الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(أَوْ تَحْتَفِئُوا) : بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ أَوْ لَمْ تَعْتَلِفُوا (بِهَا) : أَيْ مِنَ الْأَرْضِ (بَقْلًا، فَشَأْنَكُمْ) : بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوا شَأْنَكُمْ (بِهَا) : أَيْ بِالْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا حَلَّتْ لَكُمْ حِينَئِذٍ. وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: صَوَابُهُ مَا لَمْ يُحْتِفُوا بِغَيْرِ هَمْزٍ مِنْ إِحْفَاءِ الشَّعْرِ، وَمَنْ قَالَ تَحْتَفِئُوا مَهْمُوزًا مِنَ الْحَفَأِ وَهُوَ الْبَرْدِيُّ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ الْبَرْدِيَّ لَيْسَ مِنَ الْبُقُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنَ الْحَفَأِ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ وَهُوَ أَصْلُ الْبَرْدِيِّ الْأَبْيَضِ الرَّطْبِ مِنْهُ، وَقَدْ يُؤْكَلُ بِقَوْلِهِ: مَا لَمْ تَعْتَلِفُوا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ فَيَأْكُلُونَهُ، وَيُرْوَى " مَا لَمْ تَحْتَفُّوا " بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنِ احْتَفَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذْتَهُ كُلَّهُ كَمَا تَحُفُّ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا مِنَ الشَّعْرِ.
وَيُرْوَى مَا لَمْ يَحْتَفُوا بَقْلًا أَيْ: يَقْلَعُوهُ وَيَرْمُوا بِهِ مِنْ حَفَأَتِ الْقِدْرُ إِذَا رَمَيْتَ بِمَا يَجْتَمِعُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الزَّبَدِ وَالْوَسَخِ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ يُقَالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إِذَا سَتَرْتَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَوْ " فِي الْقَرِينَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6]، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ حَتَّى يَحِلَّ تَنَاوُلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِذَا اصْطَبَحَ الرَّجُلُ أَوْ تَغَدَّى بِطَعَامٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نَهَارَهُ ذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَعَشَّى أَوْ شَرِبَ غَبُوقًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ لَيْلَتَهُ تِلْكَ لِأَنَّهُ يَتَبَلَّغُ بِتِلْكَ الشَّرْبَةِ اهـ.
وَالِاخْتِلَافُ اللَّاحِقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ هُنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ الْمُؤَوَّلِ بِالْقَدَحَيْنِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمَا مِمَّا لَا يُكْتَفَى بِهِمَا فِي دَفْعِ الْجُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِهِ أَيْضًا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَتَدَبَّرْ، وَيُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إِذَا كَانَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ لَمْ تَحِلَّ الْمَيْتَةُ وَإِلَّا حَلَّتْ فَيُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي حِلِّهَا مَعَ اجْتِمَاعِ الصَّبُوحِ وَالْغَبُوقِ، وَكَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ " أَوْ " لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ مَا دَامَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَيْ بِطَرِيقِ الشِّبَعِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ، ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا ذَهَبَ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ فِيمَا حَرَّرْتُهُ فَقَالَ: وَقِيلَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ " أَنَّ غَايَةَ مَا نَتَعَشَّى بِهِ وَنَتَغَدَّى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، قَدَحٌ فِي الْعَشَاءِ، وَقَدَحٌ فِي الْغَدَاءِ، وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ:" مَا طَعَامُكُمْ؟ "، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ الْغَالِبُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ يُفْضِي إِلَى مُكَابَدَةِ الْجُوعِ وَتَحَلُّلِ الْبَدَنِ وَتَعَطُّلِ الْجَوَارِحِ ; وَلِذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ " وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمُضْطَرِّينَ وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَأَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ (مَا لَمْ يَصْطَحِبُوا) . . الَخْ فِي زَمَانِ الْمَخْمَصَةِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ، أَوْ بِالِاغْتِبَاقِ وَالِاصْطِبَاحِ تَنَاوَلَ مَا يُشْبِعُهُمْ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِمْ وَيَحْفَظُ قُوَاهُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: " مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا "" مَا " لِلْمُدَّةِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَحِلُّ لَكُمْ مُدَّةَ عَدَمِ اصْطِبَاحِكُمْ. . الَخْ. وَالْفَاءُ فِي " فَشَأْنَكُمْ " جَزَاؤُهُ أَيْ: مَهْمَا فَقَدْتُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَالْتَزِمُوا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا} [المائدة: 4]، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مَسْرُوقٌ:" مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى يَمُوتَ دَخَلَ النَّارَ " قَالَ مَعْمَرٌ: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْخَمْرِ رُخْصَةٌ ". قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا بِمَا سَبَقَ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ شُرْبِ الدَّمِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ مَعَ نَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِي الْخَمْرِ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا، فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ فِي الْحَلْقِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهَا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيِّ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ.
[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]
(3)
بَابُ الْأَشْرِبَةِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4263 -
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ ثَلَاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَتَيْنِ وَيَقُولُ: " إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ» .
ــ
(3)
بَابُ الْأَشْرِبَةِ
جَمْعُ شَرَابٍ وَهُوَ مَا يُشْرَبُ مِنْ مَاءٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
4263 -
(عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّسُ فِي الشَّرَابِ) : أَيْ أَثْنَاءَ شُرْبِهِ (ثَلَاثًا) : أَيْ غَالِبًا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا شَرِبَ يَتَنَفَّسُ مَرَّتَيْنِ» أَيْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي مِنْ رِوَايَتِهِ فِي جَامِعِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَيْضًا مَرْفُوعًا:" «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ» ". قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُشْرَبَ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ الْإِنَاءَ عَنْ فَمِهِ فَيَتَنَفَّسُ، ثُمَّ يَعُودُ، وَالْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ أَنَّهُ نَهَى عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ، هُوَ أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَهُ عَنْ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي: الشُّرْبُ بِثَلَاثِ دَفَعَاتٍ أَقْمَعُ لِلْعَطَشِ، وَأَقْوَى عَلَى الْهَضْمِ، وَأَقَلُّ أَثَرًا فِي بَرْدِ الْمَعِدَةِ وَضَعْفِ الْأَعْصَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: " مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا "، وَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ ; لِأَنَّهُ إِنْ رُوِيَ بِنَفَسَيْنِ اكْتَفَى بِهِمَا وَإِلَّا فَثَلَاثٌ، وَهَذَا لَيْسَ نَصًّا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنَفُّسَ فِي الْأَثْنَاءِ وَسَكَتَ عَنِ التَّنَفُّسِ الْأَخِيرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَتْمِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ لِوُضُوحِهِ، (وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَيَقُولُ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّهُ) : أَيْ تَعَدُّدَ التَّنَفُّسِ أَوِ التَّثْلِيثَ (أَرْوَى) : أَيْ: أَكْثَرُ رِيًّا وَأَدْفَعُ لِلْعَطَشِ، وَقَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ أَشَدُّ رِوَاءً فَحَذَفَ الْوَصْلَةَ، كَقَوْلِهِ:" أَذْهَبُ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ ". (وَأَبْرَأُ) : مِنَ الْبُرْءِ أَيْ وَأَكْثَرُ بُرْءًا أَيْ صِحَّةً لِلْبَدَنِ. قَالَهُ الْمُظْهِرُ وَغَيْرُهُ. (وَأَمْرَأُ) : مِنْ مَرَأَ الطَّعَامُ إِذَا وَفَقَ الْمَعِدَةَ أَيْ أَكْثَرُ انْسِيَاغًا وَأَقْوَى هَضْمًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ: وَوَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ إِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ إِلَى فِيهِ سَمَّى اللَّهَ، وَإِذَا أَخَّرَهُ حَمِدَ اللَّهَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
4264 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4264 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ) : بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ، مَصْدَرٌ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ، ثُمَّ الْفَتْحُ وَقُرِئَ، بِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 55] ، وَقُرِئَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا، لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنَ الْمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155]، (مِنْ فِي السِّقَاءِ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ. قَالَ الْمُظْهِرُ: وَذَلِكَ أَنَّ جَرَيَانَ الْمَاءِ دَفْعَةً وَانْصِبَابَهُ فِي الْمَعِدَةِ مُضِرٌّ بِهَا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالدَّفَعَاتِ كَمَا سَبَقَ اهـ ; وَلِأَنَّ الْعَبَّ مَذْمُومٌ وَلَا يُمْكِنُ مَصُّ الْمَاءِ عِنْدَ شُرْبِهِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِىُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «مُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا وَلَا تَعُبُّوهُ عَبًّا» ". وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَبُّ الشُّرْبُ بِلَا تَنَفُّسٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي شِهَابٍ مُرْسَلًا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْعَبِّ نَفَسًا وَاحِدًا وَقَالَ:" ذَلِكَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ ". وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " «إِذَا شَرِبْتُمْ فَاشْرَبُوهُ مَصًّا، وَلَا تَشْرَبُوهُ عَبًّا» " ; فَإِنَّ الْعَبَّ يُورِثُ الْكُبَادَ ". وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ حُسَيْنٍ مُرْسَلًا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،: وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
4265 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَ " وَاخْتِنَاثُهَا ": أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا، ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4265 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» ) : جَمْعُ السِّقَاءِ وَهِيَ الْقِرْبَةُ، (زَادَ) : أَيْ أَبُو سَعِيدٍ (فِي رِوَايَةٍ وَ " اخْتِنَاثُهَا ": أَنْ يُقْلَبَ رَأْسُهَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(ثُمَّ يُشْرَبَ مِنْهُ) : وَيَجُوزُ كَوْنُهُمَا مَعْلُومَيْنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الِاخْتِنَاثُ أَنْ يَكْسِرَ شَفَةَ الْقِرْبَةِ وَيَشْرَبَ مِنْهَا. قِيلَ: إِنَّ الشُّرْبَ مِنْهَا كَذَلِكَ إِذَا دَامَ مِمَّا يُغَيِّرُ رِيحَهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ إِبَاحَةُ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ السِّقَاءِ الْكَبِيرِ دُونَ الْأَدَاوَةِ وَنَحْوِهَا، أَوْ أَنَّهُ أَبَاحَهُ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَالنَّهْيِ لِئَلَّا يَكُونَ عَادَةً، وَقِيلَ: إِنَّمَا نَهَاهُ لِسِعَةِ فَمِ السِّقَاءِ لِئَلَّا يَنْصَبَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ يَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ دَابَّةٌ. وَرَوَى عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رَجُلًا شَرِبَ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
4266 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4266 -
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى) : أَيْ فِي تَنْزِيهٍ وَتَأْدِيبٍ وَتَنْبِيهٍ. (أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا) : قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي رِوَايَةٍ " حَذِرٌ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ» ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» "، وَفِي أُخْرَى: " «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ» "، وَرُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - شَرِبَ قَائِمًا وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ» ، وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَأَوَّلُوا فِيهَا بِمَا لَا جَدْوَى فِي نَقْلِهِ، وَالصَّوَابُ فِيهَا أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَأَمَّا شُرْبُهُ قَائِمًا فَبَيَانٌ لِلْجَوَازِ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ النَّسْخَ أَوِ الضَّعْفَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْفَ يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ، وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ وَإِلَى الْقَوْلِ بِالضَّعْفِ مَعَ صِحَّةِ الْكُلِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ) فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَيَّأَهُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَقَالَ الْقَاضِي رحمه الله: هَذَا النَّهْيُ مِنْ قَبِيلِ التَّأْدِيبِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى مَا هُوَ الْأَخْلَقُ وَالْأَوْلَى، وَلَيْسَ نَهْيَ تَحْرِيمٍ حَتَّى يُعَارِضَهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَرَوَاهُ الضِّيَاءُ وَزَادَ:" وَالْأَكْلُ قَائِمًا ".
4267 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَقِئْ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
4267 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ) : أَيْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ) : أَيْ مِنْكُمْ كَمَا فِي نُسْخَةِ (فَلْيَسْتَقِئْ) : أَيْ فَلْيَتَكَلَّفْ لِلْقَيْءِ، فَإِنَّ الِاسْتِقَاءَ وَالتَّقَيُّؤَ التَّكَلُّفَ فِي الْقَيْءِ وَهُوَ أَمْرُ نَدْبٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ:" فَمَنْ نَسِيَ " لَا مَفْهُومَ لَهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْعَامِدِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَدْ يُطْلَقُ النِّسْيَانُ وَيُرَادُ بِهِ التَّرْكُ مُطْلَقًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا ; لِأَنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا نَبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعَامِدَ لَا يَفْعَلُ، مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ، مَعَ أَنَّهُ يَبْعُدُ مِنْهُ التَّوْبَةُ عَنْهُ سَرِيعًا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
4268 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4268 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ» ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: هَذَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنِ النَّوَوِيِّ، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلْقُعُودِ لِازْدِحَامِ النَّاسِ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ، أَوِ ابْتِلَالِ الْمَكَانِ مَعَ احْتِمَالِ النَّسْخِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا قَالَ:" قَدْ رَأَيْتُهُ صَنَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْهَى عَنْهُ "، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ، وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ التَّحْقِيقِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4269 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ، حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أُنَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
ــ
4269 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى الظَّهْرُ، ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ) : أَيْ لِأَجْلِ حَاجَاتِهِمْ وَقَضَاءِ خُصُومَاتِهِمْ (فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ) : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْحَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: فِي مَوْضِعٍ ذِي فَضَاءٍ وَفُسْحَةٍ بِالْكُوفَةِ، فَفِي الْقَامُوسِ: رَحَبَةُ الْمَكَانِ مُحَرَّكَةً وَيُسَكَّنُ سَاحَتُهُ وَمُتَّسَعُهُ، وَفِي الْمُغْرِبِ: رَحَبَةُ الدَّارِ سَاحَتُهَا بِالتَّحْرِيكِ وَالتَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيكُ أَحْسَنُ، وَفِي الصِّحَاحِ: رَحَبَةُ الْمَسْجِدِ بِالتَّحْرِيكِ سَاحَتُهُ، وَالْمَعْنَى اسْتَمَرَّ عَلَى قُعُودِهِ هُنَاكَ لِلنَّاسِ (حَتَّى حَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِيَ بِمَاءٍ) : أَيْ جِيءَ بِهِ (فَشَرِبَ) : أَيْ أَوَّلًا، وَلَعَلَّهُ كَانَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاسْتِحْبَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمُضُ وَبَلَعَ الْمَاءَ ; فَعَبَّرَ عَنْهُ الرَّاوِي بِقَوْلِهِ: فَشَرِبَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ شَرِبَ أَوَّلًا حَتَّى يَدُلَّ عَلَى أَنَّ شُرْبَهُ الْأَخِيرَ قُصِدَ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اتَّفَقَ لَهُ الشُّرْبُ بِنَاءً عَلَى عَطَشِهِ حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ) : أَيِ الرَّاوِي بَعْدَ قَوْلِهِ: وَجْهَهُ وَيَدَهُ ; (رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ) : وَفَائِدَةُ الذِّكْرِ أَنَّ رَاوِيَ الرَّاوِي نَسِيَ مَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي فِي شَأْنِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلَيْنِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ اللَّاحِقَ نَسِيَ تَفْصِيلَ قَوْلِ الرَّاوِي السَّابِقِ: أَنَّهُ هَلْ قَالَ: مَسَحَ رَأْسَهُ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَوْ قَالَ: وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ؟ وَالْمُرَادُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا خَفِيفًا أَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَسْحِ تَغْلِيبًا أَوْ مِنْ قَبِيلِ: عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ كَانَ لَابِسًا لِلْخُفِّ أَوْ أَرَادَ بِهِ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ، وَيَمْسَحُ أَعْضَاءَهُ لِيَكُونَ نُورًا عَلَى نُورٍ، أَوْ أَرَادَ التَّبْرِيدَ وَالتَّنْظِيفَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِمَا تَرْكُ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَسَائِرِ السُّنَنِ، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ قَالَ الرَّاوِي: وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ عَطَفًا عَلَى الْمَغْسُولَيْنِ اعْتِمَادًا عَلَى الْفَهْمِ بِأَنَّ الرَّأْسَ يُمْسَحُ وَلَا يُغْسَلُ، وَاخْتَارَ الرَّاوِي الِاحْتِمَالَ الْأَخِيرَ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعُقْدَةِ بِيَقِينٍ. (ثُمَّ قَامَ) : أَيْ عَنْ مَكَانِ وُضُوئِهِ قَاصِدًا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَكَانِهَا، (فَشَرِبَ فَضْلَهُ) : أَيْ فَضْلَ مَاءِ الْوُضُوءِ وَهُوَ بَقِيَّتُهُ. (وَهُوَ قَائِمٌ) : أَيْ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى قِيَامِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: فَشَرِبَ عَطْفٌ عَلَى قَامَ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ قَائِمٌ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ بَعْدَ الْقِيَامِ قَعَدَ فَشَرِبَ، (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ عَلِيٌّ رضي الله عنه (إِنَّ أُنَاسًا) : أَيْ جَمَاعَةً (يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنَّ أُنَاسًا وَهُوَ لُغَةٌ فِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: التَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّحْقِيرِ ذَمًّا لَهُمْ - عَلَى مَا زَعَمُوا - كَرَاهَةَ الشُّرْبِ فِي حَالِ الْقِيَامِ، وَيَصِحُّ وُقُوعُهُ اسْمًا لِأَنَّ مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِيهِ كَقَوْلِهِمْ: شَرٌّ أَهَرَّ ذَا نَابٍ، وَالْكَلَامُ فِيهِ إِنْكَارٌ وَقَوْلُهُ:(وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ) : حَالٌ مُقَرِّرَةٌ لِجِهَةِ الْإِشْكَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدُّ زَعْمَ مَنْ أَثْبَتَ النَّسْخَ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا لِأَنَّهُ رضي الله عنه فَعَلَ ذَلِكَ بِالْكُوفَةِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِنْ قُلْتَ مَا ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا لَمْ يُنْسَخْ، قُلْتُ: يَجُوزُ خَفَاءُ النَّهْيِ عَنْ عَلِيٍّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الشُّرْبُ الَّذِي يَتَّخِذُهُ النَّاسُ عَادَةً اهـ. وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ النَّهْيُ عِنْدَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَوِ النَّهْيُ عِنْدَهُ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ ; فَإِنَّهُ مُخَصَّصٌ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَشُرْبِ فَضْلِ الْوُضُوءِ كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَجَعَلُوا الْقِيَامَ فِيهِمَا مُسْتَحَبًّا وَكَرِهُوهُ فِي غَيْرِهِمَا، إِلَّا إِذَا كَانَ ضَرُورَةً، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي مَاءِ زَمْزَمَ التَّضَلُّعُ وَوُصُولُ بَرَكَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، وَكَذَا فَضْلُ الْوُضُوءِ مَعَ إِفَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ طَهَارَةِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَكِلَاهُمَا حَالَ الْقِيَامِ أَعَمُّ، وَبِالنَّفْعِ أَتَمُّ، فَفِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِابْنِ الْهُمَامِ: وَمِنَ الْأَدَبِ أَنْ يَشْرَبَ فَضْلَ مَاءِ وُضُوئِهِ مُسْتَقْبِلًا قَائِمًا ; وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا اهـ.
وَظَاهِرُ سِيَاقِ كَلَامِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الْقِيَامَ مُسْتَحَبٌّ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مِمَّنْ رَخَّصَ فِي الشُّرْبِ قَائِمًا عَلِيٌّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ رضي الله عنهم وَأَمَّا النَّهْيُ فَنَهْيُ أَدَبٍ وَإِرْفَاقٍ لِيَكُونَ تَنَاوُلُهُ عَلَى سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْفَسَادِ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ " مَجْمُوعُ فِعْلِهِ مِنْ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَشُرْبِهِ مِنْ فَضْلِهِ قَائِمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ الشَّاهِدِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الشَّمَائِلِ عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ قَالَ: " أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ وَهُوَ فِي الرَّحَبَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ كَفًّا فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَرَأْسَهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَرِجْلَيْهِ "، ثُمَّ شَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ، هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ وَجْهَهُ وَلَا ذِرَاعَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا، فَالْمُرَادُ بِمَسْحِهِمَا غَسْلُهُمَا خَفِيفًا أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْهُمَا، فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّنْظِيفِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِتَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
4270 -
ــ
4270 -
(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ) : قِيلَ: هُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْمَذْكُورُ سَابِقًا (وَمَعَهُ) : أَيْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (صَاحِبٌ لَهُ) ، وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمَخْصُوصُ بِأَنَّهُ صَاحِبُهُ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40]، (فَسَلَّمَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَرَدَّ الرَّجُلُ) : أَيْ جَوَابَهُ (وَهُوَ يُحَوِّلُ الْمَاءَ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ أَيْ يَنْقُلُهُ مِنْ عُمْقِ الْبِئْرِ إِلَى ظَاهِرِهَا، قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ: أَوْ يُجْرِي الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ، قَالَهُ الْمُظْهِرُ. (فِي حَائِطٍ) : أَيْ بُسْتَانٍ لَهُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنَّةٍ) : بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالنُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ قِرْبَةٍ عَتِيقَةٍ، وَهِيَ أَشَدُّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ مِنَ الْجَدِيدِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مُقَدَّرٌ أَيْ فَأَعْطِنَا (وَإِلَّا) : إِنْ فِيهِ شَرْطِيَّةٌ أُدْغِمَتْ فِي " لَا " النَّافِيَةِ، فَحُذِفَتْ خَطًّا كَمَا حُذِفَتْ لَفْظًا أَيْ وَإِنْ لَا تُعْطِنَاهُ (كَرَعْنَا) بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ شَرِبْنَا مِنَ الْكَرْعِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَاءُ السَّمَاءِ، أَوْ مِنَ الْجَدْوَلِ وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، أَوْ تَنَاوَلْنَا مِنَ النَّهْرِ بِلَا كَفٍّ وَلَا إِنَاءٍ قِيلَ: الْكَرْعُ تَنَاوُلُ الْمَاءِ بِالْفَمِ مِنْ غَيْرِ إِنَاءٍ وَلَا كَفٍّ، كَشُرْبِ الْبَهَائِمِ لِإِدْخَالِهَا إِكْرَاعَهَا فِي الْمَاءِ وَشُرْبِهَا بِفَمِهَا.
قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْكَرْعِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ لِلتَّنْزِيهِ، فَمَا هُنَا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ ذَاكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا انْبَطَحَ الشَّارِبُ عَلَى بَطْنِهِ، (فَقَالَ) : أَيِ الْأَنْصَارِيُّ (عِنْدِي مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ) : هُوَ بِمَعْنَى شَنَّةٍ (فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ) : وَهُوَ السَّقْفُ فِي الْبُسْتَانِ بِالْأَغْصَانِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الْكُرُومِ يَسْتَظِلُّ بِهِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ " عَرَشَ " أَيْ بَنَى، كَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَرِيشُ بِمَعْنَى الْمَعْرُوشِ وَهُوَ الْمَرْفُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]، (فَسَكَبَ) : أَيْ فَصَبَّ الْأَنْصَارِيُّ (فِي قَدَحٍ مَاءً) : أَيْ بَعْضَ مَاءٍ (ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْمَاءِ لَبَنًا (مِنْ دَاجِنٍ) : أَيْ شَاةٍ تُعْلَفُ فِي الْمَنْزِلِ وَلَا تَخْرُجُ إِلَى الرَّعْيِ، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي أَلِفَتِ الْبُيُوتَ وَاسْتَأْنَسَتْ، مِنْ دَجِنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، (فَشَرِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَعَادَ) : أَيِ الْأَنْصَارِيُّ الْمَاءَ مَعَ اللَّبَنِ (فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ) : أَيْ مِنْ أَصْحَابِهِ صلى الله عليه وسلم (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
4271 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ ".
ــ
4271 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ) : وَزْنُهَا أَفْعِلَةٌ جَمْعُ إِنَاءٍ (إِنَّمَا يُجَرْجِرُ) : بِكَسْرِ الْجِيمِ الثَّانِيَةِ أَيْ يُحَرِّكُ ذَلِكَ الشُّرْبُ (فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ) : بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ الْأَكْمَلُ: مَعْنَاهُ يُرَدِّدُ مَنْ جَرْجَرَ الْفَحْلُ إِذَا رَدَّدَ صَوْتَهُ فِي حَنْجَرَتِهِ، وَ " نَارًا " مَنْصُوبٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَحْفُوظُ مِنَ الثِّقَاتِ اهـ. وَمَنْ رَوَى بِرَفْعِ نَارٍ فَسَّرَ يُجَرْجِرُ بِيُصَوِّتُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَبَرُ إِنَّ،
وَ " مَا " مَوْصُولَةٌ وَفِيهِ: أَنَّ كِتَابَتَهَا مَوْصُولَةٌ تَأْتِي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمَشْرُوبُ فِيهِ نَارًا مُبَالَغَةً ; لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهَا كَمَا فِي: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَمَنْصُوبٌ أَمْ مَرْفُوعٌ؟ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ النَّصْبُ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ " نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ "، وَرُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا:" فِي جَوْفِهِ نَارٌ " مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَهَنَّمَ. وَفِي الْفَائِقِ: الْأَكْثَرُ النَّصْبُ، فَالشَّارِبُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَالنَّارُ مَفْعُولُهُ. يُقَالُ: جَرْجَرَ فُلَانٌ الْمَاءَ إِذَا جَرَعَهُ جَرْعًا مُتَوَاتِرًا لَهُ صَوْتٌ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّمَا يَجْرَعُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَمَجَازٌ ; لِأَنَّ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ، وَالْجَرْجَرَةُ صَوْتُ الْبَعِيرِ عِنْدَ الضَّجَرِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ صَوْتَ جَرْعِ الْإِنْسَانِ لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي الْمَخْصُوصَةِ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهَا، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا كَجَرْجَرَةِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي بَطْنِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ يُجَرْجِرُ بِالْيَاءِ لِيَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَارٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنَّ الَّذِي) : أَيْ بِزِيَادَةِ إِنَّ قَبْلَ الْمَوْصُولِ (يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ) : أَيْ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: " إِلَّا أَنْ يَتُوبَ "، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى الشُّرْبِ وَالْفِضَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالذَّهَبَ مَمْنُوعَانِ لِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يُحَرَّمُ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ تَحْرِيمُ الشُّرْبِ وَجَوَازُ الْأَكْلِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُمَا بَاطِلَانِ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ وَالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالتَّجَمُّرِ بِمِجْمَرَتِهِ، وَالْبَوْلِ فِي الْإِنَاءِ وَسَائِرِ اسْتِعْمَالِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَالُوا: وَإِنِ ابْتُلِيَ بِطَعَامٍ فِيهِمَا فَلْيُخْرِجْهُمَا إِلَى إِنَاءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِالدُّهْنِ فِي قَارُورَةِ فِضَّةٍ فَلْيَضُمَّهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَصُبَّهُ فِي الْيُمْنَى وَيَسْتَعْمِلْهُ، وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَغَيْرِهِمَا بِأَوَانِيهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَصَى بِالْفِعْلِ وَصَحَّ وُضُوءُهُ وَغَسْلُهُ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْهُ يَعْصِي وَلَا يَكُونُ الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ حَرَامًا، وَأَمَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِمَا فَلَهُ اسْتِعْمَالُهُ، كَمَا يُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَبَيْعُهُمَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنٌ طَاهِرُةٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ.
4272 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4272 -
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ» ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْتُهُ لِلُبْسِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الطَّلَبَةِ (وَلَا الدِّيبَاجَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَيُفْتَحُ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ أَعْجَمِيٌّ، وَاسْتَثْنَى مِنَ الْحَرِيرِ قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ فِي أَطْرَافِ الثَّوْبِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْمَخْلُوطُ بِهِ إِنْ كَانَ لُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَسَدَاهُ مِنَ الْحَرِيرِ فَمُبَاحٌ، وَعَكْسُهُ لَا إِلَّا فِي الْحَرْبِ وَقَدْ يُبَاحُ الْحَرِيرُ لِعِلَّةِ الْحُكَاكِ وَبِكَثْرَةِ الْقَمْلِ. ( «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا» ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ جَمْعُ صَحْفَةٍ وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْعَرِيضَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا الْمَعْنَى الْأَعَمُّ أَيْ فِي صِحَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبُ مُؤَنَّثٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي رِسَالَتِهِ الْمَنْظُومَةِ، أَوِ الضَّمِيرُ إِلَى الْفِضَّةِ، وَاخْتِيرَتْ لِقُرْبِهَا وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ، وَلِأَنَّ الذَّهَبَ يُعْلَمُ بِالْمُقَايَسَةِ أَوْ فِي صِحَافِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34](فَإِنَّهَا) : أَيْ صِحَافَهَا كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْآنِيَةِ وَالصَّحْفَةِ. (لَهُمْ) : أَيْ لِلْكُفَّارِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ (فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَكُمْ) : أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ (فِي الْآخِرَةِ)، قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حُجَّةٌ لِمَنْ يَقُولُ الْكُفَّارُ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ الْوَاقِعِ فِي الْعَادَةِ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
4273 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «حُلِبَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ، وَشِيبَ لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ، فَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَدَحَ، فَشَرِبَ وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ! ; فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: " الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ، أَلَا فَيَمِّنُوا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
4273 -
(وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: حُلِبَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاةٌ دَاجِنٌ) : وَهُوَ الشَّاةُ الَّتِي أَلِفَتِ الْبُيُوتَ وَاسْتَأْنَسَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ إِلَى الْمَرْعَى مِنْ دَجَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْإِنَاثِ مَا احْتِيجَ إِلَى إِلْحَاقِ التَّاءِ فِي آخِرِهِ، مَعَ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلشَّاةِ، وَنَظِيرُهُ: طَالِقٌ وَحَائِضٌ. (وَشِيبَ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ أَيْ خُلِطَ (لَبَنُهَا بِمَاءٍ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي دَارِ أَنَسٍ فَأُعْطِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَدَحَ) : مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ (فَشَرِبَ) : أَيْ مِنْهُ (وَعَلَى يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ) : الظَّاهِرُ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ " عَنْ " وَ " عَلَى " تَفَنُّنٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَقَدْ حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ اسْتَعْمَلَ " عَلَى " هُنَا وَ " عَنْ " أَوَّلًا؟ قُلْتُ: الْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُجَرَّدَ عَنْ وَعَلَى عَنْ مَعْنَى التَّجَاوُزِ وَالِاسْتِعْلَاءِ، وَيُرَادُ بِهِمَا الْحُصُولُ مِنَ الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ، وَلَوْ قَصَدْتَ مَعْنَاهَا رَكِبْتَ شَطَاطًا الْكَشَّافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] ، الْمَفْعُولُ فِيهِ عُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ نَحْوَ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، فَكَمَا اخْتَلَفَتْ حُرُوفُ التَّعْدِيَةِ فِي ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِي هَذَا، وَكَانَتْ لُغَةً تُؤْخَذُ وَلَا تُقَاسُ، وَإِنَّمَا يُفَتَّشُ عَنْ صِحَّةِ مَوْقِعِهَا فَقَطْ، فَلَمَّا سَمِعْنَاهُمْ يَقُولُونَ: جَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَلَى يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَعَلَى شَمَالِهِ قُلْنَا: مَعْنَى عَلَى يَمِينِهِ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَمَعْنَى عَنْ يَمِينِهِ أَيْ جَلَسَ مُتَجَافِيًا عَنْ صَاحِبِ الْيَمِينِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي الْمُتَجَافِي وَغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى.
(فَقَالَ عُمَرُ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ) : لَعَلَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ قُبَالَتَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَهُ فَقَالَ: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي عَلَى يَمِينِهِ) : وَفِي نُسْخَةٍ: عَنْ يَمِينِهِ (ثُمَّ قَالَ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ) : بِالرَّفْعِ فِيهِمَا أَيْ يُقَدَّمُ الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِنَصْبِهِمَا أَيْ أُنَاوِلُ الْأَيْمَنَ فَالْأَيْمَنَ، وَيُؤَيِّدُ الرَّفْعَ قَوْلُهُ:(وَفِي رِوَايَةٍ: " الْأَيْمَنُونَ فَالْأَيْمَنُونَ، أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (فَيَمِّنُوا) : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَمِّنُوا أَنْتُمْ أَيْضًا وَرَاعَوُا الْيَمِينَ وَابْتَدِئُوا بِالْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَضَبْطُ الْأَيْمَنِ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ، النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أُعْطِي الْأَيْمَنَ، وَالرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَيْمَنُ أَحَقُّ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: الْأَيْمَنُونَ تُرَجِّحُ الرَّفْعَ وَفِيهِ بَيَانُ اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ، وَأَنَّ الْأَيْمَنَ فِي الشَّرَابِ وَنَحْوِهِ يُقَدَّمُ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَمَفْضُولًا ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ الْأَعْرَابِيَّ، وَالْغُلَامَ أَيْ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْأَفَاضِلِ وَالْأَكَابِرِ فَهُوَ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي بَاقِي الْأَوْصَافِ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ الْأَعْلَمُ وَالْأَقْرَأُ عَلَى الْأَسَنِّ وَالنَّسِيبِ فِي الْإِمَامَةِ لِلصَّلَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَأْذَنَ الْغُلَامُ دُونَ الْأَعْرَابِيِّ أَدْلَاءً عَلَى الْغُلَامِ، وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَتَطيْيِبًا لِنَفْسِهِ بِالِاسْتِئْذَانِ نَفْسِهِ، لَا سِيَّمَا وَالْأَشْيَاخُ أَقَارِبُهُ، وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رضي الله عنه وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: عَمُّكَ وَابْنُ عَمِّكَ، وَفَعَلَ ذَلِكَ اسْتِئْنَاسًا لِقُلُوبِ الْأَشْيَاخِ وَإِعْلَامًا بِوُدِّهِمْ وَإِيثَارِ كَرَامَتِهِمْ وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْأَعْرَابِيَّ مَخَافَةَ إِيحَاشِهِ، وَتَأَلُّفًا لِقَلْبِهِ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ، وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ لَا يُؤْثَرَ فِي الْقُرَبِ الدِّينِيَّةِ وَالطَّاعَاتِ، وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ مَا كَانَ فِي حُظُوظٍ النَّفْسِ، فَيَكْرَهُ أَنْ يُؤْثَرَ غَيْرُهُ مَوْضِعَهُ مِنَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَثَلًا. وَفِيهِ أَنَّ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ، أَوْ مِنْ مَجْلِسِ الْعَالِمِ وَالْكَبِيرِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَعْطِ أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا قَالَهُ لِلتَّذَكُّرِ لِأَبِي بَكْرٍ مَخَافَةً مِنْ نِسْيَانِهِ، أَوْ إِعْلَامًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ بِجَلَالَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:" الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ " مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالسِّتَّةُ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه.
4274 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ، فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ. فَقَالَ: " يَا غُلَامُ! أَتَأْذَنُ أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟ "، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلٍ مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ سَنَذْكُرُهُ فِي " بَابِ الْمُعْجِزَاتِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ــ
4274 -
(وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : أَيِ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ جِيءَ (بِقَدَحٍ) : أَيْ فِيهِ مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ (فَشَرِبَ مِنْهُ) : أَيْ بَعْضَ مَا فِيهِ (وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ) : تَقَدَّمَ أَنَّهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (أَصْغَرُ الْقَوْمِ) : خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَالْجُمْلَةُ صِفَةُ غُلَامٍ (وَالْأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ) : وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ (فَقَالَ: " يَا غُلَامُ! أَتَأْذَنُ) : أَيْ لِي (أَنْ أُعْطِيَهُ الْأَشْيَاخَ؟) : أَيْ أَوَّلًا أَوْ لَا.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ لِلتَّقْرِيرِ (فَقَالَ: مَا كُنْتُ) : فِي عُدُولِهِ مِنَ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي مُبَالَغَةٌ وَقَوْلُهُ: (لِأُوثِرَ) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُثَلَّثَةِ وَنَصْبِ الرَّاءِ أَيْ مَا كُنْتُ لِأَخْتَارَ عَلَى نَفْسِي (بِفَضْلٍ) : أَيْ بِسُؤْرٍ مُتَفَضِّلٍ (مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ! ، فَأَعْطَاهُ) : أَيِ الْقِدْرَ أَوْ سُؤْرَهُ (إِيَّاهُ) : أَيِ الْغُلَامَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَبَعًا لِمَا سَبَقَ عَنِ النَّوَوِيِّ: الْإِيثَارُ فِي الْقُرْبِ مَكْرُوهٌ، وَفِي حُظُوظِ النَّفْسِ مُسْتَحَبٌّ اهـ.
وَفِي كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلًا لِهَذَا الْمَطْلَبِ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِزْ إِيثَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لَمَا اسْتَأْذَنَهُ صلى الله عليه وسلم. نَعَمْ بِتَقْرِيرِهِ فِيمَا فَعَلَهُ تَنْبِيهٌ عَلَى جَوَازِهِ مَعَ أَنَّ رِعَايَةَ الْأَدَبِ، لَا سِيَّمَا مَعَ حُسْنِ الطَّلَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْمُقْتَضِي لِلتَّوَاضُعِ مِنَ الْأَكَابِرِ الْفِخَامِ - هُوَ الْإِيثَارُ الْمُسْتَفَادُ عُمُومُهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] عَلَى أَنَّ مَا قَصَدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْفَضْلَةِ لَمْ يَكُنْ يَفُوتُهُ، بَلْ كَانَ مَعَ الْإِيثَارِ زِيَادَةُ فَائِدَةِ سُؤْرِ بَقِيَّةِ الْأَفَاضِلِ الْأَبْرَارِ ; وَلِذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلَّمَا كَثُرَ الْوَاسِطَةُ فِي الْخِرْقَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَجْلِ حُصُولِ بَرَكَةِ الْبَقِيَّةِ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ حَيْثُ كُلَّمَا قَلَّتِ الْوَسَائِطُ فِيهِ فَهُوَ أَعْلَى دَرَجَةً ; لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قُرْبَ فَضْلِهِ مَعَ احْتِمَالِهِ قُوَّتَهُ، فَهُوَ مُصِيبٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَشَايِخِ قَالُوا: لَا إِيثَارَ إِلَّا فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا خَطَرَ وَلَا عَظَمَةَ لِلْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الدَّنِيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ أَصْلُ الطَّاعَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَسَنَذْكُرُ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَإِنْ كَانَتِ الْقَضِيَّةُ وَاحِدَةً فَتَحْتَاجُ إِلَى التَّطْبِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
(وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ) : رضي الله عنه، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ فِي آخِرِهِ أَنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا. (سَنَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْمُعْجِزَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : أَيْ لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِهَا مِنْ هَا هُنَا.
الْفَصْلُ الثَّانِي
4275 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَمْشِي وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
4275 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ فِي زَمَانِهِ (وَنَحْنُ نَمْشِي) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (وَنَشْرَبُ) : عَطْفٌ عَلَى نَأْكُلُ (وَنَحْنُ قِيَامٌ) : قَيْدٌ لِلْأَخِيرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جِوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَا كَرَاهَةٍ، لَكِنْ بِشَرْطِ عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْرِيرِهِ، وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ رَاكِبًا وَلَا مَاشِيًا وَلَا قَائِمًا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْمَلَكِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الشُّرْبِ حَالَ الْقِيَامِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ) : إِنَّمَا أَخَّرَهُ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ شَيْخُ التِّرْمِذِيِّ، بَلْ وَشَيْخُ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا. (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) : سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا (غَرِيبٌ) : أَيْ إِسْنَادًا أَوْ مَتْنًا.
4276 -
وَعَنْ عَمْرُو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ قَائِمًا وَقَاعِدًا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
4276 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ أَبْصَرْتُهُ حَالَ كَوْنِهِ (يَشْرَبُ قَائِمًا) : أَيْ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ (وَقَاعِدًا) : أَيْ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ وَأَحْسَنِ عَادَاتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
4277 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
4277 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَنَفَّسَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (فِي الْإِنَاءِ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ تَبَعًا لِمَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: أَيْ لِخَوْفِ بُرُوزِ شَيْءٍ مِنْ رِيقِهِ فَيَقَعُ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مُتَغَيِّرَ الْفَمِ فَتَعْلَقُ الرَّائِحَةُ بِالْمَاءِ لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الدَّوَابِ إِذَا كَرَعَتْ فِي الْأَوَانِي جَرَعَتْ، تَمَّ تَنَفَّسَتْ فِيهَا، وَعَادَتْ فَشَرِبَتْ، فَالْأَوْلَى - وَعِبَارَةُ شَرْحِ السُّنَّةِ: فَالْأَحْسَنُ - أَنْ يَتَنَفَّسَ بَعْدَ إِبَانَةِ الْإِنَاءِ عَنْ فَمِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْأَحْسَنِ وَالْأَوْلَى خِلَافُ الْأُولَى. (أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ) : أَيْ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْضًا. قِيلَ: إِنْ كَانَ النَّفْخُ لِلْبَرْدِ فَلْيَصْبِرْ، وَإِنْ كَانَ لِلْقَذَى فَلْيُمِطْهُ بِخِلَالٍ وَنَحْوِهِ، لَا بِالْإِصْبَعِ ; لِأَنَّهُ يَنْفُرُ الطَّبْعُ مِنْهُ أَوْ لِيُرِقَ الْمَاءَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا:" «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيُنَحِّ الْإِنَاءَ، ثُمَّ لِيَعُدْ إِنْ كَانَ يُرِيدُ» ".
4278 -
وَعَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثَلَاثًا، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ، وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
4278 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا) : أَيْ شُرْبًا وَاحِدًا (كَشُرْبِ الْبَعِيرِ) : بِضَمِّ الشِّينِ وَيُفْتَحُ أَيْ كَمَا يَشْرَبُ الْبَعِيرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ( «وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثَلَاثًا» ) : مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُمَا صِفَتَا مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ نَاصِبُهُمَا أَيْ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ( «وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ» ) : أَيْ أَرَدْتُمُ الشُّرْبَ، وَفِي مَعْنَاهُ الْأَكْلُ (وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ) : أَيِ الْإِنَاءَ عَنِ الْفَمِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَوْ فِي الْآخِرِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَسَبَقَ لِلْحَدِيثِ مَزِيدُ التَّحْقِيقِ وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
4279 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ. فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةَ أَرَاهَا فِي الْإِنَاءِ. قَالَ: " أَهْرِقْهَا ". قَالَ: فَإِنِّي لَا أُرْوَى مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ. قَالَ: " فَأَبِنِ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ، ثُمَّ تَنَفَّسْ» ".
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
4279 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ) : وَفِي مَعْنَاهُ الطَّعَامُ، وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ:" «نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ» "، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِلَفْظٍ:" «نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ» ". (فَقَالَ رَجُلٌ: الْقَذَاةَ) : بِفَتْحِ الْقَافِ مَا يَسْقُطُ فِي الشَّرَابِ وَالْعَيْنِ وَهِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ (أَرَاهَا) : أَيْ أُبْصِرُهَا (فِي الْإِنَاءِ قَالَ: " أَهْرِقْهَا) : أَيْ بَعْضَ الْمَاءِ لِتُخْرِجَ تِلْكَ الْقَذَاةَ مِنْهَا، وَالْمَاءُ قَدْ يُؤَنَّثُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ فِي حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، وَأَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ بِقَوْلِهِ: مُوَيْهٌ وَمُوَيْهَةٌ. (قَالَ: فَإِنِّي لَا أُرْوَى) : بِفَتْحِ الْوَاوِ (مِنْ نَفَسٍ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ بِتَنَفُّسٍ (وَاحِدٍ. قَالَ: فَأَبِنِ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِبَانَةِ أَيْ أَبْعِدِ الْقَدَحَ (عَنْ فِيكَ) : أَيْ فَمِكَ (ثُمَّ تَنَفَّسْ) : أَيْ خَارِجَ الْإِنَاءِ، ثُمَّ اشْرَبْ وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ التَّثْلِيثُ أَنْفَسَ لِكَوْنِهِ أَمْرًا
وَأَهْنَأُ وَأَرْوَى ; وَلِأَنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَحْوَالِهِ مِنْ عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اقْتَصَرَ عَلَى مَرَّةٍ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ جَوَازَهُ إِذَا رُوِيَ مِنْ نَفَسٍ وَاحِدٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: " أَبِنِ الْقَدَحَ عَنْ فِيكَ "، رَوَاهُ سِمَوَيْهِ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ اهـ. وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ غَفْلَةٌ عَنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالدَّارِمِيِّ.
4280 -
وَعَنْهُ، قَالَ:«نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ، وَأَنْ يُنْفَخَ فِي الشَّرَابِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4280 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ) : بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ هِيَ مَوْضِعُ الْكَسْرِ مِنْهُ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ ; لِأَنَّهَا لَا تَتَمَاسَكُ عَلَيْهَا شَفَةُ الشَّارِبِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ مِنْهَا يَنْصَبُّ الْمَاءُ وَيَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَثَوْبِهِ. زَادَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَوْ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا لَا يَنَالُهُ التَّنْظِيفُ التَّامُّ عِنْدَ غَسْلِ الْإِنَاءِ (وَأَنْ يُنْفَخَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ وَعَنِ النَّفْخِ (فِي الشَّرَابِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.
4281 -
وَعَنْ كَبْشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا، فَقُمْتُ إِلَى فِيهَا فَقَطَعْتُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
ــ
4281 -
(وَعَنْ كَبْشَةَ) : رضي الله عنها، هِيَ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّةِ، أُخْتُ حَسَّانَ، لَهَا صُحْبَةٌ وَحَدِيثٌ، وَكَانَ يُقَالُ لَهَا الْبَرْضَا، وَيُقَالُ فِيهَا: كُبَيْشَةُ بِالتَّصْغِيرِ، وَأَيْضًا بِنْتُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ، زَوْجُ عَبْدِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، لَهَا صُحْبَةٌ. كَذَا فِي التَّقْرِيبِ قَالَهُ مِيرَكُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَةَ هُنَا هِيَ الْأُولَى. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ الثَّانِيَةُ ; لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَلِّفِ دُونَ الْأُولَى، لَكِنْ قَالَ: حَدِيثُهَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ، رَوَتْ عَنْ أُمِّ قَتَادَةَ وَعَنْهَا حَمِيدَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ اهـ. فَحَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّ كِلْتَيْهِمَا صَحَابِيَّةٌ لَا يَضُرُّ الْإِبْهَامُ فِيهَا، (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ) : أَيْ مِنْ فَمِ سِقَايَةٍ (مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا، فَقُمْتُ) : أَيْ مُتَوَجِّهَةً (إِلَى فِيهَا) : أَيْ فَمِهَا (فَقَطَعْتُهُ) : أَيْ فَمَ الْقِرْبَةِ وَحَفِظْتُهُ فِي بَيْتِي وَاتَّخَذْتُهُ شَمَّاءَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ، لِوُصُولِ فَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَطْعُهَا إِيَّاهُ لِعَدَمِ الِابْتِذَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ بِمَعْنَاهُ. وَزَادَ أَبُو الشَّيْخُ وَقَالَتْ:" لَا يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ بَعْدَ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ " صلى الله عليه وسلم هَذَا وَيُمْكِنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ رَأَتْ مَلْحَظًا وَنَوَتْ نِيَّةً وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ نَاقِلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ: وَقَطْعُهَا لِفَمِ الْقِرْبَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَصُونَ مَوْضِعًا أَصَابَهُ فَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْتَذَلَ وَيَمَسَّهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يُحْفَظَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ فَمِ السِّقَاءِ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ) .
4282 -
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلْوَ الْبَارِدَ» .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا.
ــ
4282 -
(وَعَنِ الزُّهْرِيِّ) : - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (عَنْ عُرْوَةَ) : أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: عُرْوَةُ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُ. (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ) : بِالرَّفْعِ وَنَصْبُهُ أَحَبَّ (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُلْوَ الْبَارِدَ) : بِالنَّصْبِ وَرَفْعُهُ أَرْفَعُ، وَمَعْنَى أَحَبَّ: أَلَذُّ ; لِأَنَّ مَاءَ زَمْزَمَ أَفْضَلُ، وَكَذَا اللَّبَنُ عِنْدَهُ أَحَبُّ كَمَا سَيَأْتِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَعَمِّ، فَيَشْمَلُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ وَاللَّبَنَ، وَالْمَاءَ الْمَخْلُوطَ بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَالْعَسَلِ أَوِ الْمَنْقُوعِ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الطِّبِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:" «كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ اللَّبَنَ» "، وَمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ السُّنِّيِّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي
الطِّبِّ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:" «كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ الْعَسَلَ» ". (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . مُسْنَدًا أَوْ مُرْسَلًا عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي الشَّمَائِلِ (وَقَالَ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ (وَالصَّحِيحُ) : أَيْ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ (مَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا) : أَيْ لِكَوْنِهِ حَذَفَ الصَّحَابِيَّةَ، وَعَلَّلَ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ رَوَوْهُ مُرْسَلًا، وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ اهـ. وَهَذَا كَمَا تَرَى فِيهِ بَحْثٌ ; لِأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ مِنْ أَحَدِ التَّابِعِينَ، بِحَيْثُ أَسْنَدَهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَرْفُوعًا، فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إِسْنَادِهِ ; وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْمَتْنِ وَالْإِسْنَادِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَا عِبْرَةَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَنْصُورِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الْهُمَامِ بِرِوَايَةِ الْأَكْثَرِ، مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمُعْتَبَرٌ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ الْكُلِّ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ رَوَى الْحَدِيثَ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
4283 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ. وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا اللَّبَنُ» "، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
4283 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: شَرِبَ أَحَدُكُمْ (لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ) : فِيهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ اللَّبَنِ ; وَلِذَا جُعِلَ غِذَاءَ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ عَجَائِبِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66]، وَقَدْ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْلِيلِهِ إِلَى وَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ:(فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ بَعْدَهَا هَمْزٌ، أَيْ يَكْفِي فِي دَفْعِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعًا (مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) : أَيْ مِنْ جِنْسِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ (إِلَّا اللَّبَنُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ بَدَّلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي " يُجْزِئُ "، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي شَرْحِ الطَّيِبِيِّ، قَالَ الْخَطَابِيُّ: قَوْلُهُ:، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ، هَذَا لَفْظُ مُسَدَّدٍ وَهُوَ الَّذِي رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْ تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مِنَ الْمَرْفُوعِ الْمُسْنَدِ، وَإِسْنَادُهُ إِلَى مُسَدَّدٍ غَيْرُ مُسَدَّدٍ، فَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ فِي الشَّمَائِلِ وَلَفْظُهُ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ، فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ وَخَالِدٌ عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ لِي: الشَّرْبَةُ لَكَ، فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا. فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ عَلَى سُؤْرِكَ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ» ". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا شَيْءَ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ» " اهـ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ.
4284 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنَ السُّقْيَا. قِيلَ: هِيَ عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
4284 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ يُجَاءُ بِالْمَاءِ الْعَذْبِ، وَهُوَ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا مُلُوحَةَ فِيهِ ; لِأَنَّ مِيَاهَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ مَالِحَةً (مِنَ السُّقْيَا) : بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَمُثَنَّاةٍ مَقْصُورًا (قِيلَ: هِيَ) : أَيِ السُّقْيَا (عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ) . وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: هِيَ قَرْيَةٌ جَامِعَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَفِي الْقَامُوسِ: السُّقْيَا بِالضَّمِّ مَوْضِعٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَوَادٍ بِالصَّفْرَاءِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " «كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بِئْرِ السُّقْيَا» ". وَفِي لَفْظٍ: " «يُسْتَقَى لَهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْ بِئْرِ السُّقْيَا» ". قُلْتُ: وَلَعَلَّهُمَا مَكَانَانِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا عَيْنًا وَبِئْرًا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَمْكِنَةً مُتَعَدِّدَةً.