المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب المفاخرة والعصبية] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ]

- ‌[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الضِّيَافَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

- ‌[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ]

- ‌[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي]

- ‌[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ الْخَاتَمِ]

- ‌[بَابُ النِّعَالِ]

- ‌[بَابُ التَّرَجُّلِ]

- ‌[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

- ‌[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]

- ‌[بَابُ الْكِهَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

- ‌[كِتَابُ الْآدَابِ] [

- ‌بَابُ السَّلَامِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِيَامِ]

- ‌[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

- ‌[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ]

- ‌[بَابُ الضَّحِكِ]

- ‌[بَابُ الْأَسَامِي]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

- ‌[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ]

- ‌[بَابُ الْوَعْدِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَاحِ]

- ‌[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الفصل: ‌[باب المفاخرة والعصبية]

الَّتِي اسْتُحْدِثَتْ بَعْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرُهُ بِوَصْفِ الْأُبُوَّةِ أَوْلَى وَأَنْسَبُ، نَعَمْ نِدَاؤُهُ بِاسْمِهِ خِلَافُ الْأَدَبِ، عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ تَصَرُّفًا مِنَ الرَّاوِي ; حَيْثُ أَنَّهُ بِالْمَعْنَى، وَلِذَا قَالَ:( «ثُمَّ اسْتَأْذَنَ فَوَجَدَهُمَا قَدِ اصْطَلَحَا، فَقَالَ لَهُمَا» ) : فَإِنَّ حَقَّ الْكَلَامِ مِنْ عَائِشَةَ فَوَجَدَنَا قَدِ اصْطَلَحْنَا فَقَالَ لَنَا: ( «أَدْخِلَانِي فِي سِلْمِكُمَا» ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَيُفْتَحُ أَيْ: فِي صُلْحِكُمَا ( «كَمَا أَدْخَلْتُمَانِي فِي حَرْبِكُمَا» ) أَيْ: فِي شِقَاقِكُمَا وَخِنَاقِكُمَا، وَإِسْنَادُ الْإِدْخَالِ إِلَيْهِمَا فِي الثَّانِي مِنَ الْمَجَازِ السَّبَبِيِّ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ، وَإِلَّا فَالْمَعْنَى كَمَا دَخَلْتُ فِي حَرْبِكُمَا. ( «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ فَعَلْنَا» ) : مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ: فَعَلْنَا إِدْخَالَكَ فِي السِّلْمِ، أَوْ نَزَلَ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ: أَوْقَعْنَا هَذَا الْفِعْلَ، وَقَدْ لِلتَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ ثَانِيًا:(قَدْ فَعَلْنَا) : لِلتَّأْكِيدِ، أَوْ ثَانِيهُمَا عِوَضٌ عَنْ عَائِشَةَ أَوْ عَلَى لِسَانِهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3067

4892 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تُمَارِ أَخَاكَ وَلَا تُمَازِحْهُ وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.

ــ

4892 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا تُمَارِ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ، مِنَ الْمُمَارَاةِ أَيْ: لَا تُجَادِلْ وَلَا تُخَاصِمْ (أَخَاكَ) أَيِ: الْمُسْلِمَ (وَلَا تُمَازِحْهُ) أَيْ: بِمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ (وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا) أَيْ: وَعْدًا أَوْ زَمَانَ وَعْدٍ أَوْ مَكَانَهُ (فَتُخْلِفَهُ) : مِنَ الْإِخْلَافِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِنْ رُوِيَ مَنْصُوبًا كَانَ جَوَابًا لِلنَّهْيِ عَلَى تَقْدِيرِ: فَيَكُونُ مُسَبَّبًا عَمَّا قَبْلَهُ، فَعَلَى هَذَا التَّنْكِيرِ فِي مَوْعِدِ النَّوْعِ مِنَ الْمَوْعِدِ، وَهُوَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ يَعْزِمَ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَلَا يُسْتَثْنَى فَيَجْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِخْلَافِ، أَوْ يَنْوِي فِي الْوَعْدِ كَالْمُنَافِقِ، فَإِنَّ آيَةَ النِّفَاقِ الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ، كَمَا وَرَدَ: إِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ مُطْلَقِ الْوَعْدِ ; لِأَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُفْضِي إِلَى الْخُلْفِ، وَلَوْ رُوِيَ مَرْفُوعًا كَانَ الْمَنْهِيُّ الْوَعْدَ الْمُسْتَعْقِبَ لِلْإِخْلَافِ، أَيْ: لَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَأَنْتَ تُخْلِفُهُ، عَلَى أَنَّهُ جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى إِنْشَائِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ إِنْسَانًا شَيْئًا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ، وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ خِلَافٌ ; ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْلُ وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلَا يَأْثَمُ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ هُوَ خَلَفَ، وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ إِنْ قَصَدَ بِهِ الْأَذَى قَالَ: وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ ; مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّفْضِيلِ. وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مَا أَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ ; حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَوْعَدَ وَعْدًا قَالَ: عَسَى، وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَعِدُ وَعْدًا إِلَّا وَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ الْأَوْلَى. ثُمَّ إِذَا فُهِمَ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمُ فِي الْوَعْدِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَعْدِ عَازِمًا عَلَى أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ. اهـ. وَهَذَا كُلُّهُ يُؤَيِّدُ الْوُجُوبَ إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِعَسَى أَوْ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَازِمٌ فِي وَعْدِهِ، فَقَوْلُهُ: وَهُوَ الْأَوْلَى مَحَلُّ بَحْثٍ كَمَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) . وَقَدْ سَبَقَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ.

وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ مِنَ الْفَصْلِ الثَّالِثِ

ص: 3067

[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

ص: 3067

(13)

بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4893 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: " أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: " فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ: " فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(13)

بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ

الْفَخْرُ: وَيُحَرَّكُ التَّمَدُّحُ بِالْخِصَالِ كَالِافْتِخَارِ، وَفَاخَرَهُ مُفَاخَرَةً: عَارَضَهُ بِالْفَخْرِ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْعَصَبِيُّ هُوَ الَّذِي يَغْضَبُ لِعُصْبَتِهِ وَيُحَامِي عَنْهُمْ، وَالْعَصَبَةُ الْأَقَارِبُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْصِبُونَهُ وَيَعْتَصِبُ بِهِمْ أَيْ: يُحِيطُونَ بِهِ وَيَشْتَدُّ بِهِمْ، وَمِنْهُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، أَوْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً. قُلْتُ: لِأَنَّهَا مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ، وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَلَازُمًا غَالِبِيًّا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ - حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2]، أَيْ: شَغَلَكُمُ التَّبَاهِي وَالتَّفَاخُرُ بِالْكَثْرَةِ، حَتَّى وَصَلْتُمْ إِلَى ذِكْرِ أَهَّلِ الْمَقَابِرِ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيِ أَسْهَمَ تَفَاخَرُوا بِالْكَثْرَةِ، فَكَثُرَ سَهْمُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ بَنُو سَهْمٍ: إِنَّ الْبَغْيَ أَهْلَكَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَعَادُّونَا بِالْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَكَثُرَ بَنُو سَهْمٍ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4893 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ» ) أَيْ: مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِهِمْ أَوْ أَوْصَافِهِمْ (أَكْرَمُ؟) أَيْ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَسَبُ مَعَ النَّسَبِ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَسَبُ فَحَسْبُ، وَكَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْ هَذَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" «فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ» " أَيْ: عَنْ أُصُولِهِمُ الَّتِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهَا، وَكَانَ جَوَابُهُمْ، فَسَلَكَ عَلَى أَلْطَفِ وَجْهٍ ; حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَسَبِ وَالنَّسَبِ، وَقَالَ:" إِذَا فَقُهُوا ". قُلْتُ: لَمَّا أَطْلَقُوا السُّؤَالَ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ صَرْفَهُ عليه الصلاة والسلام إِلَى الْفَرْدِ الْأَكْمَلِ وَالْوَصْفِ الْأَفْضَلِ ( «قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ» ) : وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] ، وَقَدْ نَبَّهَ سبحانه وتعالى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَنْسَابِ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعَارُفِ بِالْوُصْلَةِ، وَأَنَّ الْكَرَمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ; لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالْعِبْرَةَ بِمَا فِي الْعُقْبَى، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ عَلِمَ غَرَضَهُمْ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ. (قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ) : تَنْزِيلٌ لِلْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْمَصْدَرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَيْسَ سُؤَالُنَا عَنْ هَذَا، عَلَى مِنْوَالِ قَوْلِهِ:

فَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ الْهَوَى. اهـ.

فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنِ الْكَرَمِ الْمُطْلَقِ، وَظَنَّ أَنَّ مُرَادَهُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ (قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ) أَيْ: مِنْ حَيْثِيَّةِ جَمْعِيَّةِ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ النَّبَوِيَّةِ (يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ) أَيْ: يَعْقُوبُ (ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ) أَيْ: إِسْحَاقَ (ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ) : بِإِثْبَاتِ أَلِفِ ابْنٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلِيلِ: إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، فَقَدِ اجْتَمَعَ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَكَرَمُ الْآبَاءِ وَالْعَدْلُ وَالرِّيَاسَةُ فِي الدُّنْيَا فِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَدْ يُهْمَزُ وَيُثَلَّثُ سِينُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَالضَّمُّ هُوَ الْمَشْهُورُ. ( «قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ» ) أَيْ: قَبَائِلِهِمْ (تَسْأَلُونِّي؟) : بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهِ ( «قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ» ) أَيْ: هُمْ خِيَارُكُمْ (فِي الْإِسْلَامِ) أَيْ: فِي زَمَنِهِ (إِذَا فَقُهُوا) : بِضَمِّ الْقَافِ وَيُكْسَرُ، أَيْ: إِذَا عَلِمُوا آدَابَ الشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: الْفِقْهُ بِالْكَسْرِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ وَالْفِطْنَةُ لَهُ، وَغَلَبَ عَلَى عِلْمِ الدِّينِ لِشَرَفِهِ، وَفَقُهُ كَكَرُمَ

ص: 3068

وَفَرِحَ فَهُوَ فَقِيهٌ، وَلَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ كَذَا إِخْرَاجَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ اسْتِوَاءَ النَّسَبِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْحَسَبِ بِأَنْ يَكُونُوا مُسْتَوِينَ فِي الْفِقْهِ، وَأَمَّا مَنْ زَادَ فِي الْفِقْهِ فَهُوَ أَعْلَى، وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ فَهُوَ فِي مَرْتَبَةِ الْأَدْنَى، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ: هُوَ الْعِلْمُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ، وَهُوَ حَاصِلُ التَّقْوَى، فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، لَكِنْ كَمَا قَالَ عز وجل:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" «التَّقْوَى هَهُنَا» " وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ الشَّرِيفِ مُومِيًا إِلَى انْحِصَارِهَا فِيهِ بِحَسْبَ كَمَالِهَا، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: يُرِيدُ أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَأْثُرَةٌ وَشَرَفٌ إِذَا أَسْلَمَ وَفَقُهَ، فَقَدْ حَازَ إِلَى ذَلِكَ مَا اسْتَفَادَهُ بِحَقِّ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَقَدْ هَدَمَ شَرَفَهُ وَضَيَّعَ نَسَبَهُ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالُوا: لَمَّا سُئِلَ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ أَجَابَ بِأَكْمَلِهِمْ وَأَعَمِّهِمْ، وَقَالَ:" أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ " ; لِأَنَّ أَصْلَ الْكَرَمِ كَثْرَةُ الْخَيْرِ، وَمَنْ كَانَ مُتَّقِيًا كَانَ كَثِيرَ الْخَيْرِ وَكَثِيرَ الْفَائِدَةِ فِي الدُّنْيَا، وَصَاحِبَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْأُخْرَى، وَلَمَّا قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالُوا: يُوسُفُ جَمَعَ النُّبُوَّةَ وَالنَّسَبَ، وَضَمَّ مَعَ ذَلِكَ شَرَفَ عِلْمِ الرُّؤْيَا وَالرِّيَاسَةَ وَتَمَكُّنَهُ فِيهَا، وَسِيَاسَةَ الرَّعِيَّةِ بِالسِّيرَةِ الْحَمِيدَةِ وَالصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3069

4894 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

4894 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْكَرِيمُ بْنُ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ بْنِ الْكَرِيمِ» ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: كُتِبَ ابْنُ فِي الثَّلَاثَةِ بِدُونِ الْأَلْفِ، وَصَوَابُهُ أَنْ يُكْتَبَ بِهَا لِوُقُوعِهَا بَيْنَ الصِّفَاتِ ( «يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) ، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا.

ص: 3069

4895 -

وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: «فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ - يَعْنِي بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا غَشِيَهُ الْمُشْرِكُونَ، نَزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: " أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ " قَالَ: فَمَا رُئِيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4895 -

(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ) : ظَرْفٌ مُقَدَّمٌ، وَالْجُمْلَةُ هِيَ الْمَقُولُ (كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ) أَيِ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْهُمَا حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةُ، وَكَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَطْبُوعِينَ، وَكَانَ سَبَقَ لَهُ هِجَاءٌ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيَاءً مِنْهُ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ عَامَ الْفَتْحِ، «وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ:{تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] ، فَفَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ، وَقَبِلَ مِنْهُ وَأَسْلَمَ» ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ حَجَّ، فَلَمَّا حَلَقَ الْحَلَّاقُ رَأْسَهُ قَطْعَ أُثْلُوثًا فِي رَأْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا مِنْهُ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنَ الْحَجِّ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَدُفِنَ فِي دَارِ عُقَيْلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ ( «كَانَ آخِذًا بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ» ، يَعْنِي) : هُوَ كَلَامُ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَيْ: يُرِيدُ الْبَرَاءُ بِقَوْلِهِ: بَغْلَتُهُ (بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم احْتِرَازًا مِنْ رَجْعِ الضَّمِيرِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ (فَلَمَّا غَشِيَهُ) : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْمُشْرِكُونَ) أَيْ: أَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ (نَزَلَ) أَيْ: عَنْ بَغْلَتِهِ (فَجَعَلَ يَقُولُ) : " «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ» ".

بِسُكُونِ الْبَاءِ فِيهِمَا عَلَى الصَّوَابِ، وَقِيلَ: بِفَتْحِهَا فِي الْأَوَّلِ وَكَسْرِهَا فِي الثَّانِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ شِعْرٌ أَمْ لَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا عَلَى الْمُفَاخَرَةِ، وَالشَّيْخُ - يَعْنِي صَاحِبَ الْمَصَابِيحِ - لَمْ يَرِدْ فِي إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَبِعَ بَعْضَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ وَلَمْ يُصِيبُوا

ص: 3069

أُولَئِكَ أَيْضًا، وَقَدْ نَفَى نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَذْكُرَ الْفَضَائِلَ الَّتِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا فَخْرًا، بَلْ شُكْرًا لِأَنْعُمِهِ فَقَالَ:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " الْحَدِيثَ. وَذَمَّ الْعَصَبِيَّةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَأَنَّى لِأَحَدٍ أَنْ يَعُدَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ؟ وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْتَخِرَ بِمُشْرِكٍ، وَكَانَ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَفْتَخِرُوا بِآبَائِهِمْ؟ وَإِنَّمَا وَجْهُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: تَكَلَّمَ بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَرَى قَوْمًا قَبْلَ مِيلَادِهِ مَا قَدْ كَانَ، عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ وَدَلِيلًا عَلَى ظُهُورِ أَمْرِهِ، وَأَظْهَرَ عِلْمَ ذَلِكَ عَلَى الْكَهَنَةِ حَتَّى شَهِدَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ، وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ مَا رُوِيَ، وَذُكِرَ فِيهِ مَا ذُكِرَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ الِافْتِخَارُ وَالِاعْتِزَازُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَا كَانَ فِي غَيْرِ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ رَخَّصَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ مَعَ نَهْيِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه بَارَزَ مُرَحِّبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَةَ

. قُلْتُ: حَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى تَأْوِيلِ التُّورِبِشْتِيِّ أَنَّهُ لِلتَّعْرِيفِ لَا لِلِافْتِخَارِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيَ الْكُفَّارَ شِدَّةَ جَأْشِهِ وَشَجَاعَتَهُ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَيَّدًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى حِينَ قَلَّ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ السَّكِينَةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَلْخِيصُ الْجَوَابِ: أَنَّ الْمُفَاخِرَةَ نَوْعَانِ: مَذْمُومَةٌ وَمَحْمُودَةٌ، فَالْمَذْمُومُ مِنْهَا: مَا كَانَ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ مِنَ الْفَخْرِ بِالْآبَاءِ وَالْأَنْسَابِ لِلسُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَالْمَحْمُودُ مِنْهَا: مَا ضَمَّ مَعَ النَّسَبِ الْحَسَبَ فِي الدِّينِ لَا رِيَاءً، بَلْ إِظْهَارًا لِأَنْعُمِهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَقَوْلُهُ:" لَا فَخْرًا " احْتِرَازًا عَنِ الْمَذْمُومِ مِنْهَا، وَكَفَى بِهِ شَاهِدًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ:" «خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقُهُوا» ". «وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ عَبَّاسٌ وَكَأَنَّهُ سَمِعَ شَيْئًا، فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: " مَنْ أَنَا؟ " فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: " أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فَرِقَّةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ فِرْقَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ قَبَائِلَ، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ جَعَلَهُمْ بُيُوتًا، فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا» ".

قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ تَعْرِيفٌ لِنَسَبِهِ الشَّرِيفِ الْمُنْضَمِّ بِحَسَبِهِ الْمُنِيفِ، وَلَيْسَ فِيهِ الِافْتِخَارُ بِآبَائِهِ الْكُفَّارِ لِمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الثَّانِي، مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الِافْتِخَارَ لَافْتَخَرَ بِأَجْدَادِهِ الْأَبْرَارِ، وَقَالَ: أَنَا ابْنُ إِسْمَاعِيلَ أَوْ إِبْرَاهِيمَ عليهما السلام، وَقَدْ قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: كَانَ افْتِخَارُهُ صلى الله عليه وسلم بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِقُرْبِهِ لَا بِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَى وَلَدِ آدَمَ، كَمَا أَنَّ الْمَقْبُولَ عِنْدَ الْمَلِكِ قَبُولًا عَظِيمًا إِنَّمَا يَفْتَخِرُ بِقَبُولِهِ إِيَّاهُ، وَبِهِ يَفْرَحُ لَا بِتَقَدُّمِهِ عَلَى بَعْضِ رَعَايَاهُ.

(قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي (فَمَا رُئِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: مَا عُرِفَ (مِنَ النَّاسِ) أَيْ: أَحَدٌ مِنْهُمْ (يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ) أَيْ: أَقْوَى وَأَشْجَعُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ الْبَغْلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلْعِزَّةِ بِالْمَرَّةِ، ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا، وَعَرَّفَ النَّاسَ بِهِ بِإِظْهَارِ نَسَبِهِ وَحَسَبِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِكَمَالِ التَّعْرِيفِ، الْمُنَافِي عَادَةً لِمَقَامِ التَّخْوِيفِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُوَّةِ قَلْبِهِ، وَتَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى عِصْمَتِهِ بِمُقْتَضَى وَعْدِهِ ; حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وَبِمُوجَبِ حُكْمِهِ ; حَيْثُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] . . . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 3070

4896 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4896 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ» ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا وَهَمْزٍ بَعْدَهَا، وَمَعْنَاهَا الْخَلِيقَةُ، فَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: بَرَأَهُ اللَّهُ يَبْرَأُ بَرَاءً، أَيْ: خَلَقَهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى الْبَرَايَا، وَالْبَرِيَّاتِ مِنَ الْبَرْيِ، وَهُوَ التُّرَابُ إِذَا لَمْ يُهْمَزْ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أَصْلَهُ الْهَمْزَةُ أَخَذَهُ مِنْ بَرَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَبْرَأُهُمْ أَيْ: خَلَقَهُمْ، ثُمَّ تُرِكَ فِيهَا الْهَمْزُ تَخْفِيفًا، وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ مَهْمُوزَةً. قُلْتُ: بَلِ الْمَهْمُوزَةُ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، قَرَأَ بِهَا الْأَحْنَافُ وَابْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ ابْنِ عَامِلٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْبَاقُونَ بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَإِدْغَامِهَا فِي الْيَاءِ تَخْفِيفًا. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: تَوَاضُعًا لِرَبِّهِ وَأَدَبًا مَعَ جَدِّهِ (ذَاكَ) أَيِ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَوْصُوفُ بِخَيْرِ الْبَرِيَّةِ هُوَ (إِبْرَاهِيمُ) .

ص: 3070

قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ هَذَا تَوَاضُعًا وَاحْتِرَامًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام لَخِلَّتِهِ وَأُبُوَّتِهِ، وَإِلَّا فَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» "، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، فَإِنَّ الْفَضَائِلَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ، فَأَخْبَرَ بِفَضِيلَةِ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام إِلَى أَنْ عَلِمَ تَفْضِيلَ نَفْسِهِ فَأَخْبَرَ بِهِ. قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخِهِ لِيَدْفَعَ التَّعَارُضَ بِهِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ أَفْضَلُ بَرِّيَّةِ عَصْرِهِ، فَأَطْلَقَ الْعِبَارَةَ الْمُوهِمَةَ لِلْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّوَاضُعِ. قُلْتُ: وَمَآلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْضَلُ بَرِّيَّةِ عَصْرِهِ لَيْسَ فِيهِ مَزِيدُ مَزِيَّةٍ قَالَ: وَفِيهِ جَوَازُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام، قُلْتُ: لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، نَعَمْ أَفْضَلِيَّةُ نَبِيِّنَا ثَابِتَةٌ بِأَدِلَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ كَادَ أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةً، بَلْ إِجْمَاعِيَّةً. مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» ".

وَمِنْهَا حَدِيثُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ " «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْرَ» ". وَمِنْهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:" «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ فَأُكْسَى حُلَّةً مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ يَقُومُ ذَلِكَ الْمَقَامَ غَيْرِي» . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ شَهِيرَةٌ. مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سِيَادَتِهِ وَزِيَادَتِهِ فِي سَعَادَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْمَسْطُورَةِ إِشْعَارٌ بِتَأْخِيرِ قَوْلِهِ: "«أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» " عَنْ قَوْلِهِ: "«ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» " ; لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا تُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَفْضُولِ، مَعَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يُوجَدُ فِي الْأَخْبَارِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ تَوَاضُعًا، لِيُوَافِقَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ، أَوْ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَأَنَّهُ يُدْعَى بِهَذَا النَّعْتِ حَتَّى صَارَ عَلَمًا لَهُ الْخَلِيلُ، فَقَالَ: "«ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ» "، أَيِ: الْمَدْعُوُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ إِبْرَاهِيمُ إِجْلَالًا لَهُ يَعْنِي مِنَ التَّشْرِيكِ، فَيَكُونُ مَعْنَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ رَاجِعًا إِلَى مَنْ خُلِقَ دُونَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْبَرِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غِمَارِهِمُ. اهـ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُسْتَثْنَى مِنْهُمْ إِمَّا بِطْرِيقِ النَّقْلِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي أَمْرِهِ وَخَبَرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 3071

4897 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

4897 -

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تُطْرُونِي» ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَأَصْلُهُ لَا تُطْرِيُونَ مِنَ الْإِطْرَاءِ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدْحِ وَالْغُلُوُّ فِي الثَّنَاءِ ( «كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» ) أَيْ: مِثْلَ إِطْرَائِهِمْ إِيَّاهُ، مَفْهُومُهُ أَنَّ إِطْرَاءَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ إِطْرَائِهِمْ جَائِزٌ، وَلِلَّهِ دَرُّ صَاحِبِ الْبُرْدَةِ ; حَيْثُ قَالَ: دَعْ مَا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى فِي نَبِيِّهِمْ وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ

وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى أَفْرَطُوا فِي مَدْحِ عِيسَى عليه السلام وَإِطْرَائِهِ بِالْبَاطِلِ، وَجَعَلُوهُ وَلَدًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَنَعَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُطْرُوهُ بِالْبَاطِلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي الْعُدُولِ عَنْ عِيسَى وَالْمَسِيحِ إِلَى ابْنِ مَرْيَمَ تَبْعِيدًا لَهُ عَنِ الْأُلُوهِيَّةِ، يَعْنِي: بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ وَالْإِطْرَاءِ وَالْكَذِبِ بِأَنْ جَعَلُوا مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ الطَّوَامِثِ إِلَهًا أَوِ ابْنًا لَهُ. اهـ. وَلِكَوْنِ الْيَهُودِ بَالَغُوا فِي قَدْحِ الْمَسِيحِ وَالنَّصَارَى فِي مَدْحِهِ قَالَ تَعَالَى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77] ، فَالْحَقُّ هُوَ الْوَسَطُ الْعَدْلُ، كَمَا بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء: 171] ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ; لِأَنَّ كَوْنَهُ ابْنَ مَرْيَمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، أَيْ: يَبُولَانِ وَيَغُوطَانِ، وَيَحْتَاجَانِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَلَا يَصْلُحَانِ لِلْأُلُوهِيَّةِ وَلَا مُنَاسِبَةَ لَهُمَا بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمَا الْعُبُودِيَّةُ (فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ) أَيِ: الْخَاصُّ فِي مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَفْضَلُ مَدْحٍ عِنْدَ الْفَاضِلِ الْكَامِلِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ

:

لَا تَدْعُنِي إِلَّا بَيَا عَبْدَهَا فَإِنَّهُ أَفْضَلُ أَسْمَائِيَا

ص: 3071

وَلِذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِهَذَا الْوَصْفِ الْمَنِيعِ وَالْفَضْلِ الْبَدِيعِ، مِنْهَا فِي مَقَامِ الْإِسْرَاءِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] ، وَمِنْهَا فِي مَقَامِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1] ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ وَبِشَارَةٌ شَرِيفَةٌ أَنَّ الْعِنَايَةَ الرُّبُوبِيَّةُ بِاعْتِبَارِ غَايَةِ الْعُبُودِيَّةِ. ( «فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ) أَيْ: لِتَمَيُّزِهِ بِهِ عَنْ بَقِيَّةِ عَبِيدِهِ، وَفِي ذِكْرِهِمَا أَيْضًا إِيمَاءٌ إِلَى مَبْدَأِ حَالَتِهِ وَمُنْتَهَى غَايَتِهِ، وَكَانَ إِيَاسُ الْخَاصِّ أَخْذَ حَظٍّ مِنْ هَذَا الِاخْتِصَاصِ، وَشَرْحُهُ يَطُولُ وَلَا يَرْضَى بِهِ الْمَلُولُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ مِيرَكُ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، كَذَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ، فَتَأَمَّلْ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ص: 3072

4898 -

وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

4898 -

(وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا (الْمُجَاشِعِيِّ) : بِضَمِّ الْمِيمِ يُعَدُّ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِيمًا، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا» ) : (أَنْ) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا فِي الْإِيحَاءِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ، وَتَوَاضَعُوا أَمْرٌ مِنَ التَّوَاضُعِ تَفَاعُلٌ مِنَ الضِّعَةِ بِالْكَسْرِ، وَهِيَ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ وَالدَّنَاءَةُ. ( «حَتَّى لَا يَفْخَرَ» ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَوْحَى وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ مِنَ الْفَخْرِ، وَهُوَ ادِّعَاءُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالشَّرَفِ أَيْ: كَيْ لَا يَتَعَاظَمَ. ( «أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ» ) : بِكَسْرِ الْغَيْنِ أَيْ: وَلَا يَظْلِمُ ( «أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» ) : وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِشْعَارٌ بِأَنَّ الْفَخْرَ وَالْبَغْيَ نَتِيجَتَا الْكِبْرِ ; لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ نَفْسَهُ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ وَلَا يَنْقَادُ لِأَحَدٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُ:" «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» ".

ص: 3072

الْفَصْلُ الثَّانِي

4899 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

4899 -

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيَنْتَهِيَنَّ) : بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ فِي جَوَابِ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَيَمْتَنِعَنَّ عَنِ الِافْتِخَارِ ( «أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا» ) أَيْ: عَلَى الْكُفْرِ، وَهَذَا الْوَصْفُ بَيَانٌ لِلْوَاقِعِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِهِ أَنَّهُ أَظْهَرُ فِي تَوْضِيحِ التَّقْبِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رَيْحَانَةَ مَرْفُوعًا " «مَنِ انْتَسَبَ إِلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ كُفَّارٍ يُرِيدُ بِهِمْ عِزًّا وَكَرَمًا كَانَ عَاشِرَهُمْ فِي النَّارِ» ". (وَإِنَّمَا هُمْ) أَيْ: آبَاؤُهُمْ (فَحْمٌ مِنْ جَهَنَّمَ) : حَالًا وَمَآلًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: حَصَرَ آبَاءَهُمْ عَلَى كَوْنِهِمْ فَحْمًا مِنْ جَهَنَّمَ لَا يَتَعَدُّونَ ذَلِكَ إِلَى فَضِيلَةٍ يُفْتَخَرُ بِهَا. (أَوْ لَيَكُونُنَّ) : بِضَمِّ النُّونِ الْأُولَى عَطْفًا عَلَى لَيَنْتَهِيَنَّ، وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ الْعَائِدُ إِلَى أَقْوَامٍ وَهُوَ وَاوُ الْجَمْعِ مَحْذُوفٌ مِنْ لَيَكُونُنَّ، وَالْمَعْنَى أَوْ لَيَصِيرُنَّ. (أَهْوَنَ) أَيْ: أَذَلَّ (عَلَى اللَّهِ) أَيْ: عِنْدَهُ، وَفِي حُكْمِهِ (مِنَ الْجُعَلِ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَفَتْحِ عَيْنٍ، وَهُوَ دُوَيْبَةٌ سَوْدَاءُ تُرِيدُ الْغَائِطَ، يُقَالُ لَهَا الْخُنْفُسَاءُ فَقَوْلُهُ:(الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخَرَاءَ) أَيْ: يُدَحْرِجُهُ (بِأَنْفِهِ) : صِفَةٌ كَاشِفَةٌ لَهُ، وَالْخَرَاءُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالرَّاءِ مَقْصُورًا. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَدِّ، وَفِي نُسْخَةٍ مُصَحَّحَةٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ مَمْدُودًا وَهُوَ الْعَذِرَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرَ وَبِالْكَسْرِ الِاسْمَ، فَفِي بَابِ الْغَرِيبَيْنِ أَنَّ الْخَرْءَ الْعَذِرَةُ وَجَمْعُهُ خُرُوءٌ، كَجُنْدٍ وَجُنُودٍ، وَفِي الْقَامُوسِ: خَرَى كَفَرَحَ خِرَاءً أَوْ خِرَاءَةً وَيُكْسَرُ وَالِاسْمُ مِنْهُ الْخِرَاءُ بِالْكَسْرِ، وَفِي شَرْحِ الْمَصَابِيحِ: أَنَّ الْخَرْءَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا وَاحِدُ الْخُرُوءِ، مِثْلَ قُرْءٍ وَقُرُوءٍ وَالْقُرْءُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَضَمِّهَا الْحَيْضُ، وَكُتِبَ الْخَرْءُ فِي الْحَدِيثِ بِالْأَلِفِ إِمَّا لِأَنَّهَا مَفْتُوحَةٌ، فَكُتِبَتْ بِحَرْفِ حَرَكَتِهَا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ

ص: 3072

نُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الرَّاءِ وَقُلِبَتْ أَلِفًا عَلَى لَفْظِ الْعَصَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَبَّهَ الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْجُعَلِ، وَآبَاءَهُمُ الْمُفْتَخَرَ بِهِمْ بِالْعَذِرَةِ، وَنَفْسُ افْتِخَارِهِمْ بِهِمْ بِالدَّهْدَهَةِ بِالْأَنْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ الْبَتَّةَ، إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَنِ الِافْتِخَارِ أَوْ كَوْنُهُمْ أَذَلَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْجُعْلِ الْمَوْصُوفِ، وَأَغْرَبَ الْقَاضِي ; حَيْثُ قَالَ:(أَوْ) هُنَا لِلتَّخْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ سَوَاءٌ فِي أَنْ يَكُونَ حَالُ آبَائِهِمُ الَّذِينَ يَفْتَخِرُونَ بِهِمْ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي تَوْصِيفِهِمْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ. اهـ.

وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ. وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ مَعَهُ الطِّيبِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَيَنْتَهِيَنَّ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ ضَمِيرُ الْقَوْمِ ; لِأَنَّ اللَّامَ فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَامُ الِابْتِدَاءِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ، كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ أَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي سُؤَالِهِ ; حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَبْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُهُمْ بِسَبَبِ الْمُفَاخَرَةِ بِآبَائِهِمْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ فَبِمَ عَرَفَ انْتِهَاءَهُمْ عَنْهَا؟ قُلْتُ: لَمَّا نَظَمَهُمَا بِأَوْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحَلِفُ آلَ كَرَمُهُ إِلَى قَوْلِكَ، لَيَكُونَنَّ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ يَعْنِي: إِنْ كَانَ الِانْتِهَاءُ لَمْ تَكُنِ الْمَذَلَّةُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَانَتْ، كَذَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي النَّمْلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَا بُدَّ مِنْهُ إِمَّا الِانْتِهَاءُ عَمَّا هُمْ فِيهِ، أَوْ إِنْزَالُ الصَّغَارِ وَالْهَوَانِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَرَامِ، لَكِنْ وَقَعَ بَسْطٌ فِي الْكَلَامِ.

ثُمَّ إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْنَفَ لِبَيَانِ عِلَّةِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الِافْتِخَارِ بَعْدَ زَوَالِ زَمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَمَالِ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِقَوْلِهِ:(إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ) أَيْ: أَزَالَ وَرَفَعَ (عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ مُشَدَّدَتَيْنِ أَيْ: نَخْوَتَهَا وَكِبْرَهَا. (وَفَخْرَهَا) أَيْ: وَافْتِخَارَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي زَمَانِهِمْ (بِالْآبَاءِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُقَالُ: رَجُلٌ فِيهِ عُبِّيَّةٌ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا أَيْ: كِبْرٌ وَتَجَبُّرٌ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ تَشْدِيدُ الْيَاءِ، وَذَكَرَ أَبُو عَبِيدٍ الْهَرَوِيُّ أَنَّهُ مِنَ الْعِبْءِ بِمَعْنَى الْحِمْلِ الثَّقِيلِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: بَلْ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَبْءِ وَهُوَ النُّورُ وَالضِّيَاءُ يُقَالُ: هَذَا عَبُّ الشَّمْسِ وَأَصْلُهُ عَبْؤُ الشَّمْسِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّشْدِيدُ فِيهِ كَمَا فِي الذُّرِّيَّةِ مِنَ الذَّرْءِ بِالْهَمْزَةِ، وَالْجَوْهَرِيُّ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمُضَاعَفِ. قُلْتُ: وَكَذَا فَعَلَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ ; حَيْثُ قَالَ: الْعُبِّيَّةُ بِالْكَسْرِ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ. وَقَالَ أَيْضًا: عَبُّ الشَّمْسِ وَيُخَفَّفُ ضَوْءُهَا، وَذَكَرُهُ فِي الْمَهْمُوزِ أَيْضًا وَقَالَ: الْعَبْءُ بِالْفَتْحِ ضِيَاءُ الشَّمْسِ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الْمُفْتَخِرُ الْمُتَكَبِّرُ بِالْآبَاءِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ، فَإِمَّا هُوَ (مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ) : فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ ; لِأَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (أَوْ فَاجِرٌ) أَيْ: مُنَافِقٌ أَوْ كَافِرٌ (شَقِيٌّ) أَيْ: غَيْرُ سَعِيدٍ، فَهُوَ ذَلِيلٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَالذَّلِيلُ لَا يُنَاسِبُهُ التَّكَبُّرُ، وَلَا يُلَائِمُهُ التَّجَبُّرُ، فَالتَّكَبُّرُ لَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ، فَإِنَّهُ صِفَةٌ خَاصَّةٌ لِلْخَالِقِ، وَلِذَا قَالَ:" «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظْمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا قَصَمْتُهُ» "، ثُمَّ أَشَارَ صلى الله عليه وسلم إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ يَنْتَفِي بِهِ التَّكَبُّرُ عَنِ الْإِنْسَانِ بِقَوْلِهِ:( «النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» ) أَيْ: فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ، أَوْ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا، فَالْكُلُّ إِخْوَةٌ، فَلَا وَجْهَ لِلتَّكَبُّرِ ; لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأُمُورِ عَارِضَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا حَقِيقَةً، نَعَمِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهِيَ مُبْهَمَةٌ، فَالْخَوْفُ أَوْلَى لِلسَّالِكِ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْمَسَالِكِ، هَذَا مَا اخْتَرْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ خُلَاصَةِ الْمُرَامِ، وَتَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ فَقَالَ: فِي ضَمِيرِ (هُوَ) وُجُوهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا فَقَوْلُهُ: النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَذَلِكَ تَفْصِيلُهُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التِّمْثَالِ أَكْفَاءُ أَبُوهُمْ آدَمُ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ

فَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ فِي أَصْلِهِمْ شَرَفٌ

يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالْمَاءُ

مَا الْفَخْرُ إِلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ

عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ.

ص: 3073

وَوَحَّدَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إِلَى الْجِنْسِ، أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْإِنْسَانِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ، كَذَا قَرَّرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24]، وَقَوْلُهُمْ: هِيَ الْعَرَبُ تَقُولُ مَا شَاءَتْ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى اسْمِ الْإِشَارَةِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمَذْكُورِ السَّابِقِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ:(أَقْوَامٌ) مِنْ بَابِ سَوْقِ الْمَعْلُومِ مَسَاقَ غَيْرِهِ، وَهُمْ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ نَكَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ غَائِبِينَ، ثُمَّ الْتَفَتَ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِغَضَبٍ شَدِيدٍ وَسُخْطٍ مُتَتَابِعٍ. كَانَ أُنَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَفَاخَرُوا بِأَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ، كَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَأَضْرَابِهِ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ

فَوَبَّخَهُمْ وَزَجَرَهُمْ وَسَفَّهَ رَأْيَهُمْ، وَالْمَعْنَى: لِيَنْتَهِ مَنْ شَرَّفَهُ اللَّهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ حُلَلَ الْإِسْلَامِ، وَرَفَعَهُ مِنْ حَضِيضِ الْكُفْرِ إِلَى يَفَاعِ الْإِيمَانِ عَنْ هَذِهِ الشَّنْعَاءِ، وَإِلَّا فَيَحُطُّهُ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، وَيَرُدُّهُ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ مِنَ الْكُفْرِ وَالذُّلِّ، فَإِنَّ تَشْبِيهَهُمْ بِأَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: مَا ذَاكَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ تَقِيٌّ، وَمَا ذَاكَ الذَّلِيلُ الدَّنِيءُ عِنْدَهُ إِلَّا فَاجِرٌ شَقِيٌّ، ثُمَّ رَجَعَ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَاكَ الْعُنْفِ إِلَى اللُّطْفِ، وَمِنَ التَّوْبِيخِ إِلَى إِسْمَاعِ الْحَقِّ قَائِلًا: وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13]، إِلَى قَوْلُهُ:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَفِي ذِكْرِ التُّرَابِ إِشَارَةٌ إِلَى نُقْصَانِهِمْ، وَأَنَّهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ طُفُّ الصَّاعِ بِالصَّاعِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) : وَرَوَى الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " «كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلَانِ» ".

ص: 3074

4900 -

«وَعَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ أَبِي: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: " السَّيِّدُ اللَّهُ " فَقُلْنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا، وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا. فَقَالَ: " قُولُوا قَوْلَكُمْ، أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ.

ــ

4900 -

(وَعَنْ مُطَرِّفِ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) : بِكَسْرٍ فَتَشْدِيدِ خَاءٍ مُعْجَمَةٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّعْرِيفِ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي فَصْلِ التَّابِعِينَ: مُطَرِّفٌ عَامِرِيٌّ بَصْرِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَفَدَ أَبُوهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي عَامِرٍ، رَوَى عَنْهُ ابْنَاهُ مُطَرِّفٌ وَيَزِيدُ. (قَالَ) أَيْ: قَالَ أَبِي: (انْطَلَقْتُ) : كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، ذَكَرَهُ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ (فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ: قَاصِدِينَ وَمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ (صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا) أَيْ: بَعْدَمَا وَصَلْنَا (أَنْتَ سَيِّدُنَا، فَقَالَ: " السَّيِّدُ اللَّهُ) ، وَفِي نُسْخَةٍ السَّيِّدُ هُوَ اللَّهُ. بِزِيَادَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ لِمَزِيدِ تَأْكِيدِ إِفَادَةِ الْحَصْرِ مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِ رَبِّهِ وَتَوَاضُعِ نَفْسِهِ، فَحُوِّلَ الْأَمْرُ فِيهِ إِلَى الْحَقِيقَةِ مُرَاعَاةً لِآدَابِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّرِيقَةِ، أَيِ: الَّذِي يَمْلِكُ نَوَاصِيَ الْخَلْقِ وَيَتَوَلَّاهُمْ وَيَسُوسُهُمْ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي سِيَادَتَهُ الْمَجَازِيَّةَ الْإِضَافِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ بِالْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ ; حَيْثُ قَالَ:" «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» " أَيْ: لَا أَقُولُ افْتِخَارًا، بَلْ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَإِخْبَارًا بِمَا أَمَرَنِي اللَّهُ، وَإِلَّا فَقَدَ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا. اهـ. وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بِلَالٍ تَوَاضُعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (فَقُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا) أَيْ: مَزِيَّةً وَمَرْتَبَةً وَنَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ (وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا) أَيْ: عَطَاءً لِلْأَحِبَّاءِ وَعُلُوًّا عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالْوَاوُ الْأُولَى اسْتِئْنَافِيَّةٌ لِرَبْطِ الْكَلَامِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْعَطْفِ عَلَى التَّوَهُّمِ. (فَقَالَ: قُولُوا قَوْلَكُمْ) أَيْ: مَجْمُوعَ مَا قُلْتُمْ، أَوْ هَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ (أَوْ بَعْضَ قَوْلِكُمْ) أَيِ: اقْتَصِرُوا عَلَى إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْمُبَالَغَةِ بِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ " أَوْ " بِمَعْنَى " بَلْ " أَيْ: بَلْ قُولُوا بَعْضَ مَا قُلْتُمْ مُبَالَغَةً فِي التَّوَاضُعِ، وَقِيلَ: قُولُوا قَوْلَكُمُ الَّذِي جِئْتُمْ لِأَجْلِهِ وَقَصَدْتُمُوهُ وَدَعُوا غَيْرَكُمْ مِمَّا لَا يَعْنِيكُمْ، وَنَظِيرُهُ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِجُوَيْرِيَّاتٍ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ: " دَعِي هَذِهِ وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ» ، أَوْ قُولُوا قَوْلَكُمُ الْمُعْتَادَ الْمُسْتَرْسَلَ فِيهِ عَلَى السَّجِيَّةِ دُونَ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْإِطْرَاءِ وَالتَّكَلُّفِ لِمَزِيدِ الثَّنَاءِ "، وَحَاصِلُهُ لَا تُبَالِغُوا

ص: 3074

فِي مَدْحِي فَضْلًا عَنْ غَيْرِي ( «وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ» ) أَيْ: لَا يَتَّخِذْنَّكُمْ جَرِيًّا بِفَتْحِ الْجِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ، أَيْ: كَثِيرَ الْجَرْيِ فِي طَرِيقِهِ وَمُتَابَعَةِ خَطَرَاتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَرَاءَةِ بِالْهَمْزَةِ أَيْ: لَا يَجْعَلَنَّكُمْ ذَوِي شَجَاعَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ بِمَا لَا يَجُوزُ. وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: لَا يَغْلِبَنَّكُمْ فَيَتَّخِذَكُمْ جَرِيًّا أَيْ: رَسُولًا وَوَكِيلًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَدَحُوهُ، فَكَرِهَ لَهُمُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْمَدْحِ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْمَعْنَى: تَكَلَّمُوا بِمَا يَحْضُرُكُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَلَا تَتَكَلَّفُوهُ، كَأَنَّكُمْ وُكَلَاءُ الشَّيْطَانِ وَرُسُلُهُ تَنْطِقُونَ عَلَى لِسَانِهِ. هَذَا زُبْدَةُ الْكَلَامِ فِي مَقَامِ الْمُرَامِ.

وَقَدْ تَكَلَّفَ الطِّيبِيُّ ; حَيْثُ قَالَ: وَأَفْضَلُنَا عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ سَيِّدُنَا كَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكُلَّ وَخَصَّ الرَّدَّ بِالسَّيِّدِ، فَأَدْخَلَ الرَّاوِي كَلَامَهُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْكُلِّ قَوْلُهُ: قُولُوا قَوْلَكُمْ، أَيْ: بِقَوْلِ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَمَا هُوَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: رَسُولُ اللَّهِ وَنَبِيُّ اللَّهِ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: قَوْلُهُ: " قُولُوا قَوْلَكُمْ " يَعْنِي: قُولُوا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَا تُبَالِغُوا فِي مَدْحِي بِحَيْثُ تَمْدَحُونَنِي بِشَيْءٍ يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَلَا يَلِيقُ بِالْمَخْلُوقِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَرَادَ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: " قُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ دِينِكُمْ أَوْ مِلَّتِكُمْ، وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا كَمَا سَمَّانِيَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلَا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ ; لِأَنِّي لَسْتُ كَأَحَدٍ مِنْهُمْ، إِذْ كَانُوا يَسُودُونَكُمْ فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَأَنَا أَسُودُكُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَسَمُّونِي رَسُولًا وَنَبِيًّا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: سَلَكَ الْقَوْمُ فِي الْخِطَابِ مَعَهُ مَسْلَكَهُمْ مَعَ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ، فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَهُمْ بِنَحْوِ هَذَا الْخِطَابِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُخَاطِبُوهُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، فَإِنَّهَا الْمَنْزِلَةُ الَّتِي لَا مَنْزِلَةَ وَرَاءَهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ.

ص: 3075

4901 -

وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْحَسَبُ: الْمَالُ، وَالْكَرَمُ: التَّقْوَى» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

4901 -

(وَعَنِ الْحَسَنِ) أَيِ: الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ ذِكْرِهِ، فَإِنَّ مُقْتَضَى الْعَادَةِ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِذِكْرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا لِسَبَبٍ عَارِضٍ فِي الْإِسْنَادِ مُحْوِجٍ إِلَى ذِكْرِ التَّابِعِيِّ (عَنْ سَمُرَةَ) : بِفَتْحٍ وَضَمٍّ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْحَسَبُ) : بِفَتْحَتَيْنِ (الْمَالُ) أَيْ: مَالُ الدُّنْيَا الْحَاصِلُ بِهِ الْجَاهُ غَالِبًا (وَالْكَرَمُ) أَيِ: الْكَرَمُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُقْبَى الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ الْإِكْرَامُ بِالْفَرِجَاتِ الْعُلَى (التَّقْوَى) : لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ، وَالْأُخْرَى بَاقِيَةٌ فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَمَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِعُقْبَاهُ، فَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَمِثَالُهُمَا كِفَّتَا الْمِيزَانِ، وَنِعْمَ مَا قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْحَالِ: زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ وَرِبْحُهُ غَيْرُ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ

قَالَ شَارِحٌ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ الرَّجُلُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِهِ، وَالْكَرَمُ ضِدُّ اللُّؤْمِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الرَّجُلُ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ الْمَالُ، وَالشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ عَظِيمَ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ التَّقْوَى، وَالِافْتِخَارُ بِالْآبَاءِ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِعُنْوَانِ الْبَابِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَنِيَّ يُعَظَّمُ كَمَا يُعَظَّمُ الْحَسِيبُ، وَأَنَّ الْكَرِيمَ هُوَ الْمُتَّقِي لَا مَنْ يَجُودُ بِمَالِهِ وَيَخْطُرُ بِنَفْسِهِ لِيُعَدَّ جَوَادًا شُجَاعًا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَسَبُ مَا يُعَدُّ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَالْكَرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ، وَهَذَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ. فَرَدَّهُمَا صلى الله عليه وسلم إِلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِنْدَ اللَّهِ أَيْ: لَيْسَ ذِكْرُ الْحَسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لِلْفَقِيرِ ; حَيْثُ لَا يُوَقَّرُ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ، بَلْ كُلُّ الْحَسَبِ عِنْدَهُمْ مَنْ رُزِقَ الثَّرْوَةَ وَوُقِّرَ فِي الْعُيُونِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه: مِنْ حَسَبِ الرَّجُلِ إِنْقَاءُ ثَوْبَيْهِ، أَيْ أَنَّهُ يُوَقَّرُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلُ الثَّرْوَةِ، وَذُو الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلَا يُعَدُّ كَرِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا الْكَرِيمُ عِنْدَهُ مَنِ ارْتَدَى بِرِدَاءِ التَّقْوَى وَأَنْشَدَ:

كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا

وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمُ

(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ.

ص: 3075

4902 -

وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنُّوا» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

4902 -

(وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ تَعَزَّى) أَيِ: انْتَسَبَ (بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: نَسَبِ أَهْلِهَا وَافْتَخَرَ بِآبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ (فَأَعِضُّوهُ) : بِتَشْدِيدِ الضَّادِ وَالْمُعْجَمَةِ مِنْ أَعْضَضْتُ الشَّيْءَ: جَعَلْتَهُ يَعَضُّهُ، وَالْعَضُّ أَخْذُ الشَّيْءِ بِالْأَسْنَانِ أَوْ بِاللِّسَانِ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ (بِهَنِ أَبِيهِ) ، بِفَتْحِ الْهَاءِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْهَنُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفَرْجِ، أَيْ: قُولُوا لَهُ: اعْضُضْ بِذَكَرِ أَبِيكَ أَوْ أَيْرِهِ أَوْ فَرْجِهِ. (وَلَا تُكَنُّوا) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّ النُّونِ، أَيْ: لَا تُكَنُّوا بِذِكْرِ الْهَنِ عَنِ الْأَيْرِ، بَلْ صَرِّحُوا بِآلَةِ أَبِيهِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا فِيهِ تَأْدِيبًا وَتَنْكِيلًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنِ انْتَسَبَ وَانْتَمَى إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ بِإِحْيَاءِ سُنَّةِ أَهْلِهَا، وَابْتِدَاعِ سُنَّتِهِمْ فِي الشَّتْمِ وَاللَّعْنِ وَالتَّعْيِيرِ، وَمُوَاجَهَتِكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَالتَّكَبُّرِ، فَاذْكُرُوا لَهُ قَبَائِحَ أَبِيهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يُعَيَّرُ بِهِ مِنْ لُؤْمٍ وَرَذَالَةٍ صَرِيحًا لَا كِنَايَةً ; كَيْ يَرْتَدِعَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَعْرَاضِ النَّاسِ. (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

ص: 3076

4903 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي عُقْبَةَ رضي الله عنه وَكَانَ مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ:«شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا، فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقُلْتُ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ. فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " هَلَّا قُلْتَ: خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ؟» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4903 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُقْبَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ هُوَ مَوْلَى جُبَيْرِ بْنِ عُتَيْقٍ (عَنْ أَبِي عُقْبَةَ) : قَالَ مِيرَكُ: اسْمُهُ رُشَدٌ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، وَيُقَالُ: مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو عُقْبَةَ (مَوْلًى مِنْ أَهْلِ فَارِسَ قَالَ: «شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا» ) : بِضَمَّتَيْنِ أَيْ: حَضَرْتُهُ ( «فَضَرَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ) أَيْ: بِرَمْيٍ أَوْ بِرُمْحٍ أَوْ بِسَيْفٍ (فَقُلْتُ: خُذْهَا) أَيِ: الضَّرْبَةَ أَوِ الطَّعْنَةَ مِنِّي ( «وَأَنَا الْغُلَامُ الْفَارِسِيُّ» ) بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْمُحَارَبَةِ أَنْ يُخْبِرَ الضَّارِبُ الْمَضْرُوبَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ إِظْهَارًا لِشَجَاعَتِهِ (فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَّا قُلْتَ) أَيْ: لِمَ لَا قُلْتَ ( «خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا الْغُلَامُ الْأَنْصَارِيُّ» ) أَيْ: إِذَا افْتَخَرْتَ عِنْدَ الضَّرْبِ، فَانْتَسِبْ إِلَى الْأَنْصَارِ الَّذِينَ هَاجَرْتُ إِلَيْهِمْ وَنَصَرُونِي، وَكَانَ فَارِسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كُفَّارًا فَكَرِهَ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الْأَنْصَارِ لِيَكُونَ مُنْتَسِبًا إِلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ مِمَّا عَدَا الْمُهَاجِرِينَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمُ الْأَنْصَارُ، وَلَيْسُوا بِمَخْصُوصِينَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يُتَوَهَّمُ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْعُمُومُ وَالشُّمُولُ لِلصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100](رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3076

4904 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رَدَى، فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنَبِهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4904 -

(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ» ) أَيْ: عَلَى بَاطِلٍ أَوْ مَشْكُوكٍ ( «فَهُوَ كَالْبَعِيرِ الَّذِي رَدَى» ) : بِفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُشَدَّدَةً وَفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: تَرَدَّى وَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هَلَكَ (فَهُوَ) أَيِ: الْبَعِيرُ إِذَا وَقَعَ فِيهَا (يُنْزَعُ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: يُعَالَجُ وَيُخْرَجُ عَنْهَا (بِذَنَبِهِ) أَيْ: يُجَرُّ مِنْ وَرَائِهِ، قِيلَ: الْمَعْنَى أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْهَلَكَةِ بِتِلْكَ النُّصْرَةِ الْبَاطِلَةِ ; حَيْثُ أَرَادَ الرِّفْعَةَ بِنُصْرَةِ قَوْمِهِ، فَوَقَعَ فِي حَضِيضِ بِئْرِ الْإِثْمِ وَهَلَكَ كَالْبَعِيرِ، فَلَا يَنْفَعُهُ كَمَا لَا يَنْفَعُ الْبَعِيرَ نَزْعُهُ عَنِ الْبِئْرِ بِذَنَبِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَ الْقَوْمَ بِبَعِيرٍ هَالِكٍ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ هَالِكٌ، وَشَبَّهَ نَاصِرَهُمْ بِذَنَبِ هَذَا الْبَعِيرِ، فَكَمَا أَنَّ نَزْعَهُ بِذَنَبِهِ لَا يُخَلِّصُهُ مِنَ الْهَلَكَةِ، كَذَلِكَ هَذَا النَّاصِرُ لَا يُخَلِّصُهُمْ عَنْ بِئْرِ الْهَلَاكِ الَّتِي وَقَعُوا فِيهَا (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا " «مَنْ نَصَرَ أَخَاهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» " فَمَحْمُولٌ عَلَى نُصْرَةِ الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُطْلَقًا.

ص: 3076

4905 -

«وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْعَصَبِيَّةُ؟ قَالَ: " أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4905 -

( «وَعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ» ؟) أَيِ: الْجَاهِلِيَّةُ ( «قَالَ: أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ» )، يَعْنِي: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْكَ مُتَابَعَةُ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مُلَاحَظَةِ الْخَلْقِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ يَكُ ظَالِمًا فَارْدُدْهُ عَنْ ظُلْمِهِ، وَإِنْ يَكُ مَظْلُومًا، فَانْصُرْهُ» ". (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ.

ص: 3077

4906 -

وَعَنْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " «خَيْرُكُمُ الْمُدَافِعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4906 -

(وَعَنْ سُرَاقَةَ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ وَسُكُونِ عَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَضَمِّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: مُدْلِجِيٌّ كِنَانِيٌّ، كَانَ يَنْزِلُ قَدِيدًا، وَيُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. (قَالَ:«خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: خَيْرُكُمُ الْمُدَافِعُ عَنِ الْعَشِيرَةِ» ) أَيْ: أَقَارِبُهُ الْمُعَاشِرُ مَعَهُمْ (مَا لَمْ يَأْثَمْ) أَيْ: مَا لَمْ يَظْلِمْ عَلَى الْمَدْفُوعِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَوَصْلَةِ الْأَقَارِبِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ قَوْمِهِ بِكَلَامٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ الضَّرْبُ، وَلَوْ قَدَرَ بِالضَّرْبِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَتْلُ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ. قَالَ تَعَالَى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، إِلَى قَوْلِهِ:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، الْآيَةُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3077

4907 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4907 -

(وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه) : مَرَّ ذِكْرُهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ مِنَّا) أَيْ: مِنْ أَهْلِ مَلَّتِنَا أَوْ مِنْ أَصْحَابِ طَرِيقَتِنَا (مَنْ دَعَا) أَيِ: النَّاسَ (إِلَى عَصَبِيَّةٍ) أَيْ: إِلَى اجْتِمَاعِ عَصَبِيَّةٍ فِي مُعَاوَنَةِ ظَالِمٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هُوَ قَوْلُهُمْ يَا آلَ فُلَانٍ! كَانُوا يَدْعُونَ بَعْضَهُمْ بَعْضًا عِنْدَ الْأَمْرِ الْحَادِثِ (وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً) أَيْ: بِالْبَاطِلِ ( «وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» ) أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِهِمْ مِنْ حَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 3077

4908 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4908 -

(وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حُبُّكَ) : مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ (الشَّيْءَ) : وَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ( «يُعْمِي وَيُصِمُّ» ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِمَا وَكَسْرِ عَيْنِهِمَا أَيْ: يَجْعَلُكَ أَعْمَى عَنْ رُؤْيَةِ مَعَايِبِ الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ بِحَيْثُ لَا تُبْصِرُ فِيهِ عَيْبًا، وَيَجْعَلُكَ أَصَمَّ عَنْ سَمَاعِ قَبَائِحِهِ بِحَيْثُ لَا تَسْمَعُ فِيهِ كَلَامًا قَبِيحًا لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَحَبَّةِ عَلَى فُؤَادِكَ، كَمَا قَالَ:

وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ

وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا

وَحَاصِلُهُ، أَنَّكَ تَرَى الْقَبِيحَ مِنْهُ حَسَنًا، وَتَسْمَعُ مِنْهُ الْخَنَا قَوْلًا جَمِيلًا كَمَا قِيلَ:

وَيَقْبُحُ مِنْ سِوَاكَ الْفِعْلُ عِنْدِي

فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْكَ ذَاكَا

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو عَلِيٍّ: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي عَنِ الْغَيْرِ غَيْرَةً وَعَنِ الْمَحْبُوبِ هَيْبَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَوْرِدُ الْحَدِيثِ فِي الذَّمِّ، وَذِكْرُ الْعَصَبِيَّةِ يَسْتَدْعِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيمَنْ يَتَعَصَّبُ لِغَيْرِهِ وَيُحَامِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَحُبُّهُ إِيَّاهُ يُعْمِيهِ عَنْ أَنْ يُبْصِرَ الْحَقَّ فِي قَضِيَّتِهِ، وَيُصِمُّهُ عَنْ أَنْ يَسْمَعَ الْحَقَّ فِي قِصَّتِهِ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ ذُو وَجْهَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْهُ، وَالْخَرَائِطِيُّ فِي اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: 3077