المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب المصافحة والمعانقة] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٧

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ ذِكْرِ الْكَلْبِ]

- ‌[بَابُ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ]

- ‌[بَابُ الْعَقِيقَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ]

- ‌[بَابُ الضِّيَافَةِ]

- ‌[بَابٌ فِي مَتَى يَكُونُ الْمَرْءُ مُضْطَرًّا لِتَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ]

- ‌[بَابُ الْأَشْرِبَةِ]

- ‌[بَابُ النَّقِيعِ وَالْأَنْبِذَةِ]

- ‌[بَابُ تَغْطِيَةِ الْأَوَانِي]

- ‌[كِتَابُ اللِّبَاسِ]

- ‌[بَابُ الْخَاتَمِ]

- ‌[بَابُ النِّعَالِ]

- ‌[بَابُ التَّرَجُّلِ]

- ‌[بَابُ التَّصَاوِيرِ]

- ‌[كِتَابُ الطِّبِّ وَالرُّقَى]

- ‌[بَابُ الْفَأْلِ وَالطِّيَرَةِ]

- ‌[بَابُ الْكِهَانَةِ]

- ‌[كِتَابُ الرُّؤْيَا]

- ‌[كِتَابُ الْآدَابِ] [

- ‌بَابُ السَّلَامِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِئْذَانِ]

- ‌[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

- ‌[بَابُ الْقِيَامِ]

- ‌[بَابُ الْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ وَالْمَشْيِ]

- ‌[بَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ]

- ‌[بَابُ الضَّحِكِ]

- ‌[بَابُ الْأَسَامِي]

- ‌[بَابُ الْبَيَانِ وَالشِّعْرِ]

- ‌[بَابُ حِفْظِ اللِّسَانِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ]

- ‌[بَابُ الْوَعْدِ]

- ‌[بَابُ الْمُزَاحِ]

- ‌[بَابُ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ]

- ‌[بَابُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ عَلَى الْخَلْقِ]

الفصل: ‌[باب المصافحة والمعانقة]

(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ، قَالَ عليه الصلاة والسلام أَيْ: لِلِاسْتِئْذَانِ عَلَى بَابِ بَعْضِ الْأَصْحَابِ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فِي " بَابِ الضِّيَافَةِ ") . مُتَعَلِّقٌ بِذِكْرٍ.

ص: 2962

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4674 -

عَنْ عَطَاءٍ، «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: " نَعَمْ " فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا " فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا» ". رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4674 -

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) : مِنْ أَجِلَّاءِ التَّابِعِينَ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ) أَيْ: أَطْلُبُ الْإِذْنَ عِنْدَ إِرَادَتِي الدُّخُولَ (عَلَى أُمِّي) : وَفِي مَعْنَاهَا بَقِيَّةُ الْمَحَارِمِ نَسَبًا وَرَضَاعًا وَمُصَاهَرَةً إِلَّا الزَّوْجَةَ (فَقَالَ: نَعَمْ) أَيْ: لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عَنْ عُضْوٍ لَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ (فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ) أَيْ: فِي بَيْتِهَا أَوْ فِي بَيْتِي، وَالْمَعْنَى: أَنَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهَا فِي بَيْتٍ وَحْدَهَا لِيَكُونَ دُخُولِي عَلَيْهَا نَادِرًا، أَفَأَسْتَأْذِنُ حِينَئِذٍ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي زَمَانِنَا؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا) أَيْ: وَلَوْ كُنْتُمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ لِاحْتِمَالِ تَكَشُّفِهَا فِي الْغَيْبَةِ (فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَنَا (خَادِمُهَا) أَيْ: فَيَكْثُرُ تَرَدُّدِي إِلَيْهَا، فَهَلْ يَكُونُ الْإِذْنُ كُلَّ مَرَّةٍ سَاقِطًا لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهِ) أَيْ: وَلَوْ بِنَحْوِ تَنَحْنُحٍ وَضَرْبِ رِجْلٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ (أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟) أَيْ: كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا (قَالَ: لَا. قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا)، أَيْ: دَائِمًا، وَبِهَذَا حَصَلَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَتَرْكِ إِيجَابِ الْإِحْرَامِ لِمَنْ كَثُرَ تَرَدُّدُهُ إِلَى الْحَرَمِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) .

ص: 2962

4675 -

«وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَدْخَلٌ بِاللَّيْلِ، وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ، فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ بِاللَّيْلِ، تَنَحْنَحَ لِي» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

4675 -

( «وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَدْخَلٌ» ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: دُخُولٌ (بِاللَّيْلِ، وَمَدْخَلٌ بِالنَّهَارِ)، قَالَ الطِّيبِيُّ: لِي: خَبَرُ كَانَ، وَاسْمُهُ مَدْخَلٌ، وَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَعَلِّقٌ بِالْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، أَيْ: حَصَلَ لِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُخُولٌ بِاللَّيْلِ وَدُخُولٌ بِالنَّهَارِ، وَعَلَامَةُ الْإِذْنِ بِاللَّيْلِ تَنَحْنُحُهُ عليه الصلاة والسلام، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَرَّمَ اللَّهِ وَجْهَهُ:(فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ بِاللَّيْلِ، تَنَحْنَحَ لِي) : قِيلَ: إِنَّ التَّنَحْنُحَ لِلْمَنْعِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَرِيحٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّنَحْنُحُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَلَامَةِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ عَلَامَةَ الْمَنْعِ بَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى عَلَامَةِ دُخُولِ عَلِيٍّ فِي النَّهَارِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ عَلَى مُقْتَضَى الْمَفْهُومِ الْمُخَالِفِ، أَيْ: وَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ بِالنَّهَارِ تَنَحْنَحْتُ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .

ص: 2962

4676 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا تَأْذَنُوا لِمَنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

4676 -

(وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تَأْذَنُوا) أَيْ: بِالدُّخُولِ أَوْ لِلطَّعَامِ (لِمَنْ لَمْ يَبْدَأْ بِالسَّلَامِ) أَيْ: بِسَلَامِ الْإِذْنِ، أَوْ بِسَلَامِ الْمُلَاقَاةِ بِأَنْ دَخَلَ سَاكِتًا أَوْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") : وَكَذَا الضِّيَاءُ. وَقَدْ سَبَقَ أَحَادِيثُ تُقَوِّيهِ فِي الْمَعْنَى الْمُرَامِ.

ص: 2962

[بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ]

ص: 2962

(3)

بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4677 -

عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ رضي الله عنه: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

(3)

بَابُ الْمُصَافَحَةِ وَالْمُعَانَقَةِ

الْمُصَافَحَةُ: هِيَ الْإِفْضَاءُ بِصَفْحَةِ الْيَدِ إِلَى صَفْحَةِ الْيَدِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهَا أَهْلُ الْيَمَنِ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ وَهْبٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِي مُخْتَصِرِ النِّهَايَةِ لَهُ: أَنَّ التَّصْفِيحَ هُوَ التَّصْفِيقُ، وَهُوَ ضَرْبُ صَفْحَةِ الْكَفِّ عَلَى صَفْحَةِ الْأُخْرَى، وَمِنْهُ الْمُصَافَحَةُ، وَهِيَ إِلْصَاقُ صَفْحَةِ الْكَفِّ بِالْكَفِّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْمُصَافَحَةُ الْأَخْذُ بِالْيَدِ كَالتَّصَافُحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنَ الصَّفْحِ بِمَعْنَى الْعَفْوِ، وَيَكُونُ أَخْذُ الْيَدِ دَلَالَةً عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ تَرْكَهُ مُشْعِرٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَافَحَةَ سُنَّةٌ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ كُلِّ لِقَاءٍ، وَمَا اعْتَادَهُ النَّاسُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمُصَافَحَةِ سُنَّةٌ وَكَوْنَهُمْ مُحَافِظِينَ عَلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمُفَرِّطِينَ فِيهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ الْبَعْضَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الْمُصَافَحَةِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَصْلِهَا، وَهِيَ مِنَ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ، وَقَدْ شَرَحْنَا أَنْوَاعَ الْبِدَعِ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الِاعْتِصَامِ مُسْتَوْفًى اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ ; لِأَنَّ إِتْيَانَ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لَا يُسَمَّى بِدَعَةً مَعَ أَنَّ عَمَلَ النَّاسِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ الْمَشْرُوعِ، فَإِنَّ مَحَلَّ الْمُصَافَحَةِ الْمَشْرُوعَةِ أَوَّلُ الْمُلَاقَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ جَمَاعَةٌ يَتَلَاقَوْنَ مِنْ غَيْرِ مُصَافِحَةٍ وَيَتَصَاحَبُونَ بِالْكَلَامِ وَمُذَاكِرَةِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، ثُمَّ إِذَا صَلَّوْا يَتَصَافَحُونَ، فَأَيْنَ هَذَا مِنَ السُّنَّةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِأَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ حِينَئِذٍ، وَأَنَّهَا مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ، نَعَمْ لَوْ دَخَلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى إِرَادَةِ الشُّرُوعِ فِيهَا، فَبَعْدَ الْفَرَاغِ لَوْ صَافَحَهُمْ، لَكِنْ بِشَرْطِ سَبْقِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَافَحَةِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُصَافَحَةِ الْمَسْنُونَةِ بِلَا شُبْهَةٍ، وَمَعَ هَذَا إِذَا مَدَّ مُسْلِمٌ يَدَهُ لِلْمُصَافَحَةِ، فَلَا يَنْبَغِي الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِجَذْبِ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَذًى يَزِيدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْمُصَافَحَةِ حِينَئِذٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مَكْرُوهٌ لَا الْمُجَابَرِةَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ فِيهِ نَوْعُ مُعَاوَنَةٍ عَلَى الْبِدْعَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْ مُصَافَحَةِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ الْوَجْهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ حَرَامٌ كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مِنْ حَرُمَ النَّظَرُ إِلَيْهِ حَرُمَ مَسُّهُ، بَلْ مَسُّهُ أَشَدُّ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَفِي حَالِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ مَسُّهَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اهـ. ثُمَّ الْمُعَانَقَةُ وَالتَّعَانُقُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالِاعْتِنَاقُ فِي الْحَرْبِ وَنَحْوِهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، لَكِنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْحَسَنَ جَاءَهُ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ التَّقْبِيلَ أَيْضًا فِي عُنْوَانِ الْبَابِ لِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ أَحَادِيثِهِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

4677 -

(عَنْ قَتَادَةَ) : رضي الله عنه مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَكَانَتِ الْمُصَافَحَةُ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟)، أَيْ: ثَابِتَةً وَمَوْجُودَةً فِيهِمْ حَالَ مُلَاقَاتِهِمْ بَعْدَ السَّلَامِ زِيَادَةً لِلْمَوَدَّةِ وَالْإِكْرَامِ (قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 2963

4678 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَثَمَّ لُكَعُ " فِي " بَابِ مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ " إِنْ شَاءَ تَعَالَى.

وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ فِي " بَابِ الْإِيمَانِ ".

ــ

4678 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَبَّلَ) : بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ) . قَالَ الْمُؤَلِّفُ: تَمِيمِيٌّ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَكَانَ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَكَانَ شَرِيفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، اسْتَعْمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى جَيْشِ الْعُدَّةِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَأُصِيبَ هُوَ وَالْحَسَنُ الْجَوْزَجَانِيُّ، رَوَى عَنْهُ جَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ. (فَقَالَ الْأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ) : بِفَتْحَتَيْنِ

ص: 2963

وَيَجُوزُ ضَمُّ أَوَّلِهِ وَسُكُونُ ثَانِيهِ بِمَعْنَى الْأَوْلَادِ (مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا)، أَيْ: فِي مُدَّةِ عُمْرِي أَبَدًا (فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أَيْ: نَظَرَ تَعَجُّبٍ أَوْ نَظَرَ غَضَبٍ (ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» ) . بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا فِيهِمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: يَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ وَالرَّفْعُ عَلَى أَنَّ مَنْ مَوْصُولَةٌ أَوْ شَرْطِيَّةٌ، وَلَعَلَّ وَضْعَ الرَّحْمَةِ فِي الْأَوَّلِ لِلْمُشَاكَلَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: مَنْ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الْأَوْلَادِ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ أَتَى بِالْعَامِّ لِتَدْخُلَ الشَّفَقَةُ أَوَّلِيًّا اهـ. وَالثَّانِي أَتَمُّ وَفَائِدَتُهُ أَعَمُّ وَلِهَذَا حَذَفَ الْمَفْعُولَ لِيَذْهَبَ الْفَهْمُ كُلَّ الْمَذْهَبِ، فَهُوَ بِالِاعْتِبَارِ أَقْرَبُ وَأَنْسَبُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: تَقْبِيلُ الرَّجُلِ خَدَّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَاجِبٌ، وَكَذَا غَيْرُ خَدِّهِ مِنْ أَطْرَافِهِ وَنَحْوِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَاللُّطْفِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرَابَةِ سُنَّةٌ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَكَذَا قُبْلَةُ وَلَدِ صَدِيقِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ صِغَارِ الْأَطْفَالِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَأَمَّا التَّقْبِيلُ بِالشَّهْوَةِ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَالِدُ وَغَيْرُهُ اهـ. وَكَوْنُ تَقْبِيلِ الرَّجُلِ خَدَّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَاجِبًا يَحْتَاجُ إِلَى حَدِيثٍ صَرِيحٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَدِيثُ: " «مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ» " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَرِيرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ جَرِيرٍ، وَلِأَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِلَفْظِ:" «مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللَّهُ» ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ عَنْ جَرِيرٍ: " «مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ، وَمَنْ لَا يَغْفِرْ لَا يُغْفَرْ لَهُ» ". وَزَادَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ جَرِيرٍ، " «وَمَنْ لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ» " اهـ.

فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ فِي الْحَدِيثِ شَرْطِيَّةٌ جَازِمَةٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَثَمَّ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَشَدِّ الْمِيمِ، أَيْ: أَهُنَاكَ (لُكَعُ) : بِضَمِّ لَامٍ وَفَتْحِ كَافٍ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَقَدْ يَنْصَرِفُ وَهُوَ الصَّبِيُّ، وَيَعْنِي بِهِ حَسَنًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. الْحَدِيثَ (فِي " مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: سَنَذْكُرُ. (وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمِّ هَانِئٍ فِي بَابِ الْإِيمَانِ) : وَفِي حَدِيثِهَا: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ " فَفِيهِ أَنَّ التَّرْحِيبَ سُنَّةٌ لِلْقَادِمِ وَغَيْرِهِ.

ص: 2964

الْفَصْلُ الثَّانِي

4679 -

عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ، إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ:" «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَاهُ، غُفِرَ لَهُمَا» ".

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

4679 -

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما) : صَحَابِيَّانِ جَلِيلَانِ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ) : مِنْ مَزِيدَةٌ لِمَزِيدِ الِاسْتِغْرَاقِ (يَلْتَقِيَانِ) أَيْ: يَتَلَاقَيَانِ (فَيَتَصَافَحَانِ) أَيْ: بَعْدَ سَلَامِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ (إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا) أَيْ: بِالْأَبْدَانِ وَبِالْفَرَاغِ مِنَ الْمُصَافَحَةِ، وَهُوَ أَظْهَرُ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ وَالضِّيَاءُ، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ:(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ)، مَعْنَاهُ: فِي رِوَايَةٍ لَهُ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا، وَحَمِدَا اللَّهَ) أَيْ: أَثْنَيَا عَلَيْهِ أَوْ شَكَرَاهُ عَلَى نَعْمَائِهِ (وَاسْتَغْفَرَاهُ) أَيْ: طَلَبَا مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ مِنْ مَوْلَاهُمَا (غُفِرَ لَهُمَا) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، فَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الزِّيَادَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَغْفِرَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْأَوَّلِ، أَوْ إِفَادَةً لِكَمَالِهَا بِأَنْ تَكُونَ مُسْتَوْعَبَةً لِجَمِيعِ ذُنُوبِهِمَا. وَرَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ أَحْسَنَهُمَا بُشْرًا بِصَاحِبِهِ، فَإِذَا تَصَافَحَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ لِلْبَادِئِ تِسْعُونَ وَلِلْمُصَافَحِ عَشَرَةٌ» ".

ص: 2964

4680 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ، أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: " نَعَمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4680 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ مِنَّا) أَيْ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ الْعَرَبِ (يَلْقَى أَخَاهُ) أَيِ: الْمُسْلِمَ أَوْ أَحَدًا مِنْ قَوْمِهِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ أَخُو الْعَرَبِ (أَوْ صَدِيقَهُ) أَيْ: حَبِيبَهُ وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ (أَيَنْحَنِي لَهُ؟) : مِنَ الِانْحِنَاءِ، وَهُوَ إِمَالَةُ الرَّأْسِ وَالظَّهْرِ تَوَاضُعًا وَخِدْمَةً (قَالَ: لَا) أَيْ: فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الرُّكُوعِ، وَهُوَ كَالسُّجُودِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ (قَالَ: أَفَيَلْتَزِمُهُ) أَيْ: يَعْتَنِقُهُ وَيُقَبِّلُهُ (قَالَ: لَا) : اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كَرِهَ الْمُعَانَقَةَ وَالتَّقْبِيلَ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ التَّقْبِيلِ لِزُهْدٍ، وَعِلْمٍ، وَكِبَرِ سِنٍّ، قَالَ النَّوَوِيُّ: تَقْبِيلُ يَدِ الْغَيْرِ إِنْ كَانَ لِعِلْمِهِ وَصِيَانَتِهِ وَزُهْدِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يُكْرَهْ، بَلْ يُسْتَحَبَّ، وَإِنْ كَانَ لِغِنَاهُ أَوْ جَاهِهِ فِي دُنْيَاهُ كُرِهَ وَقِيلَ حَرَامٌ. اهـ.

وَقِيلَ: الْحَرَامُ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّقِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَمَّا الْمَأْذُونُ فِيهِ فَعِنْدَ التَّوْدِيعِ وَالْقُدُومِ مِنَ السَّفَرِ وَطُولِ الْعَهْدِ بِالصَّاحِبِ، وَشِدَّةِ الْحُبِّ فِي اللَّهِ مَعَ أَمْنِ النَّفْسِ، وَقِيلَ: لَا يُقَبِّلِ الْفَمَ، بَلِ الْيَدَ وَالْجَبْهَةَ. وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ: حَتَّى الظَّهْرُ مَكْرُوهٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْهُ، وَلَا تُعْتَبَرُ كَثْرَةُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى عِلْمٍ وَصَلَاحٍ. الْمُعَانَقَةُ وَتَقْبِيلُ الْوَجْهِ لِغَيْرِ الْقَادِمِ مِنْ سَفَرٍ وَنَحْوِهِ مَكْرُوهَانِ. صَرَّحَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. (قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟) : عَطْفُ تَفْسِيرٍ أَوِ الثَّانِي أَخَصُّ وَأَتَمُّ (قَالَ: نَعَمْ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2965

4681 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «تَمَامُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، أَوْ عَلَى يَدِهِ، فَيَسْأَلَهُ: كَيْفَ هُوَ؟ وَتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمْ بَيْنَكُمُ الْمُصَافَحَةُ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ.

ــ

4681 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه) أَيِ: الْبَاهِلِيِّ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تَمَامُ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ) أَيْ: كَمَالُهَا ( «أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، أَوْ عَلَى يَدِهِ» ) أَيْ: يَفْعَلُ أَحَدَهُمَا، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلشَّكِّ (فَيَسْأَلَهُ) : بِالنَّصْبِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ فَيَسْأَلَهُ نَفْسَهُ، أَوْ يَسْأَلَ عَنْهُ أَهْلَهُ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ:(كَيْفَ هُوَ؟) أَيْ: كَيْفَ حَالُهُ أَوْ مَرَضُهُ (وَتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمْ) جَمْعُ التَّحِيَّةِ وَجَمَعَ إِشْعَارًا بِأَنْوَاعِهَا فِي الْهَنَاءِ وَالْعَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا (بَيْنَكُمْ)، أَيِ: الْوَاقِعَةُ فِيمَا بَيْنَكُمْ (الْمُصَافَحَةُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: يَعْنِي لَا مَزِيدَ عَلَى هَذَيْنِ، فَلَوْ زِدْتُمْ عَلَى هَذَا دَخَلَ فِي التَّكَلُّفِ وَهُوَ بَيَانٌ لِقَصْدِ الْأُمُورِ ; لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَمَالَ الْأَمْرَيْنِ يَحْصُلُ بِهَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ الزَّائِدَ يُعَدُّ مِنَ التَّكَلُّفِ فِيهِمَا، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا أَدْنَى الْكَمَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَضَعَّفَهُ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: مِنْ تَمَامِ إِلَخْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ الْأَخْذُ بِالْيَدِ.

ص: 2965

4682 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي، فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4682 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ) أَيْ: مِنْ غَزْوَةٍ أَوْ سَفَرٍ (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي) : الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ حَالِيَّةٌ (فَأَتَاهُ) أَيْ: فَجَاءَ زَيْدٌ فَقَرَعَ الْبَابَ أَيْ: قَرْعًا مُتَعَارَفًا لَهُ أَوْ مَقْرُونًا بِالسَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ (فَقَامَ إِلَيْهِ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا إِلَيْهِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ) أَيْ: رِدَاءَهُ مِنْ كَمَالِ فَرَحِهِ بِقُدُومِهِ وَمَأْتَاهُ. قَالَ شَارِحٌ: أَيْ كَانَ سَاتِرًا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَلَكِنْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ عَاتِقِهِ فَكَانَ مَا

ص: 2965

فَوْقَ سُرَّتِهِ عُرْيَانًا. (وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا) أَيْ: يَسْتَقْبِلُ أَحَدًا (قَبْلَهُ) أَيْ: قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي نُسْخَةٍ لَا قَبْلَهُ (وَلَا بَعْدَهُ) أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ) : قَالَ شَارِحٌ، إِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَحْلِفُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ، وَكَثْرَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، قِيلَ: لَعَلَّهَا أَرَادَتْ عُرْيَانًا اسْتَقْبَلَ رَجُلًا وَاعْتَنَقَهُ، فَاخْتَصَرَتِ الْكَلَامَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ أَوْ عُرْيَانًا مِثْلَ ذَلِكَ الْعُرْيِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي الْأَوَّلَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا هُوَ الْوَجْهُ لِمَا يُشَمُّ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهَا رَائِحَةُ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِهِ وَتَعْجِيلِهِ لِلِقَائِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَمَامِ التَّرَدِّي بِالرِّدَاءِ حَتَّى جَرَّهُ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2966

4683 -

وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ بُشَيْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟ قَالَ: مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي، فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ، فَالْتَزَمَنِي، فَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4683 -

(وَعَنْ أَيُّوبَ بْنِ بُشَيْرٍ رضي الله عنه) : بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَرَاءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَنَزَةَ) : بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَنُونٍ فَزَايٍ مَفْتُوحَاتٍ، قَبِيلَةٌ شَهِيرَةٌ (أَنَّهُ) أَيِ: الرَّجُلُ (قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ؟» ) أَيْ: يَقْبَلُ مُصَافَحَتَكُمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ; لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُبَادِئًا لِلْمُصَافَحَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى بَابِ الْمُفَاعَلَةِ لَا غَالِبًا وَلَا دَائِمًا مُسْتَمِرًّا.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو ذَرٍّ (مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلَّا صَافَحَنِي، وَبَعَثَ إِلَيَّ) أَيْ: إِلَى طَلَبِي (ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي، فَلَمَّا جِئْتُ) أَيْ: رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي (أُخْبِرْتُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: قَدْ يُعَبَّرُ بِالسَّرِيرِ عَنِ الْمُلْكِ وَالنِّعْمَةِ، فَالسَّرِيرُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مُلْكَ النُّبُوَّةِ وَنِعْمَتَهَا، وَقِيلَ: هُوَ السَّرِيرُ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ يَتَّخِذُهُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مِصْرَ لِلنَّوْمِ فِيهِ وَتَوَقِّيًا مِنَ الْهَوَامِّ اهـ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا قِيلَ كَمَا لَا يَخْفَى. (فَالْتَزَمَنِي) أَيْ: فَعَانَقَنِي، وَلَمَّا كَانَ الِالْتِزَامُ بِمَعْنَى الْمُعَانَقَةِ قَالَ:(فَكَانَتْ تِلْكَ) : أَيِ: الْمُعَانَقَةُ، وَقِيلَ الِالْتِزَامُ ; لِأَنَّ الْمَصْدَرَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ (أَجْوَدَ) أَيْ: مِنَ الْمُصَافَحَةِ فِي إِفَاضَةِ الرُّوحِ وَالرَّاحَةِ، أَوْ أَحْسَنَ - مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَيَنْصُرُهُ عَدَمُ ذِكْرِ مُتَعَلِّقِ أَفْعَلَ لِيَعُمَّ، وَيُؤَيِّدُهُ تَأْكِيدُهُ مُكَرَّرًا بِقَوْلِهِ:(وَأَجْوَدَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: الْوَاوُ لِلتَّعَاقُبِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِمُ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْوَاوَ هُنَا عَاطِفَةٌ لِتَأْكِيدِ نِسْبَةِ الْإِسْنَادِ بِخِلَافِ الْفَاءِ فِي الْأَمْثَلِ، فَإِنَّهُ لِلتَّعْقِيبِ الرُّتَبِيِّ فِي الْأَمْرِ الْإِضَافِيِّ، ثُمَّ الْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ تِلْكَ أَجْوَدُ مِنَ الْمُصَافَحَةِ وَأَجْوَدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2966

4684 -

«وَعَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ جِئْتُهُ: " مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

4684 -

(وَعَنْ عِكْرِمَةَ) : رضي الله عنه صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ حَسُنَ إِسْلَامُهُ ; بِحَيْثُ كَانَ إِذَا فَتَحَ الْمُصْحَفَ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ رَبِّي وَيُغْشَى عَلَيْهِ (ابْنِ أَبِي جَهْلٍ) أَيْ: فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. كَانَ يُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ، فَكُنَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا جَهْلٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكُنْيَةُ، وَأَغْرَبَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي التَّابِعِينَ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى عِكْرِمَةَ يَقُولُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.

(قَالَ) أَيْ: عِكْرِمَةُ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ جِئْتُهُ) أَيْ: عَامَ الْفَتْحِ، وَزَادَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ:«فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحًا وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ» (مَرْحَبًا) : مَقُولُ الْقَوْلِ أَيْ: جِئْتَ مَرْحَبًا، أَيْ: مَوْضِعًا وَاسِعًا، وَالْأَظْهَرُ رَحَّبَ مَرْحَبًا (بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ) أَيْ: إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:" «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» " أَيْ: مِنْ مَكَّةَ ; لِأَنَّهَا صَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ وَاجِبَةً، بَلْ شَرْطًا، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَوُجُوبُهَا بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

ص: 2966

قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَاسْمُ أَبِي جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ الْقُرَشِيُّ، كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَبُوهُ، وَكَانَ فَارِسًا مَشْهُورًا، وَهَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِالْيَمَنِ، فَلَحِقَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ فَأَتَتْ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، فَأَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: رَأَيْتُ لَأَبِي جَهْلٍ عَذْقًا فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ! هَذَا هُوَ. قَالَتْ: «وَشَكَا عِكْرِمَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ قَالُوا: هَذَا ابْنُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: النَّاسُ مَعَادِنُ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 2967

4685 -

«وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنه رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ - وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ - بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي خَاصِرَتِهِ بِعُودٍ، فَقَالَ: أَصْبِرْنِي. قَالَ: " أَصْطَبِرُ " قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَمِيصِهِ، فَاحْتَضَنَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ، قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4685 -

(وَعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي الله عنه) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا أَنْصَارِيٌّ أَوْسِيٌّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ (رَجُلٌ) : بِالرَّفْعِ. وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ. قَالَ الْأَشْرَفُ: فِي لَفْظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَصَابِيحِ اضْطِرَابٌ، وَجَامِعُ الْأُصُولِ يُنْبِئُ عَنْهُ وَهُوَ فِيهِ، هَكَذَا عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قَالَ:«أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ فِيهِ مُزَاحٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ يُضْحِكُهُمْ، إِذْ طَعَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعُودٍ كَانَ فِي يَدِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصْبِرْنِي. قَالَ: اصْطَبِرْ» إِلَخْ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَلَا يَجُوزُ جَرُّ رَجُلٍ، بَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمُخَصِّصِهُ قَوْلُهُ:(مِنَ الْأَنْصَارِ) : وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: (قَالَ) : مَعَ فَاعِلِهِ الْمُسْتَكِنِّ فِيهِ (بَيْنَمَا) : ظَرْفٌ لِقَالَ، قُلْتُ: وَضَمِيرُ (هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ) : لِلرَّجُلِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الضَّمَائِرِ مِنْ قَوْلِهِ:(وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ) : إِلَخْ. وَالْمُزَاحُ بِالضَّمِّ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْكَسْرِ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ اسْمُ الْمِزَاحِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُزَاحُ بِالضَّمِّ الِاسْمُ، وَأَمَّا الْمِزَاحُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ مَصْدَرُ مَازَحَهُ، وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ أَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ إِلَّا أَنَّ الضَّمَّ مَصْدَرٌ لِمُجَرَّدٍ، وَالْكَسْرَ مَصْدَرٌ لِمَزِيدِ، هَذَا وَقَالَ الْأَشْرَفُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ لِلرَّجُلِ، وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ يُحَدِّثُ وَقَعَتْ بَيْنَ قَوْلِهِ: يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: يُضْحِكُهُمْ. قُلْتُ: وَفِي الْمَتْنِ (بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ) : قَالَ وَقَوْلُهُ: بَيْنَا مَعَ مَا بَعْدَهُ مَقُولٌ لِقَالَ وَبَيْنَا ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ: طَعَنَهُ أَوْ لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ، وَالتَّقْدِيرُ بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ فَأَضْحَكَهُمْ (فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) : عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يُضْحِكُهُمْ. اهـ كَلَامُ الْأَشْرَفِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَدِيثُ عَلَى مَا هُوَ فِي الْمَتْنِ وَالْمَصَابِيحِ مُثْبَتٌ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَفِي نُسْخَةٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، فَبَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي طَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَاصِرَتِهِ، هَلْ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَعَلَى مَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ هُوَ غَيْرُهُ، وَعَلَى مَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّهُ هُوَ وَلَفْظُهُ هَكَذَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ يُضْحِكُهُمْ، وَكَانَ فِيهِ مُزَاحٌ فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ مِنْ نُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ، وَتَنْزِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَسْهَلُ وَأَبْعَدُ مِنَ التَّكَلُّفِ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَةِ، وَمَا قِيلَ أَنَّ قَالَ خَبَرٌ، وَبَيْنَمَا ظَرْفٌ لَهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُرَادِ، فَقَوْلُهُ رَجُلٌ مَجْرُورٌ بَدَلًا مِنْ أُسَيْدٍ، وَقَالَ قَوْلَ الرَّاوِي أَيْ: قَالَ الرَّاوِي، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، بَيْنَمَا أُسَيْدٌ يُحَدِّثُ إِلَخْ. وَلَوْ كَانَ الْقَائِلُ أُسَيْدًا لَقَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا، وَبَيْنَا الثَّانِيَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ فَطَعَنَهُ هُوَ الْجَوَابُ اهـ كَلَامُهُ.

وَالْمَعْنَى: فَضَرَبَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الْمِزَاحِ (فِي خَاصِرَتِهِ) أَيْ: شَاكِلَتِهِ (بِعُودٍ) أَيْ: بِخَشَبٍ مِنْ عَصَا أَوْ غَيْرِهَا (فَقَالَ: أَصْبِرْنِي) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَقْدِرْنِي وَمَكِّنِّي مِنِ اسْتِيفَاءِ الْقَصَاصِ حَتَّى أَطْعَنَ فِي خَاصِرَتِكَ، كَمَا طَعَنْتَ فِي خَاصِرَتِي (قَالَ: أَصْطَبِرُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَيْ: أُمَكِّنُكَ مِنَ الْقِصَاصِ وَاقْتَصَّ مِنْ نَفْسِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ؛ بَلْ قِيلَ هِيَ الْأَصَحُّ اصْطَبِرْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيِ: اسْتَوْفِ الْقِصَاصَ، وَالِاصْطِبَارُ الِاقْتِصَاصُ ذَكَرَهُ شَارِحٌ. وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: أَصْبِرْنِي أَيْ: أَقْدِرْنِي مِنْ نَفْسِكَ. قَالَ: اسْتَقِدْ، يُقَالُ: أَصْبَرَ فُلَانٌ مَنْ خَصْمِهِ وَاصْطَبَرَ أَيِ:

ص: 2967

اقْتَصَّ مِنْهُ، وَأَصْبَرَهُ الْحَاكِمُ أَيْ: أَقَصَّهُ مِنْ خَصْمِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: وَأَصْلُهُ الْحَبْسُ حَتَّى يُقْتَلَ، وَأَصْبَرَهُ الْقَاضِي صَبَارًا أَقَصَّهُ أَوِ اصْطَبَرَ، أَيِ: اقْتَصَّ. (قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ) : حِكَايَةُ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ (فَرَفَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَمِيصِهِ) : عَدَّاهُ بِعَنْ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى كَشَفَ، أَيْ: كَشَفَ عَمَّا سَتَرَهُ قَمِيصُهُ فَرَفَعَهُ عَنْهُ. ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا} [النمل: 44](فَاحْتَضَنَهُ) أَيِ: اعْتَنَقَهُ وَأَخَذَهُ فِي حِضْنِهِ، وَهُوَ مَا دُونُ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ (وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ) أَيْ: جَنْبَهُ، قَالَ الشَّارِحُ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْمَلَكِ: هُوَ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إِلَى الضِّلْعِ الْأَقْصَرِ مِنْ أَضْلَاعِ الْجَنْبِ. (قَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: مَا أَرَدْتُ بِقَوْلِي أَصْبِرْنِي إِلَّا هَذَا التَّقْبِيلَ، وَمَا قَصَدْتُ حَقِيقَةَ الْقَصَاصِ، أَقُولُ: وَهَذَا لَا مُمَاثَلَةَ، فَإِنَّ هَذَا أَعْلَى وَأَغْلَى مَعَ أَنَّ لَهُ بِطَعْنِهِ أَيْضًا مِنَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مَا يَنْسَى فِي جَنْبِهِ جَمِيعَ نَعِيمِ الدُّنْيَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِإِبَاحَةِ الْمِزَاحِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَحْذُورٌ شَرْعًا، وَبِاسْتِمَاعِهِ أَيْضًا. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمِزَاحَ بِشَرْطِهِ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ فِي شَمَائِلِهِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ لِهَذَا الْبَابِ، قَالَ: وَبِأَنَّ الِانْبِسَاطَ مَعَ الْوَضِيعِ مِنْ شِيَمِ الشَّرِيفِ. قُلْتُ: هَذَا غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّ الْمَازِحَ هُوَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَإِنَّهُ مِنْ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ وَنُقَبَاءِ الْأَنْصَارِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2968

4686 -

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " مُرْسَلًا.

وَفِي بَعْضِ نُسَخِ " الْمَصَابِيحِ ": وَفِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " عَنِ الْبَيَاضِيِّ مُتَّصِلًا.

ــ

4686 -

(وَعَنِ الشَّعْبِيِّ) : بِفَتْحِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَمُوَحَّدَةٍ فَيَاءٍ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةٍ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَفِي الْقَامُوسِ: الشَّعْبُ كَالْمَنْعِ: الْقَبِيلَةُ الْعَظِيمَةُ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ عَامِرُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْكُوفِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ، وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَوَى عَنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى عَنْهُ أُمَمٌ. قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: مَا كَتَبْتُ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ قَطُّ، وَلَا حَدَّثْتُ بِحَدِيثٍ إِلَّا حَفِظْتُهُ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ قِي زَمَانِهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ، مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ وَلَهُ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً. (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَلَقَّى جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) أَيِ: اسْتَقْبَلَهُ حِينَ قَدِمَ مِنَ السَّفَرِ (فَالْتَزَمَهُ) أَيِ: اعْتَنَقَهُ (وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مُرْسَلًا. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: أَيْضًا (عَنِ الْبَيَاضِيِّ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَتَخْفِيفِ تَحْتِيَّةٍ وَإِعْجَامِ ضَادٍ (مُتَّصِلًا) : قِيلَ الْبَيَاضِيُّ: مَنْسُوبٌ إِلَى بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ، وَالْبَيَاضِيُّ بِلَا تَسْمِيَةٍ مُطْلَقًا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ: الْبَيَاضِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى بَيَاضَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْصَارِيُّ صَحَابِيٌّ.

ص: 2968

4687 -

«وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فِي قِصَّةِ رُجُوعِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَنَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: " مَا أَدْرِي: أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ؟ " وَوَافَقَ ذَلِكَ فَتْحَ خَيْبَرَ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".

ــ

4687 -

(وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فِي قِصَّةِ رُجُوعِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ قَالَ) أَيْ: جَعْفَرٌ (فَخَرَجْنَا) أَيْ: مِنَ الْحَبَشَةِ ( «حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاعْتَنَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: مَا أَدْرِي: أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ؟» ) : الظَّاهِرُ أَنَّ أَفْرَحُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ خَبَرُ أَنَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَا تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ أَدْرِي

ص: 2968

وَأَفْرَحُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُتَكَلِّمٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَدَّدَ سَبَبُ فَرَحِي فَمَا أَدْرِي أُلَاحِظُ هَذَا أَوْ ذَاكَ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لِاسْتِقْلَالِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفَرَحِ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَرَحِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ بَابِ الذَّهَابِ إِلَى التَّشَابُهِ مِنَ التَّشْبِيهِ مُبَالَغَةً فِي إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ اهـ. فَجَعَلَ قُدُومَ جَعْفَرٍ نَاقِصًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَتْحِ خَيْبَرَ، فَفِيهِ نَظَرٌ لِإِمْكَانِ التَّسَاوِي فَتَدَبَّرْ (وَوَافَقَ ذَلِكَ) أَيْ: قُدُومُ جَعْفَرٍ (فَتْحَ خَيْبَرَ. رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

ص: 2969

4688 -

«وَعَنْ زَارِعٍ رضي الله عنه وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رَوَاحِلِنَا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَهُ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4688 -

(وَعَنْ زَارِعٍ رضي الله عنه : بِزَايٍ، ثُمَّ رَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ وَقَالَ: هُوَ اسْمُ رَجُلٍ، وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ زَارِعُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، عِدَادُهُ فِي الْبَصْرِيِّينَ، وَحَدِيثُهُ فِيهِمْ. (وَكَانَ) أَيْ: زَارِعٌ (فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ) أَيْ: فِيمَا بَيْنَهُمْ وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ (قَالَ) أَيْ: زَارِعٌ (لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ) أَيْ: فِي النُّزُولِ مِنْ رَوَاحِلِنَا (فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2969

4689 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا. وَفِي رِوَايَةٍ: حَدِيثًا وَكَلَامًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، قَامَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4689 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا) أَيْ: هَيْئَةً وَطَرِيقَةً كَانَتْ عَلَيْهَا مِنَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ. قَالَ شَارِحٌ: السَّمْتُ فِي الْأَصْلِ الْقَصْدُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَيْئَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالتَّزَيِّي بِزِيِّ الصَّالِحِينَ (وَهَدْيًا) أَيْ: سِيرَةً وَطَرِيقَةً. يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الْهَدْيِ أَيْ: حَسَنُ الْمَذْهَبِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا. (وَدَلًّا) : بِفَتْحِ دَالٍ وَتَشْدِيدِ لَامٍ، فَسَّرَهُ الرَّاغِبُ بِحُسْنِ الشَّمَائِلِ، وَأَصْلُهُ مِنْ دَلِّ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ شَكْلُهَا وَمَا يُسْتَحْسَنُ مِنْهَا، وَالْكُلُّ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: كَأَنَّهَا أَشَارَتْ بِالسَّمْتِ إِلَى مَا يُرَى عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَبِالْهَدْيِ مَا يَتَحَلَّى بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، إِلَى مَا يَسْلُكُهُ مِنَ الْمَنْهَجِ الْمُرْضِيِّ، وَبِالدَّلِّ حُسْنَ الْخُلُقِ وَلُطْفَ الْحَدِيثِ.

(وَفِي رِوَايَةٍ: حَدِيثًا وَكَلَامًا) أَيْ: أَشْبَهَ تَحَدُّثًا وَمَنْطِقًا (بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ كَانَتْ) أَيْ: فَاطِمَةُ (إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، قَامَ إِلَيْهَا) أَيْ: مُسْتَقْبِلًا وَمُتَوَجِّهًا (فَأَخَذَ بِيَدِهَا فَقَبَّلَهَا) أَيْ: بَيْنَ عَيْنَيْهَا أَوْ رَأْسِهَا، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " «مَنْ قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْ أُمِّهِ كَانَ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ» " فَكَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ أُمِّهِ تَعْظِيمًا لَهَا. (وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ) أَيْ: تَكْرِيمًا لِمَأْتَاهَا (وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، قَامَتْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ) أَيْ: عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْيَدُ الْمُنِيفَةُ (وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا) أَيْ: مَوْضِعِهَا الْمُهَيَّأِ لِلْكَرَامَةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2969

4690 -

وَعَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ، قَدْ أَصَابَهَا حُمَّى، فَأَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ؟ وَقَبَّلَ خَدَّهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

4690 -

(وَعَنِ الْبَرَاءِ) أَيِ: ابْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما (قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ) أَيْ: مِنْ غَزْوَةٍ (فَإِذَا عَائِشَةُ ابْنَتُهُ مُضْطَجِعَةٌ، قَدْ أَصَابَهَا حُمَّى) : بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَقْصُورًا (فَأَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا بُنَيَّةُ؟) : تَصْغِيرُ بِنْتٍ لِلشَّفَقَةِ (وَقَبَّلَ خَدَّهَا) أَيْ: لِلْمَرْحَمَةِ وَالْمَوَدَّةِ، أَوْ مُرَاعَاةً لِلسُّنَّةِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 2969

4691 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِصَبِيٍّ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُمْ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ، وَإِنَّهُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ "

ــ

4691 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِصَبِيٍّ) أَيْ: جِيءَ إِلَيْهِ (فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ: أَمَا) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّهُمْ) أَيِ: الْأَوْلَادُ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الصَّبِيِّ (مَبْخَلَةٌ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مُسَبِّبٌ وَمُحَصِّلٌ لِلْبُخْلِ، فَفِي النِّهَايَةِ: الْمَبْخَلَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْبُخْلِ وَمَظِنَّةٌ لَهُ أَيْ: يَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَلَى الْبُخْلِ، وَيَدْعُوهُمَا إِلَيْهِ فَيَبْخَلَانِ بِالْمَالِ لِأَجْلِهِ (مَجْبَنَةٌ) : بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ جِيمٍ وَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: بَاعِثٌ عَلَى الْجُبْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَغَايَةِ مَوَدَّتِهِمْ حَتَّى يَخْتَارَ أَكْثَرُ النَّاسِ حُبَّهُمْ عَلَى مَحَامِدِ الْمَحَاسِنِ الرَّضِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيَّةِ النَّافِعَةِ لَهُمْ فِي الْقَضَايَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. وَفِي الْفَائِقِ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَلَدَ مُوقِعٌ أَبَاهُ فِي الْجُبْنِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُقْتَلَ فِي الْحَرْبِ، فَيَضِيعَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ، وَفِي الْبُخْلِ إِبْقَاءً عَلَى مَالِهِ لَهُ. وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ (وَإِنَّهُمْ) : لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ مَعَ أَنَّهُمْ (لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ رِزْقِ اللَّهِ يُقَالُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَرَيْحَانَهُ أَيْ: أُسَبِّحُ لَهُ وَأَسْتَرْزِقُهُ، وَهُوَ مُخَفَّفٌ عَنْ رَيْحَانٍ فَيْعَلَانٍ مِنَ الرُّوحِ ; لِأَنَّ انْتِعَاشَهُ بِالرِّزْقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّيْحَانِ الْمَشْمُومِ ; لِأَنَّ الشَّمَّامَاتِ تُسَمَّى رَيْحَانًا، وَيُقَالُ حَبَاهُ بِطَاقَةَ نَرْجِسٍ وَبِطَاقَةَ رَيْحَانٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَنَّهُمْ مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ الْأَنَاسِيَّ، وَحَبَاهُمْ بِهِ ; أَوْ لِأَنَّهُمْ يَشُمُّونَ وَيُقَبِّلُونَ، فَكَأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الرَّيَاحِينِ الَّتِي أَنْبَتَهَا اللَّهُ. وَقَالَ شَارِحٌ أَيْ: مِنْ رِزْقِ اللَّهِ أَوْ مِنَ الطِّبِّ الَّذِي طَيَّبَ اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ الْآبَاءِ. وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، وَأَيْضًا نَبْتٌ طَيِّبُ الرِّيحِ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: أَمَا إِنَّهُمْ إِلَخْ تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الصَّبِيِّ لِيُعَقِّبَ الْحُكْمَ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ وَيُؤَكِّدَهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَقَوْلُهُ: وَإِنَّهُمْ لَمِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ؛ ذَمَّهُمْ أَوَّلًا ثُمَّ رَجَعَ مِنْهُ إِلَى الْمَدْحِ، قُلْتُ: بَلْ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى مَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِمْ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ احْتِرَاسًا عَنْهَا، ثُمَّ مَدَحَهُمْ بِأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ رَاحَةٌ لِلرُّوحِ، وَبَيَانٌ لِلرِّزْقِ وَالْفُتُوحِ، وَبَقَاءٌ مَعْنَوِيٌّ وَنِظَامٌ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ، وَلِذَا قِيلَ: الْوَلَدُ إِنْ عَاشَ نَفَعَ، وَإِنْ مَاتَ شَفَعَ. وَقَدْ رَوَى الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ مَرْفُوعًا " «الْوَلَدُ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ» ". وَرَوَى أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا ( «الْوَلَدُ ثَمَرُ الْقَلْبِ وَأَنَّهُ مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ مَحْزَنَةٌ» . رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ.

ص: 2970

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4692 -

عَنْ يَعْلَى رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا رضي الله عنهما اسْتَبَقَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: " إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

4692 -

(عَنْ يَعْلَى - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) : مُضَارِعُ عَلَى، قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ وَتَبُوكَ. رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ صَفْوَانُ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ، قُتِلَ بِصِفِّينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (قَالَ: إِنَّ حَسَنًا وَحُسَيْنًا اسْتَبَقَا) أَيْ: تَبَادَرَا وَتَسَابَقَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: هُمَا هُنَا كِنَايَتَانِ عَنِ الْمَحَبَّةِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ فَيَكُونُ مَدْحًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ كِنَايَةً عَنِ الذَّمِّ اهـ. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا هُنَا ; لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ الْمَحَبَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَالْمَوَدَّةِ الْعَادِيَّةِ الْمُوَرِّثَةِ لِلْبُخْلِ وَالْجُبْنِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فِي الْمَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَا يَقْتَضِيهَا مَنْ تَقَدُّمِ مَحَبَّةِ مَرْضَاةِ الرَّبِّ عَلَى مَا سِوَاهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمَحْبُوبُ الْحَقِيقِيُّ وَمَا سِوَاهُ مَطْلُوبٌ إِضَافِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ

ص: 2970