الْعُوذَةُ الَّتِي يُرْقَى بِهَا صَاحِبُ الْآفَةِ كَالْحُمَّى وَالصَّرَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، هَذَا وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: «إِنِّي أَجِدُكِ عَالِمَةً بِالطِّبِّ، فَمِنْ أَيْنَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَتْ أَسْقَامُهُ، فَكَانَتْ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَنْعَتُونَ لَهُ فَتَعَلَّمْتُ ذَلِكَ» . قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَالْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ فِي عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِالطِّبِّ لَا تُحْصَى، وَقَدْ جُمِعَ مِنْهَا دَوَاوِينُ، وَاخْتُلِفَ فِي مَبْدَأِ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ بَعْضَهُ عِلْمٌ بِالْوَحْيِ إِلَى بَعْضِ أَنْبِيَائِهِ، وَسَائِرَهُ بِالتَّجَارُبِ لِمَا رَوَىَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ كَانَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي رَأَى شَجَرَةً ثَابِتَةً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ؟ ، فَتَقُولُ: كَذَا، فَيَقُولُ: لِأَيِّ شَيْءٍ أَنْتِ؟ ، فَتَقُولُ: لِكَذَا، فَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ كُتِبَتْ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَرْسٍ غُرِسَتْ» . الْحَدِيثُ. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُصَحَّحٍ أَوْ مُمَرَّضٍ فَبِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُهُ عِنْدَهُ أَوْ بِهِ، فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَرَجَّحَ الْغَزَالِيُّ وَالسُّبْكِيُّ الثَّانِيَ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ حَدِيثَ:«سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نَسْتَرْقِيَهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا؟ قَالَ: هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ» ؟ ".

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4514 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) : أَيْ مَا أَحْدَثَ وَأَوْجَدَ (دَاءً) : أَيْ وَجَعًا وَبَلَاءً، (إِلَّا أَنْزَلَ) : أَيْ قَدَّرَ (لَهُ شِفَاءً) : أَيْ عِلَاجًا وَدَوَاءً. قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ مَا أَصَابَ اللَّهُ أَحَدًا بِدَاءٍ إِلَّا قُدِّرَ لَهُ دَوَاءٌ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ:" إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ الدَّوَاءَ ". وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ ; فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ» ". وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَفْظُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ ; فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ» " اهـ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِيبِ الْمَعَاجِينَ لِمَا فِي الْجَمْعِيَّةِ مِنْ حُصُولِ الِاعْتِدَالِ، وَفِي التَّنْزِيلِ أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، هَذَا وَرَوَى أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيْثُ خَلَقَ الدَّاءَ خَلَقَ الدَّوَاءَ فَتَدَاوَوْا» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: " «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً عَلِمَ ذَلِكَ مَنْ عَلِمَ وَجَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَ إِلَّا السَّامَ ". قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا السَّامَ؟ قَالَ: " الْمَوْتُ» ". وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطَّبِيبِ وَحَثًّا عَلَى طَلَبِ الدَّوَاءِ وَتَخْفِيفًا لِلْمَرِيضِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا اسْتَوْشَفَتْ أَنَّ لِدَائِهَا دَوَاءً يَزِيدُ قُوَى رَجَائِهَا، وَانْبَعَثَ حَارُّهَا الْغَرِيزِيُّ، فَتَقْوَى الرُّوحُ النَّفْسَانِيَّةُ وَالطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ بِقُوَّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَقْوَى الْقُوَى الْحَامِلَةُ لَهَا فَتَدْفَعُ الْمَرَضَ وَتَقْهَرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْزَالِ التَّقْدِيرُ، أَوْ إِنْزَالُ عِلْمِهِ عَلَى لِسَانِ تِلْكَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ إِلْهَامُ مَنْ يُعْتَدُّ بِإِلْهَامِهِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ كَصِدْقِ الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْخُضُوعِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ مَعَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَالتَّفْرِيجُ عَنِ الْكَرْبِ أَصْدَقُ فِعْلًا وَأَسْرَعُ نَفْعًا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْحِسِّيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ تَصْحِيحِ النِّيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ رُبَّمَا يَتَخَلَّفُ الشِّفَاءُ عَمَّنِ اسْتَعْمَلَ طِبَّ النُّبُوَّةِ لِمَانِعٍ قَامَ بِهِ مِنْ ضَعْفِ اعْتِقَادِ الشِّفَاءِ بِهِ، وَتَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي عَدَمِ نَفْعِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرِينَ، مَعَ أَنَّهُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَقَدْ طَبَّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَمَحَلُّ بَسْطِهَا الطِّبُّ النَّبَوِيُّ، وَسَائِرُ السِّيَرِ مِنْ كِتَابِ الْمَوَاهِبِ لِلْقَسْطَلَانِيِّ، وَزَادُ الْمَعَادِ لِابْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَغَيْرُهُمَا.

ص: 2860

4515 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءٌ الدَّاءَ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4515 -

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءٌ) : بِالرَّفْعِ مُنَوَّنًا (الدَّاءَ) : بِالنَّصْبِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِضَافَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءٌ دَاءً بِالتَّنْوِينِ (بَرَأَ) : بِفَتْحَتَانِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: بَرَأْتُ مِنَ الْمَرَضِ بَرْأً بِالْفَتْحِ، وَأَبْرَأَنِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمَرَضِ إِبْرَاءً وَغَيْرُ أَهْلِ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: بَرِئْتُ بِالْكَسْرِ بُرْءًا بِالضَّمِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَأَ الْمَرِيضُ يَبْرَأُ وَيَبْرُؤُ بُرْأً، بِالضَّمِّ، وَبُرُوأً، وَبَرُؤَ، كَكَرُمَ وَفَرِحَ، بِرْأً وَبُرْأً وَبُرُوأً: نَقِهَ، (بِإِذْنِ اللَّهِ) : أَيْ بِتَيْسِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الدَّوَاءَ مُسْتَقِلٌّ فِي الشِّفَاءِ، وَفَسَّرَتْهُ رِوَايَةُ الْحُمَيْدِيِّ:«مَا مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عز وجل مَلَكًا مَعَهُ شَرَابٌ وَمَعَهُ سِتْرٌ، فَجَعَلَهُ بَيْنَ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ، فَكُلَّمَا شَرِبَ الْمَرِيضُ مِنَ الدَّوَاءِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الدَّاءِ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بُرْأَهُ أَمَرَ الْمَلَكَ فَرَفَعَ السِّتْرَ، ثُمَّ يَشْرَبُ الْمَرِيضُ فَيَنْفَعُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَكَذَا أَحْمَدُ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا:" «لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ وَدَوَاءُ الذُّنُوبِ الِاسْتِغْفَارُ» "، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى اسْتِحْبَابِ الدَّوَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَعَامَّةُ الْخَلَفِ، وَإِلَى رَدِّ مَنْ أَنْكَرَ التَّدَاوِيَ فَقَالَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّدَاوِي، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ، وَأَنَّ التَّدَاوِيَ أَيْضًا مَنْ قَدَرِ اللَّهَ تَعَالَى، وَهَذَا كَالْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَبِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَمُجَانَبَةِ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، مَعَ أَنَّ الْأَجَلَ لَا يَتَأَخَّرُ وَالْمَقَادِيرَ لَا تَتَغَيَّرُ اهـ.

وَحَاصِلُهُ أَنَّ رِعَايَةَ الْأَسْبَابِ بِالتَّدَاوِي لَا تُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ وَقَمْعُ الْعَطَشِ بِالشُّرْبِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْمُحَاسَبِيُّ: يَتَدَاوَى الْمُتَوَكِّلُ اقْتِدَاءً بِسَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَأَجَابَ عَنْ خَبَرِ: مَنِ اسْتَرْقَى أَوِ اكْتَوَى بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ، كَمَا سَيَأْتِي أَيْ: مِنْ تَوَكُّلِ الْمُتَوَكِّلِينَ - السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ - فَجَعَلَ بَعْضَ التَّوَكُّلِ أَفْضُلَ مِنْ بَعْضٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُنَافِيهِ مَا قِيلَ لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى مُقْتَضَيَاتٍ بِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَتَعْطِيلُهَا يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَرْتَبَةَ الْجَمْعِ أَوْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ التَّوْحِيدِ الصِّرْفِ، فَالْأَحْسَنُ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَنَّهُ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ إِنِ اسْتَرْقَى بِمَكْرُوهٍ أَوْ عَلِمَ شِفَاءَهُ بِوُجُودِ نَحْوِ الْكَيِّ، وَغَفَلَ عَنْ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ نَاظِرَ الرَّبِّ الدَّوَاءَ مُتَوَقِّعًا مِنْ عِنْدِهِ الشِّفَاءَ قَاصِدًا صِحَّةَ بَدَنِهِ لِلْقِيَامِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ، فَتَوَكُّلُهُ بَاقٍ بِحَالِهِ اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ سَيِّدِ الْمُتَوَكِّلِينَ إِذْ عَمَلَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، هَذَا وَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْتِيفَاءَ، فَعَلَيْكَ بِكِتَابِ الْإِحْيَاءِ.

ص: 2861

4516 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ. وَأَنَا أَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

4516 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ) : أَيْ فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ (فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الْآلَةُ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا دَمُ الْحِجَامَةِ عِنْدَ الْمَصِّ، وَيُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُشْرَطُ بِهَا مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ وَالشَّرْطَةُ فَعْلَةٌ مِنْ شَرَطَ الْحَاجِمُ يَشْرُطُ إِذَا نَزَعَ، وَهُوَ الضَّرْبُ عَلَى مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ لِيَخْرُجَ الدَّمُ مِنْهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّرْطَةُ كَضَرْبَةٍ ضَرَبَ بِالشَّرْطِ عَلَى مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ فَهُوَ فَعْلَةٌ مِنَ الشَّرْطِ وَهُوَ الشَّقُّ، وَقِيلَ: الشَّرْطَةُ مَا يُشْرَطُ بِهِ، وَالْمِحْجَمُ بِكَسْرِ الْمِيمِ قَارُورَةُ الْحَجَّامِ الَّتِي يَمُصُّ بِهَا، وَالْمَحْجَمُ بِالْفَتْحِ مَوْضِعُ الْحِجَامَةِ، وَسَيَأْتِي أَحَادِيثُ فِي فَصْلِ الْحِجَامَةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا وَصِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ.

(أَوْ شَرْبَهُ عَسَلٍ) : أَيْ وَحْدَهُ أَوْ مَخْلُوطَةٌ بِمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ، فَيَكُونُ نَافِعًا لِكُلِّ مَرَضٍ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ إِطْلَاقُ الشِّفَاءِ لِعُمُومِ النَّاسِ. (أَوْ كَيَّةٌ بِنَارٍ) وَجْهُ حَصْرِ الشِّفَاءِ فِي الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَوَّلَ اسْتِفْرَاغُ خَلْطِ الدَّمِ إِذَا هَاجَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ بِإِخْرَاجِ الدَّمِ ; لِأَنَّ وَجُودَهُ أَضَرُّ مِنْ سَائِرِ الْأَخْلَاطِ، وَلِكَثْرَةِ وَجُودِهِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ، وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الِاسْتِفْرَاغِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ مِنَ الْمُسَهَّلِ، وَأَقْرَبُ دَفْعًا وَمُبَادَرَةً قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ فِي الْمَعِدَةِ، وَالثَّانِي دَفْعُ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ بِالْإِسْهَالِ، وَالثَّالِثُ الْخَلْطُ الْبَاقِي الَّذِي

ص: 2861

لَا تَنْحَسِمُ مَادَّتُهُ إِلَّا بِهِ، وَلِذَا قِيلَ: آخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ. (وَأَنَا أُنْهِي أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ) : وَلَعَلَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، فَإِنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ بِظَاهِرِهِ ; وَلِذَا خُصَّ فِي الْحَدِيثِ: مَنِ اكْتَوَى وَاسْتَرْقَى فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تَدَاوٍ، بَلْ قَالَ:" «تَدَاوُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» " عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شُرَيْكٍ. وَجَاءَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الْكَيِّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ عِمْرَانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ سَعْدٍ الظُّفُرِيِّ بِضَمٍّ، نَعَمْ إِذَا كَانَ الْكَيُّ مُتَعَيَّنًا فِي ذَلِكَ الدَّاءِ خَرَجَ عَنْ مَوْضِعِ الْكَرَاهَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَأَيْتُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ صَرِيحًا أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُدَاوَاةِ بِدَوَاءٍ آخَرَ، وَالنَّهْيُ قَبْلَ بُلُوغِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَيْهِ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ يَعْظُمُ خَطَرُهُ، أَوِ الْكَيُّ الْفَاحِشُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَوْ كَيَّةٌ وَاحِدَةٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ، وَقِيلَ النَّهْيُ تَنْزِيهِيٌّ اهـ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْكَيُّ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِمُ الدَّاءَ وَيُبْرِئُهُ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ هَلَكَ صَاحِبُهُ، وَيَقُولُونَ: آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبَاحَ اسْتِعْمَالَهُ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الشِّفَاءِ وَالتَّرَجِّي لِلْبُرْءِ بِمَا يُحْدِثُ اللَّهُ مِنْ صُنْعِهِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْكَيُّ وَالدَّوَاءُ سَبَبًا لَا عِلَّةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُهُ تَخْصِيصُ ذِكْرِ الْأُمَّةِ أَيْ: أَنَا أَنْهَاهُمْ لِئَلَّا يَعُدُّوا الْكَيَّ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2862

4517 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «رُمِيَ أَبِي يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَلَى أَكْحَلِهِ، فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4517 -

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: رُمِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ جِيءَ يَرْمِي سَهْمًا (أُبَيٌّ) أَيْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ أَنْصَارِيٌّ خَزْرَجِيٌّ كَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ، وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَنَّاهُ النَّبِيُّ عليه السلام أَبَا الْمُنْذِرِ وَعُمَرُ أَبَا الطُّفَيْلِ، وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَيِّدَ الْأَنْصَارِ، وَعُمَرُ سَيِّدَ الْمُسْلِمِينَ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعَةَ عَشَرَ، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (يَوْمَ الْأَحْزَابِ) : أَيْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ هَكَذَا صَوَابُهُ، وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَصَحَّفَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: هُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ أَبَا جَابِرٍ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ قَبْلَ الْأَحْزَابِ بِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ. (عَلَى أَكْحَلِهِ) : الْأَكْحَلُ بِفَتْحِ هَمْزٍ وَسُكُونِ كَافٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ عِرْقُ الْحَيَاةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَهُوَ عِرْقٌ مَعْرُوفٌ فِي وَسَطِ الْيَدِ، وَمِنْهُ يُفْصَدُ، وَلَا يُقَالُ عِرْقُ الْأَكْحَلِ، وَقِيلَ نَهْرُ الْحَيَاةِ، وَيُقَالُ نَهْرُ الْبَدَنِ، وَفِي كُلِّ عُضْوٍ شُعْبَةٌ مِنْهُ، وَلَهُ فِيهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ يُقَالُ لَهُ فِي الْيَدِ الْأَكْحَلُ، وَفِي الْفَخْذِ النِّسَا وَفِي الظَّهْرِ الْأَبْهَرُ، فَإِذَا قُطِعَ فِي الْيَدِ لَمْ يَرْقَأِ الدَّمُ وَحَسْمُهُ يَقْطَعُ الدَّمَ. (فَكَوَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ أَمَرَهُ بِالْكَيِّ أَوْ كَوَاهُ بِيَدِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2862

4518 -

وَعَنْهُ قَالَ: «رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ، فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ، ثُمَّ وَرِمَتْ، فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4518 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه (قَالَ رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ، فَحَسَمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيْ كَوَاهُ (بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْقَافِ، وَهُوَ نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ، فَإِذَا كَانَ عَرِيضًا فَهُوَ مِعْبَلَةٌ (ثُمَّ وَرِمَتْ) : أَيْ يَدُ سَعْدٍ (فَحَسَمَهُ الثَّانِيَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2862

4519 -

وَعَنْهُ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ

ــ

4519 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبَيِّ بْنُ كَعْبٍ طَبِيبًا، فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا، ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ» ) : أَيْ عَلَى عِرْقِهِ وَيَجُوزُ إِسْنَادُ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الطَّبِيبِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا أَيْ أَمَرَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَفَعَلَ الْآخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2862

4520 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، إِلَّا السَّامَ» " قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: السَّامُ: الْمَوْتُ. وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4520 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِي الْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» ) : قِيلَ أَيْ مِنْ كُلِّ دَاءٍ مِنَ الرُّطُوبَةِ وَالْبَلْغَمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَارٌّ يَابِسٌ فَيَنْفَعُ فِي الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُقَابِلُهُ، فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى عُمُومِهِ وَأَنَّهَا تَدْخُلُ فِي كُلِّ دَاءٍ بِالتَّرْكِيبِ.

قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْعُمُومِ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ: (إِلَّا السَّامَ) : بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ، ثُمَّ أَلَّفٍ وَمِيمٍ مُخَفَّفَةٍ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْقَامُوسِ. (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) : أَيِ الزُّهْرِيُّ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (السَّامُ: الْمَوْتُ. وَالْحَبَّةُ السَّوْدَاءُ: الشُّونِيزُ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَفَسَّرَهَا بِهِ لِشُهْرَتِهِ إِذْ ذَاكَ، وَتَفْسِيرُهَا بِهِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ الْكَمُّونُ الْأَسْوَدُ أَوِ الْخَرْدَلُ أَوْ ثَمْرُ الْبُطْمِ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ الْحَبَّةُ الصَّفْرَاءُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَصْفَرَ أَسْوَدَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا أَيِ الشُّونِيزُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجُمْهُورُ. قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهَا الْخَرْدَلُ، وَقِيلَ وَهِيَ الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَهُوَ الْبُطْمُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَخْضَرَ أَسْوَدَ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي أَعْلَامِ السُّنَنِ: وَهَذَا مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، وَلَيْسَ يُجْمَعُ فِي طَبْعِ شَيْءٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ جَمِيعُ الْقُوَى الَّتِي تُقَابِلُ الطَّبَائِعَ كُلَّهَا فِي مُعَالَجَةِ الْأَدْوَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مِنْ تَبَايُنِ طَبَائِعِهَا قُلْتُ: لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يَحْدُثُ مِنَ الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ وَالْبَلْغَمِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حَارٌّ يَابِسٌ، فَهُوَ شِفَاءٌ بِإِذْنِ اللَّهِ لِلدَّاءِ الْمُقَابِلِ لَهُ فِي الرُّطُوبَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الدَّوَاءَ أَبَدًا بِالْمُضَادِّ وَالْغِذَاءَ بِالْمُشَاكِلِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ بِلْقِيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] قَوْلُهُ تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] إِطْلَاقُ الْعُمُومِ وَإِرَادَةُ الْخُصُوصِ. قُلْتُ: لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ هَذَا، لَكِنَّ الْإِتْيَانَ يَمْنَعُ حَمْلَهُمَا عَلَى الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مَعْلُومٍ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِعْيَارَ الْعُمُومِ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2]، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 3] . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ قِيلَ: وَزَادَ الْأَرْبَعَةُ بَعْدَ قَوْلِهِ: مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا دَاءً وَاحِدًا الْهَرَمُ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 2863

4521 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اسْقِهِ عَسَلًا ". فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: سُقِيَ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ، فَقَالَ: " اسْقِهِ عَسَلًا ". فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ، فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَ اللَّهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ ". فَسَقَاهُ، فَبَرَأَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4521 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتُطْلِقَ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِمَا أَيْ مَشَى (بَطْنُهُ) : وَهُوَ بِالرَّفْعِ لَا غَيْرِهِ وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ مَشْيُهُ وَهُوَ تَوَاتُرُ الْإِسْهَالِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (اسْقِهِ) : بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَجُوِّزَ فَتَحُهَا أَيْ أَطْعِمْ أَخَاكَ (عَسَلًا) : وَظَاهِرُ الْأَمْرِ بِسَقْيِهِ أَنَّهُ كَانَ صِرْفًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَمْزُوجًا. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» "، كَمَا سَيَأْتِي. وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: إِذَا اشْتَكَى أَحَدُكُمْ، فَلْيَسْتَوْهِبْ مِنِ امْرَأَتِهِ مِنْ صَدَاقِهَا فَلْتَشْتَرِ لَهُ عَسَلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ فَيَجْتَمِعُ هَنِيئًا مَرِيئًا شِفَاءً مُبَارَكًا.

(فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا. فَقَالَ لَهُ: ثَلَاثُ مَرَّاتٍ) : أَيِ اسْقِهِ عَسَلًا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِعِلْمِهِ أَنَّ السَّبَبَ اجْتِمَاعُ الْفَضَلَاتِ الْبَلْغَمِيَّةِ اللَّزِجَةِ الَّتِي تَدْفَعُهَا بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيَسْهُلَ بَاقِيهَا. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي رَوْضَةِ الْأَحْبَابَ: الْحِكْمَةُ فِي تَكْرَارِ الْأَمْرِ أَنَّ سَقْيَ الْعَسَلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَمِّيَّةٍ وَكَيْفِيَّةٍ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَرِيضِ، فَإِنَّهُ إِنْ زِيدَ يَسْقُطُ فِي قُوَّتِهِ، وَإِنْ نَقَصَ لَا يُزِيلُ الْمَرَضَ وَلَا يُفِيدُهُ، وَلَمَّا لَمْ يَسْقِهِ.

ص: 2863

الْمِقْدَارُ الْمَطْلُوبُ الْمُقَاوِمُ لِلْمَرَضِ أَمَرَهُ بِالزِّيَادَةِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الشِّفَاءُ. (ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ) : أَيْ جَاءَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، وَقَالَ مَا سَبَقَ (فَقَالَ: اسْقِهِ عَسَلًا فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ) : أَيْ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْمُتَعَارَفُ فِي تَكْرَارِ الْعِلَاجِ (فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ اللَّهُ) : أَيْ فِيمَا قَالَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَقَالَ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ كَوْنُ شِفَاءِ ذَلِكَ الْبَطْنِ فِي شُرْبِهِ الْعَسَلَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى صَادِقٌ فِيهِ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. قُلْتُ: ظَاهِرَهُ الْإِطْلَاقُ وَإِثْبَاتُ الْوَحْيِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ (وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ) : أَيْ أَخْطَأَ تَقُولُ الْعَرَبُ: كَذَبَ سَمْعِي إِذَا أَخْطَأَ، وَأَرَادَ بِخَطَئِهِ عَدَمَ حُصُولِ الشِّفَاءِ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نِيَّتَهُ فِي شُرْبِهِ لَمْ تَكُنْ خَالِصَةً أَوْ لِأَنَّ الدَّوَاءَ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَعْنِي صَدَقَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّ الْعَسَلَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِالْعَسَلِ اهـ.

وَالْمَعْنَى عَلَى الْمَجَازِ أَيْ: أَنَّهُ لَمْ يَصْلُحْ لِقَبُولِ الشِّفَاءِ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ الدَّوَاءُ بَعْدَ خَطَئِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] يَعُودُ إِلَى الشَّرَابِ الَّذِي هُوَ الْعَسَلُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلِصَرِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ. قُلْتُ: وَأَصْرَحُ مِنْهُ الْحَدِيثُ: " «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» "، قَالَ: وَالْآيَةُ عَلَى الْخُصُوصِ أَيْ شِفَاءٌ مِنْ بَعْضِ الدَّاءِ أَوْ لِبَعْضِ النَّاسِ، فِي التَّنْكِيرِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ تَنْكِيرَ شِفَاءٍ لِلتَّعْظِيمِ لَا لِلتَّقْلِيلِ، وَالْعُمُومُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِنْسِ النَّاسِ.

(فَسَقَاهُ) : أَيْ مَرَّةً أُخْرَى (فَبَرَأَ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِكَسْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ، فَإِنْ قِيلَ: الْعَسَلُ مُسْهِلٌ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ فِي دَفْعِ الْإِسْهَالِ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنِ اجْتِمَاعِ الْفَضَلَاتِ الْبَلْغَمِيَّةَ الَّتِي دَفَعَتْهَا الطَّبِيعَةُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَكَانَ مِنْهَا بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَادَّةِ مُحْتَاجَةٌ إِلَى قَلْعِهَا بِمُلَيِّنٍ، فَأَمَرَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَمَّا شَرِبَ انْقَطَعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْتُ: قَوْلُهُ لَعَلَّهُ. . إِلَخْ. يُنَافِيهِ مَا جَزَمَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ أَنَّهُ "، إِنَّمَا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْوَحْيِ، ثُمَّ تَوْضِيحُ هَذَا الْكَلَامِ مَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا مِمَّا يَحْسَبُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الطِّبِّ وَالْعِلَاجِ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا جَاءَ يَشْكُو إِلَيْهِ اسْتِطْلَاقَ الْبَطْنِ، فَكَيْفَ يَصِفُ لَهُ الْعَسَلَ وَهُوَ يُطْلِقُ، وَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ الطِّبِّ وَمَعَانِيهِ عَلِمَ صَوَابَ هَذَا التَّدْبِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ هَذَا الرَّجُلِ إِنَّمَا كَانَ هَيْضَةً حَدَثَتْ مِنَ الِامْتِلَاءِ وَسُوءِ الْهَضْمِ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَأْمُرُونَ صَاحِبَ الْهَيْضَةِ بِأَنْ يَتْرُكَ الطَّبِيعَةَ وَسَوْقَهَا لَا يُمْسِكُهَا، وَرُبَّمَا امْتَدَّتْ بِقُوَّةٍ مُسْهِلَةٍ حَتَّى تُسْتَفْرَغَ تِلْكَ الْفُضُولُ، فَإِذَا فَرَغَتْ تِلْكَ الْأَوْعِيَةُ مِنْ تِلْكَ الْفُضُولِ، فَرُبَّمَا أَمْسَكَتْ مِنْ دَائِهَا، وَرُبَّمَا عُولِجَتْ بِالْأَشْيَاءِ الْقَابِضَةِ وَالْمُقَوِّيَةِ إِذَا خَافُوا سُقُوطَ الْقُوَّةِ، فَخَرَجَ الْأَمْرُ فِي هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ مُسْتَقِيمًا حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمِدَّ الطَّبِيعَةَ بِالْعَسَلِ لِيَزْدَادَ الشِّفَاءُ، حَتَّى إِذَا انْتَزَحَتْ تِلْكَ الْفُضُولُ وَتَنَقَّتْ مِنْهَا وَقَفَتْ وَأَمْسَكَتْ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ نَاحِيَةِ التَّبَرُّكِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَمَا يَصِفُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الدَّوَاءِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِدُعَائِهِ وَبِبَرَكَتِهِ وَحُسْنِ أَمْرِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا فِي الْأَعْيَانِ كُلِّهَا، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجِبُ حَمْلُ مَا لَا يَخْرُجُ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ الْقِيَاسِيِّ، وَإِلَيْهِ يَجِبُ تَوْجِيهُهُ كَذَا فِي أَعْلَامِ السُّنَنِّ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2864

4522 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ، وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيُّ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4522 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ أَمْثَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ) : أَيْ أَفْضَلُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَوْلَاهُ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: هَذَا أَمْثَلُ مِنْ هَذَا أَيْ أَفْضَلُ وَأَدْنَى إِلَى الْخَيْرِ، وَأَمَاثِلُ النَّاسِ خِيَارُهُمْ (الْحِجَامَةُ) :

ص: 2864

بِكَسْرِ أَوَّلِهِ اسْتِعْمَالُهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِهَا الِاحْتِجَامُ (وَالْقُسْطُ) : بِضَمِّ الْقَافِ مِنَ الْعَقَاقِيرِ مَعْرُوفٌ فِي الْأَدْوِيَةِ طَبَبُ الرِّيحِ تَتَبَخَّرُ بِهِ النُّفَسَاءُ. (الْبَحْرِيُّ) : أَيِ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبَحْرِ، فَإِنَّ الْقُسْطَ نَوْعَانِ: بَحْرِيٌّ وَهُوَ أَبْيَضُ، وَهِنْدِيٌّ وَهُوَ أَسْوَدُ، وَمِنْهَا نَوْعٌ طَيِّبٌ يُتَبَخَّرُ بِهِ يُقَالُ: عَنْبَرٌ خَامٌ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عُودٌ هِنْدِيٌّ يُتَدَاوَى بِهِ، وَقِيلَ هُوَ خِيَارُ شَنْبُرَ. وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الْقِسْطُ بِالْكَسْرِ الْعَدْلُ وَالْحِصَّةُ وَالنَّصِيبُ، وَمِكْيَالٌ يَسَعُ نِصْفَ صَاعٍ، وَقَدْ يُتَوَضَّأُ فِيهِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:«إِنَّ النِّسَاءَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ إِلَّا صَاحِبَةَ الْقِسْطِ وَالسِّرَاجِ» ، كَأَنَّهُ أَرَادَ الَّتِي تَخْدِمُ بَعْلَهَا وَتُوَضِّئُهُ وَتَزْدَهِرُ بِمِيضَأَتِهِ، وَتَقُومُ عَلَى رَأْسِهِ بِالسِّرَاجِ، وَبِالضَّمِّ عُودٌ هِنْدِيٌّ وَعَرَبِيٌّ مُدِرٌّ نَافِعٌ لِلْكَبِدِ جِدًّا وَلِلْمَغَصِ وَالدُّودِ وَحُمَّى الرِّبْعِ شُرْبًا، وَلِلزُّكَامِ وَالنَّزَلَاتِ وَالْوَبَاءِ بَخُورًا، وَلِلْبَهَقِ وَالْكَلَفَ طِلَاءً (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

ص: 2865

4523 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنَ الْعُذْرَةِ، عَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4523 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُعَذِّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ مِيمٍ فَزَايٍ أَيِ الْعَصْرُ، وَقِيلَ: إِدْخَالُ الْأُصْبُعِ فِي حَلْقِ الْمَعْذُورِ لِغَمْزِ دَاخِلِهِ فَيَعْصِرُ بِهَا الْعُذْرَةُ. فِي النِّهَايَةِ: هُوَ أَنْ يُسْقَطَ لِلشَّاةِ فَتُغْمَزَ بِالْيَدِ (مِنَ الْعُذْرَةِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَهِيَ بِضَمِّ عَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ دَالٍّ مُعْجَمَةٍ: وَجَعٌ فِي الْحَلْقِ يَهِيجُ مِنَ الدَّمِ، وَقِيلَ: هِيَ قُرْحَةٌ تَخْرُجُ فِي الْخُرْمِ الَّذِي مَا بَيْنَ الْأَنْفِ وَالْحَلْقِ تَعْرِضُ لِلصِّبْيَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ، فَتَعْمِدُ الْمَرْأَةَ إِلَى خِرْقَةٍ فَتَفْتِلُهَا فَتْلًا شَدِيدًا وَتُدْخِلُهَا فِي أَنْفِهِ فَتَطْعَنُ ذَلِكَ فَيَنْفَجِرُ مِنْهُ دَمٌ أَسْوَدٌ، وَرُبَّمَا أَقْرَحُهُ، وَذَلِكَ الطَّعْنُ يُسَمَّى الدَّغْرُ، يُقَالُ: دَغَرَتِ الْمَرْأَةُ الصَّبِيَّ إِذَا غَمَزَتْ حَلْقَهُ مِنَ الْغُدْرَةِ أَوْ فَعَلَتْ بِهِ ذَلِكَ، وَكَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ عَلَاقًا كَالْعُوذَةِ، وَقَوْلُهُ عِنْدَ طُلُوعِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ خَمْسَةُ كَوَاكِبَ تَحْتَ الشِّعْرَى الْعَبُورِ وَتُسَمَّى الْعَذَارَى، وَتَطْلَعُ فِي وَسَطِ الْحَرِّ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. (عَلَيْكُمْ بِالْقُسْطِ) : بِأَنْ يُؤْخَذَ مَاؤُهُ فَيُسْعَطُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْعُذْرَةِ فَيَقْبِضُهَا، فَإِنَّهَا حَارٌّ يَابِسٌ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الْآتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ص: 2865

4524 -

وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَى مَا تَدْغَرْنَ أَوْلَادَكُنَّ بِهَذَا الْعِلَاقِ؟ عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ؟ فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ يُسْعَطُ مِنَ الْعُذْرَةِ، وَيُلَدُّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4524 -

(وَعَنْ أُمِّ قَيْسٍ رضي الله عنها) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ بِنْتُ مِحْصَنٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ فَنُونٍ، أَسَدِيَّةٌ أُخْتُ عُكَاشَةَ، أَسْلَمَتْ بِمَكَّةَ قَدِيمًا، وَبَايَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ اهـ. وَهِيَ الَّتِي وَرَدَ بِسَبَبِهَا حَدِيثُ:(" «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا» ") فَكَانَ رَجُلٌ تَبِعَهَا فِي الْهِجْرَةِ وَكَانَ يُسَمَّى مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ. (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلَى مَا تَدْغَرْنَ) : بِفَتْحِ الْغَيْنِ مِنَ الدَّغَرِ وَبِفَتْحِ الدَّالِّ وَسُكُونِ عَيْنٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ الدَّفْعُ وَالْغَمْزُ، وَمَا: اسْتِفْهَامٌ فِي مَعْنَى الْإِنْكَارِ لَهُ وَلِنَفْعِهِ، وَالِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ تَخْفِيفًا وَالْأَصْلُ قَلِيلٌ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عَلَامَ يُحْذَفُ الْأَلِفُ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُعَالِجْنَ أَوْلَادَكُنَّ وَتَغْمِزْنَ حُلُوقَهُمْ؟ فَبِهَذَا الْعُلَاقُ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِفَتْحِهَا، وَفِي بَعْضِهَا بِكَسْرِهَا وَالْكُلُّ بِمَعْنَى الْعَصْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ بِالْكَسْرِ الدَّاهِيَةُ يَعْنِي لَا تَعْصِرْنَ عُذْرَةَ الْأَوْلَادِ بِالشِّدَّةِ.

وَبِالضَّمِّ مَا تُعْصَرُ بِهِ الْعُذْرَةُ مِنْ أُصْبُعٍ أَوْ غَيْرِهَا أَيْ لَا تَعْصِرْنَ (أَوْلَادَكُنَّ) : بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ (بِهَذَا الْعُلَاقُ؟) : وَهُوَ الدَّغَرُ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: بِهَذَا الْعُلَاقُ؟ كَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ أَيْضًا بِهَذَا الْإِعْلَاقِ، وَهُوَ أَوْلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَصْوَبُهُمَا، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ أُمِّ قَيْسٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ أَعْلَقْتُ عَلَيْهِ، وَفَسَّرُهُ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَعْلَقَتْ غَمَزَتْ، هَذَا لَفْظُ كِتَابِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: الْعَلَاقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الْإِعْلَاقُ وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ حَتَّى زَعَمُوا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَإِنَّ الْعَلَاقَ لَا يَجُوزُ قَالُوا: وَالْأَعْلَاقُ مَصْدَرُ أَعْلَقَتْ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَزَالَتِ الْعُلُوقَ: وَهِيَ الْآفَةُ وَالدَّاهِيَةُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعُلَاقُ هُوَ الِاسْمُ مِنْهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ:

ص: 2865

وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ الْكَلَامَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُعَالِجْنَ بِهَذَا الدَّاءِ الدَّاهِيَةِ وَالْمُدَاوَاةِ الشَّنِيعَةِ اهـ. وَالْمَعْنَى عَلَى الْإِعْلَاقِ لِمَ تُعَالِجْنَ هَذِهِ الْمُعَالَجَةَ الْخَشِنَةَ؟ (عَلَيْكُنَّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ) : أَيْ بَلْ عَلَيْكُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِاسْتِعْمَالِ الْعُودِ الْهِنْدِيِّ فِي عُذْرَةِ أَوْلَادِكُنَّ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْجِنْسِ الْمُسْتَحْضَرِ فِي الذِّهْنِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ هُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَافِعٌ (فَإِنَّ فِيهِ) : أَيْ فِي هَذَا الْعُودِ (سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ) : جَمْعُ شِفَاءٍ (مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ) : أَيْ مِنْ تِلْكَ الْأَشْفِيَةِ شِفَاءُ ذَاتِ الْجَنْبِ، أَوِ التَّقْدِيرُ: فِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةِ أَدْوَاءٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ مِنْ سَبْعَةِ أَدْوَاءٍ مِنْهَا: ذَاتُ الْجَنْبِ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَصْعَبُ الْأَدْوَاءِ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْهُ مَنِ ابْتُلِيَ لَهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْمُرَادُ هُنَا رِيَاحٌ غَلِيظَةٌ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ، فَإِنَّ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ إِنَّمَا يُدَاوَى بِهِ الرِّيَاحُ وَقَوْلُهُ:(يُسْعَطُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا وَرُوِيَ مُشَدَّدًا وَفِي الْجَامِعِ بَسْطٌ بِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّوْطِ، وَهُوَ مَا يُصَبُّ فِي الْأَنْفِ. بَيَانُ كَيْفِيَّةِ التَّدَاوِي بِهِ أَنْ يُدَقَّ الْعُودُ نَاعِمًا، وَيُدْخَلُ فِي الْأَنْفِ، وَقِيلَ يُبَلُّ وَيُقَطَّرُ فِيهِ.

(مِنَ الْعُذْرَةِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهَا (وَيُلَدُّ) : بِصِيَغِهِ الْمَجْهُولِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ: مِنْ لَدَّ الرَّجُلُ إِذَا صَبَّ الدَّوَاءَ فِي أَحَدِ شِقَّيِ الْفَمِ، وَمِنْهُ اللَّدُودُ، وَفِي الْجَامِعِ مَنْ يَلِدُّ لَهُ. (مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِهَا، وَسَكَتَ صلى الله عليه وسلم عَنْ خَمْسَةٍ مِنْهَا لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى تَفْصِيلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْمُهِمِّ وَالْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ كَمَا هُوَ دَأْبُ أَرْبَابِ بُلَغَاءِ الْكَلَامِ، وَلَعَلَّ الْبَقِيَّةَ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَهُمْ مَعْرُوفَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْقَامُوسِ بَعْضُ خَوَاصِّهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدِ اعْتَرَضَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، فَقَالَ الْأَطِبَّاءُ: مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مُدَاوَاةَ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْحَرَارَةِ الشَّدِيدَةِ خَطَرٌ.

قَالَ الْمَازَرِيُّ: فِي هَذَا الْقَوْلِ جَهَالَةٌ بَيِّنَةٌ وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39]، وَقَدْ ذَكَرَ جَالِينُوسُ وَغَيْرُهُ: أَنَّ الْقُسْطَ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الصَّدْرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْقُدَمَاءِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ: وَيُسْتَعْمَلُ حَيْثُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُجْذَبَ الْخَلْطُ مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنَ إِلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا يُبْطِلُ مَا زَعَمَ الْمُعْتَرِضُ الْمُلْحِدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَفِيهِ سَبْعَةُ أَشْفِيَةٍ فَقَدْ أَطْبَقَ الْأَطِبَّاءُ فِي كُتُبِهِمْ عَلَى أَنَّهُ يُدِرُّ الطَّمْثَ وَالْبَوْلَ، وَيَنْفَعُ مِنَ السُّمُومِ، وَيُحَرِّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ، وَيَقْتُلُ الدُّودَ، وَحَبُّ الْقَرْعِ فِي الْأَمْعَاءِ إِذَا شُرِبَ بِعَسَلٍ، وَيُذْهِبُ الْكَلْفَ إِذَا طُلِيَ عَلَيْهِ، وَيَنْفَعُ مِنْ بَرْدِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ، وَمِنْ حُمَّى الْوَرْدِ وَالرِّبْعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ صِنْفَانِ: بَحْرِيٌّ وَهِنْدِيُّ الْبَحْرِيِّ هُوَ الْقُسْطُ الْأَبْيَضُ، وَالْبَحْرِيُّ أَفْضَلُ مِنَ الْهِنْدِيِّ، وَأَقَلُّ حَرَارَةً مِنْهُ، وَإِنَّمَا عَدَدْنَا مَنَافِعَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَطِبَّاءِ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ مِنْهَا عَدَدًا مُجْمَلًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبْعَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْكَثْرَةُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ كَذَا فِي الْجَامِعِ.

ص: 2866

4525 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَابْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4525 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِ الدَّالِّ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ، أَنْصَارِيٌّ أَصَابَهُ سَهْمٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَنَا أَشْهَدُ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وَأَنْقَضَتْ جِرَاحَتُهُ زَمَنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهَبُ الْحَاصِلُ فِي جِسْمِ الْمَحْمُومِ قِطْعَةٌ مِنْهَا أَظْهَرَهَا اللَّهُ بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهَا لِيَعْتَبِرَ الْعِبَادُ بِذَلِكَ، وَرَوَى الْبَزَّارُ حَدِيثَ:" «الْحُمَّى حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» "، وَقِيلَ: هـ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ حَرُّ الْحُمَّى شَبِيهٌ بِحَرِّ جَهَنَّمَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهَا أَوْ مِنْ شِدَّةِ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ، وَهِيَ تُشْبِهُ نَارَ جَهَنَّمَ فِي كَوْنِهَا مُعَذِّبَةً وَمُذِيبَةً لِلْجَسَدِ اهـ. فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَيْحُ سُطُوعُ الْحَرِّ وَفَوَرَانُهُ، وَفِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَشْبِيهٌ قَالَ الْمُظْهِرُ: شَبَّهَ اشْتِعَالَ حَرَارَةِ الطَّبِيعَةِ فِي كَوْنِهَا مُذْهِبَةً لِلْبُرُودَةِ، وَثَانِيهِمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْحُمَّى مَأْخُوذٌ مِنْ حَرَارَةِ جَهَنَّمَ حَقِيقَةً أُرْسِلَتْ إِلَى الدُّنْيَا نَذِيرًا لِلْجَاحِدِينَ وَبَشِيرًا لِلْمُعْتَبِرِينَ ; لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ وَجَابِرَةٌ عَنْ تَقْصِيرِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " مَنْ " لَيْسَتْ.

ص: 2866

بَيَانِيَّةٌ حَتَّى يَكُونَ تَشْبِيهًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، جَعَلَ فَهِيَ إِمَّا ابْتِدَائِيَّةٌ أَيِ الْحُمَّى نَشَأَتْ وَحَصَلَتْ مِنْ " فَيْحِ جَهَنَّمَ "، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ أَيْ: بَعْضٌ مِنْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ:" «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ» ". الْحَدِيثُ، فَكَمَا أَنَّ حَرَارَةَ الصَّيْفِ أَثَرٌ مِنْ فَيْحِهَا كَذَلِكَ الْحُمَّى، (فَابْرِدُوهَا بِالْمَاءِ) : بِهَمْزِ الْوَصْلِ وَفِي نُسْخَةٍ بِقَطْعِهَا أَيْ بَرِّدُوا شِدَّةَ حَرَارَتِهَا بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الشُّرْبَ وَالِاغْتِسَالَ وَالصَّبَّ عَلَى بَعْضِ الْبَدَنِ كَالْجَبِينِ وَكُفُوفِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، قِيلَ: وَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْحُمِّيَاتِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرَارَةِ، وَبِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ كَأَهْلِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحُمِّيَاتِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهُمْ عَنْ كَثْرَةِ الْحَرَارَةِ وَشِدَّتِهَا فَيَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَغُسْلًا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ " إِذَا حُمَّ دَعَا بِقِرْبَةِ مَاءٍ فَأَهْرَقَهَا عَلَى بَدَنِهِ» " ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهُوَ شِفَاءٌ لِكُلِّ سَقَمٍ عَلَى مَا وَرَدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيِ اسْقُوا الْمَحْمُومَ الْمَاءَ لِيَقَعَ بِهِ التَّبْرِيدُ، وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ: إِنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ الْأَدْوِيَةَ وَأَنْجَعُهَا فِي التَّبْرِيدِ عَنِ الْحُمَّيَاتِ الْحَارَّةِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْسَابُ بِسُهُولَةٍ فَيَصِلُ إِلَى أَمَاكِنِ الْعِلَّةِ، وَيَدْفَعُ حَرَارَتَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُعَاوَنَةِ الطَّبِيعَةِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِذَلِكَ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْعِلَّةِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: أَيِ أَسْكِنُوا حَرَّهَا بِهِ مَعَ هَمْزِ وَصْلٍ وَقَطْعِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْغُسْلَ، بَلِ الرَّشَّ بَيْنَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ، كَمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ، وَهِيَ أَعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَبِضَمِّ الرَّاءِ كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَاطْفِئُوهَا بِالْمَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَاتِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ: أَنَّهُ يُقَالُ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي لُغَةٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ اهـ.

وَفِي الْقَامُوسِ: بَرَّدَهُ بَرْدًا جَعْلَهُ بَارِدًا، أَوْ خَلَطَهُ بِالثَّلْجِ، وَأَبْرَدَهُ جَاءَ بِهِ بَارِدًا، وَلَهُ سَقَاهُ بَارِدًا. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ غَلَطَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ، فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، فَاحْتَقَنَتِ الْحَرَارَةُ فِي بَاطِنِ بَدَنِهِ فَأَصَابَتْهُ عِلَّهٌ صَعْبَةٌ كَادَ يَهْلَكُ فِيهَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِلَّتِهِ قَالَ قَوْلًا فَاحِشًا لَا يُحْسِنُ ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَذَهَابِهِ عَنْهُ، فَتَبْرِيدُ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةِ بِسَقْيِ الْمَاءِ الصَّادِقِ الْبَرْدِ، وَوَضْعُ أَطْرَافِ الْمَحْمُومِ فِيهِ مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجِ وَأَسْرَعِهِ إِلَى إِطْفَاءِ نَارِهَا وَكَسْرِ لَهِيبِهَا، فَإِنَّمَا أُمِرَ بِإِطْفَاءِ الْحُمَّى وَتَبْرِيدِهَا بِالْمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دُونَ الِانْغِمَاسِ فِيهِ، وَغَطِّ الرَّأْسِ فِيهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ لَيْسَ فِيهِ مَا يُبَيِّنُ صِفَتَهُ وَحَالَتَهُ، وَالْأَطِبَّاءُ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْحُمَّى الصَّفْرَاوِيَّةَ يُدَبَّرُ صَاحِبُهَا بِسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ، وَيَسْقُونَهُ الثَّلْجَ، وَيَغْسِلُونَ أَطْرَافَهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْحُمَّى وَالْغُسْلُ نَحْوَ مَا قَالُوهُ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ هُنَا فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَسْمَاءَ:«أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ فَتَصُبُّ الْمَاءَ فِي جَيْبِهَا، وَتَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» " فَهَذِهِ أَسْمَاءُ رَاوِيَةُ الْحَدِيثِ، وَقُرْبُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعْلُومٌ، وَتُؤَوِّلُ الْحَدِيثَ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْمُلْحِدِ الْمُعْتَرِضِ إِلَّا اخْتِرَاعُهُ الْكَذِبَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَّا مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ التِّرْمِذِيَّ، عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمُ الْحُمَّى، فَإِنَّ الْحُمَّى قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيُطْفِئْهَا عَنْهُ بِالْمَاءِ، فَلْيَسْتَنْقِعْ فِي نَهْرٍ جَارٍ، وَلِيَسْتَقْبِلْ جَرْيَتَهُ فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ وَصَدِّقْ رَسُولَكَ» " إِلَى قَوْلِهِ: " فَإِنَّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللَّهِ عز وجل "، وَالْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ مَذْكُورٌ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَنَائِزِ فَشَيْءٌ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الطَّبِيعَةِ دَاخِلٌ فِي قِسْمِ الْمُعْجِزَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ. أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ: صَدِّقْ رَسُولَكَ، وَفِي آخِرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَقَدْ شُوهِدَ وَجُرِّبَ، وَوُجِدَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَهُ قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَدِيثِ فِي مَحَلِّهِ مَبْسُوطًا، لَكِنْ جَعْلُ الطِّيبِيِّ هُنَا قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي آخِرِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ خَارِقًا لِلْعَادَةِ عَجِيبٌ غَرِيبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا سَوَاءٌ الْمُعْجِزَاتُ وَالْكَرَامَاتُ وَمَوَافِقُ الْعَادَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَمَّا قَوْلُ عِيسَى عليه السلام: وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ، فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِذْنِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَإِمَّا إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لِلْعَبْدِ فِي فِعْلِهِ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْأُلُوهِيَّةَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2867

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:( «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ فَنَحُّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ» ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، عَنْ أَنَسٍ:" «الْحُمَّى حَظُّ أُمَّتِي مِنْ جَهَنَّمَ» "، وَفِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ:" الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ وَهِيَ نَصِيبُ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ عَائِشَةَ " «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ» ". وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ لِلدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَنَسٍ " «الْحُمَّى شَهَادَةٌ» ". وَرَوَى الْقُضَاعِيُّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ " «الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ وَحُمَّى لَيْلَةٍ تُكَفِّرُ خَطَايَا سَنَةٍ مُجَرَّمَةٍ» ": بِالْجِيمِ أَيْ تَامَّةٌ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ أَسَدِ بْنِ كَرَزٍ " «الْحُمَّى تَحُتُّ الْخَطَايَا كَمَا تَحُتُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» ". وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنْ أَنَسٍ " «الْحُمَّى رَائِدَةُ الْمَوْتِ وَسِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ". وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا: «الْحُمَّى زَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِ، يَحْبِسُ بِهَا عَبْدَهُ إِذَا شَاءَ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ، فَغَيِّرُوهَا بِالْمَاءِ» ، وَكَذَا ذَكَرَهُ هُنَا وَالزُّهْدُ، وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي الْمَرَضِ وَالْكَفَّارَاتِ.

ص: 2868

4526 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ وَالنَّمْلَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4526 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّقْيَةِ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الرُّخْصَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ النَّهْيِ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى عَنِ الرُّقَى لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الرُّقَى، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِيهَا إِذَا عَرِيَتْ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ. قُلْتُ: وَسَيَجِيءُ هَذَا الْمَعْنَى قَرِيبًا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ. (مِنَ الْعَيْنِ) : أَيْ مِنْ أَجْلِ إِصَابَةِ عَيْنِ الْجِنِّ أَوِ الْإِنْسِ، وَالْمُرَادُ بِالرُّقْيَةِ هُنَا مَا يُقْرَأُ مِنَ الدُّعَاءِ وَآيَاتِ الْقُرْآنِ لِطَلَبِ الشِّفَاءِ مِنْهَا: مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا " «بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ» " وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ: «بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ يُشْفِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ عَيْنٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «جَاءَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي فَقَالَ: " أَلَا أَرْقِيَكَ بِرُقْيَةٍ رَقَانِي بِهَا جِبْرِيلُ عليه السلام؟ فَقُلْتُ: بَلَى بِأَبِي وَأُمِّي. فَقَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ وَاللَّهُ يُشْفِيكَ مِنْ كُلِّ دَاءٍ فِيكَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ: ثَلَاثُ مَرَّاتٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ: مِنَ الْعَيْنِ مِنْ أَجْلِ وَجَعِهَا وَرَمَدِهَا لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ مَرْفُوعًا " «مَنْ أُصِيبَ بِعَيْنٍ رُقِيَ بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حَرَّهَا وَبَرْدَهَا وَوَصَبَهَا ". ثُمَّ قَالَ: " قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ» ".

(وَالْحُمَةُ) : أَيْ: وَمِنَ الْحُمَةِ وَهُوَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ السُّمُّ وَقَدْ يُشَدَّدُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَصْمَعِيُّ، وَيُطْلَقُ عَلَى إِبْرَةِ الْعَقْرَبِ لِلْمُجَاوَرَةِ، لِأَنَّ السُّمَّ مِنْهَا يَخْرُجُ وَأَصْلُهَا حُمَّى أَوَحَمْوٌ بِوَزْنِ صَرْدٍ، وَالْهَاءُ فِيهِ عِوَضٌ مِنَ الْوَاوِ أَوِ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَفِي الْأَوْسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ:«عَرَضْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رُقْيَةً مِنَ الْحُمَةِ فَأَذِنَ لَنَا. وَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ مِنْ مَوَاثِيقِ الْجِنِّ بِسْمِ اللَّهِ شَجَّةٌ قَرْنِيَّةٌ مُلْحَةُ بَحْرِ قَفْطَا» ، أَمَّا أَلْفَاظُهَا فَكَمَا ضَبَطْنَاهُ بِالْقَلَمِ عَلَى مَا سَمِعْنَا مِنْ أَفْوَاهِ الْمَشَايِخِ وَرَأَيْنَاهُ بِخُطُوطِهِمْ، وَأَمَّا مَعَانِيهَا فَلَا تُعْرَفُ صَرَّحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ، لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ مَعْرُوضَةً لَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم جَازَ أَنْ يُرْقَى بِهَا.

(وَالنَّمْلَةُ) : أَيْ: وَمِنَ النَّمْلَةِ وَهِيَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمِيمِ عَلَى مَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَهِيَ قُرُوحٌ تَخْرُجُ بِالْجَنْبِ وَغَيْرِهِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: وَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ نَمْلَةٌ لِتَغَشِّيهَا وَانْتِشَارِهَا شَبَّهَ ذَلِكَ بِالنَّمْلَةِ وَدَبِيبِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هِيَ بُثُورٌ صِغَارٌ مَعَ وَرَمٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ تَتَقَرَّحُ فَتُشْفَى وَتَتَّسِعُ، وَيُسَمِّيهَا الْأَطِبَّاءُ الذُّبَابَ، وَيُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ نَارُ فَارِسِيِّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يُدَاوِي مَنْ بِهِ قُرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ بِأَنْ يَضَعَ أُصْبُعَهُ السَّبَّابَةُ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا قَائِلًا " بِاسْمِ اللَّهِ هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبِّنَا» "، وَالتَّقْدِيرُ أَتَبَرَّكُ بِاسْمِ اللَّهِ هَذِهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا مَعْجُونَةٌ بِرَيْقَةِ بَعْضِنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَتْفِلُ عِنْدَ الرُّقْيَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الرُّقَى مِنْ كُلِّ الْآلَامِ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا فَاشِيًّا مَعْلُومًا بَيْنَهُمْ. قَالَ: وَوَضْعُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبَّابَتَهُ بِالْأَرْضِ وَوَضْعُهَا عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّقَى اهـ.

ص: 2868

وَالْمُرَادُ بِأَرْضِنَا جُمْلَةُ الْأَرْضِ كَذَا قَالُوا، وَقِيلَ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصَّةً لِبَرَكَتِهَا. قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِأَرْضِنَا أَرْضَ الْإِسْلَامِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ، ثُمَّ يَضَعَهَا عَلَى التُّرَابِ لِيَتَعَلَّقَ بِهَا شَيْءٌ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْمَوْضِعِ الْعَلِيلِ أَوِ الْجَرِيحِ، وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ فِي حَالِ الْمَسْحِ. أَقُولُ: وَلَعَلَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ بَدْءَ خَلْقِنَا مِنْ طِينٍ، وَأَنَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِنَا سَوِيًّا فِي الِابْتِدَاءِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى صِحَّةِ أَبْدَانِنَا مِنْ خُرُوجٍ وَقُرُوحٍ فِي الِانْتِهَاءِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2869

4527 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4527 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَرْقِيَ) : بِالنُّونِ. عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْيَاءِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: نَطْلُبَ الرُّقْيَةَ أَوْ نَسْتَعْمِلَهَا. (مِنَ الْعَيْنِ) : أَيْ: مِنْ رَمَدِهَا أَوْ إِصَابَتِهَا فَانْدَفَعَ، مَا قِيلَ هَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَنْ أَصَابَتْهُ عَيْنٌ مِنَ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ يُسْتَحَبُ أَنْ يُرْقَى اهـ. وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِرُقِيِّ الْعَيْنِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ،» وَالْمُرَادُ بِالْمُعَوَّذَاتِ بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقِيلَ بِكَسْرِهَا سُورَةُ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ. وَجُمِعَ إِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُرَادَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِهَا مِنَ السُّورَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُعَوَّذَاتِ هَاتَانِ السُّورَتَانِ مَعَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَأَطْلَقَ ذَلِكَ تَغْلِيبًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يُضَمَّ مَعَهَا قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ قِرَاءَةً وَكِتَابَةً وَتَعْلِيقًا وَشُرْبًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: كَيْفَ يَنْفُثُ؟ قَالَ: يَنْفُثُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ؟ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَجَسَدَهُ اهـ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي دَفْعِ الْعَيْنِ قِرَاءَةَ آيَةِ {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [القلم: 51] إِلَى آخِرَ السُّورَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2869

4528 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ - تَعْنِي صُفْرَةً - فَقَالَ: " اسْتَرْقُوا لَهَا، فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4528 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً) : أَيْ: بِنْتًا أَوْ مَمْلُوكَةً (فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَيَجُورُ ضَمُّهُ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: عَلَامَةٌ، مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقِيلَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُ، وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنَ السَّفْعِ، وَهُوَ الْأَخْذُ، وَقِيلَ السَّفْعَةُ الْعَيْنُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ تَفْسِيرُ الرَّاوِي (تَعْنِي صُفْرَةً) : أَيْ: تُرِيدُ أَمُّ سَلَمَةَ بِقَوْلِهَا سَفْعَةً صُفْرَةً بِضَمِّ أَوَّلِهِ (فَقَالَ: اسْتَرْقُوا) ؟ أَيِ: اطْلُبُوا الرُّقْيَةَ أَوْ مَنْ يَرْقِي: (لَهَا) أَيْ: لِلْجَارِيَةِ (فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ) : وَفِي النِّهَايَةِ: الْمَعْنَى أَنَّ السَّفْعَةَ أَدْرَكَتْهَا مِنْ قِبَلِ النَّظْرَةِ فَاطْلُبُوا لَهَا الرُّقْيَةَ اهـ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا أَصَابَتْهَا الْعَيْنُ مِنَ الْجِنِّ قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَقَدْ قِيلَ: عُيُونُ الْجِنِّ أَنْفَذُ مِنْ أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ. وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: أَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْإِنْسِ أَوِ الْجِنِّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ فِي النِّهَايَةِ: جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنَ الْأَمْرِ بِالرُّقْيَةِ وَمِنَ النَّهْيِ قَوْلُهُ: " لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ ". وَالْأَحَادِيثُ فِي الْقِسْمَيْنِ كَثِيرَةٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرُّقَى يُكْرَهُ مِنْهَا مَا كَانَ بِغَيْرِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَبِغَيْرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ فِي كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ نَافِعَةٌ لَا مَحَالَةَ فَيَتَّكِلُ عَلَيْهَا وَإِيَّاهَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا تَوَكَّلَ مَنِ اسْتَرْقَى، وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَالتَّعَوُّذِ بِالْقُرْآنِ، وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالرُّقَى بِالْمَرْوِيَّةِ. لِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي رَقَى بِالْقُرْآنِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَجْرًا:" «مَنْ أَخَذَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ فَقَدْ أَخَذْتُ بِرُقْيَةِ حَقٍّ» ".

ص: 2869

4529 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَأَنْتَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4529 -

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّقَى» ) : أَيْ: جَمْعُ رُقْيَةٍ (فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) : أَيْ: أَوْلَادُهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيَّ، أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَجْرَانَ سَنَةَ عَشْرٍ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَغَيْرُهُ (فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ) : أَيِ: الشَّأْنُ (كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ) : أَيْ: مَحْفُوظَةٌ مُجَرَّبَةٌ (نَرْقِي) : بِفَتْحِ النُّونِ.

ص: 2869

وَكَسْرِ الْقَافِ أَيْ: نَدْعُوا (بِهَا) : أَيْ: بِتِلْكَ الرُّقْيَةِ (مِنَ الْعَقْرَبِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ سُمِّهَا أَوْ لَدْغِهَا (وَأَنْتَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى) : وَبِهَا مُقَدَّرٌ أَيْ: فَقَالَ: " اعْرِضُوا رُقْيَتَكُمْ عَلَيَّ وَاتْلُوهَا لَدَيَّ "(فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى) : أَيْ مَا أَعْلَمُ (بِهَا بَأْسًا) : أَيْ: كَرَاهِيَةً (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ) : أَيْ: بِشَيْءٍ مُبَاحٍ (فَلْيَنْفَعْهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) :. كَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 2870

4530 -

وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: " اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4530 -

(وَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ خَيْبَرُ، وَكَانَ، مَعَ رَايَةِ أَشْجَعَ يَوْمَ الْفَتْحِ، سَكَنَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. (قَالَ:«كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ» ) : بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْيَةٍ (لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ) : أَيْ: كُفْرٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 2870

4531 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الْعَيْنُ حَقٌّ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرِ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4531 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْعَيْنُ) : أَيْ: أَثَرُهَا (حَقٌّ) : وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعَانُ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِهِ وَكُلُّ كَامِلٍ يَعْقُبُهُ النَّقْصُ وَلَمَّا كَانَ ظُهُورُ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْعَيْنِ أُضِيفَ ذَلِكَ إِلَيْهَا (فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ) : أَيْ: غَالِبَهُ فِي السَّبْقِ (سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) : أَيْ: لَغَلَبَتْهُ الْعَيْنُ، وَالْمَعْنَى: لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَسْبِقَ الْقَدَرَ شَيْءٌ، فَيُؤَثِّرُ فِي إِفْنَاءِ شَيْءٍ وَزَوَالِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ سَبَقَتِ الْعَيْنُ الْقَدَرَ، وَحَاصِلُهُ: أَنْ لَا هَلَاكَ وَلَا ضَرَرَ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَفِيهِ مُبَالَغَةٌ لِكَوْنِهَا سَبَبًا فِي شِدَّةِ ضَرَرِهَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْعَيِنَ يَفْسَدُ وَيَهْلَكُ عِنْدَ نَظَرِ الْعَائِنِ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ يُخْلَقَ الضَّرَرُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ هَذَا الشَّخْصِ بِشَخْصٍ آخَرَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ فَرْضَ شَيْءٍ لَهُ قُوَّةٌ وَتَأْثِيرٌ عَظِيمٌ سَبَقَ الْقَدَرَ لَكَانَ عَيْنًا. وَالْعَيِنُ لَا يُسْبَقُ فَكَيْفَ لِغَيْرِهَا؟ وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ قَوْلُهُ: " الْعَيْنُ حَقٌّ " أَيِ: الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ مَا تَحَقَّقَ كَوْنُهُ، وَقَوْلُهُ:" وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ " كَالْمُؤَكِّدِ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى سُرْعَةِ نُفُوذِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الذَّوَاتِ، (وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَاغْسِلُوا) : كَانُوا يَرَوْنَ أَنْ يُؤْمَرَ الْعَائِنُ فَيَغْسِلُ أَطْرَافَهُ وَمَا تَحْتَ الْإِزَارِ، فَتُصَبُّ غُسَالَتُهُ عَلَى الْمَعْيُونِ يَسْتَشْفُونَ بِذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَمْتَنِعُوا عَنِ الِاغْتِسَالِ إِذَا أُرِيدَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَأَدَّى مَا فِي ذَلِكَ دَفْعُ الْوَهْمِ الْحَاصِلِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ الْخَوَاصَّ الْمُودَعَةَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ، وَيَسْتَبْعِدَهَا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ شَهِدَ بِهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِهَا، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْحِسَانِ مِنْ هَذَا الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ؟ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه رَأَى صَبِيًّا مَلِيحًا فَقَالَ: دَسِّمُوا نُونَتَهُ كَيْلَا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ، وَمَعْنَى دَسِّمُوا: سَوِّدُوا، وَالنُّونَةُ النَّقْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي ذَقَنِ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ، وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَوْ دَخَلَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهِ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} [الكهف: 40] الْآيَةُ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعَيْنُ حَقٌّ، لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَنْكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِهِمْ: أَنَّ كُلَّ مَعْنًى لَا يُؤَدِّي إِلَى قَلْبِ حَقِيقَةٍ وَلَا فَسَادِ دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ مِنْ مُجَوَّزَاتِ الْعُقُولِ، فَإِذَا أَخْبَرَ الشَّرْعُ بِوُقُوعِهِ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ وَلَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُ. قُلْتُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَكْذِيبِهِمْ هَذَا وَتَكْذِيبِهِمْ بِالْخَبَرِيَّةِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ زَعَمَ الطَّبِيعِيُّونَ الْمُتَتَبِّعُونَ الْعَيْنَ: أَنَّ الْعَائِنَ يَنْبَعِثُ عَنْ عَيْنِهِ قُوَّةٌ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ فَتُهْلِكُ أَوْ تُفْسِدُ. قَالُوا: وَلَا يَمْتَنِعُ هَذَا كَمَا لَا يَمْتَنِعُ انْبِعَاثُ قُوَّةٍ سُمِّيَّةٍ مِنَ الْأَفْعَى، وَالْعَقْرَبُ تَتَّصِلُ بِاللَّدِيغِ فَتَهْلِكُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْسُوسٍ لَنَا.

ص: 2870

قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّا بَيَّنَا فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ أَنْ لَا فَاعِلَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ الْقَوْلِ بِالطَّبَائِعِ، وَأَقْرَبُ الطُّرُقِ مَا قَالَهُ بَعْضُ مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ مِنْهُمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْبَعِثَ مِنَ الْعَائِنِ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ مِنَ الْعَيْنِ، فَتَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلَّلُ مَسَامَ جِسْمِهِ، فَيَخْلُقُ اللَّهُ سبحانه وتعالى الْهَلَاكَ عِنْدَهَا، كَمَا يَخْلُقُ الْهَلَاكَ عِنْدَ شُرْبِ السُّمُومِ عَادَةً أَجْرَاهَا اللَّهُ سبحانه وتعالى، وَالْمَازِرِيُّ أَحَدُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي إِثْبَاتِهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِّيُّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عليه السلام عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] فَلْيَنْظُرْ هُنَاكَ مَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَمَّا الْجُمْلَةُ الْأُولَى وَهِيَ " الْعَيْنُ حَقٌّ " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ وَالْحَاكِمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" الْعَيْنُ حَقٌّ تَسْتَنْزِلُ الْحَالِقَ " أَيِ: الْجَبَلُ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَدِيٍّ وَأَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَيْضًا:" الْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَتُدْخِلُ الْجَمَلَ الْقِدْرَ ". وَفِي رِوَايَةِ الْكَحَجِيِّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: " الْعَيْنُ حَقٌّ وَيَحْضُرُ بِهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ.

ص: 2871

الْفَصْلُ الثَّانِي

4532 -

عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَنَتَدَاوَى؟ قَالَ: " نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ! تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ، الْهَرَمُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

4532 -

(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) : صَحَابِيٌّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالُوا) : أَيْ: بَعْضُ الصَّحَابَةِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَنَتَدَاوَى؟) : أَيْ: أَنَتْرُكُ تَرْكَ الْمُعَالَجَةِ فَنَطْلُبُ الدَّوَاءَ إِذَا عُرِضَ الدَّاءُ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِرِوَايَةِ الرَّاوِي. أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(نَعَمْ) : وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيِّ: الْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ تَسْتَدْعِيهِ الْهَمْزَةُ يَعْنِي: أَنَعْتَبِرُ الطِّبَّ فَنَتَدَاوَى أَوْ نَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ وَنَتْرُكُ التَّدَاوِيَ؟ فَلَا خَفَاءَ أَنَّهُ لَا يُلَائِمُهُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ، وَأَيْضًا جَعْلُ التَّوَكُّلِ مِنْ قِسْمِ تَرْكِ التَّدَاوِي غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْمَعْنَى. (يَا عِبَادَ اللَّهِ) : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ لَا يُنَافِي الْعُبُودِيَّةَ، وَلَا يَدَعُ التَّوَكُّلَ عَلَى صَاحِبِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ:" اعْقِلْ وَتَوَكَّلْ ".

(تَدَاوُوا) : تَأْكِيدًا لِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: " نَعَمْ "، وَالْمَعْنَى تَدَاوُوا وَلَا تَعْتَمِدُوا فِي الشِّفَاءِ عَلَى التَّدَاوِي، بَلْ كُونُوا عِبَادَ اللَّهِ مُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ، وَمُفَوِّضِينَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَكَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ:(فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ، الْهَرَمِ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالرَّاءِ وَهُوَ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ دَاءٍ، وَقِيلَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، أَوْ مَنْصُوبٍ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَالْمُرَادُ بِهِ الْكِبَرُ، وَجَعَلَهُ دَاءً تَشْبِيهًا لَهُ، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَعْقُبُهُ كَالْأَدْوَاءِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَنْبَعُ الْأَدْوَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَطِبَّاءِ: سَمْعِي ضَعِيفٌ، فَقَالَ: مِنَ الْكِبَرِ. قَالَ فِي بَصَرِي غَشَيَانٌ، فَقَالَ: مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي قُوَّةٌ عَلَى الْمَشْيِ وَعَلَى الْبَطْشِ، وَلِي انْكِسَارٌ فِي الظَّهْرِ، وَوَجَعٌ فِي الْجَنْبِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. فَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهَا: إِنَّهُ مِنَ الْكِبَرِ، فَسَاءَ خُلُقُهُ، فَقَالَ: مَا أَجْهَلَكَ كُلُّهُ مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ: هَذَا أَيْضًا مِنَ الْكِبَرِ، وَقَدْ قَالُوا: مَنِ ابْتُلِيَ بِالْكِبَرِ فَقَدِ ابْتُلِيَ بِأَلْفِ دَاءٍ.

قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: الدَّاءُ: خُرُوجُ الْبَدَنِ وَالْعُضْوِ عَنِ اعْتِدَالِهِ بِإِحْدَى الدَّرَجِ الْأَوَّلِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا إِلَّا وَلَهُ ضِدٌّ وَشِفَاءُ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْجَهْلِ بِهِ، أَوْ فَقْدِهِ، أَوْ مَوَانِعَ أُخْرَى، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَهُوَ اضْمِحْلَالٌ طَبِيعِيٌّ وَطَرِيقٌ إِلَى الْفَنَاءِ ضَرُورِيٌّ، فَلَمْ يُوضَعْ لَهُ شِفَاءٌ، وَالْمَوْتُ أَجْلٌ مَكْتُوبٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " «تَدَاوُوا يَا عِبَادَ اللَّهِ» " إِلَخْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي شَرْحِ النَّقَايَةِ أَنَّهُ: رَوَى الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ عَنْهُ قَالَ: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَهَلْ عَلَيْنَا جُنَاحٌ أَنْ نَتَدَاوَى؟ قَالَ: " تَدَاوُوا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً» ". وَفِي لَفْظَةٍ: "«إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ» "

ص: 2871

4533 -

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

4533 -

(وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تُكْرِهُوا) : نَهْيٌ مِنَ الْإِكْرَاهِ (مَرْضَاكُمْ) : جَمْعُ مَرِيضٍ (عَلَى الطَّعَامِ) : أَيْ: عَلَى تَنَاوُلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِلْغِذَاءِ وَفِي مَعْنَاهَا مَا يُعْطِي لَهُمْ لِلدَّوَاءِ (فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ أَيْ: يَمُدُّهُمْ بِمَا يَقَعُ مَوْقِعَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَيَرْزُقُهُمْ صَبْرًا عَلَى أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ وَالْقُوَّةَ مِنَ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: أَيْ يَحْفَظُ قُوَاهُمْ وَيَمُدُّهُمْ بِمَا يُفِيدُ فَائِدَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي حِفْظِ الرُّوحِ وَتَقْوِيمِ الْبَدَنِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:" «أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» " وَإِنْ كَانَ مَا بَيْنَ الْإِطْعَامَيْنِ وَالطَّعَامَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ، (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 2872

4534 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنَ الشَّوْكَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

4534 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَوَى) : أَيْ: بِيَدِهِ أَوْ أَمَرَ بِأَنْ يُكْوَى أَحَدٌ (أَسْعَدَ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْعَيْنِ بَيْنَهُمَا مُهْمَلَةٌ (ابْنَ زُرَارَةَ) : بِضَمِّ الزَّايِ وَفَتْحِ الرَّاءَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ، وَفِي آخِرِهِ تَاءٌ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (مِنَ الشَّوْكَةِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِهَا وَهِيَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ: حُمْرَةٌ تَعْلُو الْوَجْهَ وَالْجَسَدَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) .

ص: 2872

4535 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَدَاوَى مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ وَالزَّيْتِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4535 -

(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه) قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ الْخَزْرَجِيَّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، رَوَى عَنْهُ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ. (قَالَ:«أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَدَاوَى مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيِّ» ) : وَقَدْ سَبَقَ (وَالزَّيْتِ) : إِمَّا يَأْكُلُهُ وَإِمَّا بِتَدْهِينِهِ أَوْ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؟ لِمَا وَرَدَ: " «كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» " عَلَى مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي غَيْرِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" كُلُوا الزَّيْتَ وَادْهِنُوا بِهِ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ سَبْعِينَ دَاءً مِنْهَا الْجُذَامُ ". وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَامِرٍ: " عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ زَيْتِ الزَّيْتُونِ فَتَدَاوُوا بِهِ فَإِنَّهُ مَصَحَّةٌ مِنَ الْبَاسُورِ ". ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ أَنْ يُتَدَاوَى بِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي اللَّدُودِ كَمَا سَبَقَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2872

4536 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْعَتُ الزَّيْتَ وَالْوَرْسَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4536 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْعَتُ الزَّيْتَ وَالْوَرْسَ) : أَيْ: يَصِفُ حُسْنَهُمَا وَيَمْدَحُ التَّدَاوِيَ بِهِمَا (مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ) : أَيْ: مِنْ أَجْلِ مُدَاوَاتِهَا، وَمِنِ ابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ يَنْعَتُ بِهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: الْوَرْسُ نَبْتٌ أَصْفَرٌ يُصْبَغُ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ الْوَرْسُ: شَيْءٌ يُشْبِهُ الزَّعْفَرَانَ يَحْسُنُ فِي مُدَاوَاةِ ذَاتِ الْجَنْبِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَرْسُ نَبَاتٌ كَالسِّمْسِمِ، لَيْسَ إِلَّا بِالْيَمَنِ، يُزْرَعُ فَيَبْقَى عِشْرِينَ سَنَةً، نَافِعٌ لِلْكُلَى طِلَاءٌ، وَلِلْبَهَقِ شُرْبًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2872

4537 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهَا: " بِمَ تَسْتَمْشِينَ؟ " قَالَتْ: بِالشُّبْرُمِ. قَالَ: " حَارٌّ جَارٌّ " قَالَتْ: ثُمَّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسَّنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ أَنَّ شَيْئًا كَانَ فِيهِ الشِّفَاءُ مِنَ الْمَوْتِ؟ لَكَانَ فِي السَّنَا» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

4537 -

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هَاجَرَتْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ هُنَاكَ مُحَمَّدًا وَعَبْدَ اللَّهِ وَعَوْنًا، ثُمَّ هَاجَرَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ تَزَوَّجَهَا.

ص: 2872

أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا، فَلَمَّا مَاتَ الصِّدِّيقُ تَزَوَّجَهَا عَلَيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى، رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ اهـ. وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بِمَ تَسْتَمْشِينَ) أَيْ: بِأَيِّ شَيْءٍ تَطْلُبِينَ الْإِسْهَالَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ شُرْبُ الْمَشْيِ، وَفِي النِّهَايَةِ: أَيْ بِمَا تُسَهِّلِينَ بَطْنَكِ؟ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَشْيُ الَّذِي يَعْرِضُ عِنْدَ شُرْبِ الدَّوَاءِ. (قَالَتْ بِالشُّبْرُمِ) : بِضَمِّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ وَرَاءٍ مَضْمُومَةٍ نَبْتٌ يُسْهِلُ الْبَطْنَ، وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الشِّيحِ يُقَالُ لَهُ بِالْعَجَمِيِّ دَرْمَنَهْ، وَقِيلَ حَبٌّ يُشْبِهُ الْحِمَّصَ يُطْبَخُ وَيُشْرَبُ مَاؤُهُ لِلتَّدَاوِي، وَقِيلَ هُوَ مِنَ الْعَقَاقِيرِ الْمُسَهِّلَةِ. (قَالَ: حَارٌّ) بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ (جَارٌّ) : وَكَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ، لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْإِسْهَالِ، وَهُوَ عَلَى مَا ضَبَطْنَاهُ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. وَفِي الْكَاشِفِ: وَرُوِيَ حَارٌّ جَارٌّ بِالْجِيمِ اتِّبَاعًا لِلْحَارِّ أَوْ يَارٌّ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَالرَّاءُ مُشَدَّدَةٌ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: الْأَوَّلُ بِحَاءٍ مُهْمَلَةٍ مِنَ الْحَرِّ، وَالثَّانِي بِجِيمٍ مِنَ الْجَرِّ وَفِي نُسْخَةٍ هُمَا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ حَارٌّ يَارٌّ عَلَى أَنَّ يَارًّا تَابِعُ حَارٍّ، وَهُوَ فِي كَلَامِهِمْ أَكْثَرُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَارٌّ بِالْجِيمِ اتْبَاعٌ لِلْحَارِّ بِالْحَاءِ، وَكَذَلِكَ يَارٌّ بِالْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَالرَّاءُ الْمُشَدَّدَةُ، وَحَرَّانُ يَرَّانُ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَبَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: حَارٌّ حَارٌّ أَيْ: بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فِيهَا اهـ.

وَأَغْرَبَ مَنْ جَعَلَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى الْوَاقِعَةَ فِي الْمَصَابِيحِ أَصْلًا لِلْمِشْكَاةِ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْهَا الْمُصَنِّفُ إِلَى مَا طَابَقَ الْأُصُولَ (قَالَتْ: ثُمَّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسَّنَا) : بِفَتْحِ السِّينِ مَقْصُورًا وَهُوَ السَّنَا الْمَكِّيُّ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَفِي النِّهَايَةِ: السَّنَا بِالْقَصْرِ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ خَمْلٌ إِذَا يَبِسَ، فَإِذَا حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ سُمِعَ لَهُ زَجَلٌ. الْوَاحِدَةُ سَنَاةٌ. وَفِي الْفَائِقِ: وَقَدْ يُرْوَى بِالْمَدِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: بِالْمَدِّ نَبْتٌ مُسْهِلٌ لِلصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَالْبَلْغَمِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيْ بَعْدَمَا سَأَلَنِي ثَانِيًا أَوْ حِينَ ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ اسْتِعْلَامًا وَاسْتِكْشَافًا (لَوْ أَنَّ شَيْئًا كَانَ فِيهِ الشِّفَاءُ مِنَ الْمَوْتِ؟ لَكَانَ فِي السَّنَا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ حَرَامٍ:( «عَلَيْكُمْ بِالسَّنَا وَالسَّنُّوتِ، فَإِنَّ فِيهِمَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلَّا السَّامَ» ) وَهُوَ الْمَوْتُ، وَالسَّنُّوتُ قِيلَ الْعَسَلُ، وَقِيلَ الرُّبُّ، وَقِيلَ الْكَمُّونُ. وَفِي الْقَامُوسِ: السَّنُّوتُ، كَتَنُّورٍ وَسِنَّوْرِ الزُّبْدِ، وَالْجُبْنُ، وَالْعَسَلُ، وَضَرْبٌ مِنَ التَّمْرِ، وَالرُّبُّ، وَالشِّبِتُّ، وَالرَّازِيَانِجُ، وَالْكَمُّونُ.

ص: 2873

4538 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوُوا، وَلَا تَدَاوُوا بِحَرَامٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4538 -

(وَعَى أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ) : أَيْ: أَحْدَثَهُمَا وَأَوْجَدَهُمَا (وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً) : أَيْ: حَلَالًا (فَتَدَاوُوا) : أَيْ: بِحَلَالٍ (وَلَا تَدَاوُوا) . بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (بِحَرَامٍ) : أَيْ: نَحْوَ بَوْلٍ وَخَمْرٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: دَوَاءٌ مُطْلَقٌ لَهُ شُيُوعٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ:" وَلَا تَدَاوُوا بِحَرَامٍ " يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً حَرَامًا كَانَ أَوْ حَلَالًا فَلَا تَدَاوُوا بِالْحَرَامِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ كَلَامُهُ: أَنَّ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً حَلَالًا فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّفْرِيعِ بِقَوْلِهِ: فَتَدَاوُوا وَلَا تَدَاوُوا بِحَرَامٍ، نَعَمْ لَوْ قِيلَ: خُلِقَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ مِنْ حَرَامٍ وَحَلَالٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، لَكِنْ يُخَالِفُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا:" «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، «أَنَّ طَارِقَ بْنَ سُوِيدٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْخَمْرِ، فَنَهَاهُ فَقَالَ: إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ. فَقَالَ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ» ". وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا» ". وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] لِأَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَلَمَّا حُرِّمَتْ سُلِبَتِ الْمَنَافِعُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2873

4539 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

4539 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّوَاءِ الْخَبِيثِ» ) : أَيْ: النَّجِسِ أَوِ الْحَرَامِ وَهُوَ أَعَمٌّ، وَفِي الْمَعْنَى أَتَمٌّ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ زِيَادَةٍ: يَعْنِي السُّمَّ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَقِيلَ. أَرَادَ بِهِ خُبْثَ النَّجَاسَةِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ مُحَرَّمٌ مِنْ خَمْرٍ أَوْ لَحْمِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ السُّنَّةُ مِنْ أَبْوَالِ الْإِبِلِ. قُلْتُ: عَلَى خِلَافٍ فِيهِ؟ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَحِلُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ لِلتَّدَاوِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخَبِيثَ مِنْ جِهَةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَذَاقِ، وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ كُرْهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الطِّبَاعِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ طُعُومَ الْأَدْوِيَةِ كَرِيهَةٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَهَا أَيْسَرُ احْتِمَالًا وَأَقَلُّ كَرَاهَةً اهـ. وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا فِي النِّهَايَةِ.

قُلْتُ. وَقَدْ تَكُونُ الْكَرَاهَةُ لِلرَّائِحَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا هُوَ أَقَلُّ كَرَاهَةً أَقْرَبُ إِلَى قَبُولِ الطَّبِيعَةِ، مَعَ أَنَّ الطَّبَائِعَ مُخْتَلِفَةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.

ص: 2874

4540 -

وَعَنْ سَلْمَى خَادِمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: «مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إِلَّا قَالَ: " احْتَجِمْ " وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إِلَّا قَالَ: " اخْتَضِبْهُمَا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4540 -

(وَعَنْ سَلْمَى رضي الله عنها : بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمِيمِ بَيْنَهُمَا لَامٌ سَاكِنَةٌ (خَادِمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هِيَ أُمُّ رَافِعٍ صَحَابِيَّةٌ، رَوَى عَنْهَا ابْنُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهِيَ قَابِلَةُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (قَالَتْ: مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعًا فِي رَأْسِهِ) أَيْ: نَاشِئًا مِنْ كَثْرَةِ الدَّمِ (إِلَّا قَالَ) : أَيْ: لَهُ (احْتَجِمْ وَلَا وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ) أَيْ نَاشِئًا مِنَ الْحَرَارَةِ (إِلَّا قَالَ؟ اخْتَضِبْهُمَا) : أَيْ: بِالْحِنَّاءِ، وَالْحَدِيثُ بِإِطْلَاقِهِ يَشْمَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِاخْتِضَابِ كُفُوفِ الرِّجْلِ، وَيَجْتَنِبَ صَبْغَ الْأَظْفَارِ احْتَرِازًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ مَا أَمْكَنَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2874

4541 -

وَعَنْهَا، قَالَتْ:«مَا كَانَ يَكُونُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرْحَةٌ وَلَا نَكْبَةٌ إِلَّا أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4541 -

(وَعَنْهَا) : أَيْ. عَنْ سَلْمَى رضي الله عنها (مَا كَانَ) : أَيِ: الشَّأْنُ (يَكُونُ) : بِالتَّذْكِيرِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّأْنِيثِ أَيْ يُوجَدُ وَيَقَعُ. (بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُرْحَةً) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي زَائِدًا بِقَرِينَةِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْتَكِي، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ زَائِدٍ بِالتَّأْوِيلِ أَيْ: مَا كَانَ قُرْحَةً تَكُونُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ.

وَالْقُرْحَةُ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُضَمُّ، جِرَاحَةٌ مِنْ سَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] وَقَدْ قُرِئَ فِيهِ بِالْوَجْهَيْنِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى الْفَتْحِ، وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْقَرْحُ: أَلَمُ الْجِرَاحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْجِرَاحِ وَالْقُرُوحِ الْخَارِجِيَّةِ فِي الْجَسَدِ، وَمِنْهُ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ، وَمِنْهُ: قُرِحَتْ أَشْدَاقُنَا أَيْ: أَصَابَتْهَا الْقُرُوحُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمِصْبَاحِ: قَرَحَ الرَّجُلُ: أَلَمْ يَقْرَحْ قَرْحًا خَرَجَتْ بِهِ قُرُوحٌ، وَالِاسْمُ الْقُرْحُ بِالضَّمِّ، وَقِيلَ الْمَضْمُومُ وَالْمَفْتُوحُ لُغَتَانِ، كَالْجَهْدِ وَالْجُهْدِ، وَالْمَفْتُوحُ لُغَةُ الْحِجَازِ (وَلَا نَكْبَةٌ) : بِفَتْحِ النُّونِ جِرَاحَةٌ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَوْكٍ، وَلَا: زَائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ نُكِبَتْ أُصْبُعُهُ أَيْ: نَالَتْهَا الْحِجَارَةُ. (إِلَّا أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ) : لِأَنَّهُ بِبُرُودَتِهِ يُخَفِّفُ حَرَارَةَ الْجِرَاحَةِ وَأَلَمَ الدَّمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)

ص: 2874

4542 -

وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَجِمُ عَلَى هَامَتِهِ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: " مَنْ أَهْرَاقَ مِنْ هَذِهِ الدِّمَاءِ، فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ لِشَيْءٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

4542 -

(وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ رضي الله عنه : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (الْأَنْمَارِيُّ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَضْلِ الصَّحَابَةِ: هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، نَزَلَ بِالشَّامِ، رَوَى عَنْهُ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، وَنَعِيمُ بْنُ زِيَادَةَ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْتَجِمُ عَلَى هَامَتِهِ) : أَيْ: رَأَسِهِ، وَقِيلَ وَسَطُ رَأْسِهِ أَيْ: لِلسُّمِّ كَمَا سَيَأْتِي، وَرَفَعَهُ مَعْمَرٌ بِغَيْرِ سُمٍّ وَقَدْ أَضَرَّهُ (وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ هَذَا مَرَّةً وَذَاكَ مَرَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَهُمَا (وَهُوَ يَقُولُ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مُؤَيِّدَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ (مَنْ أَهْرَقَ) : أَيْ: أَرَاقَ وَصَبَّ (مِنْ هَذِهِ الدِّمَاءِ) . أَيْ: بَعْضِ هَذِهِ الدِّمَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي الْبَدَنِ الْمَحْسُوسِ آثَارُهَا عَلَى الْبَشَرَةِ، وَهُوَ الْمِقْدَارُ الْفَاسِدُ الْمَعْرُوفُ بِعَلَامَةٍ يَعْلَمُهَا أَهْلُهَا، (فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يَتَدَاوَى بِشَيْءٍ) : أَيْ: آخَرُ (لِشَيْءٍ) : أَيْ مِنَ الْأَمْرَاضِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: كَذَا هُوَ بِزِيَادَةِ الشَّيْءِ فِي أَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ اهـ. وَلَعَلَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَعَلَى صَاحِبِهَا اعْتِرَاضٌ وَارِدٌ بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ بِالْفِعْلِ. وَصَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ.

ص: 2875

4543 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَى وَرِكِهِ مِنْ وَثْءٍ كَانَ بِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4543 -

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَى وَرِكِهِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الرَّاءِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَرِكُ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ كَكَتِفِ مَا فَوْقَ الْفَخْذِ (مِنْ وَثْءٍ) . بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ فَهَمْزٌ أَيْ: مِنْ أَجْلِ وَجَعٍ يُصِيبُ الْعُضْوَ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ، وَقِيلَ هُوَ مَا يَعْرِضُ لِلْعُضْوِ مِنْ حَدَرٍ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُصِيبَ الْعَظْمَ وَهَنٌ وَمِنَ الرُّوَاةِ مَنْ يَكْتُبُهَا بِالْيَاءِ وَيَتْرُكُ الْهَمْزَةَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَابِيحِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ كَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كِتَابَةِ الْيَاءِ وَالْهَمْزِ، وَلَا يُقْرَأُ إِلَّا بِالْهَمْزِ أَوْ يُكْتَفَى بِالْهَمْزِ مِنْ غَيْرِ كِتَابَةِ الْيَاءِ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنَ الِاشْتِبَاهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَذَا هُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ:(كَانَ) أَيْ. الْوَثْءُ (بِهِ) : صِفَةٌ لِلْوَثْءِ: وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْوَثْءُ وَجَعٌ يُصِيبُ اللَّحْمَ لَا يَبْلُغُ الْعَظْمَ، أَوْ وَجَعٌ فِي الْعَظْمِ بِلَا كَسْرٍ أَوْ هُوَ الْفَكُّ وَبِهِ وَثْءٌ، وَلَا تَقُلْ: وَثْيٌّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2875

4544 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ: أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ: " مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

4544 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ لَيْلَةَ) : بِالتَّنْوِينِ فِي نُسْخَةٍ، وَالصَّحِيحُ بِفَتْحِهَا مُضَافَةً إِلَى قَوْلِهِ:(أُسْرِيَ بِهِ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (أَنَّهُ لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَأٍ) : أَيْ: جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ تَمْلَأُ الْعَيْنَ (مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ) : وَهَذَا نَقْلٌ بِالْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ:(مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ) : بَيَانٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ أَمْرُهُمْ جَمِيعًا، وَتَقْرِيرُهُ صلى الله عليه وسلم وَنَقْلُهُ عَنْهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ أَيْضًا، هَذَا وَقَدْ تَجِبُ الْحِجَامَةُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .

ص: 2875

4545 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ: «إِنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4545 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ تَيْمِيٌّ قُرَشِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، صَحَابِيٌّ وَقِيلَ: أَنَّهُ أَدْرَكَ وَلَيْسَ لَهُ رِوَايَةٌ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ اهـ. فَعَلَى مَا قِيلَ رِوَايَاتُهُ مُرْسَلَةٌ وَهُوَ لَا يَضُرُّ إِذْ

ص: 2875

مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا، بِخِلَافِ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ، فَإِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ إِلَّا فِيمَا يَعْتَضِدُ (أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضِفْدَعٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرٍ، وَرُوِيَ بِفَتْحِ الدَّالِّ أَيْضًا. قَالَ الْقَاضِي. هُوَ بِكَسْرِ الدَّالِّ عَلَى مِثَالِ الْخِنْصَرِ وَالْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا. وَقَالَ شَارِحٌ: فَتْحُ الدَّالِّ لَيْسَ بِسَدِيدٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: الضِّفْدَعُ كَزِبْرِجٍ وَجَعْفَرٍ وَجُنْدَبٍ وَدِرْهَمٍ، وَهَذَا أَقَلُّ أَوْ مَرْدُودٌ دَابَّةٌ نَهْرِيَّةٌ، وَلَحْمُهَا مَطْبُوخًا بِزَيْتٍ وَمِلْحٍ تِرْيَاقٌ لِلْهَوَامِّ وَبَرِّيَّةٌ وَشَحْمُهَا عَجِيبٌ لِقَلْعِ الْأَسْنَانِ (يَجْعَلُهَا) : أَيْ هُوَ وَغَيْرُهُ (فِي دَوَاءٍ) : بِأَنْ يَجْعَلَهَا مُرَكَّبَةً مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى يَسْتَعْمِلُهَا لِأَجْلِ دَوَاءٍ وَشِفَاءِ دَاءٍ (فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا) أَيْ: وَجَعْلِهَا فِي الدَّوَاءِ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ السُّؤَالَيْنِ وَالْجَوَابِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ:«نَهَى عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ لِلدَّوَاءِ» ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَوْ عَنْ قَتْلِهَا فَقَطْ قَالَ شَارِحٌ: وَلَمْ يَكُنِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهَا إِبْقَاءً عَلَيْهَا وَتَكْرُمَةً لَهَا، بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّدَاوِيَ بِهَا لِرِجْسِهَا وَقَذَارَتِهَا.

قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ التَّدَاوِيَ بِهَا لِنَجَاسَتِهَا وَحُرْمَتِهَا إِذْ لَمْ يُجَوِّزِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ لِاسْتِقْذَارِ الطَّبْعِ وَتَنَفُّرِهِ عَنْهَا، أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَى الطَّبِيبُ فِيهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ. قُلْتُ: وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: " «لَا تَقْتُلُوا الضِّفَادِعَ، فَإِنَّ نَعِيقَهُنَّ تَسْبِيحٌ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يُطَابِقُ النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ جَوَابًا عَنِ السُّؤَالِ بِالتَّدَاوِي؟ قُلْتُ: الْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إِمَّا لِكَوْنِهِ مِنَ الْفَوَاسِقِ وَلَيْسَ بِهَا، وَإِمَّا لِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ وَلَيْسَ بِذَلِكَ لِنَجَاسَتِهِ وَتَنَفُّرِ الطَّبْعِ عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ لَمْ يَجُزِ الِانْتِفَاعُ بِهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَتَقَدَّمَ رِوَايَاتٌ غَيْرُهُ.

ص: 2876

4546 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنهما قَالَ؟ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ.

ــ

4546 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْذَعَيْنِ» ) وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ شَارِحٌ: عِرْقَانِ فِي مَوْضِعِ الْحِجَامَةِ مِنَ الْعُنُقِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَخْدَعُ عِرْقٌ فِي الْمَحْجَمَتَيْنِ وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الْوَرِيدِ (وَالْكَاهِلُ) : مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ، فَفِي الْقَامُوسِ الْكَاهِلُ: كَصَاحِبٍ، الْحَارِكُ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ: يَالٌ، وَبِالْعَرَبِيَّةِ: الْغَارِبُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي مَحَلِّهِ، أَوْ مُقَدَّمُ أَعْلَى الظَّهْرِ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ، وَهُوَ الثُّلُثُ الْأَعْلَى وَهُوَ سِتٌّ فِقَرٍ وَمَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، أَوْ مَوْصِلُ الْعُنُقِ مِنَ الصُّلْبِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. (وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) .

ص: 2876

4547 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَحِبُّ الْحِجَامَةَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

ــ

4547 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَحِبُّ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: يُحِبُّ (الْحِجَامَةَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ)

ص: 2876

4548 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً لَهُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4548 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) : أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنَ الشَّهْرِ (كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ لَهُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

ص: 2877

4549 -

وَعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكَرَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ أَبَاهَا كَانَ يُنْهِي أَهْلَهُ عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَزْعُمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ

ــ

4549 -

(وَعَنْ كَبْشَةَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَتَاءِ تَأْنِيثٍ (بِنْتِ أَبِي بَكَرَةَ) : لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ كَبْشَةَ بِنْتَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَحَدِيثَهَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ. قَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ عَنْ كَيِّسَةَ بِتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ مُهْمَلَةٍ بِنْتِ أَبِي بَكَرَةَ الثَّقَفِيَّةِ لَهَا عَنْ أَبِيهَا حَدِيثٌ فِي الْحِجَامَةِ، لَا يُعْرَفُ حَالُهَا مِنَ الثَّالِثَةِ، كَذَا فِي التَّقْرِيبِ قُلْتُ: وَفِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ كَبْشَةُ أَيْ: بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ جَمَاعَةُ نِسْوَةٍ، وَبِيَاءٍ ثَقِيلَةٍ وَمُهْمَلَةٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ (أَنَّ أَبَاهَا كَانَ يُنْهِي أَهْلَهُ عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ، وَيَزْعُمُ) : أَيْ: يَدَّعِي وَيَقُولُ وَيَرْوِي (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : فِي النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا يُقَالُ: زَعَمَ فِي حَدِيثٍ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَا ثَبْتَ فِيهِ، وَإِنَّمَا يُحْكَى عَنِ الْأَلْسُنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَلَاغِ، وَالزَّعْمُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ قَرِيبٌ مِنَ الظَّنِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ فِي الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ، وَعْدَّاهُ بِعَنْ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهَا: كَانَ يُنْهِي يُوهِمُ أَنَّ الْحَدِيثَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فَأَتْبَعْتُهُ بِقَوْلِهَا: وَيَزْعُمُ لِتُشْعِرَ بِأَنَّهُ مَرْفُوعٌ (أَنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ نَظَرٌ لِلَّفْظِ يَزْعُمُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مُنْقَطِعًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ مَمْدُودًا وَبِضَمِّ أَوَّلِهِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (يَوْمُ الدَّمِ) : أَيْ: يَوْمُ غَلَبَتِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَوْمٌ كَانَ فِيهِ الدَّمُ أَيْ: قَتَلَ ابْنُ آدَمَ أَخَاهُ. قُلْتُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا سَبَبٌ لِلْآخَرِ. (وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْقَافِ فَهَمْزٍ أَيْ: لَا يَسْكُنُ الدَّمُ فِيهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَوِ احْتَجَمَ أَوِ اقْتَصَدَ فِيهِ لَرُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِهِ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَلَعَلَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا: " «مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ كَانَ دَوَاءً لِدَاءِ سَنَةٍ» .

ص: 2877

4550 -

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:( «مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ، فَأَصَابَهُ وَضَحٌ؟ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: وَقَدْ أُسْنِدَ وَلَا يَصِحُّ.

ــ

4550 -

(وَعَنِ الزُّهْرِيِّ مُرْسَلًا) : أَيْ: بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ مَمْدُودًا، وَفِي الْقَامُوسِ: الْأَرْبِعَاءُ مُثَلَّثَةُ الْبَاءِ مَمْدُودَةٌ (أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ) : أَوْ لِلتَّنْوِيعِ (فَأَصَابَهُ وَضَحٌ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ فَمُهْمَلَةٍ أَيْ: بَرَصٌّ، وَالْوَضَحُ الْبَيَاضُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ (فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ) : أَيْ: حَيْثُ جَهِلْتَ أَوْ عَمِلَ بِخِلَافِ عِلْمِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَقَدْ أُسْنِدَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيِ اتَّصَلَ الْحَدِيثُ أَيْ: رِجَالُهُ فِي إِسْنَادٍ آخَرَ (وَقَالَ) : أَيْ: أَبُو دَاوُدَ (وَلَا يَصِحُّ) : أَيْ: ذَلِكَ الْإِسْنَادُ. قُلْتُ: لَكِنْ حَصَلَ لَهُ الِاعْتِضَادُ عَلَى أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا عِنْدَ جُمْهُورِ النُّقَّادِ.

ص: 2877

4551 -

وَعَنْهُ مُرْسَلًا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:( «مَنِ احْتَجَمَ أَوِ اطَّلَى يَوْمَ السَّبْتِ أَوِ الْأَرْبِعَاءِ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فِي الْوَضَحِ» ) . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ "

ــ

4551 -

(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ الزُّهْرِيِّ (مُرْسَلًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنِ احْتَجَمَ أَوِ اطَّلَى) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: لَطَّخَ عُضْوًا بِدَوَاءٍ، وَأَصْلُهُ اطْتَلَى قُلِبَتِ التَّاءُ طَاءً وَأُدْغِمَ. يُقَالُ: طَلَيْتُهُ بِالنَّوْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا لَطَّخْتُهُ، وَأَطْلَيْتُ عَلَى افْتَعَلْتُ بِتَرْكِ الْمَفْعُولِ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ. كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَفِي الْمُغْرِبِ: وَعَلَى هَذَا أَطْلَيْتُ شِقَاقَ رِجْلَيْهِ، خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ طَلَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (يَوْمَ السَّبْتِ) : ظَرْفٌ تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، فَإِنَّ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ:(أَوِ الْأَرْبِعَاءِ؟ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فِي الْوَضَحِ) : أَيْ: فِي حُصُولِهِ أَوْ لِأَجْلِ وُصُولِهِ (رَوَاهُ) : أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ سَنَدَيْنِ مُعَاضِدَيْنِ لِلْمُرْسَلِ، وَقَدْ جَاءَ مُسْنَدًا فِي سَنَدٍ آخَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، وَالْحَاكِمِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" مَنِ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السَّبْتِ فَرَأَى فِي جَسَدِهِ وَضَحًا فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ " فَبِاجْتِمَاعِ هَذِهِ الْأَسَانِيدِ صَحَّ مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى خَلْقِهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْأُسْبُوعِ خَوَاصًّا مِنْ أَسْبَابِ التَّأْثِيرِ وَيَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.

ص: 2878

4552 -

وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فِيهِ قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ آلَ عَبْدَ اللَّهِ لَأَغْنِيَاءٌ عَنِ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ " فَقُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَكَذَا؟ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تُقْذَفُ، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ، فَإِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَلِكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ، كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رُقِيَ كُفَّ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " اذْهِبِ الْبَأْسَ، رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4552 -

(وَعَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) : قَالَ الْمُصِنِّفُ: هِيَ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيَّةُ، رَوَى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم. (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ) : أَيِ: ابْنَ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ (رَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا) : أَيْ: مُعَلَّقًا (فَقَالَ: مَا هَذَا؟) : أَيِ: الْخَيْطُ أَوِ الْفِعْلُ (قَالَتْ: خَيْطٌ رُقِيَ لِي فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتُمْ آلَ عَبْدِ اللَّهِ) : بِنَصْبِ آلٍ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ أَيْ: يَا آلَ عَبْدِ اللَّهِ، فَأَنْتُمْ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ (لْأَغْنِيَاءٌ عَنِ الشِّرْكِ) : وَيَجُوزُ دُخُولُ لَامِ الِابْتِدَاءِ لِلتَّأْكِيدِ فِي الْخَبَرِ كَمَا فِي حَدِيثِ " أَغْبَطُ أَوْلِيَائِي عِنْدِي الْمُؤْمِنُ خَفِيفُ الْحَاذِّ، وَالْجُمْلَةُ النِّدَائِيَّةُ مُعْتَرِضَةٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ، قَالَ النُّحَاةُ: أَصْلُ هَذِهِ اللَّامِ أَنْ تَقَعَ فِي الِابْتِدَاءِ وَوُقُوعُهَا فِي الْخَبَرِ جَائِزٌ، قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمُبْتَدَأُ أَيْ: مُبْتَدَأٌ آخَرُ، أَيْ: لَأَنْتُمْ أَغْنِيَاءٌ كَمَا قَرَّرَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] أَيْ: لَهُمَا سَاحِرَانِ اهـ. قَالَ مَنْصُوبٌ بَأَعْنِي أَوِ الِاخْتِصَاصِ أَوْ بِحَرْفِ النِّدَاءِ وَالْمُبْتَدَأِ الثَّانِي مُؤَكِّدٌ لِلْأَوَّلِ، وَقِيلَ خَبَرُهُ " آلَ عَبْدِ اللَّهِ " عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، وَلَأَغْنِيَاءٌ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَالْمُرَادُ بِالشِّرْكِ اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ قَوِيٌّ وَلَهُ تَأْثِيرٌ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ خَفِيٌّ، وَأَمَّا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ جَلِيٌّ.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ الرُّقَى) : أَيْ: رُقْيَةٌ فِيهَا اسْمُ صَنَمٍ أَوْ شَيْطَانٍ أَوْ كَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُعْرَفْ مَعْنَاهَا (وَالتَّمَائِمَ) : جَمْعُ التَّمِيمَةِ وَهِيَ التَّعْوِيذَةُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى الصَّبِيِّ أَطْلَقَهُ الطِّيبِيُّ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَآيَاتُهُ الْمَتْلُوَّةُ، وَالدَّعَوَاتُ الْمَأْثُورَةُ، وَقِيلَ: هِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتْ لِلْعَرَبِ تُعَلَّقُ عَلَى الصَّبِيِّ لِدَفْعِ الْعَيْنِ بِزَعْمِهِمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ، ثُمَّ اتْسَعُوا فِيهَا حَتَّى سَمُّوا بِهَا كُلَّ عَوَذَةٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَتَحْقِيقٌ مُسْتَحْسَنٌ. (وَالتِّوَلَةَ) : بِكَسْرِ التَّاءِ وَيُضَمِّ وَفَتْحِ الْوَاوِ نَوْعٌ مِنَ السِّحْرِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ مَا يُحَبَّبُ بِهِ الْمَرْأَةُ إِلَى زَوْجِهَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، أَوْ خَيْطٌ يُقْرَأُ فِيهِ مِنَ السِّحْرِ، أَوْ قِرْطَاسٌ يُكَعَّبُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ السِّحْرِ لِلْمَحَبَّةِ أَوْ غَيْرِهَا. قِيلَ: وَأَمَّا التُّوَلَةُ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ فَهِيَ الدَّاهِيَةُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ بِإِبْطَالِ الشَّرْعِ إِيَّاهَا، وَلِذَا قَالَ:(شِرْكٌ) : أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ إِمَّا جَلِيًّا وَإِمَّا خَفِيًّا. قَالَ الْقَاضِي: وَأُطْلِقَ الشِّرْكُ عَلَيْهَا إِمَّا لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْهَا فِي عَهْدِهِ مَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يَضْمَنُ الشِّرْكَ، أَوْ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِ تَأْثِيرِهَا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الشِّرْكِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالشِّرْكِ اعْتِقَادُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ قَوِيٌّ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ، وَكَانَ يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِانْخِرَاطَ فِي الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، وَمِنْ ثَمَّ حَسُنَ مِنْهُ قَوْلُهُ: أَنْتُمْ آلَ عَبْدِ اللَّهِ

ص: 2878

لَأَغْنِيَاءٌ أَيْ: أَعْنِي وَأَخُصُّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنَامِ، وَمِنْهَا قَوْلُهَا (فَقُلْتُ: لِمَ تَقُولُ هَكَذَا؟) : أَيْ: وَتَأْمُرُنِي بِالتَّوَكُّلِ وَعَدَمِ الِاسْتِرْقَاءِ، فَإِنِّي وَجَدْتُ فِي الِاسْتِرْقَاءِ فَائِدَةً، لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تُقْذَفُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ أَيْ: تُرْمَى بِمَا يُهَيِّجُ الْوَجَعَ ذَكَرَهُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا الْآتِي: فَإِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: تُرْمَى بِالرَّمَصِ أَوِ الدَّمْعِ، وَهُوَ مَاءُ الْعَيْنِ مِنَ الْوَجَعِ، وَالرَّمَصُ: بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ مَا جَمَدَ مِنَ الْوَسَخِ فِي مُؤَخِّرِ الْعَيْنِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ بِنَاءُ الْفَاعِلِ وَلَا أُحَقِّقُ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ أَكْثَرُ ظَنِّي.

(وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ) : أَيْ: أَتَرَدَّدُ بِالرَّوَاحِ وَالْمَجِيءِ (إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ، فَإِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ) أَيِ: الْعَيْنُ يَعْنِي وَجَعَهَا (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّمَا ذَلِكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (عَمَلُ الشَّيْطَانِ) : أَيْ: مِنْ فِعْلِهِ وَتَسْوِيلِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَجَعَ الَّذِي كَانَ فِي عَيْنَيْكِ لَمْ يَكُنْ وَجَعًا فِي الْحَقِيقَةِ، بَلْ ضَرْبٌ مِنْ ضَرَبَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ (كَانَ) : أَيِ: الشَّيْطَانُ (يَنْخَسُهَا) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: يَطْعَنُهَا (بِيَدِهِ، فَإِذَا رُقِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: إِذَا رَقَى الْيَهُودِيُّ (كُفَّ عَنْهَا) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ أَيْ: كَفُّ الشَّيْطَانِ عَنْ نَخْسِهَا وَتَرْكِ طَعْنِهَا (إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي) : أَيْ: عِنْدَ وَجَعِ الْعَيْنِ وَنَحْوِهَا (كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: اذْهِبِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِذْهَابِ أَيْ: أَزِلْ (الْبَأْسَ) : بِالْهَمْزِ السَّاكِنِ، وَقَدْ يُبْدَلُ أَيِ: الشِّدَّةُ، وَفِي الْمَوَاهِبِ مُطَابِقًا لِشَيْخِهِ الْعَسْقَلَانِيِّ هُوَ بِغَيْرِ هَمْزٍ لِمُؤَاخَاةِ قَوْلِهِ:(رَبَّ النَّاسِ) : أَيْ: يَا خَالِقَهُمْ وَمُرَبِّيهِمْ (وَاشْفِ) : بِهَمْزِ وَصْلٍ مَعْطُوفًا عَلَى " اذْهِبِ " عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْأُولَى وَهُمَا مُمَهِّدَتَانِ لِلثَّالِثَةِ (أَنْتَ الشَّافِي) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ بِتَعْرِيضِ الْخَبَرِ (لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ) : بِالرَّفْعِ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ (شِفَاءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ لِقَوْلِهِ: اشْفِ، وَالْجُمْلَتَانِ مُعْتَرِضَتَانِ (لَا يُغَادِرُ) : أَيْ: لَا يَتْرُكُ (سَقَمًا) : بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ وَسُكُونٍ أَيْ مَرَضًا، وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ قَوْلِهِ " شِفَاءً "، فَالتَّنْوِينُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ رَدٌّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ رُقْيَةَ الْيَهُودِيِّ شَافِيَةٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ الَّذِي لَا يُغَادِرُ سُقْمًا هُوَ شِفَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ شِفَاءَ الْيَهُودِيِّ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَسْكِينٌ مَا، يَعْنِي بِمُعَاوَنَةِ فِعْلِ الشَّيْطَانِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيِ: الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَرْفُوعَيْنِ وَعَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي، فَقَدْ ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَعُودُ بَعْضَ أَهْلِهِ وَيَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ:" اللَّهُمَّ اذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سُقْمًا» ".

قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ قَوْلُهُ: وَأَنْتَ الشَّافِي كَذَا لِأَكْثَرِ الرُّوَاةِ بِالْوَاوِ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ بِحَذْفِهَا، وَالضَّمِيرُ. فِي اشْفِهِ لِلتَّعْلِيلِ، أَوْ هِيَ هَاءُ السَّكْتِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ بِشَرْطَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَا يُوهِمُ نَقْصًا، وَالثَّانِي أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهِ:" {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ". وَقَوْلُهُ: لَا شِفَاءَ بِالْمَدِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا شِفَاؤُكَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مَوْضِعِ لَا شِفَاءَ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقَعُ مِنَ الدَّاءِ وَالتَّدَاوِي لَا يَنْجَحُ إِنْ لَمْ يُصَادِفْ تَقْدِيرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: شِفَاءً، مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ لِقَوْلِهِ اشْفِهِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ: هَذَا أَوْ هُوَ، وَقَوْلُهُ: لَا يُغَادِرُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَا يَتْرُكُ، وَفَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الشِّفَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، فَيُخْلِفُهُ مَرَضٌ آخَرُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَثَلًا، فَكَانَ يَدْعُو بِالشِّفَاءِ الْمُطْلَقِ لَا بِمُطْلَقِ الشِّفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَرْقِي الْمَحْرُوقَ بِقَوْلِهِ:" اذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ» "، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَالْحَاكِمُ عَنْ فُضَيْلَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «كَانَ يَرْقِي مَنِ احْتَبَسَ بَوْلُهُ أَوْ أَصَابَتْهُ حَصَاةٌ بِقَوْلِهِ:" رَبَّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُكَ أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ، فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ، وَاغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، فَأَنْزِلْ شِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ وَرَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ» " فَيَبْرَأُ.

ص: 2879

4553 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّشْرَةِ فَقَالَ: " هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4553 -

(وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّشْرَةِ) : بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ فَرَاءٍ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: ضَرْبٌ مِنَ الرُّقْيَةِ وَالْعِلَاجِ يُعَالَجُ بِهَا مَنْ كَانَ يُظَنُّ بِهِ مَسُّ الْجِنِّ، وَسُمِّيَتْ نُشْرَةً " لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ يُنْشَرُ بِهَا الْجِنُّ عَنِ الْمَمْسُوسِ مَا خَامَرَهُ مِنَ الدَّاءِ. وَفِي الْحَدِيثِ:«فَلَعَلَّ طِبًّا أَصَابَهُ» ، يَعْنِي سِحْرًا، «ثُمَّ نَشَرَهُ بِقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ، أَيْ: رَقَاهُ وَنَشَرَهُ أَيْضًا إِذَا كَتَبَ لَهُ النُّشْرَةَ، وَهِيَ كَالتَّعْوِيذِ. وَالرُّقْيَةِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ فِي قَوْلِهِ:(فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (هُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) : النَّوْعُ الَّذِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَالِجُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَالدَّعَوَاتِ الْمَأْثُورَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَلَا بَأْسَ، بَلْ يُسْتَحَبُّ سَوَاءٌ كَانَ تَعْوِيذًا أَوْ رُقْيَةً أَوْ نَشْرَةً، وَأَمَّا عَلَى لُغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَيَمْتَنِعُ لِاحْتِمَالِ الشِّرْكِ فِيهَا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِيَ ابْنًا وَبِهِ وَجَعٌ. قَالَ: " مَا وَجَعُهُ؟ " قَالَ: بِهِ لَمَمٌ وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ الْجُنُونُ عَلَى مَا فِي الْمُهَذَّبِ قَالَ: " فَأْتِنِي بِهِ " فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَوَّذَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَى {الْمُفْلِحُونَ - وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 5 - 163] الْآيَةُ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ وَ {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 284] إِلَى آخِرِ الْبَقَرَةِ وَ {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران: 18] الْآيَةَ وَ {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 54] فِي الْأَعْرَافِ الْآيَةَ وَ {فَتَعَالَى اللَّهُ} [المؤمنون: 116] إِلَى آخِرِ الْمُؤْمِنُونَ وَثَلَاثٍ مِنْ آخِرِ الْحَشْرِ {وَأَنَّهُ تَعَالَى} [الجن: 3] الْآيَةُ مِنَ الْجِنِّ وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَقَامَ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْكُ شَيْئًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ عِلَاقَةَ بْنِ صَحَارٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي الْمَعْتُوهَ بِالْفَاتِحَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، كُلَّمَا خَتَمَهَا جَمَعَ بُزَاقَهُ، ثُمَّ نَقَلَهُ» ، وَفِي الْمُغْرِبِ: أَنَّ الْمَعْتُوهَ هُوَ النَّاقِصُ فِي الْعَقْلِ، وَقِيلَ: الْمَدْهُوشُ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ.

ص: 2880

4554 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4554 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما) : قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيِّ: صَوَابُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، كَمَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا أُبَالِي مَا أَتَيْتُ) أَيْ: " مَا فَعَلْتُ " مَا الْأُولَى نَافِيهٌ، وَالثَّانِيَةُ مَوْصُولَةٌ، وَالرَّاجِعُ مَحْذُوفٌ وَالْمَوْصُولُ مَعَ الصِّلَةِ مَفْعُولُ أُبَالِي وَقَوْلُهُ (إِنْ أَنَا شَرِبْتُ تِرْيَاقًا) : إِلَى آخِرِهِ شَرْطٌ جَزَاؤُهُ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَعْنَى إِنْ صَدَرَ مِنِّي أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ كُنْتُ مِمَّنْ لَا يُبَالِي بِمَا يَفْعَلُ وَلَا يَنْزَجِرُ عَمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ شَرْعًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا فَمَا أُبَالِي كُلَّ شَيْءٍ أَتَيْتُ بِهِ، لَكِنْ أُبَالِي مِنْ إِتْيَانِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ التِّرْيَاقُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَجُوِّزَ ضَمُّهُ وَفَتْحُهُ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، لَكِنِ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الْأَشْرَفُ: التِّرْيَاقُ مَا يُسْتَعْمَلُ لِدَفْعِ السُّمِّ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْمَعَاجِينِ وَهُوَ مُعَرَّبٌ، وَيُقَالُ بِالدَّالِ أَيْضًا وَرُوِيَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الدِّرْيَاقِ بِالْكَسْرِ وَيُفْتَحُ: التِّرْيَاقُ وَهُوَ بِكَسْرٍ دَوَاءٌ مُرَكَّبٌ اخْتَرَعَهُ مَاغَنِيسُ وَتَمَّمَهُ أَنْدِرُ وَمَاغِسُ الْقَدِيمُ بِزِيَادَةِ لُحُومِ الْأَفَاعِي، وَبِهِ كَمُلَ الْغَرَضُ. وَهُوَ سَمَّاهُ بِهَذِهِ لِأَنَّهُ نَافِعٌ مِنْ لَدْغِ الْهَوَامِّ السَّبْعِيَّةِ وَهُوَ بِالْيُونَانِيَّةِ تِرْيَادٌ نَافِعٌ مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْمَشْرُوبَةِ السُّمِّيَّةِ، وَهِيَ بِالْيُونَانِيَّةِ فَاءٌ مَمْدُودَةٌ، ثُمَّ خُفِّفَ وَعُرِّبَ، وَهُوَ طِفْلٌ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ مُتَرَعْرِعٌ إِلَى عَشْرَةِ سِنِينَ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ وَعِشْرِينَ فِي غَيْرِهَا. ثُمَّ يَقِفُ عَشْرًا فِيهَا وَعِشْرِينَ فِي غَيْرِهَا، ثُمَّ يَمُوتُ وَيَصِيرُ كَبَعْضِ الْمَعَاجِينِ.

ص: 2880

قَالَ الْأَشْرَفُ: وَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ لُحُومِ الْأَفَاعِي وَالْخَمْرِ، وَهِيَ حَرَامٌ نَجِسَةٌ وَالتِّرْيَاقُ أَنْوَاعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقِيلَ: الْحَدِيثُ مُطْلَقٌ وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ كُلِّهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِانْتِزَاعِ عَنِ التَّوَكُّلِ. (أَوْ تَعَلَّقْتُ تَمِيمَةً) : أَيْ: أَخَذْتُهَا عَلَاقَةً، وَالْمُرَادُ مِنَ التَّمِيمَةِ مَا كَانَ مِنْ تَمَائِمِ الْجَاهِلِيَّةِ وَرُقَاهَا، فَإِنَّ الْقِسْمَ الَّذِي اخْتَصَّ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلِمَاتِهِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي جُمْلَتِهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مَرْجُوُّ الْبَرَكَةِ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِ السُّنَّةِ، وَقِيلَ: يُمْنَعُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ نَوْعُ قَدْحٍ فِي التَّوَكُّلِ، وَيُؤَيِّدُهُ صَنِيعُ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (أَوْ قُلْتُ الشِّعْرَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي) : أَيْ: قَصَدْتُهُ وَتَقَوَّلْتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟

فَذَلِكَ صَدَرَ لَا عَنْ قَصْدٍ وَلَا الْتِفَاتٍ مِنْهُ إِلَيْهِ أَنْ جَاءَ مَوْزُونًا، بَلْ كَانَ كَلَامًا مِنْ جِنْسِ كَلَامِهِ الَّذِي كَانَ يَرْمِي بِهِ عَلَى السَّلِيقَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا صَنْعَةٍ، وَلَا يُسَمَّى الْكَلَامُ الْمَوْزُونُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْوَزْنِ شِعْرًا عَلَى أَنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ عِنْدَ الْخَلِيلِ أَيْضًا، وَأَمَّا الشِّعْرُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنْ جِنْسِ سَائِرِ الْكَلَامِ حَسَنُهُ حَسَنٌ وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، نَعَمْ تَوَجُّهُ الْبَاطِنِ إِلَيْهِ وَتَضْيِيعُ الْعُمْرِ الشَّرِيفِ وَالتَّفْكِيرُ الْكَثِيرُ الْمَانِعُ عَنِ الْأُمُورِ الضَّرُورِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فِيهِ مَذْمُومٌ، وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا حَتَّى يُرِيَهُ أَيْ: يُفْسِدَهُ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي إِنَّ إِنْشَاءَ الشِّعْرِ حَرَامٌ عَلَيَّ، وَكَذَا شُرْبُ التِّرْيَاقِ وَتَعْلِيقُ التَّمَائِمِ حَرَامَانِ عَلَيَّ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ فَالتَّمَائِمُ وَإِنْشَاءُ الشِّعْرِ غَيْرُ حَرَامٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ كَذِبٌ، وَلَا هَجْوُ مُسْلِمٍ، أَوْ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي، وَكَذَا التِّرْيَاقُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مُحَرَّمٌ شَرْعًا مِنْ لُحُومِ الْأَفَاعِي وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بِالْوَاوِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

ص: 2881

4555 -

وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «مَنِ اكْتَوَى أَوِ اسْتَرْقَى، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

4555 -

(وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ اكْتَوَى) : أَيْ: بَالَغَ فِي أَسْبَابِ الصِّحَّةِ إِلَى أَنِ اكْتَوَى مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ (أَوِ اسْتَرْقَى) : أَيْ: بَالَغَ فِي دَفْعِ الْأَمْرَاضِ بِاسْتِعْمَالِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلِمَاتِ كِتَابِهِ، وَلَا مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَدْ بَرِئَ مِنَ التَّوَكُّلِ) : أَيْ: سَقَطَ مِنْ دَرَجَةِ التَّوَكُّلِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] وَفِي مُبَالَغَةِ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ دَلَالَةٌ عَلَى غَفْلَتِهِ عَنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَلِذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ بِقُفْلَيْنِ أَوْ بِقُفْلٍ، ثُمَّ وَصَّى الْجَارَ بِمُحَافَظَتِهِ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُتَوَكِّلًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ رَأَى الشِّفَاءَ مِنَ الْكَيَّةِ وَالرُّقْيَةِ) اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى ذَلِكَ بَرِئَ مِنَ الدِّينِ لَا مِنَ التَّوَكُّلِ فَقَطْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ رَأَى الشِّفَاءَ مِنْهُ مُنْحَصِرًا فِيهِ مِنَ الْأَسْبَابِ وَإِلَّا فَهُوَ سُبْحَانُهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَشْفِيَهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ مِنْ كَلَامِ الْمُحَاسَبِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ.

وَفِي النِّهَايَةِ: قَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ النَّهْيُ عَنِ الْكَيِّ فَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ أَمْرَهُ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَحْسِمُ الدَّاءَ، وَإِذَا لَمْ يُكْوَ الْعُضْوُ بَطَلَ وَعَطَبَ. فَنَهَاهُمْ إِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَبَاحَهُ إِذَا جُعِلَ سَبَبًا لِلشِّفَاءِ لَا عِلَّةً لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُبْرِئُهُ وَيَشْفِيهِ لَا الْكَيَّ وَالدَّوَاءَ، فَهُوَ أَمْرٌ يَكْثُرُ فِيهِ سُلُوكُ النَّاسِ يَقُولُونَ: لَوْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَمْ يَمُتْ، وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدِهِ لَمْ يُقْتَلْ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ. أَنْ يَكُونَ. نَهْيُهُ عَنِ الْكَيِّ إِذَا اسْتُعْمِلَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِرَازِ مِنْ حُدُوثِ الْمَرَضِ، وَقَبْلَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ التَّدَاوِي وَالْعِلَاجُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مِنْ قَبِيلِ التَّوَكُّلِ لِقَوْلِهِ:" «هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» " وَالتَّوَكُّلُ دَرَجَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْجَوَازِ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ: لَا يَتَدَاوُونَ، فَلَا بُدَّ لِتَخْصِيصٍ.

ص: 2881

ذَكَرَ الْكَيَّةَ وَالرُّقْيَةَ مِنْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ.

ص: 2882

4556 -

وَعَنْ عِيسَى بْنِ حَمْزَةَ قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ وَبِهِ حُمْرَةٌ، فَقُلْتُ: أَلَا تُعَلِّقُ تَمِيمَةً؟ فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4556 -

(وَعَنْ عِيسَى بْنِ حَمْزَةَ) : قِيلَ صَوَابُهُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى إِذْ لَيْسَ فِي كُتُبِ أَسْمَاءِ السِّتَّةِ عِيسَى بْنُ حَمْزَةَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَوْ يُقَالُ: صَوَابُهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ مِنْ رِجَالِ الْمِشْكَاةُ دُونَ الْأَوَّلِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ، فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ: هُوَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ فِي الْحِفْظِ وَالْعِبَادَةِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَالْأَعْمَشِ وَخَلْقٍ سِوَاهُمَا، وَعَنْهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ مَعَ جَلَالَتِهِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ يَحُجُّ سَنَةً وَيَغْزُو سَنَةً، مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ) : بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: جُهَنِيٌّ أَدْرَكَ زَمَنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُعْرَفُ لَهُ رُؤْيَةٌ وَلَا رِوَايَةَ، وَقَدْ خَرَّجَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي فِي عِدَادِ الصَّحَابَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ عُمَرَ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ. (وَبِهِ) : أَيْ: بِعَبْدِ اللَّهِ وَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ (حُمْرَةٌ) : أَيْ: مِمَّا يَعْلُو الْوَجْهَ وَالْجَسَدَ (فَقُلْتُ: أَلَا تُعَلِّقْ تَمِيمَةً؟ فَقَالَ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) : وَسَبَبُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الشِّرْكِ كَمَا سَبَقَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا عَاذَ بِاللَّهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْعُوذَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَإِنْ جَازَ لِغَيْرِهِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا) : أَيْ: مَنْ جَعَلَ شَيْئًا مُعَلَّقًا عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي النِّهَايَةِ: مَنْ عَلَّقَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ التَّعَاوِيذِ وَالتَّمَائِمِ وَأَشْبَاهِهِمَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا تَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا. (وُكِلَ إِلَيْهِ) : بِضَمِّ وَاوٍ تَخْفِيفُ كَافٍ مَكْسُورَةٍ أَيْ: خُلِّيَ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَتُرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَغَيْرُهُ أَيْ مَنْ تَمَسَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُدَاوَاةِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَشْفِهِ اللَّهُ، بَلْ وَكَّلَ شِفَاءَهُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْصُلُ شِفَاؤُهُ، لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى اهـ.

وَقَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَاعْتَقَدَ أَنَّ الشِّفَاءَ مِنْهُ لَا مِنَ اللَّهِ اعْتِقَادُ كُفْرٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي مِثْلِهِ لَا يُقَالُ وُكِلَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودٍ مِنَ الشِّفَاءِ وَتَرْكِ إِعَانَتِهِ تَعَالَى فِي دَفْعِ الدَّاءِ وَالْعَنَاءِ، وَنَظِيرُهُ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَنِ ابْتَغَى الْقَضَاءَ وَسَأَلَ فِيهِ شُفَعَاءَ وُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» " وَقَدْ قَالَ: إِنَّ شَيْئًا مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ مَنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وُكِلَ إِلَيْهِ وَجُعِلَ أَمْرُهُ لَدَيْهِ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ أَمْرَ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَأَغْنَاهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا سِوَاهُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: مُرْسَلًا عَلَى الصَّحِيحِ لِمَا سَبَقَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَيُقَوِّيهِ أَنَّهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ عَنْهُ أَيْضًا.

ص: 2882

4557 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

4557 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) : بِالتَّصْغِيرِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ) : أَيْ: مِنْ إِصَابَتِهَا أَوْ وَجَعِهَا (أَوْ حُمَةٍ) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَتَخْفِيفِ مِيمٍ أَيْ سُمٌّ مِنْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ، وَنَحْوِهَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَوَازَ الرُّقْيَةِ مِنْ غَيْرِهِمَا، بَلْ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ الْأَوْجَاعِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَا رُقْيَةَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ مِنْ رُقْيَتِهِمَا، كَمَا تَقُولُ: لَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ، لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَقَالَ شَارِحٌ: لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَصْرَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي أَصْحَابَ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ بِالْكَلِمَاتِ التَّامَّةِ وَالْآيَاتِ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَا رُقْيَةَ ضَرُورَةٍ مُلْجِئَةٍ مِنْ جِهَةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ إِصَابَةِ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ، فَإِنَّهَا مُهْلِكَتَانِ بِسُرْعَةٍ أَوْ مُوقِعَتَانِ فِي مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : أَيْ: عَنْ عِمْرَانَ.

ص: 2882

4558 -

وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ بُرَيْدَةَ.

ــ

4558 -

(وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ بُرَيْدَةَ) . وَكَذَا مُسْلِمٌ.

ص: 2883

4559 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4559 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا رُقْيَةَ إِلَّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ) . أَيْ رُعَافٌ قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّهَا بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ رُقْيَتَهَا أَشْفَى وَأَفْشَى بَيْنَ النَّاسِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : كَانَ عَلَى الْمُصِنِّفِ أَنْ يُلْحِقَ هَذَا بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَيَقُولَ: وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ: أَوْ دَمٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ أَنَسٍ.

ص: 2883

4560 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ تُسْرِعُ إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ، أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: " نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقُ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

4560 -

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها . بِالتَّصْغِيرِ وَمَرَّ قَرِيبًا تَرْجَمَتُهَا. (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ وَلَدَ جَعْفَرٍ) : بِضَمِّ وَاوٍ فَسُكُونِ لَامٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا أَيْ: أَوْلَادُ جَعْفَرٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا (تُسْرِعُ) : بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتُفْتَحُ أَيْ تَعْجَلُ (إِلَيْهِمُ الْعَيْنُ) وَتُؤَثِّرُ فِيهِمْ سَرِيعًا لِكَمَالِ حُسْنِهِمُ الصُّورِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَالْعَيْنُ نَظَرٌ بِالِاسْتِحْسَانِ مَشُوبٌ بِحَسَدٍ مِنْ خَبِيثِ الطَّبْعِ يَحْصُلُ لِلْمَنْظُورِ فِيهِ ضَرَرٌ، وَقِيلَ: إِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ سُمٍّ يَصِلُ مِنْ عَيْنِ الْعَائِنِ فِي الْهَوَاءِ إِلَى بَدَنِ الْمَعْيُونِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَائِضَ تَضَعُ يَدَهَا فِي إِنَاءِ اللَّبَنِ فَيَفْسَدُ، وَلَوْ وَضَعَتْهَا بَعْدَ طُهْرِهَا لَمْ يَفْسَدْ. قُلْتُ: وَضِدُّ هَذَا الْعَيْنُ نَظَرُ الْعَارِفِينَ الْوَاصِلِينَ إِلَى مَرْتَبَةِ الرَّافِعِينَ مِنَ الْبَيْنِ حِجَابَ الْعَيْنِ، فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرِ الْإِكْسِيرُ يَجْعَلُ الْكَافِرَ مُؤْمِنًا، وَالْفَاسِقَ صَالِحًا، وَالْجَاهِلَ عَالِمًا، وَالْكَلْبَ إِنْسَانًا، وَهَذَا كُلُّهُ لِأَنَّهُمْ مَنْظُرُونَ بِنَظَرِ الْجَمَالِ وَالْأَغْيَارِ تَحْتَ أَسْتَارِ نَظَرِ الْجَلَالِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ: لَوْ كَانَ لِإِبْلِيسَ سَعَادَةٌ أَزَلِيَّةٌ دُونَ الشَّقَاوَةِ الْأَبَدِيَّةِ لَمَا قَالَ: أَنْظِرْنِي، بَلْ قَالَ: أَنْظِرْ إِلَيَّ أَوْ أَرِنِي أَنْظُرُ إِلَيْكَ، لَكِنْ كُلُّهُ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ، تَحَيَّرَ فِيهِ عُقُولُ أَرْبَابِ الْفُحُولِ وَتَطَمْئِنُ قُلُوبُهُمْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ، وَإِنَّمَا طَارَ عَقْلِي فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ نَقْلِي لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الطَّيَّارِ أَخِي الْكَّرَّارِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْأَسْرَارِ.

(أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟) : أَيْ أَطْلُبُ الرُّقْيَةَ أَوْ مَنْ يَرْقِي لَهُمْ (قَالَ: نَعَمْ، فَإِنَّهُ) : تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، وَمَعْنَاهُ نَعَمِ اسْتَرْقِي عَنِ الْعَيْنِ، فَإِنَّهَا أَوْلَى وَأَحْرَى بِأَنْ تُسْتَرْقَى لِأَنَّهُ (لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ) . وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَيَجُوزُ الِاسْتِرْقَاءُ عَنْهُ مِنْ رَبٍّ كَرِيمٍ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَقَدْ سَبَقَ الْمَرْفُوعُ مِنَ الْحَدِيثِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَزَادَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا ". وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْغُسْلِ.

ص: 2883

4561 -

وَعَنِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ، فَقَالَ: أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الْكِتَابَةَ؟» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4561 -

(وَعَنِ الشِّفَاءِ) : بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْفَاءِ وَالْمَدِّ (بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: قُرَشِيَّةٌ عَدَوِيَّةٌ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمُضَرِيُّ: اسْمُهَا لَيْلَى، وَالشِّفَاءُ لَقَبٌ غَلَبَ عَلَيْهَا، أَسْلَمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ مِنْ عُقَلَاءِ النِّسَاءِ وَفُضَلَائِهِنَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِيهَا وَيُقِيلُ عِنْدَهَا، وَكَانَتِ اتَّخَذَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِرَاشًا وَإِزَارًا يَنَامُ فِيهِ. (قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةٍ) أَيْ بِنْتُ الْفَارُوقِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (فَقَالَ) : أَيْ لِلشِّفَاءِ (أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ) : أَيْ حَفْصَةُ (رُقْيَةَ النَّمْلَةِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَقْرِيرَ التَّعْلِيمِ، وَيُحْتَمَلُ إِنْكَارُهُ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِمَا سَيَأْتِي (كَمَا عَلَّمْتِيهَا) : وَفِي أَكْثَرِ الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ بِالْيَاءِ النَّاشِئَةِ مِنْ إِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ.

ص: 2883

(الْكِتَابَةَ؟) : مَفْعُولٌ ثَانٍ. قَالَ الْمُظْهِرُ: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى حَفْصَةَ، وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تُرْقَى وَتَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا لِلسَّلَفِ دُونَ الْخَلَفِ لِفَسَادِ النِّسْوَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، ثُمَّ رَأَيْتُ قَالَ بَعْضُهُمْ: خُصَّتْ بِهِ حَفْصَةُ لِأَنَّ نِسَاءَهُ صلى الله عليه وسلم خُصِصْنَ بِأَشْيَاءٍ قَالَ تَعَالَى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]، وَخَبَرُ:" لَا تَعَلَّمْنَّ الْكِتَابَةَ "، يُحْمَلُ عَلَى عَامَّةِ النِّسَاءِ خَوْفَ الِافْتِتَانِ عَلَيْهِنَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يَرَى أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النَّمْلَةِ هَا هُنَا هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا الْمُتَطَيِّبُونَ الزُّنَابَ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِيهِ الْمُلَقَّبِ بِالذَّكِيِّ الْمَغْرِبِيِّ النَّحْوِيِّ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ فِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ شَيْءٌ كَانَتْ نِسَاءُ الْعَرَبِ تَزْعُمُ أَنَّهُ رُقْيَةُ النَّمْلَةِ، وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي كَانَ يُنْهِي عَنْهَا، فَكَيْفَ يَأْمُرُ بِتَعْلِيمِهَا إِيَّاهُ؟ وَإِنَّمَا عَنَى بِرُقْيَةِ النَّمْلَةِ قَوْلًا كُنَّ يُسَمِّينَهُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُنَّ: الْعَرُوسُ تَنْتَعِلُ وَتَخْتَضِبُ وَتَكْتَحِلُ وَكُلُّ شَيْءٍ تَفْتَعِلُ غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَعْصِي الرَّجُلَ، فَأَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَقَالِ تَأْنِيبَ حَفْصَةَ وَالتَّعَرُّضَ بِتَأْدِيبِهَا حَيْثُ أَشَاعَتِ السِّرَّ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] . وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى نَقْلَهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى فِي كِتَابِهِ عَنْهُ قَالَ: فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ مُتَحَقِّقًا بِهَذَا عَارِفًا بِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ، فَالتَّأْوِيلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ.

قَالَ الْأَشْرَفُ: يُمْكِنُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ بِرُقْيَةِ النَّمْلَةِ آخِرَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: غَيْرَ أَنْ لَا تَعْصِيَ إِطْلَاقًا لِلْكُلِّ، وَإِرَادَةً لِلْجُزْءِ أَيْ: أَلَا تُعَلِّمِينَ حَفْصَةَ أَنَّ الْعَرُوسَ لَا تَعْصِي الرَّجُلَ، فَإِنَّهَا قَدْ عَصَتْنِي بِإِفْشَاءِ السِّرِّ، وَلَوْ كَانَتْ تَعْلَمُ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ لَمَا عَصَتْنِي. قُلْتُ: الْكِنَايَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِرُقْيَةِ تَمَامِهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي ضِمْنِهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيَحْتَمِلُ الْحَدِيثُ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: التَّخْصِيصُ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّقْيَةِ لِإِنْكَارِ الْكِتَابَةِ أَيْ: هَلَا عَلَّمْتِهَا مَا يَنْفَعُهَا مِنَ الِاجْتِنَابِ عَنْ عِصْيَانِ الزَّوْجِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا مَا يَضُرُّهَا مِنَ الْكِتَابَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّهُ إِذَا أُرِيدَ التَّخْصِيصُ وَحُمِلَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى التَّقْرِيرِ، فَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ إِنْكَارُ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ؟ مَعَ أَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِتَعْلِيمِ الرُّقْيَةِ. قَالَ: وَثَانِيهِمَا أَنْ يَتَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمُرَادُ بِالنَّمْلَةِ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهَا مُنَافِيَةٌ لِحَالِ الْمُتَوَكِّلِينَ. قُلْتُ: لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَقِيلَ: أَتُعَلِّمِينَ إِلَى آخِرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2884

4562 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ. قَالَ: فَلُبِطَ سَهْلٌ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لَكَ فِي سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ؟ وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. قَالَ: " هَلْ تَتَّهِمُونَ لَهُ أَحَدًا ". فَقَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامِرًا، فَتُغُلِّظَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: " عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ أَلَا بَرَّكْتَ؟ اغْتَسِلْ لَهُ) . فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ، فَرَاحَ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» . رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ "

ــ

4562 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ رضي الله عنهم بِالتَّصْغِيرِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَوْسِيٌّ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ، وُلِدَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامَيْنِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمَّاهُ بِاسْمِ جَدِّهِ لِأُمِّهِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَنَّاهُ بِكُنْيَتِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْءٌ لِصِغَرِهِ، وَلِذَلِكَ قَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي الَّذِينَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَأَثْبَتَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَحَدُ الْجُلَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِالْمَدِينَةِ، سَمَعَ أَبَاهُ وَأَبَا سَعِيدٍ وَغَيْرَهُمَا. وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ، وَلَهُ اثْنَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً. (قَالَ: رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكْنَى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْغَزِيَّ، هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ أَسْلَمَ قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ نَفَرٌ، مَاتَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. (سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ) : وَهُوَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَثَبَتَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَصَحِبَ عَلِيًّا بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ وَلَّاهُ فَارِسَ، رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ أَبُو أُمَامَةَ وَغَيْرُهُ، مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ.

(يَغْتَسِلُ) : أَيْ حَالُ كَوْنِ سَهْلٍ يَغْتَسِلُ وَبَعْضُ بَدَنِهِ مَكْشُوفٌ (فَقَالَ) : أَيْ عَامِرٌ (وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ فَهَمْزَةٍ مِنَ التَّخْبِيَةِ وَهُوَ السِّتْرُ، وَهِيَ الْجَارِيَةُ الَّتِي فِي خِدْرِهَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ، لِأَنَّ صِيَانَتَهَا أَبْلَغُ مِمَّنْ قَدْ تَزَوَّجَتْ وَجِلْدُهَا أَنْعَمُ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ هُوَ مَفْعُولُ رَأَيْتُ أَيْ مَا رَأَيْتُ جِلْدًا غَيْرَ مُخَبَّأٍ كَجِلْدِ، رَأَيْتُ الْيَوْمَ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ، فَعَلَى هَذَا كَالْيَوْمِ صِفَةٌ، وَإِذَا قُدِّرَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُؤَخَّرًا كَانَ حَالًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَأَوْضَحُ مِنْهُ كَلَامُ ابْنِ الْمَلَكِ أَنَّ الْكَافَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: مَا رَأَيْتُ فِي وَقْتٍ مَا جِلْدَ غَيْرَ مُخْبَّأَةٍ، أَوْ مَا رَأَيْتُ جِلْدَ رَجُلٍ فِي اللَّطَافَةِ وَلَا جِلْدَ مُخْبَّأَةٍ فِي الْبَيَاضِ وَالنُّعُومَةِ مِثْلَ رُؤْيَتَيَ الْيَوْمَ أَيْ مِثْلُ الْجِلْدِ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْيَوْمَ، وَهُوَ جِلْدٌ سَهْلٌ لِأَنَّ جِلْدَهُ كَانَ لَطِيفًا اهـ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَهَذَا الْيَوْمِ، وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ كَهَذَا الْجِلْدِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَأَبْعَدُ تَكَلُّفًا.

ص: 2884

(قَالَ) : أَيِ الرَّاوِي (فَلُبِطَ) : بِضَمِّ لَامٍ وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ. أَيْ صُرِعَ وَسَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ (سَهْلٌ) مِنْ إِصَابَةِ عَيْنِ عَامِرٍ (فَأُتِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ فَجِيءَ (فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ لَكَ) : أَيْ: رَغْبَةٌ (فِي سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ؟) : أَيْ فِي مُدَاوَاتِهِ أَوْ هَلْ لَكَ دَوَاءٌ فِي شَأْنِهِ أَوْ دَائِهِ (وَاللَّهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ. فَقَالَ: هَلْ تَتَّهِمُونَ) بِتَشْدِيدِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ تَظُنُّونَ (لَهُ) : أَيْ لِإِصَابَةِ عَيْنِهِ (أَحَدًا؟ فَقَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ. قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامِرًا) أَيْ فَطَلَبَهُ فَجَاءَهُ (فَتُغُلِّظَ عَلَيْهِ) أَيْ كَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ (وَقَالَ: عَلَامَ) : أَيْ عَلَى مَا، يَعْنِي عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَوْ لِمَ (يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْعَائِنِ اخْتِيَارًا مَا فِي الْإِصَابَةِ أَوْ فِي دَفْعِهَا وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: (أَلَّا) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ لِلتَّنْدِيمِ (بَرَّكْتَ؟) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ: هَلَا قُلْتَ بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكَ، حَتَّى لَا تُؤَثِّرَ فِيهِ الْعَيْنُ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: " أَلَا بَرَّكْتَ " لِلتَّحْضِيضِ أَيْ: هَلَا دَعَوْتَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ: عَلَامَ تَقْتُلُ؟ كَأَنَّهُ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ، وَعَمَّ الْخِطَابُ أَوَّلًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ تَأْنِيبًا وَتَوْبِيخًا (اغْتَسِلْ لَهُ) . أَيْ لِسَهْلٍ (فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: اخْتَلَفُوا فِي غَسْلِ دَاخِلَةِ الْإِزَارِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَذَاكِيرِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْأَفْخَاذِ وَالْوَرِكِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا أَرَادَ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ طَرَفُ إِزَارِهِ الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ مِمَّا يَلِي الْجَانِبَ الْأَيْمَنِ، فَهُوَ الَّذِي يُغْسَلُ. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا جَاءَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ هَكَذَا. (فِي قَدَحٍ، ثُمَّ صُبَّ) : أَيْ ذَلِكَ الْمَاءُ (عَلَيْهِ، فَرَاحَ) : أَيْ فَشُفِيَ سَهْلٌ فَذَهَبَ (مَعَ النَّاسِ) : أَيْ مَعَ سَائِرِهِمْ أَوْ مَعَ الْمُتَعَافِينَ مِنْهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ سُرْعَةِ بُرْئِهِ (لَيْسَ لَهُ) : أَيْ لِسَهْلٍ. وَفِي نُسْخَةٍ: بِهِ فَالْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ (بَأْسٌّ) . أَيْ أَلَمٌ (رَوَاهُ) : أَيِ الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .

ص: 2885

4563 -

وَرَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي رِوَايَتِهِ قَالَ: " «إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ. تَوَضَّأْ لَهُ "، فَتَوَضَّأَ لَهُ» .

ــ

4563 -

(وَرَوَاهُ مَالِكٌ. وَفِي رُوَاتِهِ) : أَيْ رِوَايَةِ مَالِكٍ (قَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ تَوَضَّأْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَتَوَضَّأْ (لَهُ) : أَيْ لِسَهْلٍ (فَتَوَضَّأْ لَهُ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَصْفُ وُضُوءِ الْعَائِنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُؤْتَى بِقَدَحِ مَاءٍ، وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ عَلَى الْأَرْضِ فَيَأْخُذُ غَرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ، ثُمَّ يَمُجُّهَا فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا يَغْسِلُ بِهِ وَجْهَهُ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِشِمَالِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ كَفَّهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ بِشِمَالِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ مِرْفَقَهُ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَا يَغْسِلُ بِهِ مَرْفِقَهُ الْأَيْسَرَ وَلَا يَغْسِلُ مَا بَيْنَ الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى، ثُمَّ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْقَدَحِ، ثُمَّ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، وَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ صَبَّهُ مِنْ خَلْفِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهِ، إِذْ لَيْسَ فِي قُوَّةِ الْعَقْلِ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَسْرَارِ جَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَلَا يُدْفَعُ هَذَا بِأَنْ لَا يُعْقَلَ مَعْنَاهُ.

وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: وَهَذَا أَمْرُّ وُجُوبٍ وَيُجْبَرُ الْعَائِنُ عَلَى الْوُضُوءِ لِلْمَعِينِ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: وَيَبْعُدُ الْخِلَافُ فِيهِ إِذَا خُشِيَ عَلَى الْمَعِينِ الْهَلَاكُ، وَكَانَ وُضُوءُ الْعَائِنِ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبُرْءِ بِهِ، أَوْ كَانَ الشَّرْعُ أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْهَلَاكِ إِلَّا بِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ بَابِ مَنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إِحْيَاءُ نَفْسٍ مُشْرِفَةٍ عَلَى الْهَلَاكِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ أَحَدٌ بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنِبَ عَنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْ مُدَاخَلَةِ النَّاسِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِلُزُومِ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيهِ، وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنِ النَّاسِ، فَضَرَرُهُ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ آكِلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ الَّذِي نَهَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمَجْذُومِ الَّذِي مَنَعَهُ عُمَرُ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لِلِاحْتِيَاطِ بِالنَّاسِ، وَمِنْ ضَرَرِ الْمُؤْذِيَاتِ مِنَ الْمَوَاشِي الَّتِي يُؤْمَرُ بِتَغْرِيبِهَا إِلَى حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَحَدٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ مُتَعَيَّنٌ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ اهـ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 2885

4564 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَانِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

4564 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ) : أَيْ بِالْأَدْعِيَةِ وَالْأَذْكَارِ بِأَنْ يَقُولَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْجَانِّ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ وَحَيَّةٌ صَغِيرَةٌ (وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ) أَيْ: وَمِنْ إِصَابَةِ عَيْنِ الْإِنْسَانِ الْحَاسِدِ (حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَيُفْتَحُ (فَلَمَّا نَزَلَتْ) : أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (أَخَذَ بِهِمَا) : أَيْ عَمَلَ بِقِرَاءَتِهِمَا وَالتَّعَوُّذِ بِهِمَا غَالِبًا (وَتَرَكَ، مَا سِوَاهُمَا) . أَيْ: مِنَ الرُّقْيَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) . وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْهُ (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: " «مَا سَأَلَ سَائِلٌ وَلَا اسْتَعَاذَ مُسْتَعِيذٌ بِمِثْلِهِمَا» ". وَالْمَعْنَى لَيْسَ تَعْوِيذٌ مِثْلَهُمَا، بَلْ هُمَا أَفْضَلُ التَّعَاوِيذِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: " «إِقْرَأْ بِهِمَا كُلَّمَا نِمْتَ وَكُلَّمَا قُمْتَ»

ص: 2886

4565 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " هَلْ رُئِيَ فِيكُمُ الْمُغَرِّبُونَ؟ " قُلْتُ: وَمَا الْمُغَرِّبُونَ؟ قَالَ: " الَّذِينَ يَشْتَرِكُ فِيهِمُ الْجِنُّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَذُكِرَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: " خَيْرُ مَا تَدَوَايْتُمْ " فِي " بَابِ التَّرَجُّلِ ".

ــ

4565 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رُئِيَ فِيكُمْ) : أَيْ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ، وَغَلَّبَ الذُّكُورَ عَلَى الْإِنَاثِ، وَالْخِطَابُ عَلَى الْغَيْبَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَذْرَؤُكُمْ، فِيهِ غَلَّبَ الْعُقَلَاءَ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الْأَنْعَامِ الْغُيَّبِ، وَالسُّؤَالُ سُؤَالُ تَوْقِيفٍ وَتَشْبِيهٍ، وَهَلْ بِمَعْنَى قَدْ فِي الِاسْتِفْهَامِ خَاصَّةً، قَالَ تَعَالَى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] الْكَشَّافُ: أَقَدْ أَتَى عَلَى التَّقْرِيرِ جَمِيعًا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَوْلُهُ:(الْمُغَرِّبُونَ؟) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيِ الْمُبْعِدُونَ، وَلَمَّا كَانَ لِلتَّبْعِيدِ مَعْنًى مُجْمَلٍ مُبْهَمٍ احْتَاجَتْ إِلَى بَيَانِهَا فَقَالَتْ:(قُلْتُ: وَمَا الْمُغَرِّبُونَ؟) : وَقَعَ السُّؤَالُ عَنِ الصِّفَةِ أَعْنِي التَّغْرِيبَ وَلِذَلِكَ لَمْ تَقُلْ: وَمَنِ الْمُغَرِّبُونَ: فَأَجَابَ: بِأَنَّ التَّغْرِيبَ الْحَقِيقِيَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ اشْتِرَاكُ الْجِنِّ.

(قَالَ: الَّذِينَ يَشْتَرِكُ فِيهِمُ الْجِنُّ) أَيْ فِي نُطَفِهِمْ أَوْ فِي أَوْلَادِهِمْ لِتَرْكِهِمْ ذِكْرَ اللَّهِ عِنْدَ الْوِقَاعِ، فَيَلْوِي الشَّيْطَانُ إِحْلِيلَهُ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَيُجَامِعُ مَعَهُ. قَالَ تَعَالَى:{وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ} [الإسراء: 64] فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: " إِذَا خَالَطَ امْرَأَتَهُ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا "، فَإِذَا تُرِكَ هَذَا الدُّعَاءُ أَوِ التَّسْمِيَةُ شَارَكَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوِقَاعِ، وَيُسَمَّى هَذَا الْوَلَدُ مُغْرِبًا لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهِ عِرِقٌ غَرِيبٌ، أَوْ جَاءَ مِنْ نَسَبٍ بَعِيدٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِمُشَارَكَةِ الْجِنِّ فِيهِمْ أَمْرَهُمْ إِيَّاهُمْ بِالزِّنَا وَتَحْسِينِهِ لَهُمْ، فَجَاءَ أَوْلَادُهُمْ مِنْ غَيْرِ رُشْدِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ، مَنْ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنَ الْجِنِّ يُلْقِي إِلَيْهِ الْأَخْبَارَ وَأَصْنَافَ الْكِهَانَةِ:(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . (وَذُكِرَ) : أَيْ تَقَدَّمَ (حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ: (خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ) : أَيِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ هُنَا (فِي بَابِ التَّرَجُّلِ) : أَيْ فَأَسْقَطْنَاهُ لِتَكْرَارِهِ.

ص: 2886

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4566 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْمَعِدَةُ حَوْضُ الْبَدَنِ، وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ، فَإِذَا صَحَّتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتِ الْعُرُوقُ بِالصِّحَّةِ، وَإِذَا فَسَدَتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتِ الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ» ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4566 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (الْمَعِدَةُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَتَخْفِيفٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ، وَهِيَ مَقَرُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمَعِدَةُ كَكَلِمَةٍ وَبِالْكَسْرِ مَوْضِعُ الطَّعَامِ قَبْلَ انْحِدَارِهِ إِلَى الْأَمْعَاءِ، وَهُوَ لَنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَرِشِ لِلْأَظْلَافِ وَالْأَخْفَافِ. (حَوْضُ الْبَدَنِ) أَيْ بِمَنْزِلَةِ حَوْضٍ فِيهِ.

ص: 2886

(وَالْعُرُوقُ إِلَيْهَا وَارِدَةٌ) أَيْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (فَإِذَا صَحَّتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ) : أَيْ رَجَعَتِ (الْعُرُوقُ بِالصِّحَّةِ) أَيْ عَنْهَا (وَإِذَا فَسَدَتِ الْمَعِدَةُ صَدَرَتِ الْعُرُوقُ بِالسَّقَمِ) . بِفَتْحَتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَيِ: الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَيْضًا فِي كِتَابِ " لَقْطِ الْمَنَافِعِ " شَبَّهَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ الْمَعِدَةَ بِالْحَوْضِ، وَالْبَدَنَ بِالشَّجَرِ، وَالْعُرُوقَ الْوَارِدَةَ إِلَيْهَا بِعُرُوقِ الشَّجَرِ الضَّارِبَةِ إِلَى الْحَوْضِ الْجَاذِبَةِ مَاءَهُ إِلَى الْأَغْصَانِ وَالْأَوْرَاقِ، فَمَتَى كَانَ الْمَاءُ صَافِيًا وَلَمْ يَكُنْ مِلْحًا أُجَاجًا كَانَ سَبَبًا لِنَضَارَةِ الْأَشْجَارِ وَخَضَارَتِهَا، وَإِلَّا كَانَ سَبَبًا لِذُبُولِهَا وَجَفَافِهَا، فَكَذَا حُكْمُ الْبَدَنِ مَعَ الْمَعِدَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِلَطِيفِ حِكْمَتِهِ وَبَدِيعِ فِطْرَتِهِ جَعَلَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ مُتَسَلِّطَةً تُحَلِّلُ الرُّطُوبَاتِ تَسْلِيطَ الرَّاحِ عَلَى السَّلِيطِ، وَخَلَقَ فِيهِ أَيْضًا قُوَّةً جَاذِبَةً سَارِيَةً فِي مَجَارِي عُرُوقٍ وَارِدَةٍ إِلَى الْكَبِدِ طَالِبَةً مِنْهُ مَا صَفَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الَّتِي حَصَلَتْ فِيهِ بِسَبَبِ عُرُوقٍ وَارِدَةٍ مِنْهُ إِلَى الْمَعِدَةِ جَاذِبَةً مِنْهَا مَا انْهَضَمَ مِنَ الْمَشْرُوبِ وَالْمَطْعُومِ لِيَنْطَبِخَ فِي الْكَبِدِ مَرَّةً أُخْرَى، فَيَصِيرُ بَدَلًا لِمَا تَحَلَّلَ مِنْهُ، هَذَا مَعْنَى الصُّدُورِ بَعْدَ الْوُرُودِ، لِأَنَّ الْعُرُوقَ مَجَارٍ لِمَا يَرِدُ فِيهَا وَيَصْدُرُ مِنْهَا، كَعُرُوقِ الشَّجَرِ، فَالْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ سَالَ الْوَادِي وَجَرَى الْمِيزَابُ، فَإِذَا كَانَ فِي الْمَعِدَةِ غِذَاءٌ صَالَحٌ، وَانْحَدَرَ فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الْكَبِدِ تَحَصَّلَ مِنْهُ الْغِذَاءُ الْمَحْمُودُ لِلْأَعْضَاءِ خَلَفًا لِمَا تَحَلَّلَ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ فَاسِدًا إِمَّا بِكَثْرَةِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ أَوْ إِدْخَالِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، كَانَ سَبَبًا لِتَوَلُّدِ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَمْرَاضِ الْمُرْدِيَةِ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَرَّرَهُ عَلَى قَوَاعِدَ الطِّبِّ.

وَالْأَظْهَرُ حَمْلُهُ عَلَى الطِّبِّ النَّبَوِيِّ بِأَنْ يُقَالَ: أَنَّ أَفْعَالَ الرَّجُلِ وَأَقْوَالَهُ وَآدَابَهُ عَلَى حَسَبِ مُرَاعَاةِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، فَإِنْ دَخَلَ الْحَرَامُ خَرَجَ الْحَلَالُ، وَإِنْ دَخَلَ الْفُضُولُ خَرَجَ الْمَفْضُولُ مِنْ كُلِّ أُصُولٍ وَفُصُولٍ وَكَانَ الطَّعَامُ بَذْرُ الْأَفْعَالِ وَالْأَفْعَالُ بِمَنْزِلَةِ نَبْتٍ يَبْدُو مِنْهُ فِي الْحَالِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا قِيلَ: كُلُّ إِنَاءٍ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» ". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَدِيثُ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي الْإِحْيَاءِ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِهِ: رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَالْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ وَقَالَ: بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ اهـ. وَلَعَلَّ الْبُطْلَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُسْنَدِ الْعُقَيْلِيِّ وَإِلَّا فَمَعَ تَعَدُّدِ الطُّرُقِ وَتَقْوِيَتِهِ بِرِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ يَكُونُ حَسَنًا أَوْ ضَعِيفًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ: أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ.

ص: 2887

4567 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ، فَنَاوَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَعْلِهِ فَقَتَلَهَا. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ، مَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ - أَوْ نَبِيًّا وَغَيْرَهُ " - ثُمَّ دَعَا بِمِلْحٍ وَمَاءٍ، فَجَعَلَهُ فِي إِنَاءٍ، جَعَلَ يَصُبُّهُ عَلَى أُصْبُعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهُ وَيَمْسَحُهَا وَيُعَوِّذُهَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "

ــ

4567 -

(وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ جَوَابُ بَيْنَا، وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ بَيْنَا وَبَيْنَمَا ظَرْفَانِ مُتَضَمِّنَانِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ اقْتَضَيَا جَوَابًا، وَقَدْ سَبَقَ تَمَامُ تَقْرِيرِهِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِيمَانِ، (فَلَدَغَهُ) أَيْ: أُصْبُعَهُ صلى الله عليه وسلم (عَقْرَبٌ، فَنَاوَلَهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَيْ ضَرَبَهَا (بِنَعْلِهِ فَقَتَلَهَا) . وَفِي الْحَدِيثِ: " «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ عَقْرَبًا وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَقْتُلْهَا بِنَعْلِهِ الْيُسْرَى» ". عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِلِيهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. (فَلَمَّا انْصَرَفَ) : أَيْ عَنِ الصَّلَاةِ (قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ مُصَلِّيًا) : أَيْ مَا تَتْرُكُ عَنْ أَذَاهَا مُصَلِّيًا مِنْ نَبِيٍّ وَوَلِيٍّ (وَلَا غَيْرَهُ) : أَيْ وَلَا غَيْرَ مُصَلٍّ، أَوِ الْمَعْنَى لَا تَدَعُ أَحَدًا لَا حَالَ صَلَاتِهِ وَلَا غَيْرِهَا بِغَيْرِ لَدْغٍ، وَالْجُمْلَةُ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ اللَّعْنِ (أَوْ نَبِيًّا وَغَيْرَهُ) . شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، لَكِنْ فِي الْجَامِعِ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ:" «لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ الْمُصَلِّيَ وَغَيْرَ الْمُصَلِّي، اقْتُلُوهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» " وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ:«لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ إِلَّا لَدَغَتْهُمْ» . (، ثُمَّ دَعَا) : أَيْ طَلَبَ (بِمَاءٍ وَمِلْحٍ، فَجَعَلَهُ) : أَيْ كُلًّا مِنْهُمَا أَوِ الْمَجْمُوعَ أَوِ الْمَذْكُورَ (فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ جَعَلَ) : أَيْ شَرَعَ (يَصُبُّهُ) : أَيْ مَا

ص: 2887

فِي الْإِنَاءِ (عَلَى أُصْبُعِهِ حَيْثُ لَدَغَتْهَا) : أَيْ فِي مَكَانِ لَدْغِهَا (وَيَمْسَحُهَا) : أَيِ الْأُصْبُعُ أَوْ مَوْضِعَ لَدْغِهَا (وَيُعَوِّذُهَا بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ رَوَاهُمَا) : أَيْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالَّذِي قَبْلَهُ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ، عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ:«لَدَغَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقْرَبٌ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ ". ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلْحٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَقْرَأُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وَ، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] ، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ثُمَّ ذَكَرَ الْجَزَرِيُّ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي اللَّدِيغَ بِالْفَاتِحَةِ» . رَوَاهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: سَبْعَ مَرَّاتٍ.

ص: 2888

4568 -

وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَأَخْرَجَتْ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ تُمْسِكُهُ فِي جُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَخَضْخَضَتْهُ لَهُ، فَشَرِبَ مِنْهُ، قَالَ: فَاطَّلَعْتُ فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حَمْرَاءَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

4568 -

(وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهِبٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْهَاءِ صَرَّحَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا فِي الْمُغْنِي وَالْقَامُوسِ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَيْمِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ شُعْبَةُ وَأَبُو عِوَانَةَ. (قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، وَكَانَ) : أَيِ الشَّأْنُ وَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ (إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ عَيْنٌ) : أَيْ إِصَابَةٌ، أَوْ رَمَدٌ (أَوْ شَيْءٌ) : أَيْ مِنْ سَائِرِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ (بَعَثَ) : أَيْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ (إِلَيْهَا) : أَيْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ (مِخْضَبَهُ) :. بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ مُضَافًا أَيْ: مِرْكَنَهُ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ، وَقِيلَ: هُوَ إِجَّانَةٌ يُغْسَلُ فِيهَا الثِّيَابُ (فَأَخْرَجَتْ) : أَيْ أُمُّ سَلَمَةَ (مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ بَعْضُ شَعْرِهِ (وَكَانَتْ تُمْسِكُهُ) : جُمْلَةٌ أُخْرَى مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ: وَكَانَتْ تَحْفَظُ ذَلِكَ الْبَعْضَ مِنَ الشَّعْرِ (فِي جُلْجُلٍ) : بِضَمِّ جِيمَيْنٍ أَيْ فِي حَقِّهِ وَفِي الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يُفَسِّرْهُ صَاحِبُ الْمَشَارِقِ وَالْمَطَالِعِ وَلَا صَاحِبُ النِّهَايَةِ. وَأَظُنُّهُ الْجُلْجُلَ الْمَعْرُوفَ، وَهُوَ الْجَرَسُ الصَّغِيرُ الَّذِي يُعَلَّقُ بِعُنُقِ الدَّابَّةِ اهـ. وَقَدْ يُعَلَّقُ بِرِجْلِ الْبَازِيِّ، وَقَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِأَنَّ الْجُلْجُلَ بِالضَّمِّ الْجَرَسُ الصَّغِيرُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الصَّوْتُ فَصَارَ كَحُقَّةٍ، وَوَضَعَ فِي وَسَطِهِ الشَّعْرَ الشَّرِيفَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا عَمِلَتْ حُقَّةً عَلَى شِبْهِ الْجَرَسِ فِي الصِّغَرِ، وَالْكَبْكَبَةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ:(مِنْ فِضَّةٍ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ وَاسْتِعْمَالُ الْفِضَّةِ هُنَا كَاكْتِسَاءِ الْكَعْبَةِ بِالْحَرِيرِ تَعْظِيمًا وَتَبْجِيلًا (فَخَضْخَضْتُهُ) : بِالْمُعْجَمَاتِ عَلَى وَزْنِ دَحْرَجْتُهُ مِنَ الْخَضْخَضَةِ، وَهُوَ تَحْرِيكُ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فَأَخْرَجَتْ أَيْ حَرَّكَتِ الْجُلْجُلَ فِي الْمَاءِ (لَهُ) : أَيْ لِذَلِكَ الْإِنْسَانِ (فَشَرِبَ مِنْهُ، قَالَ) : أَيْ عُثْمَانُ (فَاطَّلَعْتُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفْتُ وَطَالَعْتُ (فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْتُ شُعَيْرَاتٍ حَمْرَاءَ) . أَيْ خِلْقِيَّةٌ أَوْ مُقَدِّمَةٌ لِلْبَيَاضِ أَوْ مَصْبُوغَةٌ بِالْحِنَّاءِ، أَوْ مُتَغَيِّرَةٌ مِنْ أَثَرِ الْبُخُورِ، هَذَا وَقَوْلُهُ: فَاطَّلَعَتْ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلَنِي وَإِعَادَةُ قَالَ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْجُمَلِ الْمُعْتَرِضَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، هُوَ التَّشَرُّفُ بِرُؤْيَةِ الشَّعْرِ الْمُنِيفِ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: فَاطَّلَعَتْ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ إِلَخْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2888

4569 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْكَمْأَةُ جُدَرِيُّ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَالْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمُؤٍ أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا فَعَصَرْتُهُنَّ، وَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ، وَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَمْشَاءَ، فَبَرَأَتْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

ــ

4569 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْكَمْأَةُ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ (جُدَرِيُّ الْأَرْضِ؟) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ دَالٍ وَكَسْرِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ يَاءٍ. وَفِي الْقَامُوسِ: الْجُدَرِيُّ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا الْقُرُوحُ فِي الْبَدَنِ تُنَفَّطُ وَتُقَيَّحُ، وَفِي النِّهَايَةِ: شَبَّهَ الْكَمْأَةَ بِالْجُدَرِيِّ وَهُوَ الْحَبُّ الَّذِي يَظْهَرُ فِي جَسَدِ الصَّبِيِّ لِظُهُورِهَا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ، كَمَا يَظْهَرُ الْجُدَرِيُّ مِنْ بَطْنِ الْجِلْدِ، وَأَرَادَ بِهِ ذَمَّهَا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ) أَيْ مِمَّا مَنَّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَهَا بِالْمَنِّ، وَهُوَ الْعَسَلُ الْحُلْوُ الَّذِي نَزَلَ مِنْ

ص: 2888

السَّمَاءِ صَفْوًا بِلَا عِلَاجٍ، وَكَذَلِكَ الْكَمْأَةُ لَا مُؤْنَةَ فِيهَا بِبَذْرٍ وَسَقْيٍ اهـ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ الثَّانِي لِمَا فِي رِوَايَةِ الْكَمْأَةِ مِنَ الْمَنِّ وَالْمَنُّ مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: كَأَنَّهُمْ لَمَّا ذَمُّوهَا وَجَعَلُوهَا مِنَ الْفَضَلَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْمَضَرَّةَ وَتَدْفَعُهَا الْأَرْضُ إِلَى ظَاهِرِهَا، كَمَا تَدْفَعُ الطَّبِيعَةُ الْفَضَلَاتِ بِالْجُدَرِيِّ قَابَلَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدْحِ أَيْ: لَيْسَتْ مِنَ الْفَضَلَاتِ، بَلْ هِيَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَمِنَّةٌ عَلَى عِبَادِهِ، وَلَيْسَتْ مِمَّا تَتَضَمَّنُ الْمَضَرَّةَ، بَلْ هِيَ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ كَالْمَنِّ النَّازِلِ. (وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ) فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قِيلَ: هُوَ نَفْسُ الْمَاءِ مُجَرَّدًا، وَقِيلَ: مَخْلُوطًا بِدَوَاءٍ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِتَبْرِيدِ مَا فِي الْعَيْنِ مِنْ حَرَارَةٍ فَمَاؤُهَا مُجَرَّدُ إِشْفَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَمُرَكَّبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ، وَالصَّحِيحُ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّ مَاءَهَا مُجَرَّدُ إِشْفَاءٍ لِلْعَيْنِ مُطْلَقًا، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا وَغَيْرِي فِي زَمَانِنَا مَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَكَحَّلَ عَيْنَهُ بِمَاءِ الْكَمْأَةِ مُجَرَّدًا فَشُفِيَ وَعَادَ إِلَيْهِ بَصَرُهُ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ الْكَمَالُ الدِّمَشْقِيُّ صَاحِبُ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ الْمَاءَ الْكَمْأَةَ اعْتِقَادًا بِالْحَدِيثِ وَتَبَرُّكًا بِهِ.

(وَالْعَجْوَةُ) : وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ فَفِي الْقَامُوسِ: الْعَجْوَةُ بِالْحِجَازِ التَّمْرُ الْمَحْشِيُّ وَتَمْرٌ بِالْمَدِينَةِ (مِنَ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنْ ثِمَارِهَا الْمَوْجُودَةِ فِيهَا، أَوِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ مَادَّتِهَا بِغَرْزِ نَوَاهَا عَلَى أَيْدِي مَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ. (وَهِيَ شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ) بِتَثْلِيثِ السِّينِ وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ لُغَةً وَالضَّمُّ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ فَوَاقِعٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، يَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالِ الْأَصْحَابِ، وَإِلَّا فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرَةٌ، وَكَذَا مُلَاءَمَتُهُمَا لِلْبَابِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ.

(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: فَأَخَذْتُ ثَلَاثَةَ أَكْمُؤٍ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَضَمِّ مِيمٍ فَهَمْزٍ أَيْ ثَلَاثَةُ أَشْخُصٍ مِنْهَا (أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا) : شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي (فَعَصَرْتُهُنَّ) أَيْ فِي وِعَاءٍ (وَجَعَلْتُ مَاءَهُنَّ فِي قَارُورَةٍ، وَكَحَّلْتُ بِهِ جَارِيَةً لِي عَمْشَاءَ) تَأْنِيثُ الْأَعْمَشِ مِنَ الْعَمَشِ مُحَرَّكَةٌ، وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الرُّؤْيَةِ مَعَ سَيَلَانِ الْمَاءِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ. (فَبَرَأَتْ) . بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ أَيْ شُفِيَتْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ) . أَرَادَ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ، وَإِلَّا فَجُمْلَةُ الْكَمْأَةِ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ صَحِيحٌ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ عَائِشَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ:«الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَالْمَنُّ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ، عَنْ بُرَيْدَةَ:«الْعَجْوَةُ مِنْ فَاكِهَةِ الْجَنَّةِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ، عَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمَدِينِيِّ وَلَفْظُهُ:«الْعَجْوَةُ وَالصَّخْرَةُ وَالشَّجَرَةُ مِنَ الْجَنَّةِ» . وَالْمُرَادُ بِالصَّخْرَةِ صَخْرَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالشَّجَرَةُ هِيَ الْكَرْمَةُ، وَقِيلَ: الشَّجَرَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَذَا أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ بِلَفْظِ: الْعَجْوَةُ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ، وَالْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ.

ص: 2889

4570 -

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَعِقَ الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاءِ» .

ــ

4570 -

(وَعَنْهُ) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَعِقَ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيْ لَحَسَ (الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ) : بِفَتَحَاتٍ أَيْ أَوَائِلُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ (فِي كُلِّ شَهْرٍ) : وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ: كُلُّ شَهْرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاءِ) .

ص: 2889

4571 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: " «عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ: الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ» ". رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَخِيرَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ.

ــ

4571 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ) أَيْ: أَحَدُهُمَا حِسِّيٌّ وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ، أَوْ أَحَدُهُمَا لِلْأَمْرَاضِ الْحِسِّيَّةِ وَالْآخَرُ لِلْعَوَارِضِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَوْ لِعُمُومِ الْبَلَايَا الْبَدَنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ (الْعَسَلِ وَالْقُرْآنِ) : بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَجُوِّزَ رَفْعُهُمَا وَنَصْبُهُمَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ.

ص: 2889

الْعَسَلِ: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَقَالَ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى} [يونس: 57] قَالَ الطِّيبِيُّ، قَوْلُهُ: الْعَسَلُ وَالْقُرْآنُ تَقْسِيمٌ لِلْجَمْعِ، فَجُعِلَ جِنْسُ الشِّفَاءِ نَوْعَيْنِ. حَقِيقِيٌّ وَغَيْرُ حَقِيقِيٍّ، ثُمَّ قَسَّمَهُ. وَنَحْوُهُ قَوْلُكَ: الْقَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَالْخَالُ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ. قُلْتُ: وَكَذَا الْمَرَقُ أَحَدُ اللَّحْمَيْنِ، لَكِنَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْقُرْآنُ الشَّامِلُ لِشِفَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، كَمَا أُطْلِقَ فِي آيَةٍ، وَأَمَّا التَّقْيِيدُ فِي آيَةٍ أُخْرَى إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ شِفَاءَ الْبَاطِنِ هُوَ الْأَصْلُ الْأَهَمُّ، فَالِاعْتِنَاءُ بِهِ أَتَمٌّ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ أَهَمٌّ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ كَلَامِ الطِّيبِيِّ مُوهِمٌ خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُوَافِقُ كَلَامَ أَرْبَابِ الْعَرَبِيَّةِ بِخِلَافِ اصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ حَيْثُ يَقُولُونَ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] ، حَقِيقَةً، وَ {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] مَجَازٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) : أَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (ابْنُ مَاجَهْ) أَيْ فِي سُنَنِهِ (وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ. وَقَالَ) : أَيِ الْبَيْهَقِيُّ (الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَخِيرَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَلَعَلَّ الْبَيْهَقِيَّ لَهُ إِسْنَادَانِ، وَالصَّحِيحُ إِسْنَادُ الْمَوْقُوفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 2890

4572 -

وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَى هَامَتِهِ مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ. قَالَ مَعْمَرٌ: فَاحْتَجَمْتُ أَنَا مِنْ غَيْرِ سُمٍّ كَذَلِكَ فِي يَافُوخِي، فَذَهَبَ حُسْنُ الْحِفْظِ عَنِّي، حَتَّى كُنْتُ أُلَقَّنُ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ» . رَوَاهُ رَزِينٌ.

ــ

4572 -

(وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ) : بِفَتْحِ كَافٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَمُعْجَمَةٍ الْأَنْمَارِيِّ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَلَى هَامَتِهِ) : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ وَسَطُ رَأْسِهِ (مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ) . أَيْ مِنْ أَجْلِ أَكْلِهَا وَتَأْثِيرِ سُمِّهَا، وَاسْتِمْرَارِ بَعْضِ أَثَرِهِ بَعْدَ الْحِجَامَةِ وَعَوْدِهِ فِيهِ كُلِّ سَنَةٍ إِلَى أَنْ قَالَ حِينَ قَرُبَ مَوْتُهُ:" الْآنَ انْقَطَعَ أَبْهَرِي " جَمْعًا لَهُ بَيْنَ السَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْجَزَرِيِّ حَيْثُ ذَكَرَ فِي الْحِصْنِ، «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الصَّحَابَةَ فِي الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أَهْدَتْهَا إِلَيْهِ الْيَهُودِيَّةُ أَنِ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا فَأَكَلُوا، فَلَمْ يُصِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ شَيْءٌ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَكَذَا نَقَلَ صَاحِبُ السِّرَاجِ. قَالَ مِيرَكُ: وَلِي فِيهِ تَأْمُلٌ إِذِ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَأَرْبَابِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً وَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِحْرَاقِ تِلْكَ الشَّاةِ أَوْ دَفْنِهَا تَحْتَ التُّرَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ عَفَا عَنْهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَفَا عَنْهَا لِأَجْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِقَتْلِهَا لِأَجْلِ قِصَاصِ ابْنِ الْبَرَاءِ، وَأَظُنُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهْمًا شَدِيدًا وَنَكَارَةً ظَاهِرَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَقُولُ: إِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ الْحَاكِمِ صَحَّتْ فَلَعَلَّ الْقَضِيَّةَ تَعَدَّدَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(قَالَ مَعْمَرٌ) : أَيِ ابْنُ رَاشِدٍ يُكْنَى أَبَا عُرْوَةَ الْأَزْدِيَّ، مَوْلَاهُمْ عَالِمُ الْيَمَنِ. رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ وَهَمَّامٍ، وَعَنْهُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ مِنْهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (فَاحْتَجَمْتُ أَنَا) : زِيدَ الضَّمِيرُ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ (مِنْ غَيْرِ سُمٍّ كَذَلِكَ) : أَيْ مِثْلُ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم مُبَالَغَةً فِي الْمُتَابَعَةِ، أَوْ ظَنًّا أَنَّ حِجَامَةَ الْهَامَةِ نَافِعَةٌ لِغَيْرِ السُّمِّ أَيْضًا فَاحْتَجَمْتُ (فِي يَافُوخِي) أَيْ وَسَطُ رَأْسِي (فَذَهَبَ حُسْنُ الْحِفْظِ عَنِّي، حَتَّى كُنْتُ) : أَيْ مُدَّةً (أُلَقَّنُ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَتَشْدِيدِ قَافٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ يُفْتَحُ (فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) : أَيْ: فِي بَعْضِ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ (فِي الصَّلَاةِ) . وَظَاهِرُ سِيَاقِ كَلَامِهِ أَنَّهُ حَدَثَ لَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ كَثْرَةُ أَخْذِ الدَّمِ وَاحْتِجَامِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ أَوْ زَمَانِهِ أَوْ أَوَانِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِلَّا فَقَدَ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَلَى مَا رَوَاهُ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ وَأَبُو نُعَيْمٍ مَرْفُوعًا " «الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ شِفَاءٌ مِنْ سَبْعٍ إِذَا مَا نَوَى صَاحِبُهَا مِنَ الْجُنُونِ وَالصُّدَاعِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالنُّعَاسِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَظُلْمَةٍ يَجِدُهَا فِي عَيْنَيْهِ» . وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «الْحِجَامَةُ تَنْفَعُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ أَلَا فَاحْتَجِمُوا» " وَسَيَأْتِي أَنَّ الْحِجَامَةَ عَلَى الرِّيقِ تَزِيدُ فِي الْحِفْظِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ هِيَ الْمَعْنِيَّةُ، أَمَرَنِي بِهَا جِبْرِيلُ حِينَ أَكَلْتُ طَعَامَ الْيَهُودِيَّةِ. (رَوَاهُ رَزِينٌ) .

ص: 2890

4573 -

وَعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: يَا نَافِعُ! يَنْبُعُ بِي الدَّمُ، فَأْتِنِي بِحَجَّامٍ وَاجْعَلْهُ شَابًّا، وَلَا تَجْعَلْهُ شَيْخًا وَلَا صَبِيًّا. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ أَمْثَلُ، وَهِيَ تُزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَتُزِيدُ فِي الْحِفْظِ، وَتُزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا، فَمَنْ كَانَ مُحْتَجِمًا فَيَوْمَ الْخَمِيسِ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، فَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ؟ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ. وَمَا يَبْدُو جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

4573 -

(وَعَنْ نَافِعٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا نَافِعُ! يَنْبُعُ) : بِفَتْحِ يَاءٍ فَسُكُونِ نُونٍ فَضَمُّ مُوَحَّدَةٍ وَيُكْسَرُ وَيُضَمُّ أَيْ يَثُورُ وَيَغْلِي (بِيَ الدَّمُ) أَيْ لِكَثْرَتِهِ، كَمَا نَبَعَ الْمَاءُ مِنَ الْيَنْبُوعِ وَهُوَ الْعَيْنُ، فَفِي الْقَامُوسِ: نَبَعَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مُثَلَّثَةٌ خَرَجَ مِنَ الْعَيْنِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ تَشْبِيهٌ أَيْ يَغْلِي الدَّمُ فِي جَسَدِي بِنَوْعِ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: صَوَابُهُ تَبَيَّغَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَالتَّحْتِيَّةِ الْمُشَدَّدَةِ فَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ تَبَيَّغَ بِهِ الْمَاءُ إِذَا تَرَدَّدَ فِيهِ، وَمِنْهُ تَبَيَّغَ الْمَاءُ إِذَا تَرَدَّدَ فِي مَجْرَاهُ، وَيُقَالُ: فِيهِ تَبَوَّغَ بِالْوَاوِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمَقْلُوبِ أَيْ يَبْغِي عَلَيْهِ الدَّمُ فَيَقْتُلُهُ مِنَ الْبَغْيِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: تَبَيَّغَ فِي الدَّمِ اهـ. وَكَذَا يَنْصُرُهُ مَا فِي الْقَامُوسِ: الْبَيْغُ ثَوَرَانُ الدَّمِ، وَتَبَيَّغَ عَلَيْهِ الدَّمُ هَاجَ وَغَلَبَ، لَكِنِ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ صَوَابٌ وَغَيْرُهُ خَطَأٌ غَيْرُ صَوَابٍ لِاحْتِمَالِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ، مَعَ أَنَّ لَهَا وَجْهًا وَجِيهًا كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَأْتِنِي بِحَجَّامٍ وَاجْعَلْهُ شَابٌّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اخْتَرْهُ، وَشَابًّا حَالٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا. (وَلَا تَجْعَلْهُ شَيْخًا) : يُفِيدُ التَّأْكِيدَ أَوْ يُرِيدُ بِهِ اخْتِيَارَ الْوَسَطِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُجُودِ الشَّبَابِ. (وَلَا صَبِيًّا) دَفَعًا لِمَا يُوهِمُهُ إِطْلَاقُ الشَّابِّ.

(قَالَ) : أَيْ نَافِعٌ (وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ) : أَيْ قَبْلَ أَكْلٍ وَشُرْبٍ (أَمْثَلُ) أَيْ أَنْفَعُ وَأَفْضَلُ (وَهِيَ) : أَيِ الْحِجَامَةُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمُقَيَّدَةُ (تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ، وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ) أَيْ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِقَوْلِهِ (وَتَزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا) أَيْ كَمَالُ الْحِفْظِ (فَمَنْ كَانَ مُحْتَجِمًا) : أَيْ مُرِيدًا لِلْحِجَامَةِ (فَيَوْمَ الْخَمِيسِ) : أَيْ فَلْيَخْتَرْهُ أَوْ فَلْيَحْتَجِمْ فِيهِ (عَلَى اسْمِ اللَّهِ) : أَيْ عَلَى ذِكْرِهِ وَطَلَبِ بَرَكَتِهِ (وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ) : بِظَاهِرِهِ يُنَافِيهِ مَا ذَكَرَهُ الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ جَابِرٍ:«الْحِجَامَةُ يَوْمَ الْأَحَدِ شِفَاءٌ» ، لَكِنِ الْحَدِيثُ مُعْضِلٌ (فَاحْتَجِمُوا) : الْفَاءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوِ التَّقْدِيرُ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَاحْتَجِمُوا (يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ ضِمْنًا، وَلَعَلَّ الْخَمِيسَ سَقَطَ مِنَ الرَّاوِي وَتَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ:(وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ) : وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْمَفْهُومِ، لَا سِيَّمَا مَعَ الْمَنْطُوقِ (فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ) : أَوْ أُوقِعَ فِيهِ (أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ إِصَابَتِهِ الْبَلَاءَ حِجَامَتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَسْبَابًا أُخَرَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَوْ إِشْعَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقْتُ الْعِتَابِ لِبَعْضِ الْأَحِبَّاءِ، كَمَا وَقَعَ زَمَانُ الْعِقَابِ لِبَعْضِ الْأَعْدَاءِ. قَالَ تَعَالَى:{فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَمَا يَبْدُو) : أَيْ مَا يَظْهَرُ (جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ) : أَيْ لِخَاصِّيَّةٍ زَمَانِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا خَالِقُهَا، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، هَذَا وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ:(وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ) ظَاهِرُهُ يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ كَبْشَةَ: (إِنَّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ) وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ يَوْمًا مَخْصُوصًا وَهُوَ السَّابِعُ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، كَمَا يَأْتِي فِي الْحَدِيثِ اهـ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِثْلَ هَذَا الْجَمْعِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَابْنِ السُّنِّيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ:" «الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ أَمْثَلُ وَفِيهَا شِفَاءٌ وَبَرَكَةٌ وَتَزِيدُ فِي الْحِفْظِ وَفِي الْعَقْلِ، فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ، وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي عَافَى اللَّهُ فِيهِ أَيُّوبَ مِنَ الْبَلَايَا، وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي ابْتُلِيَ فِيهِ أَيُّوبُ، وَمَا يَبْدُو جُذَامٌ وَلَا بَرَصٌ إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ» ".

ص: 2891