الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: " «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ". (رَوَاهُ أَحْمَدُ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ. وَرَوَى الْحَاكِمُ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ وَلَفْظُهُمَا: " «إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَحْزَنَةٌ»
".
4693 -
وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«تَصَافَحُوا، يَذْهَبِ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبِ الشَّحْنَاءُ» ". رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا.
ــ
4693 -
(وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ) : تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَطَاءُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَكَنَ الشَّامَ، رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَصَافَحُوا، يَذْهَبِ) : بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الْهَاءِ بِقَوْلِهِ: (الْغِلُّ) : مَرْفُوعٌ بِالْفَاعِلِيَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ مَنْصُوبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ عَلَى الثَّانِي، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إِلَى التَّصَافُحِ الدَّالِّ عَلَيْهِ تَصَافَحُوا، وَهُوَ بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ. بِمَعْنَى: الْحِقْدِ (وَتَهَادَوْا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ الْمُخَفَّفَةِ أَمْرٌ مِنَ التَّهَادِي (تَحَابُّوا) : بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ مِنَ الْتَحَابُبِ مِنْ بَابِ التَّفَاعُلِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ (وَتَذْهَبِ) : بِالضَّبْطَيْنِ السَّابِقَيْنِ، لَكِنَّهُ هُنَا مَجْزُومٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلِالْتِقَاءِ، وَقَوْلُهُ:(الشَّحْنَاءُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ الْعَدَاوَةُ الْمَشْحُونُ بِهَا الْقَلْبُ (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «تَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ عَنْ قُلُوبِكُمْ» ".
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» " وَزَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ: وَتَصَافَحُوا يَذْهَبِ الْغِلُّ عَنْكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «تَهَادَوْا تَزْدَادُوا حُبًّا، وَهَاجِرُوا تُورِثُوا أَبْنَاءَكُمْ مَجْدًا، وَأَقِيلُوا الْكِرَامَ عَثَرَاتِهِمْ» " وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: " «تَهَادَوْا إِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «تَهَادَوُا الطَّعَامَ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ لِأَرْزَاقِكُمْ» " وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ وَدَاعٍ: " «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضَعِّفُ الْحُبَّ وَتُذْهِبُ بِغَوَائِلِ الصُّدُورِ» " وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: " «تَهَادَوْا، فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ بِالسَّخِيمَةِ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ»
".
4694 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَدَعَا قَبْلَ الْهَاجِرَةِ، فَكَأَنَّمَا صَلَّاهُنَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَالْمُسْلِمَانِ إِذَا تَصَافَحَا لَمْ يَبْقَ ذَنْبٌ إِلَّا سَقَطَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
4694 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا) : أَيْ: صَلَاةَ الضُّحَى لِقَوْلِهِ: (قَبْلَ الْهَاجِرَةِ) أَيْ: قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ وَقْتُ اشْتِدَادِ الْحَرِّ وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الظَّهِيرَةِ (فَكَأَنَّمَا صَلَّاهُنَّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ; لِأَنَّهُ عَبَدَ رَبَّهُ تَطَوُّعًا مَعَ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ شِدَّةِ الْحَرِّ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ وَزَمَانِ الِاسْتِرَاحَةِ ( «وَالْمُسْلِمَانِ إِذَا تَصَافَحَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا ذَنْبٌ» ) أَيْ: غِلٌّ وَشَحْنَاءُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ (إِلَّا سَقَطَ) أَيْ: ذَلِكَ الذَّنْبُ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَضَعَ الذَّنْبَ مَوْضِعَهُمَا ; لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْهُمَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
[بَابُ الْقِيَامِ]
بَابُ الْقِيَامِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4695 -
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ: " قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ بِطُولِهِ فِي " بَابِ حِكَمِ الْإِسَرَاءِ ".
ــ
بَابُ الْقِيَامِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4695 -
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ) : بِالتَّصْغِيرِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ (عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ)، أَيِ: ابْنِ مُعَاذٍ لِكَوْنِهِمْ مِنْ حُلَفَاءِ قَوْمِهِ، وَفِي الْمُغْرِبِ: الْمُرَادُ بِالسَّعْدَيْنِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ إِذَا أُطْلِقَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ (بَعَثَ) أَيْ: رَسُولًا (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: إِلَيْهِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (وَكَانَ) أَيْ: سَعْدٌ (قَرِيبًا مِنْهُ) ، أَيْ نَازِلًا فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم (فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ)، أَيْ: رَاكِبًا عَلَيْهِ لِعُذْرٍ (فَلَمَّا دَنَا) أَيْ: قَرُبَ (مِنَ الْمَسْجِدِ)، أَيِ: الْمُصَلَّى ذَكَرَهُ الْمَلَكُ، وَقَالَ مِيرَكُ: قِيلَ إِنَّ الْمَسْجِدَ هُنَا، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ نَازِلًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ صلى الله عليه وسلم مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهِمْ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ) أَيْ: مُخَاطِبًا لَهُمْ كُلِّهِمْ أَوْ لِقَوْمِهِ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ كَانُوا طَائِفَتَيْنِ. (قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ) . قِيلَ أَيْ: لِتَعْظِيمِهِ، وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَتِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ وَلِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قُومُوا لِإِعَانَتِهِ فِي النُّزُولِ عَنِ الْحِمَارِ إِذْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ وَأَثَرُ جُرْحٍ أَصَابَ أَكْحَلَهُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَلَوْ أَرَادَ تَعْظِيمَهُ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ تَخْصِيصُ الْأَنْصَارِ وَالتَّنْصِيصُ عَلَى السِّيَادَةِ الْمُضَافَةِ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم مَا كَانُوا يَقُومُونَ لَهُ صلى الله عليه وسلم تَعْظِيمًا لَهُ، مَعَ أَنَّهُ سَيِّدُ الْخَلْقِ؛ لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ عَلَى مَا كَانَ يَتَعَاهَدُهُ الْأَعَاجِمُ فِي شَيْءٍ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَعُرِفَ مِنْهُ إِلَى آخِرِ الْعَهْدِ، وَإِنَّمَا كَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رضي الله عنه وَجِعًا لِمَا رُمِيَ فِي أَكْحَلِهِ مَخُوفًا عَلَيْهِ مِنَ الْحَرَكَةِ حَذَرًا مِنْ سَيَلَانِ الْعِرْقِ بِالدَّمِ، وَقَدْ أُتِيَ بِهِ يَوْمَئِذٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي سَلَّمَتْ إِلَيْهِ بَنُو قُرَيْظَةَ إِلَيْهِ عِنْدَ النُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَيْهِ لِيُعِينُوهُ عَلَى النُّزُولِ مِنْ عَلَى الْحِمَارِ، وَيَرْفُقُوا بِهِ فَلَا يُصِيبُهُ أَلَمٌ مِنَ الْمَرْكَبِ، وَلَوْ كَانَ يُرِيدُ بِهِ التَّوْقِيرَ وَالتَّعْظِيمَ لَقَالَ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ، وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ، وَمَا رُوِيَ «عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: مَا دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَامَ إِلَيَّ أَوْ تَحَرَّكَ» ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِضَعْفِهِ، الْمَشْهُورُ عَنْ عَدِيٍّ إِلَّا وَسَّعَ لِي، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّرْخِيصِ حَيْثُ يَقْتَضِيهِ الْحَالُ، وَقَدْ كَانَ عِكْرِمَةُ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ، وَعَدِيٌّ كَانَ سَيِّدَ بَنِي طَيِّئٍ، فَرَأَى تَأْلِيفَهُمَا بِذَلِكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ عَرَفَ مِنْ جَانِبِهِمَا تَطَلُّعًا إِلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حُبُّ الرِّيَاسَةِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيَامَهُ لِعِكْرِمَةَ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ قَادِمًا مُهَاجِرًا كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، وَقَدْ تَعَقَّبَ الطِّيبِيُّ التُّورِبِشْتِيَّ بِأَنَّ " إِلَى " فِي هَذَا الْمَقَامِ أَفْخَمُ مِنَ اللَّامِ، وَأَتَى بِمَا يُرْجِعُ عَلَيْهِ الْمَلَامَ، وَخَرَجَ عَنْ مَقَامِ الْمَرَامِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي الْحَدِيثِ إِكْرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ شَرَفٍ بِالْقِيَامِ لَهُمْ إِذَا أَقْبَلُوا، هَكَذَا احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْقِيَامُ الْمَنْهِيُّ تَمَثُّلُهُمْ قِيَامًا طُولَ جُلُوسِهِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ مُسْتَحَبٌّ، وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ، وَقَدْ جَمَعْتُ كُلَّ ذَلِكَ مَعَ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ وَأَجَبْتُ فِيهِ عَمَّا يُوهِمُ النَّهْيَ عَنْهُ اهـ.
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْحَاجِّ الْمَالِكِيُّ فِي مَدْخَلِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ رَدًّا بَلِيغًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ عَنَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، هَلْ هُمُ الْأَنْصَارُ خَاصَّةً أَمْ جَمِيعُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَهُمْ؟ قُلْتُ: هَذَا وَهْمٌ فَإِنَّهُ مَعَ صَرِيحِ قَوْلِهِ لِلْأَنْصَارِ: قُومُوا، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْعُمُومُ الشَّامِلُ لِلْمُهَاجِرِينَ؟ نَعَمْ يَحْتَمِلُ عُمُومَ الْأَنْصَارِ وَخُصُوصَ قَوْمِهِ مِنْهُمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْإِمَامُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ: الْقِيَامُ مَكْرُوهٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالْإِكْرَاهِ الْقِيَامَ لِلتَّحِيَّةِ بِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْمُصَافَحَةُ، وَبِالْإِعْظَامِ التَّمَثُّلَ لَهُ بِالْقِيَامِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى عَادَةِ الْأُمَرَاءِ الْفِخَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ وَمَقَامٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ، وَمَضَى الْحَدِيثُ بِطُولِهِ فِي بَابِ حِكَمِ الْإِسْرَاءِ.
4696 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4696 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ) : مِنَ الْإِقَامَةِ (مِنْ مَجْلِسِهِ) أَيْ: مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي سَبَقَهُ إِلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ مُبَاحٍ (ثُمَّ يَجْلِسُ) أَيِ: الْمُقِيمُ (فِيهِ)، قَيْدٌ وَاقِعِيٌّ غَالِبِيٌّ (وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا) أَيْ: لِيَفْسَحْ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِمْ فَسِّحْ عَنِّي أَيْ: تَنَحَّ فَقَوْلُهُ: (وَتَوَسَّعُوا) . تَأْكِيدٌ وَمَعْنَاهُ: لَا تَتَضَامُّوا بَلْ يَقْرُبْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لِيَتَّسِعَ الْمَجْلِسُ. قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] ، وَقِيلَ التَّقْدِيرُ فِي الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، فَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهُ لِصَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ إِقَامَتُهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا اسْتَثْنَوْا مِنْهُ مَا إِذَا أَلِفَ مِنَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي بِهِ، أَوْ يُقْرِئُ قُرْآنًا أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْلِيلِ هَلْ يَصْلُحُ لِتَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النَّهْيِ الصَّرِيحِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ أَخْذِ مَكَانٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسْجِدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّيَاءِ الْمُنَافِي لِلْإِخْلَاصِ؟ وَقَدْ «كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ مَجْلِسِهِ لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4697 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4697 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ) أَيْ: مُرِيدًا لِلرُّجُوعِ إِلَيْهِ قَرِيبًا (ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ) أَيْ: مِنْ قَرِيبٍ (فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) . وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقُرْبِ الرُّجُوعِ، فَإِنَّ مَنْ أَخَذَ مَكَانًا فِي عَرَفَةَ أَوْ مِنًى مَثَلًا وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَنَةً أُخْرَى، فَلَيْسَ أَحَقَّ مِمَّنْ سَبَقَهُ خِلَافًا لِمَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَامَّةُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ فَقَامَ مِنْهُ لِيَتَوَضَّأَ أَوْ لِيَقْضِيَ شُغْلًا يَسِيرًا، سَوَاءٌ تَرَكَ فِيهِ خُمْرَةً وَنَحْوَهَا أَوْ لَا، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ مَنْ عَدَاهُ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلِ اخْتِصَاصُهُ بِهِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتْرُكْ فِيهِ شَيْئًا بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ رُجُوعًا لِلْمُبَاحِ إِلَى أَصْلِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ فَقَامَ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ نَزَعَ نَعْلَهُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ مَا سَبَقَ مِنْ غَيْرِ تَعْمِيمٍ، وَقَالَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَدِيثُ فِيمَنْ جَلَسَ إِلَخْ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مُسْتَحَبٌّ وَلَا يَجِبُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَحْدَهَا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
4698 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
4698 -
(عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ) أَيْ: إِلَى الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا) أَيْ: جَمِيعُهُمْ (إِذَا رَأَوْهُ) أَيْ: مُقْبِلًا
(لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ) . أَيْ: لِقِيَامِهِمْ تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ وَمُخَالَفَةً لِعَادَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، بَلِ اخْتَارَ الثَّبَاتَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَرْكِ التَّكَلُّفِ فِي قِيَامِهِمْ وَجُلُوسِهِمْ، وَأَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ، وَلُبْسِهِمْ وَمَشْيِهِمْ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَلِذَا رُوِيَ:" «أَنَا وَأَتْقِيَاءُ أُمَّتِي بُرَآءُ مِنَ التَّكَلُّفِ» ". قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّ الْكَرَاهِيَةَ بِسَبَبِ الْمَحَبَّةِ الْمُقْتَضِيةِ لِلِاتِّحَادِ الْمُوجِبِ لِرَفْعِ التَّكَلُّفِ وَالْحِشْمَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ: مَهْمَا تَمَّ الِاتِّحَادُ خَفَّتِ الْحُقُوقُ بَيْنَهُمْ مِثْلُ الْقِيَامِ وَالِاعْتِذَارِ وَالثَّنَاءِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُقُوقِ الصُّحْبَةِ، لَكِنْ فِي ضِمْنِهَا نَوْعٌ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالتَّكَلُّفِ، فَإِذَا تَمَّ الِاتِّحَادُ انْطَوَى بِسَاطُ التَّكَلُّفِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَسْلُكُ بِهِ إِلَّا مَسْلَكَ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآدَابَ الظَّاهِرَةَ عُنْوَانُ الْآدَابِ الْبَاطِنَةِ، فَإِذَا صَفَتِ الْقُلُوبُ بِالْمَحَبَّةِ اسْتَغْنَتْ عَنْ تَكَلُّفِ إِظْهَارِ مَا فِيهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِيَامَ وَتَرْكَهُ مُخْتَلِفٌ بِحَسْبِ الْأَزْمَانِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
4699 -
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
4699 -
(وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -)، أَيِ: ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَرَّهُ) أَيْ: أَعْجَبَهُ وَجَعَلَهُ مَسْرُورًا، وَلَفْظُ الْجَامِعِ مَنْ أَحَبَّ (أَنْ يَتَمَثَّلَ) أَيْ: يَنْتَصِبَ (لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا) أَيْ: يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمِينَ لِخِدْمَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُثُولًا أَيِ: انْتَصَبَ قَائِمًا، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا قَائِمِينَ لِلْخِدْمَةِ لَا لِلتَّعْظِيمِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قِيَامًا مَفْعُولًا مُطْلَقًا لِمَا فِي الِانْتِصَابِ مِنْ مَعْنَى الْقِيَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لِاشْتِرَاكِ الْمُثُولِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ (فَلْيَتَبَوَّأْ) أَيْ: فَلْيُهَيِّئْ (مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) . لَفْظُهُ الْأَمْرُ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةً مِنَ النَّارِ، قِيلَ: هَذَا الْوَعِيدُ لِمَنْ سَلَكَ فِيهِ طَرِيقَ التَّكَبُّرِ بِقَرِينَةِ السُّرُورِ لِلْمُثُولِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ وَقَامُوا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ، أَوْ لِإِرَادَةِ التَّوَاضُعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ الْخَطَّابِيِّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، هُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِذَلِكَ وَيُلْزِمَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَذْهَبِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ. قَالَ: وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْمَرْءِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّئِيسِ الْفَاضِلِ وَالْوَالِي الْعَادِلِ، وَقِيَامَ الْمُتَعَلِّمِ لِلْمُعَلِّمِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا الْقِيَامُ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ، كَمَا كَانَ قِيَامُ الْأَنْصَارِ لِسَعْدٍ، وَقِيَامُ طَلْحَةَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا يَنْبَغِي لِلَّذِي يُقَامُ لَهُ أَنْ يُرِيدَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ، حَتَّى إِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَقَدَ عَلَيْهِ أَوْ شَكَاهُ أَوْ عَاتَبَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ: وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ خَرَجَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ جَالِسَانِ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ، وَقَعَدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ عِبَادُ اللَّهِ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ".
4700 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا عَلَى عَصًا، فَقُمْنَا لَهُ فَقَالَ: " لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4700 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا) أَيْ: مُعْتَمِدًا (عَلَى عَصًا)، أَيْ: لِمَرَضٍ كَانَ بِهِ (فَقُمْنَا لَهُ) أَيْ: لِتَعْظِيمِهِ (فَقَالَ: «لَا تَقُومُوا كَمَا يَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهَا» ) : وَيُرْوَى بَعْضُهُمْ (بَعْضًا) أَيْ: لِمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي التَّعْظِيمُ لِلْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَكَذَا قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالتَّعْظِيمُ لِلَّهِ فَحَسَنٌ اهـ. وَفِيهِ أَنَّ كَلَامَهُمَا يُلَائِمُ النَّهْيَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَامُوا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَامُوا مُتَمَثِّلِينَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِمُطْلَقِ الْقِيَامِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَرَامِ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْوُقُوفُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
4701 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ رضي الله عنه فِي شَهَادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَا، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4701 -
(وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ) : هُوَ أَخُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: وَاسْمُ أَبِي الْحَسَنِ يَسَارٌ الْبَصْرِيُّ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَعَوْفٌ، مَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ تِسْعٍ وَمِائَةٍ. (قَالَ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ) أَيِ: الثَّقَفِيُّ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ (فِي شَهَادَةٍ) أَيْ: لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ (فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ)، أَيْ: لِيَجْلِسَ هُوَ فِيهِ (فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ)، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ (وَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَا)، أَيْ: أَنْ يَقُومَ أَحَدٌ لِيَجْلِسَ غَيْرُهُ فِي مَجْلِسِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ: وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى الْجُلُوسِ فِي مَوْضِعٍ يَقُومُ مِنْهُ أَحَدٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنَ السِّيَاقِ، وَهُوَ أَنْ يُقَامَ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَبَقَ مِنْ حَدِيثِ: لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، وَيُوَافِقُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ. (وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ) أَيْ: إِذَا كَانَتْ مُلَوَّثَةً بِطَعَامٍ مَثَلًا (بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ) . بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَيْ: بِثَوْبِ شَخْصٍ لَمْ يُلْبِسْهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الثَّوْبَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ، وَالتَّحَكُّمُ عَلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَتْ يَدُكَ مُلَطَّخَةً بِطَعَامٍ، فَلَا تَمْسَحْ يَدَكَ بِثَوْبِ أَجْنَبِيٍّ، وَلَكِنْ بِإِزَارِ غُلَامِكَ أَوِ ابْنِكَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أَلْبَسْتَهُ الثَّوْبَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالثَّوْبِ الْإِزَارُ وَالْمِنْدِيلُ وَنَحْوُهَا، فَلَمَّا أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الثَّوْبِ عَقَّبَهُ بِالْكُسْوَةِ مُنَاسَبَةً لِلْمَعْنَى، أَيْ: نَهَى أَنْ يَمْسَحَ يَدَهُ بِمِنْدِيلِ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَمْسَحُ بِمِنْدِيلِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْدِيلٍ وُهِبَهُ مِنْ غُلَامِهِ أَوِ ابْنِهِ انْتَهَى. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ إِذَا كَانَ رَاضِيًا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الشَّخْصَ قَامَ عَنِ الْمَجْلِسِ بِطِيبِ خَاطِرٍ، فَلَا بَأْسَ بِجُلُوسِهِ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} [المجادلة: 11]، وَكَذَا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:" {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] "، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ:«صَدْرُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَاحِبِهَا إِلَّا إِذَا أَذِنَ» ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْفُرُوعِ كَمَا فِي بَابِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ، فَامْتِنَاعُ الصَّحَابِيِّ مِنَ الْجُلُوسِ إِمَّا لِشَكِّ رِضَا الرَّجُلِ لِكَوْنِهِ قَامَ بِأَمْرِ بَعْضٍ أَوْ بِسَبَبِ حَيَاءٍ، وَإِمَّا الِاحْتِيَاطُ وَالْوَرَعُ، وَإِمَّا لِحَمْلِهِ الْحَدِيثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَوَافَقَهُ أَحْمَدُ فِي النَّهْيِ الْأَخِيرِ.
4702 -
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فَقَامَ، فَأَرَادَ الرُّجُوعَ، نَزَعَ نَعْلَهُ أَوْ بَعْضَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ، فَيَعْرِفُ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4702 -
(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ) أَيْ: بَيْنَ يَدِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنِ الْجُلُوسِ وَسْطَ الْحَلْقَةِ (فَقَامَ) ، عَطْفٌ عَلَى جَلَسَ (فَأَرَادَ الرُّجُوعَ، نَزَعَ نَعْلَهُ) : جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ: خَلَعَ نَعْلَهُ وَتَرَكَهَا هُنَاكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَلَعَلَّهُ يَمْشِي حَافِيًا إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - اهـ. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْشِيَ حَافِيًا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَمْشُوا حُفَاةً أَحْيَانًا (أَوْ بَعْضَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ)، أَيْ: مِنْ رِدَاءٍ أَوْ عِمَامَةٍ أَوْ طَاقِيَّةٍ (فَيَعْرِفُ ذَلِكَ) أَيْ: إِرَادَةَ رُجُوعِهِ (أَصْحَابُهُ فَيَثْبُتُونَ) أَيْ: فِي مَكَانِهِمْ وَلَا يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .