المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ]

- ‌[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الضِّيَافَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

- ‌[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ]

- ‌[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي]

- ‌[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ الْخَاتَمِ]

- ‌[بَابُ النِّعَالِ]

- ‌[بَابُ التَّرَجُّلِ]

- ‌[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

- ‌[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]

- ‌[بَابُ الْكِهَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

- ‌[كِتَابُ الْآدَابِ] [

- ‌بَابُ السَّلَامِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِيَامِ]

- ‌[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

- ‌[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ]

- ‌[بَابُ الضَّحِكِ]

- ‌[بَابُ الْأَسَامِي]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

- ‌[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ]

- ‌[بَابُ الْوَعْدِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَاحِ]

- ‌[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الفصل: قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَوْلُ الْقَائِلِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. فَإِنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ أَلْحَقَهُمْ بِأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي حُكْمِ الْآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ لَهُمْ بِحُكْمِ آبَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَرَارِي الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ، وَلِلنَّاسِ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ اخْتِلَافٌ، وَعَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الْكُفْرِ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ آثَارٌ عَنْ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " وَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ - بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8 - 9] وَبِقَوْلِهِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] ; لِأَنَّ اسْمَ الْوِلْدَانِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِلَادَةِ. وَلَا وِلَادَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانُوا هُمُ الَّذِينَ نَالَتْهُمُ الْوِلَادَةُ فِي الدُّنْيَا، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْيًا وَخَدَمًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ خُدَّامٌ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ (وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا) أَيْ: وُجِدُوا (شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ قَدْ) : لِلتَّحْقِيقِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2934

4626 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

4626 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مِنْ أَفْرَى الْفِرَى) : بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فِرْيَةٍ وَهِيَ الْكِذْبَةُ، وَأَفْرَى أَفْعَلُ مِنْهُ لِلتَّفْضِيلِ أَيْ: أَكْذَبُ الْكِذْبَاتِ (أَنْ يُرِيَ) : بِضَمِّ يَاءٍ وَكَسْرِ رَاءٍ (الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا) أَيْ: شَيْئًا لَمْ تَرَ عَيْنَاهُ فِي النِّهَايَةِ أَيْ يَقُولُ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ رَأَى شَيْئًا ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ مَلَكَ الرُّؤْيَا لِيُرِيَهُ الْمَنَامَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِإِرَاءِ الرَّجُلِ عَيْنَيْهِ وَصْفُهُمَا بِمَا لَيْسَ فِيهِمَا وَنِسْبَةُ الْكِذْبَاتِ إِلَى الْكَذِبِ لِلْمُبَالَغَةِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَيْلٌ أَلْيَلُ وَجَدَّ جِدُّهُ قَالَ السُّيُوطِيُّ: الْفِرْيَةُ الْكِذْبَةُ الْعَظِيمَةُ، وَجُعِلَ كَذِبُ الْمَنَامِ أَعْظَمَ مِنْ كَذِبِ الْيَقَظَةِ ; لِأَنَّهُ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَادَّعَى جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَذِبًا. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ: ( «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرَى أَنْ يُدْعَى الرَّجُلُ لِغَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَيَا، أَوْ يَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ وَاثِلَةَ، وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: "«إِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِيَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ تَرَيَا» ".

ص: 2934

4627 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:" «أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

4627 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالْأَسْحَارِ» ) أَيْ: مَا رُؤِيَ بِالْأَسْحَارِ، وَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ الْخَوَاطِرُ مُجْتَمِعَةً وَالدَّوَاعِي سَاكِنَةً ; وَلِأَنَّ الْمَعِدَةَ خَالِيَةٌ فَلَا يَتَصَاعَدُ مِنْهَا الْأَبْخِرَةُ الْمُشَوِّشَةُ ; وَلِأَنَّهَا وَقْتُ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْهُودَةِ؛ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ

ص: 2934

[كِتَابُ الْآدَابِ] [

‌بَابُ السَّلَامِ]

ص: 2934

كِتَابُ الْآدَابِ

(1)

بَابُ السَّلَامِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4628 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَذَهَبَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " قَالَ: فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللَّهِ ". قَالَ: " فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الْآنَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

كِتَابُ الْآدَابِ

الْأَدَبُ: اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَقِيلَ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَقِيلَ: الْوُقُوفُ مَعَ الْحَسَنَاتِ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَقِيلَ: التَّعْظِيمُ لِمَنْ فَوْقَكَ وَالرِّفْقُ بِمَنْ دُونَكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْمَأْدُبَةِ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى طَعَامٍ؛ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدْعَى إِلَيْهِ.

(1)

بَابُ السَّلَامِ

أَيِ: ابْتِدَاءً وَجَوَابًا، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ أَنَّ الْوَاجِبَ ثَوَابُهُ أَكْمَلُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّوَاضُعِ مَعَ كَوْنِهِ سَبَبًا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَنَظِيرُهُ النَّظِرَةُ عَنِ الْمُعْسِرِ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ وَالْإِبْرَاءُ أَفْضَلُ مِنْهَا، مَعَ أَنَّهُ سُنَّةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ:" «السَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَضَعَهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ، فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرَّ بِقَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ فَضْلُ دَرَجَةٍ بِتَذَكُّرِهِ إِيَّاهُمُ السَّلَامَ، فَإِنْ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَطْيَبُ» " رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4628 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» ) أَيْ: عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ أُهْبِطَ، وَإِلَى أَنْ مَاتَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَتْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالصُّورَةِ الصِّفَةُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَإِنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْعَبْدِ الْمَحْذُوفِ مِنَ السِّيَاقِ، وَإِنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ وَجْهَ غُلَامٍ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. كَذَا فِي حَاشِيَةِ الْبُخَارِيِّ لِلسُّيُوطِيِّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْهَاءُ مَرْجِعُهَا إِلَى آدَمَ عليه السلام، فَالْمَعْنَى: أَنَّ ذُرِّيَّةَ آدَمَ خُلِقُوا أَطْوَارًا فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ صَارُوا صُوَرًا أَجِنَّةً إِلَى أَنْ تَتِمَّ مُدَّةُ الْحَمْلِ، فَيُولَدُونَ أَطْفَالًا وَيُنْشَئُونَ صِغَارًا إِلَى أَنْ يَكْبَرُوا، فَيَتِمُّ طُولُ أَجْسَادِهِمْ، يَقُولُ: إِنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ خَلْقُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَكِنَّهُ أَوَّلَ مَا تَنَاوَلَتْهُ الْخِلْقَةُ وُجِدَ خَلْقًا تَامًّا. (طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) .

وَقَالَ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا قِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ: خُلِقَ آدَمُ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَلِمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَضْرِبُ وَجْهَ غُلَامٍ، فَقَالَ: " لَا تَضْرِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» " فَالْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هَذَا الْمُؤَوِّلُ لَا يُلَائِمُ هَذَا الْقَوْلَ. وَأَهْلُ الْحَقِّ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى طَبَقَتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: الْمُنَزَّهُونَ عَنِ التَّأْوِيلِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَعَدَمِ الرُّكُونِ إِلَى مُسَمَّيَاتِ الْجِنْسِ وَإِحَالَةِ الْمَعْنَى فِيهِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَهَذَا أَسْلَمُ الطَّرِيقَيْنِ. وَالطَّبَقَةُ الْأُخْرَى: يَرَوْنَ الْإِضَافَةَ فِيهَا إِضَافَةَ تَكْرِيمٍ وَتَشْرِيفٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى، خَلَقَ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ عَلَى صُورَةٍ لَمْ يُشَاكِلْهَا شَيْءٌ وَالصُّوَرُ فِي الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ، وَكَثْرَةِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْجَلِيلَةِ، فَاسْتَحَقَّتِ الصُّورَةُ الْبَشَرِيَّةُ أَنْ تُكَرَّمَ وَلَا تُهَانَ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَتَكْرِيمًا لِمَا كَرَّمَهُ اهـ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبَهَاءِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي تَعْقِيبِهِ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ تَأْوِيلَ أَبِي سُلَيْمَانَ سَدِيدٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَفِي ذِكْرِ مَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا مَنْفَعَةَ لَدَيْهِ.

ص: 2935

(فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ) أَيِ: الْجَمَاعَةِ (وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ) : أُفْرِدَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ أَوْ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ " نَفَرٌ " أَوْ جَمْعُ جَالِسٍ، أَوْ تَقْدِيرُهُ ذَوُو جُلُوسٍ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ رَجُلٍ عَدْلٍ مُبَالَغَةً (فَاسْتَمِعْ) أَيْ: فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ فَاسْتَمِعْ (مَا يُحَيُّونَكَ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، أَيِ: الَّذِي يُحَيُّونَكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْجِيمِ وَالتَّحْتِيَّةِ وَالْمُوَحَّدَةِ فَتَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا) أَيْ: تَحِيَّتُهُمْ إِيَّاكَ (تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ) أَيْ: لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَزَادُوهُ) أَيْ: آدَمَ فِي رَدِّ جَوَابِهِ عَلَى أَصْلِ سَلَامِهِ بِقَوْلِهِمْ (وَرَحْمَةُ اللَّهِ) : قِيلَ: يَدُلُّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الزِّيَادَةِ. قُلْتُ: بَلِ الزِّيَادَةُ هِيَ الْأَفْضَلُ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْآيَةِ أَيْضًا، نَعَمْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ السَّلَامِ فِي الْجَوَابِ، بَلْ عَلَى نَدْبِهِ ; لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ التَّعْلِيمِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ أَفْضَلُ سَوَاءٌ زَادَ أَمْ لَا. وَلَعَلَّ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا أَرَادُوا إِنْشَاءَ السَّلَامِ عَلَى آدَمَ، كَمَا يَقَعُ كَثِيرًا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْجَوَابِ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ السَّلَامِ، لَا أَنْ يَقَعَا مَعًا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَاءُ التَّعْقِيبِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهَا غَافِلُونَ، فَلَوِ الْتَقَى رَجُلَانِ وَسَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً يَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْجَوَابُ.

(قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَكُلُّ) : كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَجَمِيعِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِالْفَاءِ، وَهُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَمِيعَ (مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ: مِنْ أَوْلَادِهِ (عَلَى صُورَةِ آدَمَ) أَيْ: يَدْخُلُ عَلَى صُورَتِهِ، أَوْ فَهُوَ عَلَى صُورَتِهِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ النَّوْعِيَّةَ وَالشَّخْصِيَّةَ (وَطُولُهُ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ طُولَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَيْضًا (سِتُّونَ ذِرَاعًا) : بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِهِ، وَفِي الْجَامِعِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فِي طُولِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا (فَلَمْ يَزَلْ) : هَذِهِ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ عَلَى قَوْلِهِ: طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ مُتَضَمِّنًا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ آدَمُ طُولَهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَذُرِّيَّتُهُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أَيْضًا، وَطُولُهُمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَمَا بَالُهُمْ نَقَصَ طُولُهُمْ عَنْ طُولِ أَبِيهِمْ عَلَى مَا نُشَاهِدُ فِي الدُّنْيَا، أَهُوَ نُقْصَانٌ تَدْرِيجِيٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَلَمْ يَزَلِ (الْخَلْقُ) أَيْ: غَالِبُهُمْ مِنْ أَوْلَادِ بَنِي آدَمَ (يَنْقُصُ) أَيْ: طُولُهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُ الطِّيبِيُّ: وَجَمَالُهُمْ فَمَا أَظُنُّهُ صَحِيحًا مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا رَمْزًا وَلَا صَرِيحًا (بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ آدَمَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا. (حَتَّى الْآنَ) : بِالنَّصْبِ ظَرْفُ يَنْقُصُ، أَيْ: حَتَّى وَصَلَ النَّقْصُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، الظَّاهِرُ أَنَّ النُّقْصَانَ انْتَهَى إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَإِلَّا فَلَمْ يُحْفَظْ تَفَاوُتٌ فِي طُولِ الْقَامَةِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى مُدَّتِهَا الْآنَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ.

ص: 2936

4629 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: " تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4629 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْإِسْلَامِ) أَيْ: أَيُّ آدَابِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَيُّ خِصَالِ أَهْلِهِ (خَيْرٌ؟) أَيْ: أَفْضَلُ ثَوَابًا أَوْ أَكْثَرُ نَفْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا يَتَّصِلُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْخِصَالِ دُونَ غَيْرِهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَجَابَ عَنْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْخِصَالِ حَيْثُ (قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ) : إِلَخْ وَتَقْدِيرُهُ أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، فَلَمَّا حُذِفَ أَنْ رَجَعَ الْفِعْلُ مَرْفُوعًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24] ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ، وَيُمْكِنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَتَقْرَأُ السَّلَامَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَتُقْرِي مِنَ الْإِقْرَاءِ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: أَقْرَأُ فُلَانًا السَّلَامَ وَأُقْرِئُ عليه السلام، كَأَنَّهُ حِينَ يَبْلُغُهُ سَلَامُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ يَقْرَأَ السَّلَامَ وَيَرُدَّهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: قَرَأَ عليه السلام أَبْلَغَهُ كَأَقْرَاهُ، أَوْ لَا يُقَالُ: أَقْرَأَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّلَامُ مَكْتُوبًا. وَقَوْلُهُ: (عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِتَقْرَأُ، أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ بِأَنْ يَضْمَنَ تُطْعِمُ مَعْنَى الْبَذْلِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ شَامِلٌ لِلْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ.

ص: 2936

وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ أَيُّ خِصَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَآدَابِهِمْ أَفْضَلُ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِالْإِطْعَامِ وَالسَّلَامِ عَلَى مَنْ عَرَفَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ. قَالَ: وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمَا لِعِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمَا يُنَاسِبَانِ حَالَ السَّائِلِ، وَلِذَلِكَ أَسْنَدَهُمَا إِلَيْهِ فَقَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلَامَ، أَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَسْأَلُ عَمَّا يُعَامِلُ الْمُسْلِمِينَ فِي إِسْلَامِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ رَأَى أَنْ يُجِيبَ عَنْ سُؤَالِهِ بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْعَمَلِ، وَالْخَبَرُ قَدْ يَقَعُ مَوْقِعَ الْأَمْرِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى» "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا:" «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ» ".

ص: 2937

4630 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ: يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُهُ إِذَا مَاتَ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ» " لَمْ أَجِدْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ، وَلَكِنْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْجَامِعِ " بِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ.

ــ

4630 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ: يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَشْهَدُهُ) أَيْ: يَحْضُرُ وَقْتَ نَزْعِهِ (إِذَا مَاتَ) أَيْ: قَرُبَ مَوْتُهُ، أَوْ يَحْضُرُ زَمَانَ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ إِذَا مَاتَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ (وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُشَمِّتُهُ) : بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: يَدْعُو لَهُ بِقَوْلِهِ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ (إِذَا عَطَسَ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، يَعْنِي: فَحَمِدَ اللَّهَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. وَفِي النِّهَايَةِ: التَّشْمِيتُ بِالشِّينِ وَالسِّينِ الدُّعَاءُ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَالْمُعْجَمَةُ أَعْلَاهُمَا يُقَالُ: شَمِّتْ فُلَانًا. وَشَمَّتَ عَلَيْهِ تَشْمِيتًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الشَّوَامِتِ، وَهِيَ الْقَوَائِمُ كَأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْعَاطِسِ بِالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبْعَدَكَ اللَّهُ عَنِ الشَّمَاتَةِ وَجَنَّبَكَ مَا يُشْمَتُ بِهِ عَلَيْكَ. (وَيَنْصَحُ لَهُ) أَيْ: يُرِيدُ الْخَيْرَ لِلْمُؤْمِنِ وَيُرْشِدُهُ إِلَيْهِ (إِذَا غَابَ) أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا (أَوْ شَهِدَ) أَيْ: حَضَرَ، وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْرَهُ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ، فَلَا يَتَمَلَّقُ فِي حُضُورِهِ وَيَغْتَابُ فِي غَيْبَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ:(لَمْ أَجِدْهُ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثَ (فِي الصَّحِيحَيْنِ) أَيْ: مَتْنَيْهِمَا (وَلَا فِي كِتَابِ الْحُمَيْدِيِّ) أَيِ: الْجَامِعُ لَهُ (لَكِنْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْجَامِعِ) أَيْ: جَامِعِ الْأُصُولِ (بِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ) : قُلْتُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنْ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ:" «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ» " فَفِي الْجُمْلَةِ صَحَّ إِسْنَادُ الْبَغَوِيِّ الْحَدِيثَ إِلَى مُسْلِمٍ، بَلْ إِلَى الشَّيْخَيْنِ وَلَوْ بِالْمَعْنَى.

ص: 2937

4631 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4631 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا» ، وَلَا تُؤْمِنُوا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ وَالرِّوَايَاتِ بِحَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ اهـ. وَلَعَلَّ حَذْفَ النُّونِ لِلْمُجَانَسَةِ وَالِازْدِوَاجِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَنَحْنُ اسْتَقْرَيْنَا نُسَخَ مُسْلِمٍ وَالْحُمَيْدِيِّ وَجَامِعِ الْأُصُولِ وَبَعْضَ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، فَوَجَدْنَاهَا مُثْبَتَةً بِالنُّونِ عَلَى الظَّاهِرِ. قُلْتُ: أَمَّا نُسَخُ الْمِشْكَاةِ الْمُصَحَّحَةُ الْمُعْتَمَدَةُ الْمَقْرُوءَةُ عَلَى الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ كَالْجَزَرِيِّ، وَالسَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ، وَجَمَالٍ الْمُحَدِّثِ، وَغَيْرُهَا مِنَ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ، فَكُلُّهَا بِحَذْفِ النُّونِ، وَمَا وَجَدْنَا نُسْخَةً فِيهَا النُّونُ مُثْبَتَةٌ، وَأَمَّا مَتْنُ مُسْلِمٍ الْمُصَحَّحُ الْمَقْرُوءُ عَلَى جُمْلَةِ مَشَايِخَ مِنْهُمُ السَّيِّدُ نُورُ الدِّينِ الْإِيجِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْعَزِيزَ، فَهُوَ بِحَذْفِ النُّونِ، نَعَمْ فِي الْحَاشِيَةِ نُسْخَةٌ بِثَبَاتِ النُّونِ، وَأَمَّا تَيْسِيرُ الْوُصُولِ إِلَى جَامِعِ الْأُصُولِ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلَّا بِحَذْفِ النُّونِ، بَلْ قَوْلُهُ: لَا تَدْخُلُوا مَحْذُوفُ النُّونِ أَيْضًا، وَلَعَلَّ الْوَجْهَ أَنَّ النَّهْيَ قَدْ يُرَادُ بِهِ النَّفْيُ كَعَكْسِهِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَالْمَعْنَى: لَا تُؤْمِنُونَ إِيمَانًا كَامِلًا (حَتَّى تَحَابُّوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، أَيْ: حَتَّى يُحِبَّ كُلٌّ مِنْكُمْ صَاحِبَهُ ( «أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ إِفْشَاءَ السَّلَامِ سَبَبًا لِلْمَحَبَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ

ص: 2937

سَبَبًا لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، وَفِي التَّهَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَالشَّحْنَاءِ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهِيَ سَبَبٌ لِانْثِلَامِ الدِّينِ وَالْوَهَنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَعْلِ كَلِمَةِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْعُلْيَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] الْآيَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 2938

4632 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4632 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي) أَيْ: تَوَاضُعًا حَيْثُ رَفَعَهُ اللَّهُ بِالرُّكُوبِ، وَلِئَلَّا يَظُنَّ أَنَّهُ بِهَذَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي (وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ) : كَذَلِكَ (وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) أَيْ: لِلتَّوَاضُعِ الْمَقْرُونِ بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَامِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ وُجُودُ الْكَبِيرِ فِي الْكَثِيرِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الصَّغِيرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْكَبِيرِ، مَعَ أَنَّ الْكَثِيرَ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي مَعْنَى الْكَبِيرِ، وَأَيْضًا وُضِعَ السَّلَامُ لِلتَّوَدُّدِ، وَالْمُنَاسَبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلصَّغِيرِ مَعَ الْكَبِيرِ، وَلِلْقَلِيلِ مَعَ الْكَثِيرِ بِمُقْتَضَى الْأَدَبِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا وَعُرْفًا، نَعَمْ لَوْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ تَوَاضُعًا، فَهُوَ مَقْصِدٌ حَسَنٌ أَيْضًا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّمَا اسْتُحِبَّ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ لِلرَّاكِبِ ; لِأَنَّ وَضْعَ السَّلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةِ إِزَالَةِ الْخَوْفِ مِنَ الْمُلْتَقِيَيْنِ إِذَا الْتَقَيَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْغَالِبِ، أَوْ لِمَعْنَى التَّوَاضُعِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ لِمَعْنَى التَّعْظِيمِ ; لِأَنَّ السَّلَامَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا اكْتِسَابُ وُدٍّ أَوِ اسْتِدْفَاعُ مَكْرُوهٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فَالرَّاكِبُ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَاشِي، وَهُوَ عَلَى الْقَاعِدِ لِلْإِيذَانِ بِالسَّلَامَةِ وَإِزَالَةِ الْخَوْفِ، وَالْكَثِيرُ عَلَى الْقَلِيلِ لِلتَّوَاضُعِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ لِلتَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ. قُلْتُ: أَمَّا التَّوَاضُعُ فَفِي الْكُلِّ مَوْجُودٌ وَلَوِ انْعَكَسَ الْوُجُودُ، وَلِذَا قَالُوا: ثَوَابُ الْمُسَلِّمِ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِ الْمُجِيبِ، مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ سُنَّةٌ وَفِعْلَ الْآخَرِ فَرْضٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ مَعْنًى آخَرَ فِي التَّرْتِيبِ الْمُقَدَّمِ فَتَدَبَّرْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْأَدَبُ يَعْنِي: الْقَيْدُ الْأَخِيرُ، إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا تَلَاقَى اثْنَانِ فِي طَرِيقٍ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قُعُودٍ أَوْ قَاعِدٍ، فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ بِكُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، قُلْتُ: وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ صَدْرِ الْحَدِيثِ فِي الْجُمْلَةِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيفَ فِي الرَّاكِبِ وَالْمَاشِي لِلْجِنْسِ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَلَكِنْ فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ. قَالَ الْمُتَوَلِّيُّ: إِذَا لَقِيَ رَجُلٌ جَمَاعَةً فَأَرَادَ أَنْ يَخُصَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ بِالسَّلَامِ كُرِهَ ; لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنَ السَّلَامِ الْمُؤَانَسَةُ وَالْأُلْفَةُ، وَفِي تَخْصِيصِ الْبَعْضِ إِيحَاشُ الْبَاقِينَ، وَرُبَّمَا صَارَ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ، وَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ أَوِ الشَّوَارِعِ الْمَطْرُوقَةِ كَثِيرًا، فَالسَّلَامُ هُنَا إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى كُلٍّ لَتَشَاغَلَ بِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْعُرْفِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2938

4633 -

وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

4633 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِتَوْقِيرِهِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ (وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ) : لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2938

4634 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4634 -

(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -[قَالَ] : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ) بِكَسْرِ أَوَّلَهُ جَمْعُ غُلَامٍ بِمَعْنَى: صَبِيٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) أَيْ: تَوَاضُعًا ; وَلِأَنَّهُ كَانَ مَارًّا وَلِكَثْرَتِهِمْ عَلَى احْتِمَالٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ اسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ حَتَّى الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ، وَبَيَانُ تَوَاضُعِهِ وَكَمَالُ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ

ص: 2938

وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى رِجَالٍ وَصِبْيَانٍ، وَرَدَّ صَبِيٌّ مِنْهُمُ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّدِّ كَمَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِصَلَاةِ الصَّبِيِّ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ وَرَدَّ غَيْرُهُمْ لَمْ يَسْقُطِ الرَّدُّ عَنْهُمْ، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى رَدِّهِ أَثِمُوا، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ، فَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ أَوْ مَحْرَمًا مِنْ مَحَارِمِهِ فَهِيَ مَعَهُ كَالرَّجُلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً؛ فَإِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً يُخَافُ الِافْتِتَانُ بِهَا لَا يُسَلِّمِ الرَّجُلُ عَلَيْهَا وَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجُزْ لَهَا رَدُّ الْجَوَابِ وَلَا تُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ سَلَّمَتْ لَمْ تَسْتَحِقَّ جَوَابًا، فَإِنْ أَجَابَهَا كُرِهَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا يُفْتَتَنُ بِهَا جَازَ أَنْ تُسَلِّمَ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَيْهِ الرَّدُّ. قَالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي قَالَ: وَإِذَا كَانَ النِّسَاءُ جَمَاعَةً فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ الرَّجُلُ، أَوْ كَانَ الرِّجَالُ جَمْعًا فَسَلَّمُوا عَلَى الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ جَازَ إِذَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِنَّ وَلَا عَلَيْهَا أَوْ عَلَيْهِمْ فِتْنَةٌ اهـ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ عُلَمَائِنَا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2939

4635 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " «لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4635 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى) أَيْ: وَلَوْ كَانُوا ذِمِّيِّينَ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْكُفَّارِ (بِالسَّلَامِ) : لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ بِهِ إِعْزَازٌ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ إِعْزَازُهُمْ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَوَادُدُهُمْ وَتَحَابُبُهُمْ بِالسَّلَامِ وَنَحْوِهِ، قَالَ تَعَالَى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ. وَلِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِإِذْلَالِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:{وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ) أَيِ: أَلْجِئُوا أَحَدَهُمْ (إِلَى أَضْيَقِهِ) أَيْ: أَضْيَقِ الطَّرِيقِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ جِدَارٌ يَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ، وَإِلَّا فَيَأْمُرُهُ لِيَعْدِلَ عَنْ وَسَطِ الطَّرِيقِ إِلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ جَزَاءً وِفَاقًا، لِمَا عَدَلُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ; وَلِأَنَّ قَتْلَهُمْ وَاجِبٌ، لَكِنِ ارْتَفَعَ بِالْجِزْيَةِ وَمَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، فَهَذَا قَتْلٌ مَعْنَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ ابْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ وَلَا يُحَرَّمُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ، فَالصَّوَابُ تَحْرِيمُ ابْتِدَائِهِمْ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمَاعَةٍ: أَنَّهُ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالنَّخَعِيِّ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ سَلَّمْتَ فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ، وَإِنْ تَرَكْتَ فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ. قُلْتُ: التَّرْكُ أَصْلَحُ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ: وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُبْدَأُ بِالسَّلَامِ إِلَّا لِعُذْرٍ وَخَوْفٍ مِنْ مَفْسَدَةٍ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَبَانَ ذِمِّيًّا اسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَرِدَّ سَلَامَهُ بِأَنْ يَقُولَ: اسْتَرْجَعْتُ سَلَامِي تَحْقِيرًا لَهُ. قُلْتُ: وَلَا بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا لِلْمُبْتَدِعِ، أَوْ لِلْمُبَاغِضِ، أَوِ الْمُتَكَبِّرِ الَّذِينَ لَمْ يَرُدُّوا عليه السلام. قَالَ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُتْرَكُ لِلذِّمِّيِّ صَدْرُ الطَّرِيقِ، بَلْ يُضْطَرُّ إِلَى أَضْيَقِهِ، وَلَكِنَّ التَّضْيِيقَ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ فِي وَهْدَةٍ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ خَلَتِ الطَّرِيقُ عَنِ الزَّحْمَةِ فَلَا حَرَجَ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

ص: 2939

4636 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ، فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: وَعَلَيْكَ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4636 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ) : وَفِي مَعْنَاهُمُ النَّصَارَى، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ:(فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ) أَيِ: الْيَهُودُ (السَّامُ) : بِالْأَلِفِ أَيِ: الْمَوْتُ الْعَاجِلُ (عَلَيْكَ) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ نَظَرًا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْكُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ يُقَالُ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ لِأَحَدِكُمْ: السَّامُ عَلَيْكَ، وَيُمْكِنُ أَنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ مَعَ تَحَقُّقِ الْجَمْعِ أَيْضًا تَحْقِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا أَفْضَلُ فِي حَقِّنَا مُخَالَفَةً لَهُمْ أَنَّ أَحَدَنَا يُسَلِّمُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَّا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ إِرَادَةً لِزِيَادَةِ التَّعْظِيمِ، أَوْ قَصْدًا لِمُرَاعَاةِ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلتَّعْمِيمِ، (فَقُلْ: وَعَلَيْكَ) : بِالْوَاوِ وَخِطَابِ الْمُفْرَدِ جَزَاءً وِفَاقًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِخِطَابِ الْجَمْعِ، وَلَعَلَّهُ مَحَلُّهُ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُفَصَّلًا، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي عَلَى مَا سَيَأْتِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَأَنَّهُ رُوِيَ بِالْوَاوِ أَيْضًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2939

4637 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4637 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ» ) : بِالْوَاوِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: عَلَيْكُمْ بِدُونِ الْوَاوِ، وَخِطَابُ الْجَمْعِ لِمُقَابَلَةِ الْجَمْعِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَقُولُوا: وَعَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكَ، وَلِهَذَا عَبَّرَ الْجَزَرِيُّ فِي الْحِصْنِ هَكَذَا حَيْثُ قَالَ: رَدَّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: عَلَيْكَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، أَوْ وَعَلَيْكَ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَالْكُلُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَرِوَايَةُ الْوَاوِ أَكْثَرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ إِذَا سَلَّمُوا، لَكِنْ لَا يُقَالُ لَهُمْ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، يَعْنِي: وَلَا عَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَلَا عَلَيْكَ السَّلَامُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بَلْ يُقَالُ عَلَيْكُمْ فَقَطْ، أَوْ وَعَلَيْكُمْ يَعْنِي: إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَا يَأْتِي بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِإِيهَامِهِ التَّعْظِيمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ إِرَادَةِ التَّعْظِيمِ. قَالَ: وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْكُمْ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ: وَعَلَيْكُمْ بِإِثْبَاتِهَا، وَعَلَى هَذَا فَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالُوا: عَلَيْكُمُ الْمَوْتُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ كُلُّنَا نَمُوتُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ، وَتَقْدِيرُهُ وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الذَّمِّ.

قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ حَبِيبٍ الْمَالِكِيُّ حَذْفَ الْوَاوِ، لِئَلَّا تَقْتَضِيَ التَّشْرِيكَ، أَيِ: الصُّورِيَّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بِإِثْبَاتِهَا كَمَا هِيَ فِي الرِّوَايَاتِ أَيْ: أَكْثَرِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ، يَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ، أَيِ: الْحِجَارَةُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَيْ: رِوَايَةً وَدِرَايَةً. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: حَذْفُ الْوَاوِ هُوَ الصَّوَابُ، أَيِ: الْأَصْوَبُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ. قَالَ: لِأَنَّهُ صَارَ كَلَامُهُمْ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ خَاصَّةً، وَإِذَا أُثْبِتَتِ اقْتَضَتِ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّوَابُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْوَاوِ وَحَذْفَهَا جَائِزَانِ، كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِثْبَاتُهَا أَجْوَدُ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ السَّامَ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِثْبَاتُ الْوَاوِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ مَنَاطُ السَّلَامَةِ فِي الدَّارَيْنِ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ تَعْرِيضٌ بِالدُّعَاءِ عَلَيْنَا، وَأَمَّا إِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: وَأَقُولُ عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصِّيغَةَ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ الْإِيحَاشِ، وَأَقْرَبَ إِلَى الرِّفْقِ، فَإِنَّ رَدَّ التَّحِيَّةِ يَكُونُ إِمَّا بِأَحْسَنَ مِنْهَا، أَوْ بِقَوْلِنَا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ، وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنَ مِمَّا حَيَّوْنَا بِهِ لَا يَجُوزُ لَنَا، وَلَا رَدَّ بِأَقَلِّ مِنْ قَوْلِنَا: وَعَلَيْكَ، وَأَمَّا الرَّدُّ بِغَيْرِ الْوَاوِ فَظَاهِرٌ أَيْ: عَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ.

قَالَ الْقَاضِي: وَإِذَا عُلِمَ التَّعْرِيضُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْنَا، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَدَّرَ وَأَقُولُ عَلَيْكُمْ مَا تُرِيدُونَ بِنَا أَوْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ، وَلَا يَكُونُ وَعَلَيْكُمْ عَطْفًا عَلَى عَلَيْكُمْ فِي كَلَامِهِمْ، وَإِلَّا لَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَقْرِيرَ دُعَائِهِمْ، وَلِذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: فَقُلْ عَلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ بِالْوَاوِ أَيْضًا.

قَالَ الطِّيبِيُّ: السَّامُ الْمَوْتُ وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ. قُلْتُ: هَذَا الْأَصْلُ فَرْعُ إِثْبَاتِ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، نَعَمْ فِي النِّهَايَةِ السَّأْمُ عَلَيْكُمْ، رُوِيَ بِالْهَمْزِ أَيْ: تَسَآمُونَ دِينَكُمْ، وَالْمَشْهُورُ بِلَا هَمْزٍ أَيِ: الْمَوْتُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِلُغَةِ الْيَهُودِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّهِمْ:{لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِالسَّلَامَةِ عَنْ صِرَافَتِهِ، وَإِرَادَةَ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ الْمُشَابِهِ بِاللَّغْوِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: رَوَاهُ قَتَادَةُ مَهْمُوزًا وَقَالَ مَعْنَاهُ: تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُ السَّامُ وَهُوَ الْمَوْتُ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا فَهُوَ مِنْ سَامَ يَسُومُ إِذَا مَضَى ; لِأَنَّ الْمَوْتَ مَضَى اهـ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْقَامُوسِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ سَوَمَ فُلَانًا: خَلَّاهُ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْرَبُ مَأْخَذًا لِلْمَعْنَى. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: " «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ.

ص: 2940

4638 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ". قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا " قَالَ: " قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " عَلَيْكُمْ " وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

- وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ. قَالَتْ: «إِنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ: " وَعَلَيْكُمْ " فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ ". قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: " أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» ".

- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ: " «لَا تَكُونِي فَاحِشَةً، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ» ".

ــ

4638 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ) أَيْ: قَوْمٌ (مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ) أَيْ: وَقَالَ وَعَلَيْكُمْ لِمَا سَيَأْتِي (فَقُلْتُ:، بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ) أَيْ: مَفْهُومُ مَا تُرِيدُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَتُحَرِّفُونَهُ لِفَسَادِ الْمَعْنَى (وَاللَّعْنَةُ) أَيْ: زِيَادَةٌ عَنْ ذَلِكَ (فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ! إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ)، أَيْ: رَحِيمٌ (يُحِبُّ الرِّفْقَ) أَيْ: لَيِّنُ الْجَانِبِ، وَأَصْلُ الرِّفْقِ ضِدُّ الْعُنْفِ (فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ) أَيْ: مَهْمَا أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَإِلَّا فَقَدَ قَالَ تَعَالَى:{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9]، (قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ) أَيْ: أَلَمْ يَنْكَشِفْ لَكَ وَلَمْ تَسْمَعْ (مَا قَالُوا) أَيْ: حِينَ السَّلَامِ عَلَيْكَ حَيْثُ أَبْدَلُوا السَّلَامَ بِالسَّامِ. (قَالَ: قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ) أَيْ: فِقْهًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ لِاسْتِئْنَافِ الْمَبْنِيِّ (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: عَنْهَا، وَإِلَّا فَفِي رِوَايَاتٍ أُخَرَ أَيْضًا وَرَدَّ (عَلَيْكُمْ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاوَ) أَيْ: بِدُونِ الْوَاوِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ أَوْ وَعَلَيْكُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وَأَمَّا عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - فَقَدْ زَادَتْ فِي الْمَعْنَى، وَتَعَدَّتْ عَنِ الْمَبْنِيِّ، وَتَرَكَتْ طَرِيقَ اللُّطْفِ، وَاخْتَارَتْ سَبِيلَ الْعُنْفِ، وَلِذَا أَرْشَدَهَا صلى الله عليه وسلم إِلَى الرِّفْقِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ بَابُ الْمُدَارَاةِ وَتَرْكِ الْمُعَادَاةِ وَالْمُعَانَاةِ كَمَا قِيلَ: وَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ. لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ مِمَّا خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَسَنُبَيِّنُهُ فِي مَحَلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي التَّنْزِيلِ:" {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8] "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

(وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ) أَيْ: عَنْهَا ( «قَالَتْ: إِنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ. قَالَ: وَعَلَيْكُمْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْقِصَّةَ مُتَّحِدَةٌ، وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى ذِكْرِ اللَّعْنَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ إِمَّا مِنَ الرَّاوِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَاتِ الْأُخَرِ، أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ حَيْثُ مُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَهْلًا) : مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: ارْفُقِي رِفْقًا (يَا عَائِشَةُ) . يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُتَمِّمَاتِ السَّابِقِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ اللَّاحِقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:(عَلَيْكِ) : بِكَسْرِ الْكَافِ (بِالرِّفْقِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: بِلِينِ الْجَانِبِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْهَلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ (وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ ضِدُّ الرِّفْقِ (وَالْفُحْشَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا التَّعَدِّي بِزِيَادَةِ الْقُبْحِ فِي الْقَوْلِ وَالْجَوَابِ (قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ) أَيْ: إِذَا أَرَادُوا بِالسَّامِ الْأَمْرَ الْمَكْرُوهَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالسَّامِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْمَوْتُ (فِيَّ) أَيْ: فِي حَقِّي.

(وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ. قَالَ: «لَا تَكُونِي فَاحِشَةً» ) أَيْ: قَائِلَةً لِلْفُحْشِ وَمُتَكَلِّمَةً بِكَلَامٍ قَبِيحٍ ( «فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ» ) : وَقَدْ مَرَّ مَعْنَاهُ (وَالتَّفَحُّشَ) أَيِ: التَّكَلُّفَ فِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ وَالتَّعَمُّدِ فِيهِ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم لَهَا لِقَوْلِهَا " وَاللَّعْنَةُ " أَوْ " لَعَنَكُمُ اللَّهُ "، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ صَرِيحَةٌ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، إِذْ لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الْقَضِيَّةِ وَاحِدَةً مُخْتَلِفُ الْمَبْنَى.

ص: 2941

4639 -

وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَالْيَهُودِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4639 -

(وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما) : وَهُمَا صَحَابِيَّانِ، بَلْ حِبَّانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ أُسَامَةَ هُوَ ابْنُ مَوْلَاهُ وَقَدْ مَرَّ تَرْجَمَتُهُمَا. ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ» ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ خِلْطٍ، وَهُوَ مَا يُخْلَطُ، وَالْمُرَادُ جَمْعٌ مَخْلُوطٌ ( «مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ» ) : عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، قَالَ الطِّيبِيُّ وَكَذَا قَوْلُهُ:(وَالْيَهُودِ) : وَجَعَلَهُمْ مُشْرِكِينَ إِمَّا لِقَوْلِهِمْ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَإِمَّا لِلتَّغْلِيبِ أَوْ لِلتَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ: مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا. اهـ.

وَالْأَوْلَى عَطْفُ الْيَهُودِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ (فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ) : قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ مُسْلِمُونَ أَوْ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ بِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُشْرِكٍ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 2942

4640 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ: " فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ " قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4640 -

(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ» ) أَيْ: فِيهَا. وَفِي رِوَايَةٍ عَلَى الطَّرَقَاتِ، وَهِيَ جَمْعُ الطُّرُقِ جَمْعِ الطَّرِيقِ (قَالُوا) أَيْ: بَعْضُ الْأَصْحَابِ ( «يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ» ) : بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَتَشْدِيدِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ: مِنْ مَجَالِسِنَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ بُدٌّ، أَيْ: مَا لَنَا فِرَاقٌ مِنْهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تُلْجِئُنَا إِلَى ذَلِكَ، فَلَا مَنْدُوحَةَ لَنَا عَنْهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (نَتَحَدَّثُ فِيهِ) أَيْ: يُحَدِّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ، كَالْمُشَاوَرَةِ وَالْمُذَاكَرَةِ، وَالْمُعَالَجَةِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْمُصَالَحَةِ. (قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ) أَيِ: امْتَنَعْتُمْ عَنْ تَرْكِ الْمُجَالَسَةِ بِالْكُلِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَيْهَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَرَكْتُمْ (إِلَّا الْمَجْلِسَ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ ( «فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» ) : وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمِ الْمَعْنَى هُنَا، فَإِنَّهُ اسْمُ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَصْدَرِ الْمُرَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَفِي الْقَامُوسِ: جَلَسَ يَجْلِسُ جُلُوسًا وَمَجْلَسًا كَمَقْعَدٍ وَالْمَجْلِسُ أَيْ: بِالْكَسْرِ مَوْضِعُهُ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ: الْمَجْلَسُ بِفَتْحِ اللَّامِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: إِذَا امْتَنَعْتُمْ عَنِ الْأَفْعَالِ إِلَّا عَنِ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ أَيْ: إِذَا دَعَتْ حَاجَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْجِيرَانِ وَغَيْرِهِ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ وَاقْعُدُوا فِيهِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ. ( «قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ» ) : وَلَعَلَّ وَضْعَ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ رُجُوعُهُ إِلَى الْحَقِّ ; لِأَنَّ حَقَّ الْحَقِّ هُوَ تَرْكُ الْقُعُودِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُطْلَقِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) أَيْ: بَيِّنْ لَنَا بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ (قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ) أَيْ: كَفُّهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمِ أَوْ مَنْعُ النَّظَرِ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ (وَكَفُّ الْأَذَى) أَيِ: الِامْتِنَاعُ عَنْ أَذَى الْمَارِّينَ بِالتَّضْيِيقِ وَغَيْرِهِ (وَرَدُّ السَّلَامِ) أَيْ: عَلَى الْمُسْلِمِينَ (وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ: عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَارِفِينَ (وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) : لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْأَمْرِ الْأَنْكَرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ.

ص: 2942

4641 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: " «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ هَكَذَا.

ــ

4641 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (قَالَ) أَيْ: أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا زِيَادَةً عَلَى مَرْوِيِّ أَبِي سَعِيدٍ ( «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» ) : بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ هَكَذَا) أَيْ: مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ.

ص: 2942

4642 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ: " «وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ، وَتَهْدُوا الضَّالَّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَكَذَا، وَلَمْ أَجِدْهُمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".

ــ

4642 -

(وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ) أَيْ: عُمَرُ مَرْفُوعًا زِيَادَةً عَلَى الْخُدْرِيِّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَوْ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ أَوْ دَلِيلٍ صَحِيحٍ إِذْ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الطِّيبِيِّ، قَوْلُهُ:(وَتُغِيثُوا) : عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ، وَحَذْفُ النُّونِ عَلَى تَقْدِيرِ " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ". الْكَشَّافُ: وَحْيًا أَوْ يُرْسِلَ مَصْدَرَانِ وَاقِعَانِ مَوْقِعَ الْحَالِ ; لِأَنَّ أَوْ يُرْسِلَ فِي مَعْنَى إِرْسَالًا، ثُمَّ قَوْلُهُ: تُغِيثُوا بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنَ الْإِغَاثَةِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بِمَعْنَى: الْإِعَانَةُ، وَقَوْلُهُ:(الْمَلْهُوفَ) أَيِ: الْمُطْلَقُ وَالْمُتَحَيِّرُ فِي أَمْرِهِ، وَفِي الْقَامُوسِ أَيِ: الْمَظْلُومُ الْمُضْطَرُّ يَسْتَغِيثُ وَيَنْحَسِرُ. ( «وَتَهْدُوا الضَّالَّ» ) : بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ: تُرْشِدُوهُ إِلَى الطَّرِيقِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنَ الْعَطْفِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِرْشَادِ السَّبِيلِ وَهِدَايَةِ الضَّالِّ أَنَّ إِرْشَادَ السَّبِيلِ أَعَمُّ مِنْ هِدَايَةِ الضَّالِّ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَقِيبَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) : وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَأْخَذُ كَلَامِ الطِّيبِيِّ فِي الْعَطْفِ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ:(وَلَمْ أَجِدْهُمَا) أَيْ: حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (فِي الصَّحِيحَيْنِ) : كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صَنِيعُ الْبَغَوِيِّ؛ حَيْثُ أَوْرَدَ الْكُلَّ فِي الصِّحَاحِ، لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ الِاعْتِذَارُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ ذِكْرَهُمَا إِنَّمَا كَانَ لِلتَّتْمِيمِ وَالتَّكْمِيلِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا بِطْرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَمِثْلُ هَذَا يُغْتَفَرُ فَتَدَبَّرْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَفْعَلُ وَتَذَرُ.

ص: 2943

الْفَصْلُ الثَّانِي

4643 -

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ بِالْمَعْرُوفِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

4643 -

(عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ بِالْمَعْرُوفِ» ) : صِفَةٌ بَعْدَ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ يَعْنِي: لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خِصَالٌ سِتٌّ، مُلْتَبِسَةٌ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى " مِنْ " (يُسَلِّمُ عَلَيْهِ) : جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ أَوْ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى الْمُسْلِمِ سَوَاءٌ عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ ( «إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ» ) أَيْ: إِلَى دَعْوَةٍ أَوْ حَاجَةٍ ( «وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ» ) : مَرَّ تَحْقِيقُ مَبْنَاهُ وَمَعْنَاهُ ( «وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَتْبَعُ» ) : بِسُكُونِ الْفَوْقَانِيَّةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يَشْهَدُ وَيُشَيِّعُ (جِنَازَتَهُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ وَيُفْتَحُ (إِذَا مَاتَ) : وَفِي قَوْلِهِ: " يَتْبَعُ " إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِنَا، وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا " «الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ، لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَقَدَّمَهَا» ". (وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ) أَيْ: مِثْلَ مَا يُحِبُّ (لِنَفْسِهِ) : وَهَذَا فَذْلَكَةُ الْكُلِّ، وَلِذَا اقْتُصِرَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِ السِّتِّ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ:" «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ". (رَوَاهُ) أَيْ: حَدِيثَ عَلِيٍّ (التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ.

ص: 2943

4644 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَلَسَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " عَشْرٌ "، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، فَقَالَ: " عِشْرُونَ ". ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ فَقَالَ: " ثَلَاثُونَ» " رَوَاهُ التِّزْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

4644 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ) : بِضَمِيرِ الْجَمْعِ إِمَّا تَعْظِيمًا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِمَّا لَهُ وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَمَعَ وُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ بِأَنْ يُقَالَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُؤْتَى بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَّلَمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا (فَرَدَّ عَلَيْهِ) : إِمَّا بِمِثْلِهِ أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهُ (ثُمَّ جَلَسَ) أَيِ: الرَّجُلُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَشْرٌ) أَيْ: لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، أَوْ كُتِبَ، أَوْ حَصَلَ لَهُ أَوْ ثَبَتَ عَشْرٌ أَوِ الْمَكْتُوبُ لَهُ عَشْرٌ.

ص: 2943

( «ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، فَقَالَ: عِشْرُونَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ) : قِيلَ: الْبَرَكَاتُ عِبَارَةٌ عَنِ الثَّبَاتِ، وَلِذَا لَا يُزَادُ عَلَيْهِ لَا فِي السَّلَامِ وَلَا فِي الْجَوَابِ. ( «فَرَدَّ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ» ) أَيْ: بِكُلِّ لَفْظٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2944

4645 -

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ، فَزَادَ، «ثُمَّ أَتَى آخَرُ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ:" أَرْبَعُونَ " وَقَالَ: " هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4645 -

(وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ، وَزَادَ، «ثُمَّ أَتَى آخَرُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ) : قِيلَ: الْبَرَكَةُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ ( «وَمَغْفِرَتُهُ، فَقَالَ: أَرْبَعُونَ. وَقَالَ: هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ» ) أَيْ: تَزِيدُ الْمَثُوبَاتُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَزِيدُهُ الْمُسْلِمُ، كَذَا حَرَّرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ أَئِمَّتِنَا: قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَيَأْتِي بِضَمِيرِ الْجَمْعِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، وَيَقُولُ الْمُجِيبُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَيَأْتِي بِوَاوِ الْعَطْفِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ. وَأَقَلُّ السَّلَامِ أَنْ تَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكَ حَصَلَ أَيْضًا، وَأَمَّا الْجَوَابُ فَأَقَلُّهُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ أَوْ وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، فَإِنْ حَذَفَ الْوَاوَ أَجْزَأَهُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْجَوَابِ عَلَيْكُمْ لَمْ يَكُنْ جَوَابًا، فَلَوْ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ فَهَلْ يَكُونُ جَوَابًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْوَاحِدِيُّ: أَنْتَ فِي تَعْرِيفِ السَّلَامِ وَتَنْكِيرِهِ بِالْخِيَارِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَكِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ أَوْلَى، وَإِذَا تَلَاقَى رَجُلَانِ وَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ، فَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُهُ أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي: يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَدِئًا بِالسَّلَامِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ. وَقَالَ الشَّاشِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِلْجَوَابِ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ كَانَ جَوَابًا، وَإِنْ كَانَا دَفْعَةً لَمْ يَكُنْ جَوَابًا. قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَلَوْ قَالَ بِغَيْرِ وَاوٍ، فَقَطَعَ الْإِمَامُ الْوَاحِدِيُّ بِأَنَّهُ سَلَامٌ يَتَحَتَّمُ عَلَى الْمُخَاطَبِ بِهِ الْجَوَابُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَلَبَ اللَّفْظَ الْمُعْتَادَ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ، فَإِنْ قُلْتَ: بَيِّنْ لِيَ الْفَرْقَ بَيْنَ قَوْلِكَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. قُلْتُ: لَا بُدَّ لِلْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ مِنْ مَعْهُودٍ إِمَّا خَارِجِيٍّ أَوْ ذِهْنِيٍّ، فَإِذَا ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ كَانَ الْمُرَادُ السَّلَامَ الَّذِي سَلَّمَهُ آدَمُ عليه السلام عَلَى الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِآدَمَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ» . وَإِلَى الثَّانِي كَانَ الْمُرَادُ جِنْسَ السَّلَامِ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مَا هُوَ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا بِأَنَّ ضِدَّهُ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} [طه: 47](رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2944

4646 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

4646 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ» ) أَيْ: أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ (بِاللَّهِ) أَيْ: بِرَحْمَتِهِ وَغُفْرَانِهِ (مَنْ بَدَأَ) : وَفِي الْجَامِعِ: مَنْ بَدَأَهُمْ (بِالسَّلَامِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: أَقْرَبُ النَّاسِ مِنَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ. الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ: " «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ» "، أَيْ: إِنَّ أَخَصَّهُمْ بِهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِمَّا يُصَفِّي لَكَ وُدَّ أَخِيكَ ثَلَاثٌ: أَنْ تَبْدَأَ بِالسَّلَامِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَأَنْ تَدْعُوَهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ، وَأَنَّ تُوَسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2944

4647 -

وَعَنْ جَرِيرٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

4647 -

(وَعَنْ جَرِيرٍ) أَيِ: ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ» ) . قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: هَذَا مُخْتَصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَمْنِهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزَةً بَعِيدَةً عَنْ مَظِنَّةِ الْفِتْنَةِ. قِيلَ: وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكْرَهُوا تَسْلِيمَ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ اهـ. وَمَهْمَا قِيلَ بِالْكَرَاهَةِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَلَمْ يَثْبُتِ اسْتِحْقَاقُ الْجَوَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .

وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ.

ص: 2945

4648 -

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مَرْفُوعًا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ: رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ.

ــ

4648 -

(وَعَنْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: يُجْزِئُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهُ هَمْزٌ، أَيْ: يَكْفِي (عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا) : وَكَذَا إِذَا دَخَلُوا أَوْ وَقَفُوا عَلَى جَمْعٍ أَوْ عَلَى أَحَدٍ (أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ)، أَيْ: أَحَدُ الْمَارِّينَ وَنَحْوُهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَهِيَ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً كَفَى عَنْهُمْ تَسْلِيمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ سَلَّمُوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَلَ.

قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَنَا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِلَّا هَذَا. قُلْتُ: وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَذْهَبِنَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ أَيْضًا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَكَذَا الْأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِذَا ضَحَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَصَلَ الشِّعَارُ، وَالسُّنَّةُ لِجَمِيعِهِمْ. قُلْتُ: التَّشْمِيتُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَنَا، وَالْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُوسِرِ بِشُرُوطٍ لَا عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ فِي مَذْهَبِنَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْأَكْلِ سُنَّةُ كِفَايَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ) أَيْ: ذَوِي الْجُلُوسِ أَوِ الْجَالِسِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانُوا، وَإِنَّمَا خَصَّ الْجُلُوسَ ; لِأَنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى جَمْعٍ مُجْتَمِعِينَ مَعَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْقَائِمَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْقَاعِدِ، ثُمَّ الْمَعْنَى وَيَكْفِي (أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ) : وَهَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ رَدُّوا كُلُّهُمْ كَانَ أَفْضَلَ كَمَا هُوَ شَأْنُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كُلِّهَا. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي:" شُعَبِ الْإِيمَانِ " مَرْفُوعًا) أَيْ: بِلَا تَرَدُّدٍ وَخِلَافٍ (وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ)، أَيْ: رَوَاهُ مَوْقُوفًا (وَقَالَ) أَيْ: أَبُو دَاوُدَ بَعْدَ تَمَامِ سَنَدِهِ (رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ)، أَيْ: أَحَدُ مَشَايِخِهِ لَا حَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ (وَهُوَ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا كَلَامُ الْمُؤَلِّفِ أَرَادَ أَنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا، وَرَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ شَيْخُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، الْحَدِيثَ.

قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ أَرَادَ أَنَّ شَيْخَهُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَفَعَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَالسَّنَدُ الْمَذْكُورُ ظَاهِرُهُ الْمَوْقُوفُ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَرَفَعَهُ جُمْلَةً حَالِيَّةً مُبَيِّنَةً لِلْإِسْنَادِ السَّابِقِ، كَمَا يُقَالُ مَثَلًا: رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا. وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِبْهَامِ عَدَمُ التَّذَكُّرِ بِكَيْفِيَّةِ الرَّفْعِ هَلْ هُوَ بِعِبَارَةِ السَّمَاعِ أَوْ بِلَفْظِ الْقَوْلِ أَوْ بِعَنْ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَصِيرُ مَرْفُوعًا ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمَوْقُوفِ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ; لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ الْمَشْرُوعِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمَصَابِيحِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه رَفَعَهُ. أَقُولُ: وَفِيهِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى سَنَدِ الْبَيْهَقِيِّ، فَإِنَّهُ مَرْفُوعٌ بِلَا خِلَافٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 2945

4649 -

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.

ــ

4649 -

(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ طَرِيقَتِنَا وَمُرَاعِي مُتَابَعَتِنَا (مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا)، أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِنَا (لَا تَشَبَّهُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: لَا تَتَشَبَّهُوا (بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى) ، زِيدَ " لَا " لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ ( «فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ» ) . بِفَتْحٍ فَضَمٍّ جَمْعُ كَفٍّ، وَالْمَعْنَى: لَا تَشَبَّهُوا بِهِمْ جَمِيعًا فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِمْ خُصُوصًا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَكْتَفُونَ فِي السَّلَامِ أَوْ رَدِّهِ أَوْ فِيهِمَا بِالْإِشَارَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ بِلَفْظِ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سُنَّةُ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كُوشِفَ لَهُ أَنَّ بَعْضَ أُمَّتِهِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ مِنَ الِانْحِنَاءِ أَوْ مُطَأْطَأَةِ الرَّأْسِ، أَوِ الِاكْتِفَاءِ بِلَفْظِ السَّلَامِ فَقَطْ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاحِدًا مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ الدَّاخِلَةِ فِي سِلْكِ السَّالِكِينَ الْمُرْتَاضِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الْمُكْتَفِي بِإِزَارٍ وَرِدَاءٍ، صَائِمِ الدَّهْرِ لَازِمِ الِاعْتِكَافِ، لَيْسَ شَيْءٌ عِنْدَهُ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اخْتَارَ السُّكُوتَ الْمُطْلَقَ فِي آخِرِ الْعُمْرِ بِحَيْثُ يَكْتَفِي فِي رَدِّ السَّلَامِ بِإِشَارَةِ الرَّأْسِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ خَالِيًا عَنْ نَوْعِ مَعْرِفَةٍ وَدَوَامِ تِلَاوَةٍ وَحُسْنِ خُلُقٍ وَسَخَاوَةِ نَفْسٍ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَا يُرَى أَنَّهُ يَطُوفُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ وَيَرْحَمُنَا وَإِيَّاهُ فِي الْمَآلِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ) . وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ سَنَدَهُ حَسَنٌ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَسْنَدَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى ابْنِ عَمْرٍو، فَارْتَفَعَ النِّزَاعُ وَزَالَ الْإِشْكَالُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَكُونُ عَلَى خِلَافِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفًا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحُكْمِ سَنَدٌ آخَرُ، نَعَمْ فِيهِ إِيهَامٌ لِذَلِكَ لَا إِشْعَارٌ بِذَلِكَ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَعْنَى أَنَّ السَّلَامَ بِاللَّفْظِ سُنَّةٌ، وَجَوَابَهُ وَاجِبٌ كَذَلِكَ، فَبِمُجَرَّدِ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقَلِبَ الْحُكْمُ أَبَدًا.

قَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا. قُلْتُ: عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَلَفُّظِهِ عليه السلام بِالسَّلَامِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مَا شُرِعَ السَّلَامُ عَلَى مَنْ مَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ النِّسْوَانِ، وَأَنَّ مَا مَرَّ عَنْهُ عليه السلام مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَامِ الْمُصَرَّحِ، فَهُوَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عليه الصلاة والسلام، فَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يُسَلِّمَ، وَأَنْ يُشِيرَ وَلَا يُشِيرَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْإِشَارَةِ مُجَرَّدُ التَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ السَّلَامِ، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النِّسَاءِ، وَأَنَّ نَهْيَ التَّشَبُّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 2946

4650 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ، أَوْ جِدَارٌ، أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4650 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) أَيِ: الْمُسْلِمَ ( «فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ، أَوْ جِدَارٌ، أَوْ حَجَرٌ» ) ، أَيْ كَبِيرٌ (ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ) أَيْ: مَرَّةً أُخْرَى تَجْدِيدًا لِلْعَهْدِ وَتَأْكِيدًا لِلْوُدِّ. قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ حَثٌّ عَلَى إِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَأَنْ يُكَرَّرَ عِنْدَ كُلِّ تَغَيُّرِ حَالٍ وَلِكُلِّ جَاءٍ وَغَادٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: رُوِّينَا فِي مُوَطَّأِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ أَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا تَصْنَعُ بِالسُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ، وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ، وَلَا تَسُومُ بِهَا

ص: 2946

وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ وَنُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَا. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ سَيَأْتِي بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنَ السَّادَةِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ يَخْتَارُ الْقُعُودَ فِي السُّوقِ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا خَلْوَةُ الرِّجَالِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ بِمَنْزِلَةِ الصَّابِرِ فِي الْفَارِّينَ» عَلَى مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَى عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» " وَلَعَلَّ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْظُرُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ إِلَى عِبَادِهِ نَظَرَ رَحْمَةٍ وَعِنَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ غَفَلَ فَاتَهُ، وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ وَحَضَرَ أَدْرَكَهُ، بَلْ وَأَخَذَ مِنْ نَصِيبِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ هَذَا هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْدُبَةِ الْجَامِعَةِ لِأَنْوَاعِ الْمُشْتَهَيَاتِ، فَكُلُّ مَنْ يَكُونُ حَاضِرًا مُشْتَاقًا يَأْخُذُ مِنْهَا حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ، وَالْغَائِبُ أَوِ الْحَاضِرُ الْغَافِلُ أَوِ الْمَرِيضُ الْمَعْدُومُ الِاشْتِهَاءِ يَقْعُدُ مَحْرُومًا، هَذَا وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَقَامَاتٌ وَمَوَاضِعُ، مِنْهَا: إِذَا كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْبَوْلِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِمَا، فَيُكْرَهُ أَنْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ نَاعِسًا أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ مُؤَذِّنًا فِي حَالِ أَذَانِهِ أَوْ كَانَ فِي حَمَّامٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَانَ آكِلًا وَاللُّقْمَةُ فِي فَمِهِ، فَإِنَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي حَالِ الْمُبَايَعَةِ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ فَيُسَلِّمُ وَيَجِبُ الْجَوَابُ، وَأَمَّا السَّلَامُ فِي حَالِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُكْرَهُ الِابْتِدَاءُ بِهِ ; لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْإِنْصَاتِ، فَإِنْ خَالَفَ وَسَلَّمَ فَهَلْ يَرُدُّ عَلَيْهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَرُدَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ لَا يَرُدَّ، وَإِنْ قُلْنَا سُنَّةً رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ فَحَسْبُ. قُلْتُ: الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْإِنْصَاتَ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ السَّلَامُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ بِلَا كَلَامٍ. قَالَ: وَأَمَّا السَّلَامُ عَلَى الْقَارِئِ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْأَوْلَى تَرْكُ السَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كَفَاهُ الرَّدُّ بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ رَدَّ بِاللَّفْظِ اسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَةَ. قَالَ أَيِ الْوَاحِدِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرَّدُّ بِاللَّفْظِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ.

ص: 2947

4651 -

وَعَنْ قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهِ، وَإِذَا خَرَجْتُمْ فَأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بِسَلَامٍ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا.

ــ

4651 -

(وَعَنْ قَتَادَةَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِنَّمَا قَيَّدْتُهُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ عَامَّةَ أَهْلِ مَكَّةَ يَكْسِرُونَهَا، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِذَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهِ) ، قَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]، (وَإِذَا خَرَجْتُمْ فَأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بِسَلَامٍ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِيدَاعَ هُنَا بِمَعْنَى التَّوْدِيعِ مِنَ الْوَدَاعِ، أَيْ: فَاتْرُكُوهُمْ مَصْحُوبِينَ بِسَلَامٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ: وَجَوَابُ هَذَا السَّلَامِ مُسْتَحَبٌّ ; لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَوَدَاعٌ اهـ. وَلَعَلَّ مَأْخَذَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَلَامِ تَحِيَّةٍ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ الْوُجُوبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنَ الْإِيدَاعِ أَيِ: اجْعَلُوا السَّلَامَ وَدِيعَةً عِنْدَهُمْ كَيْ تَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ وَتَسْتَرِدُّوا وَدِيعَتَكُمْ، فَإِنَّ الْوَدَائِعَ تُسْتَعَادُ تَفَاؤُلًا لِلسَّلَامَةِ وَالْمُعَاوَدَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا) . وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، ثُمَّ فِي الْحِصْنِ: مَنِ انْتَهَى إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.

ص: 2947

4652 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «يَا بُنَيِّ! إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4652 -

(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) أَيْ: لَهُ (يَا بُنَيِّ) : بِالتَّصْغِيرِ مَكْسُورَةُ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَيُفْتَحُ (إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْعِلَّةِ أَيْ: فَإِنَّهُ يَكُونُ، أَيِ: السَّلَامُ (بَرَكَةً) أَيْ: سَبَبَ زِيَادَةِ بَرَكَةٍ وَكَثْرَةِ خَيْرٍ، وَرَحْمَةً (عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَزِيدَ فِي نُسْخَةٍ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ص: 2948

4653 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.

ــ

4653 -

(وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» ) . لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ يُبْدَأُ بِهِ فَيَفُوتُ بِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهَا قَبْلَ الْجُلُوسِ، وَقَدْ رَوَى الْقُضَاعِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «السَّلَامُ تَحِيَّةٌ لِمِلَّتِنَا وَأَمَانٌ لِذِمَّتِنَا» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) أَيْ: إِسْنَادًا، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ الْمَعْنَى كَمَا قَرَّرْنَاهُ، ثُمَّ الْمُنْكَرُ مِنَ الْحَدِيثِ مَا يَكُونُ رَاوٍ مِنْ رُوَاةِ سَنَدِهِ بَعِيدًا عَنِ الضَّبْطِ جِدًّا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى عَنْبَسَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ يَرْوِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَاذَانَ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُهُ الْآخَرُ: إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فَلْيُتَرِّبْهُ، وَالْمِحْنَةُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو النَّصِيبِي، فَإِنَّهُ الرَّاوِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتْلُوهُ:«ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ» ، وَمَدَارُهُ أَيْضًا عَلَى عَنْبَسَةَ بْنِ عِمْرَانَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ زَاذَانَ، وَقَدْ وَجَدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ، وَقَدْ أَخْطَأَ فِيهِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى أُذُنَيْكَ. قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ رَوَاهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ، وَقَالَ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ، وَلَفْظُهُ:«السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ» ، وَلَا تَدْعُو أَحَدًا إِلَى الطَّعَامِ حَتَّى يُسَلِّمَ، وَرَوَى ابْنُ النَّجَّارِيِّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِلَفْظِ: السَّلَامُ قَبْلَ السُّؤَالِ، فَمَنْ بَدَأَكُمْ بِالسُّؤَالِ قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا تُجِيبُوهُ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا " «مَنْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ فَلَا تُجِيبُوهُ» ".

ص: 2948

4654 -

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَقُولُ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، وَأَنْعَمَ صَبَاحًا. فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4654 -

(وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَقُولُ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا) ، الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ التَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ بِمَنْ تُحِبُّهُ. وَعَيْنًا: تَمْيِيزٌ مِنَ الْمَفْعُولِ، أَوْ بِمَا تُحِبُّهُ مِنَ النَّعْمَةِ، وَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ أَنْعَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ عَيْنًا أَيْ: عَيْنَ مَنْ يُحِبُّكَ، وَأَنْعِمَ بِقَطْعِ هَمْزٍ وَكَسْرِ عَيْنٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِهَمْزِ وَصْلٍ وَفَتْحِ عَيْنٍ مِنَ النُّعُومَةِ وَقَوْلُهُ:(صَبَاحًا) : تَمْيِيزٌ أَوْ ظَرْفٌ أَيْ: طَابَ عَيْشُكَ فِي الصَّبَاحِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّبَاحَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْمُتَعَارَفِ فِي زَمَانِنَا عَلَى لِسَانِ الْعَامَّةِ صَبَّحَكُمْ بِالْخَيْرِ وَمَسَّاكُمْ بِالْكَرَامَةِ، وَأَسْعَدَ اللَّهُ مَقِيلَكُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ. الْجَوْهَرِيُّ: النُّعْمُ بِالضَّمِّ خِلَافُ الْبُؤْسِ، وَنَعُمَ الشَّيْءُ بِالضَّمِّ نُعُومَةً، أَيْ: صَارَ نَاعِمًا لَيِّنًا، وَيُقَالُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ النِّعْمَةِ، وَأَنْعَمَ صَبَاحُكَ مِنَ النُّعُومَةِ، وَأَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا أَيْ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ بِمَنْ تُحِبُّهُ، وَكَذَلِكَ نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا.

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: فِي حَدِيثِ مُطَرِّفٍ «لَا تَقُلْ نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْعِمُ بِأَحَدٍ عَيْنًا، بَلْ قُلْ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي مَنَعَ مِنْهُ مُطَرِّفٌ صَحِيحٌ فَصِيحٌ فِي كَلَامِهِمْ، وَعَيْنًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنَ الْكَافِ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، وَالْمَعْنَى نَعِمَكَ اللَّهُ عَيْنًا أَيْ: نَعِمَ عَيْنَكَ وَأَقَرَّهَا، وَقَدْ يَحْذِفُونَ الْجَارَّ وَيُوصِلُونَ الْفِعْلَ

ص: 2948

فَيَقُولُونَ: نَعِمَكَ اللَّهُ عَيْنًا، وَأَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا فَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ ; لِأَنَّ الْهَمْزَةَ كَافِيَةٌ فِي التَّعْدِيَةِ. تَقُولُ: نَعِمَ زَيْدٌ عَيْنًا وَأَنْعَمَهُ اللَّهُ عَيْنًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنْعَمَ إِذَا دَخَلَ فِي النَّعِيمِ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ، قَالَ: وَلَعَلَّ مُطَرِّفًا خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ انْتِصَابَ التَّمْيِيزِ فِي هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الْفَاعِلِ فَاسْتَعْظَمَهُ، تَعَالَى اللَّهُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَوَاسِّ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَمَا يَقُولُونَ: نَعِمْتَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَيْنًا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ فَحَسْبَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي نَعِمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا، كَذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً، وَعَيْنًا مَفْعُولَ أَنْعَمَ، وَالتَّنْوِينُ لِلتَّفْخِيمِ، أَيْ: أَنْعَمَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ عَيْنًا، وَأَيُّ عَيْنٍ عَيْنُ مَنْ يُحِبُّكَ؟ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ خَفْضِ عِيشَةٍ وَرَفَاهِيَةٍ لَا يَحُومُ حَوْلَهَا خُشُونَةٌ، وَقَوْلُهُ:(وَأَنْعَمَ صَبَاحًا) . مَعْنَاهُ طَابَ عَيْشُكَ فِي الصَّبَاحِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الصَّبَاحَ بِهِ ; لِأَنَّ الْغَارَاتِ وَالْمَكَارِهَ تَقَعُ صَبَاحًا. وَقَالَ شَارِحٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: قِيلَ مَعْنَاهُ: طَابَ عَيْشُكَ فِي الصَّبَاحِ، وَالصَّوَابُ أَطَابَ اللَّهُ عَيْشَكَ فِي الصَّبَاحِ، أَوْ هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ مِنَ الْفَاعِلِ. (فَلَمَّا كَانَ) أَيْ: وُجِدَ (الْإِسْلَامُ) : وَوَقَعَ أَحْكَامُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ (نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ: عَمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَقْوَالِ ابْتِدَاءً بِوَضْعِهَا مَوْضِعَ السَّلَامِ، فَلَا مَحْذُورَ أَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ، ثُمَّ ثَنَّاهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2949

4655 -

وَعَنْ غَالِبٍ رحمه الله قَالَ: «إِنَّا لَجُلُوسٌ بِبَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " ائْتِهِ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ ". قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَبِي يُقْرِئُكَ السَّلَامَ. فَقَالَ: " عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4655 -

(وَعَنْ غَالِبٍ رضي الله عنه)، أَيِ: ابْنِ أَبِي غَيْلَانَ، وَهُوَ ابْنُ خَطَّابٍ الْقَطَّانُ الْبَصْرِيُّ، رَوَى عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْهُ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ. (قَالَ: إِنَّا لَجُلُوسٌ) أَيْ: نَحْنُ جَالِسُونَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ (بِبَابِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ)، أَيْ: مُنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ أَوْ مُصْطَحَبُونَ مَعَهُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ) أَيِ: الْجَدُّ (بَعَثَنِي أَيْ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: ائْتِهِ) : أَمْرٌ مَنْ أَتَى يَأْتِي (فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ)، وَفِي نُسْخَةٍ فَاقْرَأْهُ السَّلَامَ (قَالَ) أَيِ: الْجَدُّ (فَأَتَيْتُهُ)، أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: أَبِي يُقْرِئُكَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: يَقْرَؤُكَ (السَّلَامَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَفِي الْحِصْنِ «وَإِذَا بُلِّغَ سَلَامًا فَلْيَقُلْ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَرْفُوعًا، أَوْ وَعَلَيْكَ، وَعَلَيْهِ السَّلَامُ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا.

ص: 2949

4656 -

وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ الْعَلَاءَ الْحَضْرَمِيَّ كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ، بَدَأَ بِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4656 -

(وَعَنْ أَبِي الْعَلَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : قِيلَ اسْمُهُ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الْعَلَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ مُطَابِقَةٍ لِمَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: وَعَنِ ابْنِ الْعَلَاءِ (الْحَضْرَمِيِّ)، نِسْبَةً إِلَى حَضْرَمَوْتَ (أَنَّ الْعَلَاءَ الْحَضْرَمِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ (كَانَ عَامِلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ كَانَ عَامِلًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَقَرَّهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رضي الله عنهما عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ الْعَلَاءُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، رَوَى عَنْهُ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُهُ. (وَكَانَ) أَيِ: الْعَلَاءُ (إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ)، أَيْ: إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (بَدَأَ بِنَفْسِهِ) . أَيْ، ثُمَّ يَكْتُبُ السَّلَامَ اقْتِدَاءً بِهِ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابَتُهُ إِلَى مُعَاذٍ يُعَزِّيهِ فِي ابْنٍ لَهُ:«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ» ، الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ، وَلَعَلَّ هَذَا الصَّنِيعَ الْعَظِيمَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ، وَكَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ فِي الْعُنْوَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْمُظْهِرُ: كَانَ يُكْتَبُ هَكَذَا: مِنَ الْعَلَاءِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا أَمْرُ

ص: 2949

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبُوا مِنْ لِسَانِهِ، هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا فِي بَابِ السَّلَامِ أَنَّ هَذَا كَانَ مُقَدِّمَةً لِلسَّلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي كِتَابِهِ إِلَى هِرَقْلَ: «مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى» . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا:" «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى أَحَدٍ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ» ".

ص: 2950

4657 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا فَلْيُتَرِّبْهُ، فَإِنَّهُ أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. . .

ــ

4657 -

(وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ كِتَابًا) : أَيْ مَكْتُوبًا لِلْإِرْسَالِ (إِلَى أَحَدٍ فَلْيُتَرِّبْهُ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ (فَإِنَّهُ أَنْجَحُ) : بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ أَيْ: أَيْسَرُ وَأَقْضَى (لِلْحَاجَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ يُسْقِطْهُ عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَصِيرَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصِدِ. قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّمَا أَمْرُهُ بِالْإِسْقَاطِ عَلَى التُّرَابِ اعْتِمَادًا عَلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ فِي إِيصَالِهِ إِلَى الْمَقْصِدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ ذَرُّ التُّرَابِ عَلَى الْمَكْتُوبِ. قُلْتُ وَيُسَاعِدُهُ مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الْغَزَّالِيُّ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَكْتُبُ رُقْعَةً، وَهُوَ فِي بَيْتٍ بِالْكِرَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ مِنْ جُدْرَانِ الْبَيْتِ، وَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْبَيْتَ بِالْكِرَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ لَا خَطَرَ لِهَذَا، فَتَرَّبَ الْكِتَابَ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ: سَيَعْلَمُ الْمُسْتَخِفُّ بِالتُّرَابِ مَا يَلْقَى غَدًا مِنْ طُولِ الْحِسَابِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: قِيلَ مَعْنَاهُ فَلْيُخَاطِبِ الْكَاتِبُ خِطَابًا عَلَى غَايَةِ التَّوَاضُعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّتْرِيبِ: الْمُبَالَغَةُ فِي التَّوَاضُعِ فِي الْخِطَابِ. قُلْتُ: هَذَا مُوَافِقٌ لِمُتَعَارَفِ الزَّمَانِ، لَا سِيَّمَا فِيمَا بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا وَأَصْحَابِ الْجَاهِ، لَكِنَّهُ مَعَ بُعْدِ مَأْخَذِ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْمَبْنَى مُخَالِفٌ لِمُكَاتَبَتِهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُلُوكِ، وَكَذَا إِلَى الْأَصْحَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ) .

وَقَدْ بَيَّنَ التُّورِبِشْتِيُّ وَجْهَهُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ رِجَالِهِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا:" «إِذَا كَتَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى إِنْسَانٍ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَتَبَ فَلْيُتَرِّبْ كِتَابَهُ فَهُوَ أَنْجَحُ» ".

ص: 2950

4658 -

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَاتِبٌ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ ; فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمَآلِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. . وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.

ــ

4658 -

(عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) ، وَهُوَ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ، وَأَكَابِرِ قُرَّائِهِمْ، وَأَفْضَلِهِمْ فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ، وَأَعْظَمِهِمْ فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ وَقَدْ سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ. (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَاتِبٌ، فَسَمِعْتُهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ) أَيْ: لَهُ ( «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ» )، بِضَمِّ الذَّالِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: فَوْقَ أُذُنِكَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهَا. وَفِي نُسْخَةٍ مُطَابِقَةٍ لِمَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ عَلَى أُذُنَيْكَ أَيْ: إِحْدَاهُمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّ مَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أُذُنَيْكَ بِالتَّثْنِيَةِ خَطَأٌ وَتَبِعَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ: وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ أُذُنَيْكَ، وَبِالْإِفْرَادِ هُوَ الصَّحِيحُ. قُلْتُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ رِوَايَةً فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا دِرَايَةً فَلَهُ وَجْهٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. (فَإِنَّهُ) أَيْ: وَضْعُ الْقَلَمِ عَلَى الْأُذُنِ (أَذْكَرُ) أَيْ: أَكْثَرُ ذِكْرًا (لِلْمَآلِ) أَيْ: لِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَسْرَعُ تَذْكِيرًا فِيمَا يُرَادُ مِنْ إِنْشَاءِ الْعِبَارَةِ فِي الْمَقْصُودِ. قِيلَ: السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ الْمُتَرْجِمَيْنِ عَمَّا فِي الْقَلْبِ مِنَ الْكَلَامِ وَفُنُونِ الْعِبَارَاتِ، فَتَارَةً يُتَرْجِمُ عَنْهُ اللِّسَانُ اللَّحْمِيُّ الْمُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ، وَتَارَةً يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْقَلَمِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكِتَابَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللِّسَانَيْنِ يُسْمِعُ مَا يُرِيدُ مِنَ الْقَوْلِ. وَفُنُونُ الْكَلَامِ مِنَ الْقَلْبِ، وَمَحَلُّ الِاسْتِمَاعِ الْأُذُنُ، فَاللِّسَانُ مَوْضُوعٌ دَائِمًا عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِمَاعِ، وَدَرَجِ الْقَلْبِ، فَلَمْ يَزَلْ يُسْمِعُ مِنْهُ الْكَلَامَ وَالْقَلَمُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الِاسْتِمَاعِ، فَيُحْتَاجُ فِي الِاسْتِمَاعِ إِلَى قُرْبٍ مِنْ مَحَلِّ الِاسْتِمَاعِ، وَالدُّنُوِّ إِلَى طَرِيقِهِ لِيَسْمَعَ مِنَ الْقَلْبِ مَا يُرِيدُهُ مِنَ الْعِبَارَاتِ وَفُنُونِ الْكَلَامِ، فَيَكْتُبَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقُرْبَ الصُّورِيَّ لَهُ مَحَلُّ تَأْثِيرٍ مِنَ الْمَقْصُودِ الْمَعْنَوِيِّ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) ، أَيْ

ص: 2950

مَتْنًا أَوْ إِسْنَادًا. (وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ) . أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ رِجَالِهِ، فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ، وَقَدْ سَبَقَ وَجْهُ ضَعْفِهِ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ التُّورِبِشْتِيِّ، لَكِنْ يُعَضِّدُهُ أَنَّ ابْنَ عَسَاكِرَ رَوَى عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ:" «إِذَا كَتَبْتَ فَضَعْ قَلَمَكَ عَلَى أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ» ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: " «ضَعِ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي» ". أَقُولُ: وَلَعَلَّ هَذَا اللَّفْظَ هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْحَدِيثِ، وَأَنَّ لَفْظَ لِلْمَآلِ مُصَحَّفٌ عَنْ هَذَا الْمَقَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَذْكَرُ لَكَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ أَنَّ وَضْعَ الْقَلَمِ عَلَى الْأُذُنِ أَقْرَبُ تَذَكُّرًا لِمَوْضِعِهِ وَأَيْسَرُ مَحَلًّا لِتَنَاوُلِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَضَعَهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ حُصُولُهُ بِسُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ، مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَوَّلَ لَفْظُ الْمَآلِ إِلَى أَنْ يُؤَوَّلَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِأَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لِمَآلِكَ أَوْ لِمَآلِ الْمُمْلِيِّ عِنْدَ طَلَبِ الْقَلَمِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْجَالِ فَيَنْدَفِعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ غَايَةِ التَّكَلُّفِ وَنِهَايَةِ التَّعَسُّفِ مِمَّا سَبَقَ فِي الْمَقَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ.

ص: 2951

4659 -

وَعَنْهُ، قَالَ:«أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ، وَقَالَ: " إِنِّي مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابٍ ". قَالَ: فَمَا مَرَّ بِيَ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُ، فَكَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ، وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4659 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتَعَلَّمَ السُّرْيَانِيَّةَ» ) ، بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهِيَ لِسَانُ الْيَهُودِ (وَفِي رِوَايَةٍ:«أَنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ» ) ، أَيْ: كِتَابَتَهُمْ، وَمَآلُ الرِّوَايَتَيْنِ وَاحِدٌ. (وَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْلِيلِ الْأَمْرِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ الْمُبَيِّنِ (إِنِّي مَا آمَنُ) : بِمَدِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ مُضَارِعُ مُتَكَلِّمُ أَمِنَ الثُّلَاثِيِّ ضِدِّ خَافَ، أَيْ: مَا أَسْتَأْمِنُ (يَهُودَ) أَيْ: فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (عَلَى كِتَابٍ) أَيْ: لَا فِي قِرَاءَتِهِ وَلَا فِي كِتَابَتِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَاسْتَعْمَلَ بِعَلَى؛ فَإِنَّ نَفْيَ الْأَمْنِ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَوْفِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَخَافُ عَلَى كِتَابٍ كَمَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: " {مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] "، اهـ.

وَفِيهِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي هَذَا الْمَبْنَى حَيْثُ دَخَلَ حَرْفُ النَّفْيِ عَلَى الصِّيغَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَتَعَدَّى بِعَلَى مِنْ غَيْرِ النَّفْيِ أَيْضًا، كَمَا فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ عليه السلام:{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] . وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ: " «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ» "، قَالَ الْمُظْهِرُ أَيْ: أَخَافُ إِنْ أَمَرْتُ يَهُودِيًّا بِأَنْ يَكْتُبَ مِنِّي كِتَابًا إِلَى الْيَهُودِ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ، وَأَخَافُ إِنْ جَاءَ كِتَابٌ مِنَ الْيَهُودِ فَيَقْرَؤُهُ يَهُودِيٌّ، فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ فِيهِ.

(قَالَ) أَيْ: زَيْدٌ (فَمَا مَرَّ بِيَ) أَيْ: مَضَى عَلَيَّ مِنَ الزَّمَانِ (نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُ) : فِي مَعْنَاهُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: مَا مَرَّ بِيَ نِصْفٌ مِنَ الشَّهْرِ فِي التَّعَلُّمِ، حَتَّى كَمُلَ تَعَلُّمِي، قِيلَ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي شَرْعِنَا لِلتَّوَقِّي وَالْحَذَرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الشَّرِّ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ فِي ذَيْلِ كَلَامِ الْمُظْهِرِ، وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ، إِذْ لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ تَحْرِيمُ تَعَلُّمِ لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ سُرْيَانِيَّةٍ، أَوْ عِبْرَانِيَّةٍ، أَوْ هِنْدِيَّةٍ، أَوْ تُرْكِيَّةٍ، أَوْ فَارِسِيَّةٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} [الروم: 22]، أَيْ: لُغَاتِكُمْ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحَاتِ، نَعَمْ يُعَدُّ مِنَ اللَّغْوِ، وَمِمَّا لَا يَعْنِي، وَهُوَ مَذْمُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ، إِلَّا إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ، فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنَ الْحَدِيثِ. (فَكَانَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ) أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَيْهِمْ أَوْ إِذَا أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ إِلَيْهِمْ (كَتَبْتُ)، أَيْ بِلِسَانِهِمْ (وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ) أَيْ: لِأَجْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَيْهِ أَيْ: عِنْدَهُ صلى الله عليه وسلم (كِتَابَهُمْ) . أَيْ: مَكْتُوبَهُمْ إِلَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2951

4660 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ، فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ، فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

4660 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا انْتَهَى) أَيْ: إِذَا جَاءَ وَوَصَلَ (أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ، فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا) : بِالْأَلِفِ أَيْ: ظَهَرَ (لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ)، أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ (ثُمَّ إِذَا قَامَ) أَيْ: بَعْدَ أَنْ يَجْلِسَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَلَوْ لَمْ يَجْلِسْ (فَلْيُسَلِّمْ)، أَيْ: نَدْبٌ (فَلَيْسَتِ الْأُولَى) أَيِ: التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى (بِأَحَقَّ) أَيْ: بِأَوْلَى وَأَلْيَقَ (مِنَ الْآخِرَةِ) : بَلْ كِلْتَاهُمَا حَقٌّ وَسُنَّةٌ مُشْعِرَةٌ إِلَى حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ، وَلُطْفِ الْفُتُوَّةِ وَلَطَافَةِ الْمُرُوءَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا رَجَعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ رُبَّمَا يَتَشَوَّشُ أَهْلُ الْمَجْلِسِ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ عَلَى طَرِيقِ السُّكُوتِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ، بَلِ الْآخِرَةُ أَوْلَى مِنَ الْأُولَى ; لِأَنَّ تَرْكَهَا رُبَّمَا يُتَسَامَحُ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْمُتَعَارَفِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ مَا لَا يُذَاعُ وَلَا يُشَاعُ، وَلِذَا قِيلَ: كَمَا أَنَّ التَّسْلِيمَةَ الْأُولَى إِخْبَارٌ عَنْ سَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ عِنْدَ الْحُضُورِ، فَكَذَلِكَ الثَّانِيَةَ إِخْبَارٌ عَنْ سَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، وَلَيْسَتِ السَّلَامَةُ عِنْدَ الْحُضُورِ أَوْلَى مِنَ السَّلَامَةِ عِنْدَ الْغَيْبَةِ، بَلِ الثَّانِيَةُ أَوْلَى، هَذَا وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ جَوَابِ التَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ أَصْلًا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ وُجُوبِ جَوَابِ السَّلَامِ الثَّانِي وَوَجَّهْنَا تَوْجِيهَهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْجَمَاعَةِ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَى الْجَمَاعَةِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْمُتَوَلِّي: جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ بِالسَّلَامِ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَذَلِكَ دُعَاءٌ يُسْتَحَبُّ جَوَابُهُ وَلَا يَجِبُ ; لِأَنَّ التَّحِيَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اللِّقَاءِ لَا عِنْدَ الِانْصِرَافِ، وَأَنْكَرَهُ الشَّاشِيُّ، وَقَالَ: إِنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ عِنْدَ الِانْصِرَافِ، كَمَا هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَكَمَا يَجِبُ الرَّدُّ عِنْدَ اللِّقَاءِ كَذَلِكَ عِنْدَ الِانْصِرَافِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ اهـ. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَاهُ مُبَيَّنٌ بِالْفَرْقِ الدَّقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ.

ص: 2952

4661 -

وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا خَيْرَ فِي جُلُوسٍ فِي الطُّرَقَاتِ، إِلَّا لِمَنْ هَدَى السَّبِيلَ، وَرَدَّ التَّحِيَّةَ، وَغَضَّ الْبَصَرَ، وَأَعَانَ عَلَى الْحُمُولَةِ» " رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ". وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُرَيٍّ فِي " بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ ".

ــ

4661 -

(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا خَيْرَ) أَيْ: لِأَحَدٍ (فِي جُلُوسٍ) أَيْ: قُعُودٍ وَكَذَا فِي وُقُوفٍ (فِي الطُّرُقَاتِ) ، وَهُوَ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْوَاعُ الطُّرُقِ جَمِيعُهَا (إِلَّا لِمَنْ هَدَى السَّبِيلَ)، أَيْ: أَرْشَدَ الطَّرِيقَ لِلضَّالِّ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمَا (وَرَدَّ التَّحِيَّةَ)، أَيِ: السَّلَامَ (وَغَضَّ الْبَصَرَ)، أَيْ: عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ عَنِ الْعَوْرَاتِ (وَأَعَانَ عَلَى الْحُمُولَةِ) . بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهِ، وَقَدْ قَالَ الشُّرَّاحُ: هِيَ بِالْفَتْحِ مَا يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142]، وَبِضَمِّهَا مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا جَمْعُ حِمْلٍ بِالْكَسْرِ أَيْ: أَعَانَ مَنْ يَرْفَعُ حِمْلَهُ عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ أَوْ ظَهْرِهِ أَوْ رَأْسِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَى نَفْسِهِ بَعْضَ الْأَحْمَالِ أَوْ كُلَّهَا شَفَقَةً لَهُ وَمَرْحَمَةً عَلَيْهِ. وَفِي مَعْنَاهُ كُلُّ مَلْهُوفٍ عَلَى مَا سَبَقَ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جُرَيٍّ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ رَاءٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (فِي بَابِ فَضْلِ الصَّدَقَةِ) : هُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَوَائِدَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ أَصْلًا، وَصَدْرُ الْحَدِيثِ مِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا الْبَابَ جِدًّا، فَإِنَّ أَبَا جُرَيٍّ قَالَ:«قُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. قَالَ: لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ، عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ، قُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ» ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ حَقَّقْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ فَارْجِعْ إِلَيْهِ.

ص: 2952

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4662 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمَ! اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ، فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. قَالُوا: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ - أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ - قَالَ: يَا رَبِّ! مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ: يَا رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ. قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي كَتَبْتُ لَهُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ! فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. [قَالَ: ثُمَّ سَكَنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أُهْبِطَ مِنْهَا] ، وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ، قَدْ كَتَبَ لِي أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ " قَالَ: " فَمِنْ يَوْمَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4662 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ» ) : بِفَتْحِ الطَّاءِ وَيُكْسَرُ (فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: فَأَرَادَ أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ (فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِهِ)، أَيْ: بِتَيْسِيرِهِ وَتَوْفِيقِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ أَوْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَتَخْصِيصُ الْحَمْدِ بِالذِّكْرِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ قُدْرَتِهِ الْبَاهِرَةِ وَنِعْمَتِهِ الْمُتَظَاهِرَةِ ; لِأَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْجَمِيلِ مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِفْضَالِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْدَعُهُ إِبْدَاعًا جَمِيلًا وَأَنْشَأَهُ خَلْقًا سَوِيًّا صَحِيحًا فَعَطَسَ، فَإِنَّهُ مُشْعِرٌ بِصِحَّةِ الْمِزَاجِ، فَوَجَبَ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا ارْتِيَابَ أَنَّ وُقُوفَهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِفْضَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وَتَيْسِيرِهِ. قُلْتُ: وَمِنْ جُمْلَةِ التَّوْفِيقِ وَالتَّيْسِيرِ حُكْمُهُ وَأَمْرُهُ وَالْكُلُّ بِقَضَائِهِ وَتَقْدِيرِهِ. قَالَ: وَفِي فَاءِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ. قُلْتُ: وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ إِشَارَةً إِلَى كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ هُنَالِكَ.

(فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَا آدَمُ!) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُتَمِّمَةً وَمُقَدِّمَةً، لَكِنَّ الثَّانِي أَظْهَرُ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الْمُسْتَطَابَ بَعْدَ سُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] وَالْمَعْنَى: يَا آدَمُ. (اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ جَمْعٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوِ الْمُوَكَّلِينَ عَلَى الْحَسَنَاتِ مِنْ أَرْبَابِ الْيَمِينِ، وَقَوْلُهُ:(إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، فَيَكُونُ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانًا لِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ إِلَى الْحَالِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الْبَدَلِ، يَعْنِي: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ مُشِيرًا بِهِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ (جُلُوسٍ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ مَلَأٍ، أَيْ: جَالِسِينَ أَوْ ذَوِي جُلُوسٍ (فَقُلِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) .

قَالَ الطِّيبِيُّ: لَمَّا وَفَّقَهُ تَعَالَى لِقِيَامِ الشُّكْرِ عَلَى نِعَمِهِ السَّابِغَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى قُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ عَلَّمَهُ كَيْفِيَّةَ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ الْخَلْقِ حَتَّى يَفُوزَ بِحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ الْخَلْقِ بَعْدَ تَعْظِيمِ الْحَقِّ، وَأَمَّا تَخْصِيصُ السَّلَامِ بِالذِّكْرِ، فَإِنَّهُ فَتْحُ بَابِ الْمَوَدَّاتِ، وَتَأْلِيفُ قُلُوبِ الْإِخْوَانِ الْمُؤَدِّي إِلَى اسْتِكْمَالِ الْإِيمَانِ. (فَقَالَ) أَيْ: فَذَهَبَ آدَمُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) . وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَحْذُوفَةٌ لِلْعِلْمِ بِهَا (فَقَالُوا: عَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ)، أَيْ: إِلَى مَكَانِ كَلَّمَهُ رَبُّهُ فِيهِ تَبَرُّكًا بِهِ وَتَيَمُّنًا بِمَقَامِهِ، وَلِمَا فِي الْعَادَةِ أَنْ يَرْجِعَ الْمَأْمُورُ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ الْآمِرُ وَيَنْتَظِرَ بَيَانَ حِكْمَةِ الْآمِرِ (فَقَالَ) : أَيِ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ (هَذِهِ) أَيِ: الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ (تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ) : فِيهِ تَغْلِيبٌ أَيْ

ص: 2953

ذُرِّيَّتِكَ (بَيْنَهُمْ)، أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِمْ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ وَمِنَّةٌ جَسِيمَةٌ (فَقَالَ لَهُ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ وَالضَّمِيرٌ لِلَّهِ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ يَعْجِزُ عَنْهُ مَا سِوَاهُ، وَمَذْهَبُ السَّلَفِ مِنْ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَإِثْبَاتِ التَّنْزِيهِ مَعَ التَّفْوِيضِ أَسْلَمُ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ بَعْضِ أَهْلِ الْخَلَفِ مَعَ خُلْفٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ أَعْلَمُ، وَكَانَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ تَجَلِّيَاتٍ صُورِيَّةً مَعَ تَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنْ أُمُورٍ عَارِضِيَّةٍ، فَيَزُولُ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالصِّفَاتِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآيَاتِ، وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّأْوِيلِ: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَدَيْنِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَأَنَّ الْجَمَالَ هُوَ الْيَمِينُ الْمُطْلَقُ، وَإِنْ كَانَ الْيَمِينُ فِي الْجَلَالِ أَيْضًا قَدْ تَحَقَّقَ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِآدَمَ:(اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا)، أَيْ مِنَ الْيَدَيْنِ (شِئْتَ) أَيْ: أَرَدْتَ (فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ) : مِنْ كَلَامِ آدَمَ أَوْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَوْلُهُ:(مُبَارَكَةٌ) ، صِفَةٌ كَاشِفَةٌ (ثُمَّ بَسَطَهَا)، أَيْ: فَتَحَ الرَّبُّ تَعَالَى يَمِينَهُ (فَإِذَا فِيهَا) أَيْ: مَوْجُودٌ (آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ) أَيْ: مِثَالُهُ وَأَمْثِلَةُ أَوْلَادِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَقُولُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَعْنِي رَأَى آدَمُ مِثَالَهُ وَمِثَالَ بَنِيهِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ (فَقَالَ: أَيْ رَبِّ! مَا هَؤُلَاءِ؟) ظَاهِرُهُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ قَبْلَ الْمِيثَاقِ (قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ) ، الظَّاهِرُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الْيَمِينِ اخْتِصَاصُهُمْ بِالصَّالِحِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:(فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ) أَيْ: مِنْهُمْ ( «مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ» ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِكُلِّهِمْ ضِيَاءٌ، لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهِمْ بِحَسْبِ نُورِ إِيمَانِهِمْ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ كَالتَّتْمِيمِ صَوْنًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ إِنْبَاتِ الْجَارِحَةِ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ. قُلْتُ: هَذَا غَيْرُ ظَاهِرٍ، بَلْ إِنَّهُ تَذْيِيلٌ وَتَكْمِيلٌ احْتِرَاسًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِ آدَمَ اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ يَسَارًا وَشَمَالًا، فَتَكُونُ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنَ الْأُخْرَى أَوْ أَبْرَكَ وَأَيْمَنَ وَأَحْرَى، ثُمَّ قَالَ: وَلِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فُورَكٍ كَلَامٌ مَتِينٌ فِيهِ قَالَ: وَالْيَدَانِ إِنْ حُمِلَتَا عَلَى مَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالْمِلْكِ صَحَّ، وَإِنْ حُمِلَتَا عَلَى مَعْنَى النِّعْمَةِ وَالْأَثَرِ الْحَسَنِ صَحَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ بِتَقْدِيرِهِ وَعَنْ ظُهُورِ نِعْمَتِهِ عَلَى بَعْضِهِمْ. قُلْتُ: لَا ارْتِيَابَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا إِرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ هَذَا الْمَبْنَى فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ فِي الْكَلَامِ لِيَظْهَرَ الْمَقْصُودُ وَيَتَّضِحَ الْمَرَامُ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ اللَّهَ عز وجل هُوَ الْمَوْصُوفُ بِيَدِ الصِّفَةِ لَا بِيَدِ الْجَارِحَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ يَدُ الْجَارِحَةِ يَمِينًا وَيَسَارًا ; لِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ لِمُتَبَعَّضٍ وَمُتَجَزَّئٍ ذِي أَعْضَاءٍ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مَا وُصِفَ الرَّبُّ بِهِ يَدَ جَارِحَةٍ بَيَّنَ بِمَا قَالَ أَنْ لَيْسَتْ هِيَ يَدَ جَارِحَةٍ، قِيلَ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمَّا وُصِفَ بِالْيَدَيْنِ، وَيَدَا الْجَارِحَةِ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا يَمِينًا وَالْأُخْرَى يَسَارًا، وَالْيُسْرَى نَاقِصَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. عَرَّفَنَا صلى الله عليه وسلم كَمَالَ صِفَةِ اللَّهِ عز وجل، وَأَنَّهُ لَا نَقْصَ فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ آدَمَ عليه السلام لَمَّا قِيلَ لَهُ اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ أَرَادَ بِهِ لِسَانَ الشُّكْرِ وَالنِّعْمَةِ، لَا لِسَانَ الْحُكْمِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْمُلْكِ فَذَكَرَ الْفَضْلَ وَالنِّعْمَةَ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُبْدِيهِ عز وجل مِنْ مِنَنِهِ فَضْلٌ وَطَوْلٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ؛ فَمِنْ مَنْفُوعٍ يَنْفَعُهُ، وَمِنْ مَدْفُوعٍ عَنْهُ يَحْرُسُهُ، فَقَصَدَ قَصْدَ الشُّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْمِنَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَايَةِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ وَالتَّفَضُّلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ لِمَنْ هُوَ كَذَلِكَ كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَإِذَا نَقَصَ حَظُّ الرَّجُلِ وَبُخِسَ نَصِيبُهُ قِيلَ جُعِلَ سَهْمُهُ فِي الشِّمَالِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اجْتِلَابُ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعُ مَضَرَّةٍ قِيلَ: لَيْسَ فُلَانٌ بِالْيَمِينِ وَلَا بِالشِّمَالِ.

وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ نَحْوَهُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ مَلَكٍ أَمَرَهُ اللَّهُ عز وجل بِجَمْعِ أَجْزَاءِ الطِّينِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِ أَمَرَهُ بِخَلْطِهَا بِيَدَيْهِ، فَخَرَجَ كُلُّ طَيِّبٍ بِيَمِينِهِ، وَكُلُّ خَبِيثٍ بِشِمَالِهِ، فَتَكُونُ الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ لِلْمَلَكِ، فَأَضَافَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ كَانَ عَنْ أَمْرِهِ، وَجَعَلَ كَوْنَ بَعْضِهِمْ فِي يَمِينِ الْمَلَكِ عَلَامَةً لِأَهْلِ الْخَيْرِ مِنْهُمْ، وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ فِي شِمَالِهِ عَلَامَةً لِأَهْلِ الشَّرِّ مِنْهُمْ، فَلِذَلِكَ يُنَادَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَصْحَابِ الشِّمَالِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَقُولُ - وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ - وَتَقْرِيرُهُ عَلَى طَرِيقَةِ أَصْحَابِ الْبَيَانِ، هُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْيَدِ عَلَى الْقُدْرَةِ تَارَةً، وَعَلَى النِّعْمَةِ أُخْرَى مِنْ إِطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ ; لِأَنَّ الْقُدْرَةَ وَالنِّعْمَةَ صَادِرَتَانِ عَنْهَا، وَهِيَ مَنْشَؤُهُمَا، وَكَذَا الْقُدْرَةُ مَنْشَأُ الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ إِمَّا خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ وَهِدَايَةٌ وَإِضْلَالٌ، وَالْيَدَانِ فِي الْحَدِيثِ إِذَا حُمِلَتَا، عَلَى الْقُدْرَةِ حُمِلَتَا

ص: 2954

عَلَى خَلْقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ، فَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْقِ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ عَلَى أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ الَّذِي يَقْتَضِي الشَّرِكَةَ، وَالشِّمَالُ عَلَى عَكْسِهَا، وَمَعْنَى كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ أَنَّ كُلًّا مِنْ خَلْقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ ; لِأَنَّهُ عَزِيزٌ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا مَانِعَ لَهُ فِيهِ وَلَا مُنَازِعَ، حَكِيمٌ يَعْلَمُ بِلُطْفِ حِكْمَتِهِ مَا يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ، يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، فَمَعْنَى الْيَمِينِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ

لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أَيْ: بِتَدْبِيرِهِ الْأَحْسَنِ وَتَحَرِّيهِ الْأَصْوَبِ، وَإِذَا حُمِلَتَا عَلَى النِّعْمَةِ كَانَ الْيَمِينُ الْمَبْسُوطَةُ عِبَارَةً عَنْ مَنْحِ الْأَلْطَافِ وَتَيْسِيرِ الْيُسْرَى عَلَى أَهْلِ السَّعَادَةِ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَالشِّمَالُ الْمَقْبُوضَةُ عَلَى عَكْسِهَا. وَمَعْنَى كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ عَلَى مَا سَبَقَ قَالَ تَعَالَى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، فَالْفَاصِلَتَانِ فِي الْآيَتَيْنِ أَعْنِي:" {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 42] " وَ " {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62] "، مُلَوِّحَتَانِ إِلَى مَعْنَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ. كَلَامُهُ.

وَحَاصِلُ مَرَامِهِ، أَنَّ الْيَدَيْنِ كِنَايَتَانِ عَنْ آثَارِ صِفَتَيِ الْجَمَالِ وَالْجَلَالِ مِنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنَ النَّارِ وَالْجَنَّةِ، فَأَصْلُ إِيجَادِ الْخَلْقِ بَعْدَ عَدَمِهِمْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْجَلَالِ إِظْهَارًا لِلْكِبْرِيَاءِ وَالْجَبَرُوتِ النَّاشِئِ عَنْ صِفَةِ الْعَدْلِ، ثُمَّ أَظْهَرَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ كَمَالَ الْجَمَالِ النَّاشِئِ عَنْ صِفَةِ الْفَضْلِ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ مَا وَرَدَ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ رَشَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَقَدْ ضَلَّ وَغَوَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ نُورَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ فِي مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَوْلُهُ: فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَأُهُمْ، أَيْ: أَضْوَأُ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ أَهْلُ زَمَانِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(- أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ -) : وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْرَاكِ أَيْ: بَلْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شَكًّا مِنَ الرَّاوِي، وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ مِنْ بَابِ تَفْوِيضِ عِلْمِهِ إِلَى عَالِمِهِ، وَلَعَلَّهُ كَوْنُهُ مِنْ أَقَلِّ الْأَنْبِيَاءِ عُمْرًا، أَوْ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْبُكَاءِ كَآدَمَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْهُمَا مِنَ الْخَطَأِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ شَكِّ الرَّاوِي، فَعَلَى هَذَا مِنْ أَضْوَئِهِمْ صِفَةُ رَجُلٍ وَفِيهِمْ خَبَرُهُ، وَعَلَى إِسْقَاطِ مِنْ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ: هُوَ أَضْوَأُهُمْ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: أَضْوَأُهُمْ أَنَّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الضَّوْءِ وَالْإِشْرَاقِ دُونَهُ، بَلْ لِبَيَانِ فَضْلِهِ وَجَمْعِهِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، وَإِفَاضَةِ نُورِ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. قَالَ تَعَالَى:{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26]، قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا لَكَانَ سُلَيْمَانُ أَوْلَى بِذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْمُلْكَ لِذَاتِهِ لَيْسَ لَهُ نُورٌ هُنَالِكَ، بَلْ لَهُ حِجَابٌ ظُلْمَانِيٌّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ غَالِبًا عَنْ كَمَالٍ نُورَانِيٍّ، وَلِذَا يَدْخُلُ سُلَيْمَانُ الْجَنَّةَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَذَا يَدْخُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِسَبَبِ مَالِهِ الْكَثِيرِ الْمُشَبَّهِ بِالْمُلْكِ الْكَبِيرِ بَعْدَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ. (قَالَ: يَا رَبِّ! مَنْ هَذَا؟) : قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَكَرَ أَوَّلًا مَا هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُ مَا عَرَفَ مَا رَآهُ، ثُمَّ لَمَّا قِيلَ لَهُ هُمْ ذُرِّيَّتُكَ فَعَرَفَهُمْ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ ( «قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ وَقَدْ كَتَبْتُ لَهُ عُمْرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً» ) . وَفِي نُسْخَةٍ: عُمْرَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: عُمْرَ أَرْبَعِينَ مَفْعُولُ كَتَبْتُ، وَمُؤَدَّى الْمَكْتُوبِ ; لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ عُمْرُهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَنُصِبَ أَرْبَعِينَ عَلَى الْمَصْدَرِ عَلَى تَأْوِيلِ كَتَبْتُ لَهُ أَنْ يُعَمِّرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. (قَالَ: يَا رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ) . أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ وَفَضْلِكَ (قَالَ: ذَلِكَ الَّذِي كَتَبْتُ لَهُ) . أَيْ: قَدَّرْتُ وَقَضَيْتُ لِأَجَلِهِ، وَلَا مَرَدَّ لِقَضَائِي، وَلَا تَبْدِيلَ لِقَدَرِي. قَالَ الطِّيبِيُّ: ذَلِكَ الَّذِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مُعَرَّفَتَانِ فَيُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ: لَا مَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا نُقْصَانَ، وَكَانَ كَذَلِكَ حَيْثُ وَهَبَ، ثُمَّ رَجَعَ. قُلْتُ: لَكِنْ رُوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى مَا وَهَبَ لَهُ وَكَمَّلَ لِآدَمَ عُمْرَهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ، وَفِيهِ اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَةِ آدَمَ عليه السلام أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ الْعُمْرُ الْمُعَلَّقُ يَزِيدُ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سبحانه وتعالى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11] ، وَكَذَا مَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ.

ص: 2955

(قَالَ) : يَعْنِي آدَمُ (أَيْ رَبِّ) أَيْ: يَا رَبِّ (فَإِنِّي) أَيْ: إِذَا أَبَيْتَ الزِّيَادَةَ مِنْ عِنْدِكَ، فَإِنِّي (قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمْرِي) أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ مُدَّةِ عُمْرِي وَسِنِّهِ (سِتِّينَ سَنَةً) . أَيْ: تَكْمِلَةً لِلْمِائَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَبَرِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِدْعَاءُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى هَذَا الْجَعْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ إِشْكَالٌ؛ إِذْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مِنْ بَابِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ مَا يُخَالِفُ هَذَا، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ مِنْ عُمْرِهِ أَوَّلًا أَرْبَعِينَ، ثُمَّ زَادَ عِشْرِينَ فَصَارَ سِتِّينَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَكَرَّرَ مَأْتَى عِزْرَائِيلَ عليه السلام لِلِامْتِحَانِ بِأَنْ جَاءَ وَبَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ سِتُّونَ، فَلَمَّا جَحَدَهُ رَجَعَ إِلَيْهِ بَعْدَ بَقَاءِ أَرْبَعِينَ عَلَى رَجَاءِ أَنَّهُ تَذَكَّرَ بَعْدَ مَا تَفَكَّرَ فَجَحَدَ ثَانِيًا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي بَابِ النِّسْيَانِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ وَقَعَ شَكٌّ لِلرَّاوِي، وَتَرَدُّدٌ فِي كَوْنِ الْعَدَدِ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتِّينَ، فَعَبَّرَ عَنْهُ تَارَةً بِالْأَرْبَعِينَ وَأُخْرَى بِالسِّتِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا وَقَعَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ فِي رِوَايَةِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ سَاعَاتِ أَيَّامِ عُمْرِ آدَمَ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ زَمَانِ دَاوُدَ، فَمَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّةِ النَّقْلِ، وَإِلَّا فَبِظَاهِرِهِ يَأْبَاهُ الْعَقْلُ كَمَا حُقِّقَ فِي دَوَرَانِ الْفَلَكِ عِنْدَ أَهْلِ الْفَضْلِ.

(قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ) . يَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْإِجَابَةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتِهِ أَيْ: أَنْتَ مَعَ مَطْلُوبِكَ مَقْرُونَانِ (وَكَانَ) أَيْ: (آدَمُ) : كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (يَعُدُّ لِنَفْسِهِ)، أَيْ: يُقَدِّرُ لَهُ وَيُرَاعِي أَوْقَاتَ أَجَلِهِ سَنَةً فَسَنَةً (فَأَتَاهُ) أَيِ: امْتِحَانًا (مَلَكُ الْمَوْتِ)، أَيْ: بَعْدَ تَمَامِ تِسْعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً (فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ)، بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيِ: اسْتَعْجَلْتَ وَجِئْتَ قَبْلَ أَوَانِهِ. ( «قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ» ) أَيْ: أَنْكَرَ آدَمُ (فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ سِرِّ أَبِيهِ (وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ) : لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ طِينَةِ أَبِيهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ آدَمَ نَسِيَ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ فَجَحَدَ فَيَكُونُ اعْتِذَارًا لَهُ، إِذْ يَبْعُدُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُنْكِرَ مَعَ التَّذَكُّرِ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ يُشِيرُ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] ، لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ إِذِ الْآيَةُ فِي قَضِيَّةِ أَكْلِ الشَّجَرَةِ. (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ عليه السلام (فَمِنْ يَوْمَئِذٍ أُمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُمِرَ النَّاسُ أَوِ الْغَائِبُ، وَقَوْلُهُ (بِالْكِتَابِ) أَيْ: بِكِتَابَةِ الْحُجَّةِ (وَالشُّهُودِ) . فِي الْقَضِيَّةِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: فِي جَامِعِهِ فِي آخِرِ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اهـ. فَالْحَدِيثُ السَّابِقُ أَرْجَحُ، وَكَذَا أَوْفَقُ لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، كَمَا فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ، وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ص: 2956

4663 -

وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فِي نِسْوَةٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.

ــ

4663 -

(وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) أَيِ: ابْنِ السَّكَنِ (قَالَتْ: مَرَّ عَلَيْنَا) أَيْ: مَعْشَرَ النِّسَاءِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نِسْوَةٍ)، أَيْ: حَالَ كَوْنِنَا مَعَ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ فِي نِسْوَةٍ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْفَاعِلِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْهُ مُرُورُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُمْرَةِ النِّسْوَةِ عَلَيْهِنَّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ وَبَيَانٌ لَهُ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِكَ فِي الْبَيْضَةِ عِشْرُونَ رِطْلًا مِنْ حَدِيدٍ، وَهِيَ بِنَفْسِهَا هَذَا الْمِقْدَارُ لَا أَنَّهَا ظَرْفٌ لَهُ (فَسَلَّمَ عَلَيْنَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ سَبَقَ رِوَايَتُهَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِعِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ إِلَخْ. اهـ. وَفِيهِ أَنَّ مَا سَبَقَ إِنَّمَا هُوَ الْخَامِسُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) .

ص: 2956

4664 -

وَعَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي ابْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ. قَالَ: فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ، لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَّاطٍ وَلَا عَلَى صَاحِبِ بَيْعَةٍ، وَلَا مِسْكِينٍ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ. قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا، فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ، فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟ فَاجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ. قَالَ: فَقَالَ لِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ! - قَالَ: وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِينَاهُ. رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ "

ــ

4664 -

(وَعَنِ الطُّفَيْلِ) : بِالتَّصْغِيرِ (ابْنِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) : قَالَ الْمُؤَلِّفُ: أَنْصَارِيٌّ تَابِعِيٌّ عَزِيزُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ فِي الْحِجَازِيِّينَ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ أَبُو الطُّفَيْلِ (أَنَّهُ) أَيِ: الطُّفَيْلُ (كَانَ يَأْتِي ابْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ) : يَحْتَمِلُ احْتِمَالَيْنِ فِي الْمَرْجِعَيْنِ، وَالْمَعْنَى: فَيَذْهَبَانِ فِي الْغَدْوَةِ (إِلَى السُّوقِ. قَالَ) أَيِ: الطُّفَيْلُ (فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ، لَمْ يَمُرَّ) . بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا أَيْ: لَمْ يَأْتِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَّاطٍ) : بِتَشْدِيدِ الْقَافِ مَعَ فَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَبِيعُ السَّقَطَ، وَهُوَ الرَّدِيءُ مِنَ الْمَتَاعِ (وَلَا عَلَى صَاحِبِ بَيْعَةٍ) ، بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَيُكْسَرُ، فَالْأَوَّلُ لِلْمَرَّةِ، وَالثَّانِي لِلنَّوْعِ وَالْهَيْئَةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرْوَى بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهِيَ الصَّفْقَةُ وَبِكَسْرِهَا الْحَالَةُ كَالرِّكْبَةِ وَالْقِعْدَةِ (وَلَا مِسْكِينٍ)، أَيْ: وَلَا عَلَى مِسْكِينٍ (وَلَا عَلَى أَحَدٍ) : فِيهِ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسَلِّمَ هُوَ ابْنُ عُمَرَ وَيُحْتَمَلُ الْعَكْسُ (قَالَ الطُّفَيْلُ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا، فَاسْتَتْبَعَنِي) أَيْ: طَلَبَنِي أَنْ أَتْبَعَهُ فِي ذَهَابِهِ إِلَى السُّوقِ (فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيْعِ) : الْجُمْلَةُ حَالٌ وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ) أَيْ: عَنْ مَكَانِهَا وَهُوَ بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ سِلْعَةٍ. (وَلَا تَسُومُ بِهَا)، أَيْ: لَا تَسْأَلُ عَنْ ثَمَنِهَا وَقِيمَتِهَا (وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ؟) أَيْ: لِلتَّنَزُّهِ وَالتَّفَرُّجِ عَلَى الصَّادِرِ وَالْوَارِدِ، وَالْمَذْكُورَاتُ غَالِبُ الْمَقَاصِدِ (فَاجْلِسْ بِنَا هَا هُنَا نَتَحَدَّثُ) . بِالرَّفْعِ أَيْ: نَحْنُ نَسْتَمِعُ الْحَدِيثَ مِنْكَ أَوْ يَتَحَدَّثُ بَعْضُنَا بَعْضًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ مِنْ مُهِمَّاتِ الدُّنْيَا، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ (قَالَ: فَقَالَ لِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ! - قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي عَنِ الطُّفَيْلِ أَوْ هُوَ بِنَفْسِهِ (وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ -) أَيْ: بَطْنٌ كَبِيرٌ وَلِذَا لَقَّبَهُ بِذَلِكَ، لَا لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَكْلٍ كَثِيرٍ كَمَا يُتَوَهَّمُ (إِنَّمَا نَغْدُو) أَيْ: إِلَى السُّوقِ (مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ)، أَيْ: تَحْصِيلِهِ (نُسَلِّمُ) : اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ (عَلَى مَنْ لَقِينَا) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْيَاءِ وَيُؤَيِّدُهُ نُسْخَةُ لَقِينَاهُ بِالضَّمِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَاللُّقْيُ يَحْصُلُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّلَامِ أَعَمُّ مِنِ ابْتِدَائِهِ وَجَوَابِهِ: فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَضِيلَةً كَامِلَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ (رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .

ص: 2957

4665 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي عَذْقٌ، وَأَنَّهُ قَدْ آذَانِي مَكَانُ عَذْقِهِ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " أَنْ بِعْنِي عَذْقَكَ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَهَبْ لِي ". قَالَ: لَا. قَالَ: " فَبِعْنِيهِ بِعَذْقٍ فِي الْجَنَّةِ ". فَقَالَ: لَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْكَ إِلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

4665 -

(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي) أَيْ: بُسْتَانِي الْمُحْدَقُ بِالْحِيطَانِ، وَقَدْ يُرَادُ الْبُسْتَانُ الْمُجَرَّدُ (عَذْقٌ)، بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ أَيْ: نَخْلَةٌ وَأَمَّا بِكَسْرِ أَوَّلِهِ فَالْعُرْجُونُ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّمَارِيخِ (وَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنُ أَوِ الْفُلَانُ (قَدْ آذَانِي) :. بِمَدِّ أَوَّلِهِ أَيْ: جَعَلَنِي فِي الْأَذَى (مَكَانُ عَذْقِهِ)، بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ: آذَانِي وَجُودُهُ أَوْ عَذْقُهُ وَمَكَانٌ مُقْحَمٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71]، الْكَشَّافُ مَقَامِي مَكَانِي يَعْنِي نَفْسَهُ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا لِمَكَانِ فُلَانٍ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَقَامِي بِمَعْنَى: وُقُوفِي بِالْحَيَاةِ وَقِيَامِي بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ أَيْ: وَعْظِي إِيَّاكُمْ بِالْآيَاتِ الْمَنْقُولَةِ أَوِ الْمَعْقُولَةِ أَوِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ أَوِ الْمُعْجِزَاتِ الْبَيِّنَاتِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: آذَانِي مُرُورُهُ بِسَبَبِ مَكَانِ عَذْقِهِ (فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ) : مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْإِرْسَالِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ أَيْ: (بِعْنِي عَذْقَكَ) أَيْ: بِأَيِّ ثَمَنٍ تُرِيدُهُ

ص: 2957