المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد تمهيد بين يدي غزوة حنين وفي هذا التمهيد قضيتان: الأولى: التعريف بهوازن - مرويات غزوة حنين وحصار الطائف - جـ ١

[إبراهيم بن إبراهيم قريبي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌الباب الأول: في الحديث عن غزوة حنين

- ‌الفصل الأول: في مقدمات الغزوة

- ‌المبحث الأول: سبب الغزوة

- ‌المبحث الثاني: الاستعداد للمعركة

- ‌الفصل الثاني: في المسير إلى حنين

- ‌المبحث الأول: تاريخ الغزوة

- ‌المبحث الثاني: في تعيين الأمير على مكة:

- ‌المبحث الثالث: عدد الجيش الإسلامي في هذه الغزوة:

- ‌المبحث الرابع: استعداد هوازن العسكري:

- ‌المبحث الخامس: تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالنصر، وبيان فضل الحراسة في سبيل الله:

- ‌المبحث السادس: بقايا من رواسب الجاهلية:

- ‌المبحث السابع: بيان من قال في هذه الغزوة "لن نغلب اليوم من قلة

- ‌الفصل الثالث: في وصف المعركة

- ‌المبحث الأول: سبب هزيمة المسلمين في بداية المعركة

- ‌المبحث الثاني: مواقف مريبة إثر انكشاف المسلمين في بادئ الأمر:

- ‌المبحث الثالث: عدد الثابتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين:

- ‌المبحث الرابع: عوامل انتصار المسلمين في حنين:

- ‌الفصل الرابع: ما أسفرت عنه معركة حنين من ضحايا وغنائم

- ‌المبحث الأول: خسائر المشركين في هذه الغزوة

- ‌المبحث الثاني: إصابات المسلمين في هذه الغزوة

- ‌الباب الثاني: ملاحقة فلول المشركين والأحداث التاريخية التي أعقبت ذلك

- ‌الفصل الأول: تعقب الفارين نحو نخلة وأوطاس

- ‌المبحث الأول: التوجه نحو نخلة

- ‌المبحث الثاني: سرية أوطاس

- ‌المبحث الثالث: موقف الشيماء وبجاد

- ‌الفصل الثاني: في غزوة الطائف

- ‌المبحث الأول: حصار الطائف

- ‌المبحث الثاني: ما صدر من التعليمات العسكرية للمسلمين في حصار - الطائف

- ‌المبحث الثالث: عدد القتلى من الفريقين في غزوة الطائف

- ‌المبحث الرابع: فك الحصار عن الطائف والعودة إلى الجعرانة

- ‌الفصل الثالث: في تقسيم الغنائم

- ‌المبحث الأول: الفرق بين الغنيمة والفيئ والنفل

- ‌المبحث الثاني: جفاء الأعراب وغلظتهم

- ‌المبحث الثالث: اعتراض ذي الخويصرة التميمي على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسم الغنائم

- ‌المبحث الرابع: في بيان حكمة توزيع الغنائم على قوم دون آخرين

- ‌المبحث الخامس: موقف الأنصار من توزيع الغنائم وخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم

الفصل: ‌ ‌تمهيد تمهيد بين يدي غزوة حنين وفي هذا التمهيد قضيتان: الأولى: التعريف بهوازن

‌تمهيد

تمهيد بين يدي غزوة حنين

وفي هذا التمهيد قضيتان:

الأولى: التعريف بهوازن وثقيف، وفيه:

1) نسب هوازن وثقيف.

2) تحديد موقعهم وديارهم من الناحية الجغرافية.

3) صلتهم بقريش.

الصلة النسبية، المصاهرة، المصالح المشتركة.

4) موقفهم من ظهور الإسلام ودعوته.

5) موقفهم من الصراع بين المسلمين وقريش.

الثانية: تحركات المسلمين العسكرية قبل غزوة حنين، وفي هذه القضية:

1) هدم العزى.

2) هدم مناة.

3) سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة.

ص: 22

أوّلاً: التعريف بهوازن وثقيف

1 -

نسب هوازن وثقيف:

قبل الدخول في تفاصيل غزوة حنين وأحداثها، يحسن بنا إعطاء لمحة موجزة عن التعريف بهوازن وديارها التي كانت تقطنها فيها عند بزوغ فجر الإسلام، ومدى الصلة بينهم وبين قريش، وموقفهم من الدعوة الإسلامية قبل غزوة حنين، لنتبين مكانة هذه القبيلة وما كانت تتمتع به من قوة ومنعة.

وإذا أفردنا الحديث عن هوازن فتدخل فيها ثقيف؛ لأنها فرع منها. وهوازن قبيلة من أعظم القبائل العربية وأكثرها خطرا، وهي من حيث القوة والعدد تضاهي قبائل غطفان النجدية الشهيرة.

وهي قبيلة مضرية عدنانية يعود نسبها إلى قيس عيلان، وهي من أهمّ بطون قيس عيلان.

وهوازن جد بطون متفرقة، وهو: هوازن بن منصور بن عكرمة ابن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان1.

قال القلقشندي: "المشهور من قبائل العرب المستعربة الموجودين الآن خمس قبائل:

الأولى2: نزار3، وهم بنو نزار بن معد بن عدنان.

1 ابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص 264، 266، 269) . وابن خلدون: (تاريخ ابن خلدون 2/307) . وباشميل: (غزوة حنين ص 200) .

2 والقبيلة الثانية: ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان.

والثالثة: خندف - بمعجمة ودال مهملة مكسورتين بينهما نون ساكنة -: وهم بنو إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، عرفوا بالنسبة إلى أمهم خندف امرأة إلياس.

والرابعة: كنانة، وهم: بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

والخامسة: قريش، وهم، بنو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

3 نزار - بكسر نون وبزاي وراء -. (القلقشندي: قلائد الجمان ص 110، 129، 132، 134، 136)

ص: 23

والمشهور من الموجودين من عقب نزار بطنان:

البطن الأول1: مضر2، وهم بنو مضر بن نزار، ومنه تفرعت أكثر قبائل العدنانية.

والمشهور من الموجودين من عقب مضر بن نزار فخذان:

الفخذ الأول3: قيس بن عيلان4، وهو قيس بن عيلان بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان.

والمشهور من الموجودين من الآن من فصائل قيس عيلان هوازن، وهي محل بحثنا.

وهناك فصائل أخرى5.

وقد بين ابن خلدون بتفصيل - بطون – هوازن فقال:

1 والبطن الثاني: هو ربيعة بن نزار، فقد ذكر بن قتيبة أن مضر وربيعة إليهما ينسب ولد نزار وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام. (المعارف ص29) .

2 مضر - بمضمومة وفتح ضاد معجمة - (ابن طاهر الهندي: المغني ص72)

3 والفخذ الثاني: هو إلياس بن مضر؛ لأن ولد مضر هما عيلان وإلياس. (ابن كثير: البداية والنهاية 2/199) .

4 قيس عيلان: بإضافة قيس إلى عيلان، وقيس - بفتح قاف ومثناة تحتية ثم سين مهملة -، وعيلان - بفتح مهملة وسكون تحتية ولام ثم نون - وليس في العرب (عيلان) بعين مهملة غيره. واسمه الناس - بالنون -. (القلقشندي: قلائد الجمان ص110) . و (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص404) . وقال ابن حزم: وقال قوم: قيس بن عيلان، والصحيح: قيس عيلان (جمهرة أنساب العرب ص10) .

5 من هذه الفصائل: بنو غطفان بن معد بن قيس عيلان. وبنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان. وبنو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان. (القلقشندي: قلائد الجمان ص110، 112، 115، 123، 128) . وانظر: ابن قتيبة: (المعارف ص36، 41) . وخليفة بن خياط: (كتاب الطبقات ص4، 53، 55، 130) . وابن هشام: (السيرة النبوية 1/14) . وابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص271، 272، 273) . وابن الأثير: (اللباب 2/328، 3/123) . وابن كثير: (البداية والنهاية 2/220) . وابن خلدون: (تاريخ ابن خلدون 2/334) . وكحالة: (معجم قبائل العرب 3/1231) . وباشميل: (غزوة حنين ص41) .

ص: 24

وأما هوازن بن منصور1: ففيهم بطون كثيرة يجمعهم ثلاثة أصول كلهم لبكر بن هوازن وهم:

أ- بنو سعد بن بكر بن هوازن بن منصور.

ب- بنو معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور.

جـ- بنو منبه بن بكر بن هوازن بن منصور2.

أ- فأما بنو سعد بن بكر بن هوازن، فمنهم أظآر3 النبي صلى الله عليه وسلم.

ب- وأما بنو معاوية بن بكر بن هوازن، فمن ولده: صعصعة4 ابن معاوية، ونصر5 بن معاوية، وجشم6 بن معاوية، وعوف بن معاوية، وبنوه يسمون

1 ولمنصور من الولد غير هوازن: سليم بن منصور، ومازن بن منصور، وسلامان بن منصور.

فولد سليم بن منصور: بهثة، وولد بهثة معاوية وعوفا والحارث، وثعلبة، وامرأ القيس. ومن بني امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور: بنو عصية بن خفاف ابن امرئ القيس الذين قتلوا القراء يوم بئر معونة، ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص263، 481. والنويري: نهاية الأرب 2/333، 341) .

2 ابن خلدون: (تاريخ ابن خلدون 2/309) . وابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص264) . والنويري: (نهاية الأرب 2/334- 335) . وكحالة: (معجم قبائل العرب 3/1231. وباشميل: (غزوة حنين ص41، 200) .

3 أظآر: جمع ظئر، والظئر - بالكسر - العاطفة على ولد غيرها المرضعة له في الناس وغيرهم، ويقع على الذكر والأنثى. (ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 3/154. وابن منظور: لسان العرب 6/186. والفيروز آبادي: القاموس المحيط 2/80) . ومن بني سعد: حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه: عبد الله بن الحارث بن شجنة - بكسر فسكون - ابن جابر بن رزام - بكسر أوله - ابن ناصرة بن فصية بن نصر ابن سعد بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ابن نزار بن معد بن عدنان. أم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وزوجها والد رسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة - الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة

إلخ. (ابن هشام: السيرة 1/160- 161. وابن عبد البر: الاستيعاب 4/270 مع الإصابة. وابن الأثير: أسد الغابة 7/67. والنويري: نهاية الأرب 2/334- 335. وابن كثير: البداية والنهاية 2/273. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/319. وابن حجر: الإصابة 4/274) .

4 صعصعة - بصادين مهملتين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة ثم هاء. (القلقشندي: قلائد الجمان ص115) .

5 منهم مالك بن عوف النصري قائد المشركين في حنين.

6 منهم: دريد بن الصمة واسمه معاوية بن بكر بن علقمة بن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية.

ص: 25

الوقعة1، دخلوا في بني عمرو بن كلاب بن الحارث2.

أما صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن:

فمن ولده:

عامر3 بن صعصعة، وفيه البيت والعدد4.

ومرة5 بن صعصعة وهم بنو سلول.

فولد عامر بن صعصعة:

ربيعة، وفيه البيت والعدد.

هلالا6.

ونميرا.

وسواءة7

وولد ربيعة بن عامر بن صعصعة: كلابا، وكعبا8، وعامرا، وكليبا9.

1 الوقعة: محركة - بطر من بني سعد بن بكر (ابن منظور: لسان العرب 10/290. والفيروز آبادي: القاموس المحيط 3/96) .

2 ابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص269- 270، 271، 272، 482) . وابن الأثير: (اللباب في تهذيب الأنساب 1/280) . والنويري: (نهاية الأرب 2/335- 336. ومجلة العرب ص818) .

3 عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن قبيلة كبيرة، منها: لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعصة العامري الشاعر المشهور صاحب المعلقة. (ابن الأثير: اللباب 2/306، وأسد الغابة 4/514. وابن كثير: البداية والنهاية 2/220. وابن حجر: الإصابة 3/326) .

4 البيت المراد به: الشرف والسناء والرفعة، والعدد: المراد به: الكثرة. (جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 12) .

5 مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ويعرفون ببني سلول، نسبة إلى أمهم: سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاصط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ابن معد بن عدنان. (خليفة بن خياط: كتاب الطبقات ص55. وابن حزم جمهرة أنساب العرب ص271.وابن الأثير: اللباب 2/131؟، 219) .

6 هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ومنهم ميمونة أم المؤمنين ولبابة الصغرى أم الفضل وعبد الله ابني العباس، ولبابة الكبرى أم خالد بن الوليد، وهن: بنات الحارث بن حزم بن بجير بن هزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص274. وابن عبد البر: الاستيعاب 4/398، 401، 404 مع الإصابة. وابن الأثير: أسد الغابة 7/253- 254، 272. وابن حجر: الإصابة 4/398، 401) .

7 سواءة - بضم السين وتخفيف الواو- منهم: جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب ابن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة. (ابن الأثير: اللباب 2/152، وأسد الغابة 1/304) .

8 كعب وكلاب هم الذين تخلفوا عن غزوة حنين، وقال عنهم دريد بن الصمة:"غاب الحد والجد".

وحضر حنينا من أولاد عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة: عوف بن عامر وعمرو ابن عامر، الذين قال عنهم دريد:"ذانك الجذعان من عامر لاينفعان ولا يضران". (سيرة ابن هشام 2/438) .

(ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص280. والقلقشندي: قلائد الجمان ص116- 117. والنويري: نهاية الأرب 2/336 و338) .

ص: 26

- وأما منبه بن بكر بن هوازن:

فولده: ثقيف1 - واسمه - قسي بن منبه بن بكر بن هوازن2.

فولد ثقيف بن منبه: جشم وعوفا.

فولد جشم بن ثقيف: حطيطا.

فولد حطيط: مالكا3، وغاضرة.

وولد عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن: سعدا وغيرة4، ويعرفون بالأحلاف، وذلك أنهم تحالفوا على بني مالك، وصارت غاضرة مع الأحلاف.

فثقيف فرقتان:

بنو مالك بن حطيط بن جشم بن قسي - ثقيف - بن منبه بن بكر ابن هوازن.

1 ثقيف: بوزن أمير، وقسي بوزن غني. قال أبو عبيد:"سمي قسيا لأنه مر على أبي رغال وكان مصدقا - يعني جابيا للصدقات - فقلته، فقيل: "قسا قلبه، فسمي قسيا". (أنظر: ابن قتيبة: كتاب المعارف ص41. والزبيدي تاج العروس 10/294) .

(ابن هشام: سيرة ابن هشام 1/14،47. وخليفة بن خياط: كتاب الطبقات ص53، 130. وابن قتيبة: كتاب المعارف ص41. وابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص266، 468، 482. وابن الأثير: اللباب 1/240. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/309. والنويري: نهاية الإرب 2/334. والفيروزآبادي: القاموس المحيط 3/121. والزبيدي: تاج العروس 6/51. وابن السعد: الطبقات 4/284. وباشميل: غزوة حنين ص200) .

3 من بني مالك بن حطيط: عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي، كان صاحب لواء المشركين يوم حنين، وقتل يومئذ كافرا. (ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص266. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/309) .

4 غيرة: بكسر معجمة وفتح مثناة تحتية. (ابن طاهر الهندي: المغني ص59- 60) ومن بني غيرة: أبي بن شريق، ويعرف بالأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، يكنى أبا ثعلبة. كان حليفا لبني زهرة ومقدما فيهم، فلما خرجت قريش إلى بدر، أتاهم الخبر عن أبي سفيان بن حرب أنه قد نجا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت قريش على إتيان بدر، أشار الأخنس على بني زهرة بالرجوع إلى مكة، وقال لهم: قد نجى الله عيركم التي مع أبي سفيان، فلا حاجة لكم في غيرها، فعادوا، فلم يقتل منهم أحد في بدر، وحينئذ لقب بلأخنس. (ابن الأثير: أسد الغابة 1/60) .

ص: 27

وبنو عوف وهم من الأحلاف1.

هكذا ذكر علماء النسب وغيرهم أن ثقيفا فرع من هوازن القبيلة العدنانية الشهيرة.

وقد ذكر الفيروزآبادي، وتابعه الزبيدي شارح القاموس بأن ثقيفاً من ثمود واستندوا إلى ما ورد عند أبي داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى حنين مر بقبر فقال:"هذا قبر أبي رغال، وهو "أبو ثقيف وكان من ثمود" 2.

والحديث عند أبي داود في النسخ الموجودة، وليس فيه:"أبو ثقيف، وكان من ثمود".

وهذا نصّ الحديث عند أبي داود قال:

(ابن سعد الطبقات الكبرى 5/510- 511. وابن قتيبة: المعارف ص41. وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 2/309. وابن الأثير: أسد الغابة 1/168، 2/41. وأكرم ضياء العمري: في تعليقه على تاريخ خليفة بن الخياط ص97) .

ومن الأحلاف: عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد ابن ثقيف، لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل إلى المدينة منصرفه من حصار الطائف فأسلم وعاد إلى قومه داعيا فقتلوه. وفي قول آخر أنه قدم المدينة بعد حجة أبي بكر الصديق. انظر حديث رقم (214) .

ووهم ابن حزم فقال بأن الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه داعيا هو: معتب بن مالك جد عروة بن مسعود.

ومن الأحلاف أيضا: المغيرة بن شعبة، والحجاج بن يوسف الثقفي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي الذي زعم أن جبريل يأتيه بالوحي. وقد ورد في صحيح مسلم 4/1971 كتاب الفضائل باب ذكر كذاب ثقيف ومبيرها (أن أسماء بنت أبي بكر رضي اله عنها قالت:"أما أن رسول الله حدثنا" أن في ثقيف كذابا ومبيرا "فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه ".

قال النووي: "اتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد. وبالمبير: الحجاج بن يوسف". (شرح مسلم 5/608) . وانظر ابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص 267. وابن عبد البر: الاستيعاب 3/112. وابن الأثير: أسد الغابة 4/31-35، 5/247. وابن كثير: البداية والنهاية 8/289، 9/117. وابن حجر: الاصابة 2/277. وابن قتيبة: المعارف ص128، 173. وابن سعد: الطبقات الكبرى 5/503) .

2 أبو رغال: ككتاب: قال الجوهري والصنعاني: "كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى مكة، فمات في الطريق".

وقال ابن سيدة: "كان عبدا لشعيب عليه الصلاة والسلام، وكان عشارا جائرا، فقبره بين مكة والطائف يرجم إلى اليوم". ورد الفيروزآبادي والزبيدي هذين القولين.

وقال ابن منظور: "رأيت حاشية على هامش صحاح الجوهري ما صورته: أبو رغال اسمه زيد بن مخلف عبد كان لصالح النبي عليه السلام، بعثه مصدقا، وأنه أتى قوماً ليس لهم لبن إلا شاة واحدة، ولهم صبي قد ماتت أمه فهم يغذونه بلبن تلك الشاة، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا له: "دعها نحابي بها هذا الصبي فأبى"، فيقال أنه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: "بل قتله صاحب الشاة"، فلما فقده صالح عليه السلام قام في الموسم ينشد الناس فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكة والطائف يرجمه الناس. (ابن منظور: لسان العرب 13/310. والفيروزآبادي: القاموس المحيط 3/385- 386. والقسطلاني: المواهب اللدنية 1/166. والزبيدي: تاج العروس 7/348. والمباركفوري: تحفة الأحوذي 4/279. ومحمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود 8/346- 348) .

وقال ابن بلهيد: قبر أبي رغال قبل أن تصل إلى "الزيمة" ترى جبالا يقال لها "ردوم الزيمة" وهي التي تعرف في التاريخ بقبر أبي رغال، وأقرب ما يكون لتلك المواضع موضع يقال له "ردام"(صحيح الأخبار 2/144) .

قلت: "والزيمة" تقع في الطريق القديم بين مكة والطائف، قال ابن خميس: كان الطريق قبل بين "مكة" و"الطائف"، فإذا خرجت من مكة إلى الطائف تمر "بالشرائع"، فوادي "يدعان" -جدعان- فوادي "سبوحة" فقرية "الزيمة" فوادي "نخلة اليمانية"

إلخ". غير أن ابن خميس وحمد الجاسر يريان أن قبر أبي رغال في المغمس وهو في طريق غير طريق "الزيمة".

انظر: عبد الله بن محمد بن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص268، 391. وحمد الجاسر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص352-353.

ص: 28

1-

حدثنا يحيى1بن معين، أخبرنا وهب2 بن جرير، أخبرني أبي3 قال سمعت محمد4 بن إسحاق يحدث عن إسماعيل5 بن أمية، عن بجير6 بن أبي بجير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية

1 يحيى بن معين بن عون الغطفاني مولاهم، أبو زكريا البغدادي، ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل، من العاشرة (ت233) /ع (ابن حجر: التقريب 2/358، وتهذيب التهذيب 11/280-288) .

2 وهب بن جرير بن حازم بن زيد، أبو عبد الله الأزدي، البصري، ثقة من التاسعة (ت206)(المصدر السابق 2/338، 11/161) .

3 هو جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزدي، أبو النضر البصري، والد وهب، ثقة لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدث من حفظه، من السادسة (ت170) بعدما اختلط لكن لم يحدث في حال اختلاطه/ع (المصدر السابق 1/127، 2/69) .

4 محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطلبي المدني، نزيل العراق، إمام المغازي صدوق يدلس، ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخامسة (ت150) ويقال بعدها /خت م عم (المصدرالسابق 2/144 و9/38-46) .

5 إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي، ثقة ثبت، من الثالثة (ت144) وقيل قبلها /ع (المصدر السابق 1/67، 1/283) .

6 بجير بن أبي بجير - بجيمين مصغرا - حجازي، ويقال اسم أبيه سالم، مجهول من الثالثة /د (ابن حجر: التقريب 1/93) وفي تهذيب التهذيب (1/418)، قال:"بجير ابن أبي بجير حجازي، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، روى عنه إسماعيل ابن أمية. روى له أبو داود حديثا واحدا في قصة أبي رغال".

قال يحي بن معين: "لم أسمع أحدا يحدث عنه غير إسماعيل".

قال ابن حجر: قلت: وكذا قال النسائي.

وأما ابن المديني فقال: بجير بن سالم أبو عبيد روى عنه إسماعيل بن أمية وروح بن القاسم حديث أبي رغال، وهو من أهل الطائف مجهول لم يرو عنه غيرهما.

قال أبو داود: حديث روح بن القاسم عن إسماعيل بن أمية عن بجير، لا عن بجير مباشرة، فتبين أنه ليس له راو غير إسماعيل بن أمية.

وأما ابن أبي حاتم: فقد فرق بين بجير بن أبي بجير وبين بجير بن سالم فحكى عن أبيه أن بجير بن سالم يروي عنه يعلى بن عطاء، ولم يذكر لبجير بن أبي بجير راو غير إسماعيل.

ثم ختم ابن حجر ترجمته بقوله: وذكره ابن حبان في الثقات، وجهله ابن القطان. وقال الذهبي: بجير بن أبي بجير لم يعرفه ابن أبي حاتم بشيء، وقال ابن معين: لم أسمع أحدا حدث عنه غير إسماعيل بن أمية، وصدق في ذلك.

ثم قال: قلت: له حديث واحد انفرد ابن إسحاق به، ثم ساق حديث الباب من غير طريق أبي داود، وافق أبا داود في شيخه يحي بن معين، وقال: رواه أبو داود عن يحي بن معين فوافقناه بعلو.

وهكذا قال المزي. (انظر: البخاري: التاريخ الكبير 2/139. وابن أبي حاتم: الجرح والتعديل 2/425. والمزي: تهذيب الكمال1/19. والذهبي: ميزان الاعتدال 1/197) .

قلت: والذي يظهر لي أن بجير بن أبي بجير غير بجير بن سالم وذلك أن بجير بن سالم يروي عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وبجير بن أبي بجير يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص هذا الحديث الفرد وليس له غيره. وقد أورده المزي والذهبي في ترجمته.

وقال ابن حجر: روى له أبو داود هذا الحديث الواحد في قصة أبي رغال عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وفرق البخاري وأبو حاتم بينهما فجعلا بجير بن أبي بجير يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعنه إسماعيل بن أمية، وبجير بن سالم أبا عبيد يروي عن عبد الله ابن عمر بن الخطاب وعنه يعلى بن عطاء.

ص: 29

ذلك1 أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه، فابتدره2 الناس فاستخرجوا الغصن" 3.

والحديث أخرجه ابن حزم من طريق يحي بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق به.

ثم قال: هذا الحديث لا يصح، لأنه عن ابن بجير وهو مجهول4.

وأخرجه إبراهيم الحربي والبيهقي كلاهما من طريق يزيد5 بن زريع، عن

1 وآية ذلك: أي علامة ذلك (ابن الأثير: النهاية 1/88) .

2 فابتدره الناس: أي تسابقوا إليه مسرعين (الفيروزآبادي: القاموس المحيط 1/369) .

3 أبو داود: (السنن 2/161) ، كتاب الخراج والفيء والإمارة، باب نبش القبور العادية يكون فيها المال.

4 "المحلى 7/528"، وحصل خطأ في المحلى في مقامين:

الأول: جعل ابن إسحاق يروي عن بجير بن أبي بجير مباشرة، وإنما يروي عنه بواسطة إسماعيل بن أمية، كما هو واضح في حديث أبي داود.

والثاني: أنه كتب يحي بن أبي بجير، والصواب بجير بن أبي بجير.

5 يزيد بن زريع - بتقديم الزاي مصغرا- البصري، أبو معاوية، ثقة ثبت من الثامنة (ت182) /ع (ابن حجر: التقريب 2/364، وتهذيب التهذيب 11/325) .

ص: 30

روح1 بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، عن عبد الله بن عمرو قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا عند قبر أبي رغال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي رغال، وكان امرأ كافرا، وكان من ثمود، وكان يسكن الحرم، وأنه خرج حتى إذا صار في هذا الموضع مات فدفنوه، ومعه غصن من ذهب، فاستخرجوه فابتدرنا فاستخرجناه". لفظ الحربي2.

ولفظ البيهقي: "عن عبد الله بن عمرو أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو مسير فمروا بقبر فقال: هذا قبر أبي رغال كان من قوم ثمود، فلما أهلك الله قومه بما أهلكهم به منعه لمكانه من الحرم فخرج حتى إذا بلغ هذا المكان أو الموضع مات ودفن معه غصن من ذهب فابتدرناه فأخرجناه"3.

وأخرجه البيهقي أيضا من طريق أبي الأزهر4، ثنا وهب بن جرير، ثنا أبي قال: سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا قبر أبي فلان وكان بهذا الحرم يدفع به عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه وجدتموه معه"، فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن.

ثم قال: رواه أبو داود في السنن عن يحي بن معين، عن وهب بن جرير، وقال:"قبر أبي رغال"5.

1 روح بن القاسم التميمي العنبري، أبو غياث - بمعجمة وتحتانية خفيفة ثم مثلثة - البصري، ثقة حافظ من السادسة (ت141) /خ م د س ق. (المصدر السابق 1/254، 3/298) .

2 الحربي: (كتاب المناسك ص352- 353) .

3 البيهقي: (السنن الكبرى 4/156) .

4 هو أحمد بن الأزهر بن منيع، أبو الأزهر العبدي النيسابوري، صدوق، كان يحفظ ثم كبر، فصار كتابه أثبت من حفظه، من الحادية عشرة، (ت263) /س ق (ابن حجر: التقريب 1/10، وتهذيب التهذيب 1/11) .

وقال أبو حاتم والذهبي: "صدوق". (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/41، وميزان الاعتدال للذهبي 1/82) .

5 البيهقي: (السنن الكبرى 4/156) .

ص: 31

وأخرجه المزي والذهبي في ترجمة بجير بن أبي بجير، كلاهما من طريق أحمد1 ابن الحسن بن عبد الجبار، عن يحي بن معين، عن وهب بن جرير، عن أبيه به.

ثم قالا: رواه أبو داود عن يحي بن معين فوافقناه2 بعلو.

وزاد المزي: "وهذا حديث حسن عزيز"3.

وأخرجه عبد الرزاق، عن معمر بن راشد، عن إسماعيل بن أمية مرسلا4. بلفظ:"هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود" 5

والجواب عن هذا الحديث من وجوه:

الأول: أنه ليس في حديث أبي داود في النسخ الموجودة بين أيدينا مع شروحها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود". وهو بهذا اللفظ عند المزي والذهبي.

الثاني: أن هذا الحديث مداره على بجير بن أبي بجير ولا متابع له، وقد جزم

1 أحمد بن الحسن بن عبد الجبار بن راشد، أبو عبد الله الصوفي، روى عن يحي بن معين وغيره، وعنه جماعة. قال الدارقطني: ثقة (ت306) . (الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 4/82، 86. والذهبي: ميزان الاعتدال 1/91، و297. وابن حجر: لسان الميزان 1/151) .

2 الموافقة: هي أن يصل الراوي إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه مع علو إسناده على إسناد المصنف. وهنا قد وصل المزي والذهبي إلى شيخ أبي داود يحي بن معين بستة رواة، ولو روياه من طريق أبي داود لكان وصلا إلى يحي بن معين بسبعة، فقد وافقا أبا داود في شيخه مع علو إسنادهما عن إسناد أبي داود.

(ابن حجر: نزهة شرح نخبة الفكر ص51. وأطيب المنح في علم المصطلح للعباد وعبد الكريم مراد ص50) .

(المزي: تهذيب الكمال 1/19. والذهبي: ميزان الاعتدال 1/297) .

4 لعل إسماعيل كان يصل الحديث تارة، ويرسله أخرى.

5 انظر: (البداية والنهاية لابن كثير 4/137) . والحديث من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص كما هو عند أبي داود وفي الأطراف للمزي 6/281 (حديث 8607) وذخائر المواريث للنابلسي 2/167 (حديث 4458) ، وجامع الأصول لابن الأثير 11/803 (حديث 9522) ، ووقع في القاموس المحيط للفيروزآبادي، وتاج العروس للزبيدي، وعون المعبود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي، وتحفة الأحوذي للمباركفوري، وضعيف الجامع الصغير للألباني: عن ابن عمر ولعله ابن عمرو فسقطت الواو فصار ابن عمر. انظر: (القاموس3/385- 386. وتاج العروس 7/348. وعون المعبود 8/346. وتحفة الأحوذي4/279.وضعيف الجامع الصغير6/37- 38) ، (حديث 6095) .

ص: 32

ابن حجر وغيره: بجهالته، ورواية المجهول مردودة عند جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم1.

الثالث: أن ثمود من القبائل البائدة التي لم يبق لها عقب، ولذا كان الحجاج بن يوسف الثقفي إذا سمع من يقول بأن "ثقيفا" من بقايا ثمود يقول: كذبوا، قال الله تعالى:{وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ، [سورة النجمالآية: 51] ، أي أهلكهم الله ولم يبق منهم أحدا2.

الرابع: لعل سبب نسبة "ثقيف" إلى ثمود هو ما ذكره ابن خلدون: من أن ثمود نزلت الطائف قبل وادي القرى3.

قال: ومن ثم يقال: إن ثقيفاً من بقايا ثمود لكونهم نزلوا الطائف بعد ثمود4.

الخامس: أن الذي عليه جمهور علماء النسب وغيرهم أن "ثقيفا" فرع من هوازن القبيلة الشهيرة كما تقدم5.

السادس: أن هذا الحديث الوارد فيه أن "ثقيفاً" من ثمود لا تقوم به حجة لجهالة راويه "بجير بن أبي بجير"، وهي جهالة عينية ولا يعرف هذا الحديث إلاّ من طريقه، كما تقدم ذلك في ترجمته6.

وأما تحسين المزي لهذا الحديث ففيه نظر، وقد عقب عليه ابن كثير بقوله: قلت: تفرد به بجير بن أبي بجير، ولا يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن أمية.

1 ابن الصلاح: (المقدمة ص144 مع التقييد والإيضاح) . وابن حجر: (نزهة النظر ص39. والسيوطي: تدريب الراوي ص210) .

2 انظر: (الطبري: جامع البيان 27/78. وابن كثير: التفسير 4/259. والقلقشندي: نهاية الأرب ص198. والشوكاني: فتح القدير 5/117. وحمد إبراهيم الحقيل: كنز الأنساب ص149- 150) .

3 وادي القرى: هو واد بين الشام والمدينة وهو بين تيماء وخيبر، ووادي القرى والحجر والجناب منازل قضاعة ثم جهينة وعذرة وبلى، وكانت قديما منازل ثمود وعاد، وبها أهلكهم الله. (معجم البلدان لياقوت الحموي 4/338) .

وقال عاتق بن غيث البلادي: الحجر هو رأس وادي القرى، تقع شمال مدينة العلا بقرابة (22) كيلا وشمال المدينة المنورة ب (322) كيلا. وأهله اليوم قبيلة عنزة. (معجم المعالم الجغرافية ص93) .

(تاريخ ابن خلدون 2/310) .

5 انظر: ص: 28.

6 انظر: ص: 30.

ص: 33

ثم نقل عن المزي نفسه ما يخالف تحسينه لهذا الحديث فقال: قال شيخنا المزي: فيحتمل أن بجير بن أبي بجير وهم في رفعه، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملته1.

ثم قال ابن كثير: "لكن يشهد له حديث جابر بن عبد الله، وما رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري مرسلا"، بلفظ "أبو رغال أبو ثقيف"2.

وأورده ابن حجر عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، إلاّ أنه قال أبو رغال هو الجد الأعلى لثقيف3.

قلت: والحديث من مراسيل الزهري ومراسيله ضعيفة عند العلماء4. ولا يحصل من هذا الأثر تقوية لحديث بجير بن أبي بجير، لأن الأثر ضعيف. وحديث بجير بن أبي بجير مختلف في وصله وإرساله ووقفه على عبد الله بن عمرو بن العاص5. مع جهالة بجير بن أبي بجير العينية.

وقد قال ابن الصلاح: ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه مع كونه من أهل الصدق والديانة. إلى أن قال: ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته6.

وأما حديث جابر بن عبد الله الذي أشار إليه ابن كثير فليس فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبو رغال أبو ثقيف"، وهذا سياقه لزيادة الإيضاح.

1 الزاملة البعير الذي يحمل عليه الطعام والمتاع، من الزمل: وهو الحمل. (ابن الأثير: النهاية 2/313) والمراد هنا حمل بعير من كتب العلم. وفي (تذكرة الحفاظ للذهبي 1/42)، قال:"وكان عبد الله بن عمرو بن العاص أصاب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن النظر فيها، ورأى فيها عجائب". إهـ.

(ابن كثير: البداية والنهاية 1/137) .

3 ابن حجر: (فتح الباري 6/381) .

4 انظر: السيوطي: (تدريب الراوي 124- 125) .

5 انظر ص

6 ابن الصلاح: (المقدمة ص50 مع التقييد والإيضاح) .

ص: 34

2-

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: "لا تسألوا الآيات، وقد سألها قوم صالح فكانت1 ترد من هذا الفج2 وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها فكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم الصيحة أهمد الله عز وجل من تحت أديم3 السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله عز وجل، قيل: من هو يا رسول الله؟

قال: "هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه"4.

قال ابن كثير: "وهذا الحديث على شرط مسلم، وليس هو في شيء من الكتب الستة. وقال في مكان آخر: إسناده صحيح ولم يخرجوه"5.

وقال ابن حجر: رواه أحمد والحاكم عن جابر بإسناد حسن6.

والخلاصة: أن حديث أحمد هذا:

أ – لا توجد في متنه زيادة "وكان أبا ثقيف" فتبقى هذه الزيادة لا متابع لها وتكون بذلك ضعيفة مردودة، ويترجح القول بأن ثقيفاً ليس لها صلة نسبية بثمود.

ب– حديث أحمد صريح في أن الله عز وجل أهلك قوم صالح ولم يبق منهم أحدا، بما فيهم أبو رغال، وأن الله أمهله مدة بقائه في الحرم، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه، فكيف تكون ثقيف من بقايا ثمود، مع أن الحديث صريح في أن الله لم يبق منهم أحدا، كما أن الحديث صريح في ثبوت قصة أبي رغال وأنه من ثمود، وأما كون أبي رغال كان في الحرم وأنه لما خرج منه أخذه الله عز وجل، فهذا لا نزاع فيه، ويصلح أن يكون حديث أحمد مقويا لرواية "بجير بن أبي بجي" في هذه الجزئية.

1 فكانت: أي الناقة.

2 الفج: الطريق الواسع بين جبلين (الفيروزآبادي: القاموس المحيط 1/202) .

3 ما تحت أديم السماء: قال الفيروزآبادي: "أديم السماء والأرض: ما ظهر". (القاموس 4/73) . والمعنى: ما ظهر على الأرض منهم. أي أهلكهم.

4 أخرجه أحمد في (المسند 3/296) ، من طريق أبي الزبير المكي عن جابر وأخرجه الطبري في (جامع البيان 14/50) ، من طريق عبد الرحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله.

5 ابن كثير: (البداية والنهاية 1/137، 5/11) .

6 فتح الباري (6/380-381) . وانظر الحديث في (المستدرك 2/567-568)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي.

ص: 35

3-

وقد ورد عند الترمذي من حديث عبد الله بن عمر موقوفا أن رجلا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال1.

وأخرجه أحمد أيضا عن ابن عمر وسمى الرجل "غيلان". وهذا سياقه عن عبد الله بن عمر أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر، فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك، فقذفه في نفسك ولعلك أن لا تمكث إلاّ قليلاً، وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال2.

وأخرجه ابن ماجة عن ابن عمر أيضا إلى قوله: "أربعا"3.

وأخرجه مالك عن الزهري بلاغا4.

وقال جرير5 يهجو الفرزدق:

إذا مات الفرزدق فارجموه

كما ترمون قبر أبي رغال6

هذه نبذة موجزة عن التعريف بقبيلة هوازن وفروعها المتعددة، التي من جملتها ثقيف على الراجح من أقوال العلماء، وأنه لا ينهض دليل على القول بأن ثقيفا من بقايا ثمود.

1 الترمذي: (السنن 2/299) ، كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة.

2 أحمد: (المسند 2/14) .

(سنن ابن ماجة 1/628) ، كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة.

(الموطأ 2/586) ، كتاب الطلاق، باب جامع الطلاق.

5 هو أبو حزورة جرير بن عطية بن حذيفة بن بدر بن سلمة التميمي الشاعر المشهور، كان من فحول شعراء الإسلام، وكانت بينه وبين الفرزدق مشادة ونقائض، وأجمعت العلماء أنه ليس في شعراء الإسلام مثل ثلاثة: جرير، والفرزدق، والأخطل.

مات جرير سنة (111) ، وأما الفرزدق فهو أبو فراس همام بن غالب التميمي الشاعر المشهور، مات سنة (110) .

(ابن خلكان: وفيات الأعين 1/321، 326، 6/86، 97) .

6 ابن منظور: لسان العرب 13/310.

وانظر: (معالم مكة التاريخية والأثرية لعاتق بن غيث البلادي ص116) .

ص: 36

ثانياً: ديار هوازن وثقيف:

تقع مواطن هوزان ما بين غور تهامة1 إلى ما والى بيشة وناحية السراة، والطائف وذي المجاز وحنين وأوطاس وما صاقبها من البلاد. هذه مواطن هوزان "الأم" من حيث الجملة.

ومواطن فروعها الرئيسية يمكن بيانها على النحو الآتي:

1-

بنو منبه "ثقيف" كانوا يسكنون سراة الطائف، وسراة الطائف غورها مكة المكرمة، ونجدها ديار هوزان من عكاظ2

1 الغور هو: كل ما انحدر سيله مغربا، وما انحدر سيله مشرقا فهو نجد.

وتهامة: ما بين ذات عرق إلى مرحلتين من وراء مكة، وما وراء ذلك من المغرب فهو غور، وما وراء ذلك من مهب الجنوب فهو السراة إلى تخوم اليمن. وقيل: الغور وتهامة واحد.

والخلاصة أن ما سال من جبال السروات مشرقا فهو نجد، وما سال مغربا حتى يفسخ الجبال فهو الحجاز، وما خلف الجبال إلى البحر فهو تهامة.

والسراة: سلسلة جبلية على نسق واحد من أقصى اليمن إلى بلاد الشام، وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن، وهي الحاجزة بين نجد وتهامة..

وهي ثلاث سروات: سراة ثقيف، ثم سراة فهم وعدوان، ثم سراة الأزد.

وذو المجاز: موضع سوق بعرفة على ناحية كبكب على فرسخ من عرفة، كانت تقوم في الجاهلية ثمانية أيام.

قال ابن بليهد: وهو واقع في واد المغمس إذا قطعت وادي الشرائع المعروف وأنت قاصد مكة أتيت وادي المغمس في الطريق على يسارك فإذا حاذيت كبكب فهو هناك، فيه آثار قديمة لا تزال ماثلة إلى هذا العهد، وفيه بئر باقية إلى هذا العهد بقال لها "ذو المجاز". انظر: ياقوت: (معجم البلدان 2/137، 3/204، 4/216-217، 5/55، 261-262. وابن منظور: لسان العرب19/106.وابن بليهد: صحيح الآثار عما في بلاد العرب من الأخبار 2/50. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص216-217، 276، 284. والبلادي: نسب حرب ص349-350. والحربي: كتاب المناسك ص532-538) .

2 عكاظ: قال ياقوت: عكاظ - بضم أوله، وآخره ظاء معجمة - اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية، وكانت قبائل العرب تجتمع بعكاظ في كل سنة ويتفاخرون فيها ويحضرها شعراؤهم ويتناشدون ما أحدثوا من الشعر ثم يتفرقون.

وعكاظ: نخل في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له الأثيداء. وبه كانت أيام الفجار، وكانت هناك صخور يطوفون بها ويحجون إليها.

قال الواقدي: عكاظ بين نخلة والطائف، وذو المجاز خلف عرفة، ومجنة بمر الظهران وهذه أسواق قريش والعرب ولم يكن فيه أعظم من عكاظ. قالوا: كانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيه عشرين يوما من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز فتقيم فيه أيام الحج. (معجم البلدان 4/142) . وأورد ابن خميس أقوال العلماء قديما وحديثا حول تحديد عكاظ. ثم قال: والذي أستخلصه من مجموع تلك الأقوال في تحديد "عكاظ"، أنه يقع في متسع من الأرض يحده من الجنوب: ملتقى وادي شرب بوادي عرج الأخيضر والعبيلاء، ومن الغرب: جبال الصالح وجبال مدسوس ومدفع وادي المهيد. ومن الشمال: الشظفا والخلص ومشرفة وماءة المبعوث. ومن الشرق: الدار السوداء والحرة، فيما بين هذه الأعلام يقع سوق عكاظ وهي تشكل شكلا مستطيلا لا يتجاوز طوله من الجنوب إلى الشمال أربعة أكيال، ومن الغرب إلى الشرق كيلين. وهذا التحديد يدخل الأنصاب - الحجارة - المنصوبة التي تدعى الآن "بالمرزز"، كما أن هذه المنطقة هي مدفع ثلاثة الأودية: العرج والشرب والمهيد. (المجاز ص239-242) .

ص: 37

والفتق1 - أي الأرض الواقعة شرق الطائف على مقربة منه -2.

والموجودون الآن من ثقيف عدة بطون منها:

أ- بطن النمور وهم سكان الهدى ووادي المحرم.

ب- بطن طويق ومنهم الجعيدات والفضل والعبدة والحمران وغيرهم.

?- بطن سفيان: ومنهم العسران والخضرة وغيرهم3.

2-

بنو سعد: وهم الذين استرضع فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تزال فروعهم إلى الآن يسكنون أطراف السراة الواقعة شرق الطائف وجنوبه.

3-

بنو معاوية الذين منهم مالك بن عوف النصري قائد هوازن في حنين، ودريد بن الصمة الجشمي4. فإنهم منتشرون حاليا في شمال الطائف مثل وادي

1 الفتق - بضم أوله وثانيه وفي آخره قاف -: قرية بالطائف.

وقيل الفتق - بفتح الفاء وسكون التاء - من مخاليف الطائف. (ياقوت: معجم البلدان 4/235)

ووصفها حمد الجاسر بما يدل على أنها تقع شرق الطائف (التعليق على كتاب المناسك للحربي ص645)

2 حمد الجاسر: سراة غامد وزهران ص356، 433. والمجاز بين اليمامة والحجاز ص278.

3 حمد إبراهيم الحقيل: كنز الأنساب ص149- 154.

وفؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص134- 135.

وكحال: معجم قبائل العرب 1/147- 148.

4 وفي مجلة العرب: والناس الآن ينطقون (جشم) قثمة بالثاء والنسبة إليه قثامي (محمد سعيد حسن كمال: مجلة العرب ص817- 819. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص242) .

ص: 38

السيل – قرن المنازل1 - وأعالي وادي العقيق2 وما يقرب من هذه الأمكنة3 والموجودون الآن من بني نصر ثلاثة بطون:

وهم: شعيث، وحسيكة، وآل موسى.

والموجودون من بني جشم حاليا: الدوانية، والخلد، والعمامرة4.

هذه كلمة موجزة عن موطن هوازن "الأم" وأجنحتها الرئيسية، وبعض القبائل الموجودين منهم حاليا، وأرجو أن تكون الخارطة التي بين يدي القارئ ضمن هذه الرسالة كافية في توضيح وتحديد أماكن هذه القبائل.

والله أعلم.

1 قرن المنازل: هو السيل الكبير وهو قرن الثعالب، ويحرم منه أهل الطائف، وأهل نجد وأهل الكويت، ويبعد عن مكة (80) كيلا. (عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام: تيسير العلام 1/501- 502. وحمد الجاسر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص 353، 614، 645. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص 268، 270، 272) .

2 العقيق: هنا هو عقيق الطائف يمر بشمالي الطائف وينحدر مما يلي جبل "الغمير"(ابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص265. وحمد الجاسر: التعليق على كتاب المناسك للحربي ص411) .

3 حمد الجاسر: (سراة غامد وزهران ص484- 485) . وذكر ياقوت: أن من مساكنهم (البوباة) وهي تقع في أعالي نخلة اليمانية (معجم البلدان 1/506) .

قال محمد سعيد حسن كمال: "وقد حرف اسم البوباة إلى البهيتاء"(مجلة العرب ص817- 818) . وحمد الجاسر: (التعليق على كتاب المناسك للحربي ص353) .

4 محمد سعيد حسن كمال: (مجلة العرب ص817- 819) .

ص: 39

رسم توضيحي

ص: 40

رسم توضيحي

ص: 41

ثالثاً: صلة هوازن وثقيف بقريش:

إن صلة هوازن وثقيف بأهل مكة المكرمة صلة عريقة، تتمثل فيما يأتي:

1-

الصلة النسبية:

إذ أن كلاً من هوازن وقريش يلتقون في مضر. وهو الجد السادس لهوازن، والسابع لقريش على قول.

وذلك أن هوازن: هو: هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان بن مضر.

وقريش: هو: فهر1 بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

هذا على القول بأن "فهراً" هو قريش.

وأمّا على قول من ذهب إلى أن قرشاً هو "النضر" فيكون مضر هو الجد الخامس لقريش2.

1 فهر: بكسر الفاء وسكون الهاء.

والنضر: بفتح النون وسكون الضاد المعجمة.

وكنانة: بكسر الكاف وبنونين بينهما ألف وأولهما خفيفة.

وخزيمة: بلفظ التصغير.

ومدركة: اسم فاعل من الإدراك. (محمد بن طاهر الهندي: كتاب المغني: ص27، 66، 70، 79) .

2 ابن هشام: (سيرة ابن هشام 1/1، 93. وابن قتيبة: المعارف ص31، 51. وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/55. والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/262. وابن حزم: جوامع السيرة ص4، وابن الأثير: اللباب3/112.والكلاعي: الاكتفاء1/24. وابن كثير: البداية والنهاية 2/200-201. والقلقشندي: قلائد الجمان ص:8، 14، ونهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص397. وابن حجر: فتح الباري 6/528، 7/163) .

ص: 42

وعلى كل حال سواء أكان قريش هو "فهراً" أم "النضر". فإن الذي يهمنا هو أن هوازن قبيلة عدنانية تلتقي مع قريش في مضر، ممّا يتوضح1 به قوة الصلة النسبية بين هوازن وقريش التي تفرعت منها قبائل مكة المكرمة، وهذه الصلة لها قيمتها لدى القوم لأنها إحدى مفاخرهم، التي كانوا يفتخرون بها.

2 – المصاهرة:

كان كثير من رؤساء مكة ووجهائهم متزوجين من قبائل هوازن، وكان بعض رجال هوازن متزوجين أيضا عند المكيين، مما يؤكد قوة الصلة والترابط بين هوازن وأهل مكة، فهي صلة قوية في النسب والمصاهرة وتبادل المصالح المشتركة بين الفريقين.

وممن صاهر هوازن من المكيين:

أ – رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تزوج – من بني عبد الله بن هلال - ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية.

ب– وكان العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، متزوجا بأختها لبابة الكبرى بنت الحارث وهي أم ولديه عبد الله والفضل رضي الله عنهم.

?- وكان الوليد بن المغيرة آخذا أختها الثانية لبابة الصغرى بنت الحارث، وهي أم خالد بن الوليد رضي الله عنه.

د– وكان صخر بن حرب آخذا عمتها صفية بنت حزن، وهي أم أبي سفيان بن حرب والد أم المؤمنين أم حبيبة.

?- وكان أبوجهل متزوجا عند بني عبد مناف بن هلال، وهي أم جميل بنت مجالد بن عبد مناف بن هلال، وهي أم عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه -2.

1 يتوضح: يتبين (القاموس المحيط 1/255) .

2 خليفة بن خياط: (كتاب الطبقات ص4، 10، 20) . وابن حزم: (جمهرة أنساب العرب ص273، 274) . وابن عبد البر: (الاستيعاب 4/398، 401، 404)، مع (الإصابة) . وابن الأثير:(أسد الغابة 7/253، 254، 272، 2/109) . وابن حجر: (الإصابة 4/398، 411) .

ص: 43

وممن تزوج عند المكيين من فروع هوازن:

أ- عروة بن مسعود الثقفي، فقد تزوج بزينب بنت أبي سفيان بن حرب، وهي أخت أم المؤمنين أم حبيبة.

ب- وكانت أمه من قريش كذلك، فقد كان أبوه مسعود بن متعب1 الثقفي متزوجا بسبيعة2 بنت عبد شمس بن عبد مناف.

?- وكان عبد الله بن عثمان الثقفي متزوجا بأم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب.

4-

وفي صحيح البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت أم الحكم بنت أبي سفيان تحت عياض بن غنم3 الفهري، فطلقها فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي"4.

هذه نبذة يسيرة تبين قوة الترابط بين قبائل هوازن وقبائل مكة المكرمة، ولقد قويت هذه الرابطة حتى كان بعض رجال هوازن له الكلمة المسموعة لدى قريش، فقد كان الأخنس بن شريق الثقفي حليفا لبني زهرة، وقد أشار عليهم بعدم حضور معركة بدر الكبرى فأطاعوه، فكان في ذلك سلامة لأرواحهم وحمد على ذلك.

وموقف عروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية يشهد بما كان لقبائل هوازن من المكانة عند القرشيين، فقد ذكر البخاري رحمه الله موقف عروة بن مسعود هذا في قصة صلح الحديبية فقال:

5-

قام عروة بن مسعود فقال: "أي قوم، ألستم بوالد5؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني

1 معتب: بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية الثّقيلة.

2 سبيعة: بالتصغير. (ابن طاهر الهندي: المغني ص38، 73) .

3 غنم - بفتح الغين المعجمة وسكون النون. (ابن طاهر الهندي: المغني ص59) .

4 البخاري: (الصحيح 7/42 كتاب الطلاق، باب نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن. وانظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 8/240. ابن عبد البر: الاستيعاب 4/445 مع الإصابة. وابن الأثير: أسد الغابة 7/131، 320. وابن حجر: الإصابة 2/344، 4/316، 443) .

5 قال هذا لكون أمه منهم فهم كالوالد له، وهو كالولد لهم.

ص: 44

استنفرت أهل عكاظ فلما بلَّحوا1علي جئتكم بأهلي وولدي، ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة2 رشد اقبلوها" الحديث3.

فكان عروة أحد المفاوضين مع قريش في هذا الصلح.

تلك مكانة قبائل هوازن لدى المكيين الذين كانوا محل عناية واحترام عند سائر قبائل العرب بحكم أنهم سكان بيت الله الحرام وحجابه وأهل سقايته، فكانت هذه المزية إحدى أسباب احترام قريش وتقديرها من قبائل العرب الأخرى.

3-

تبادل المصالح المشتركة:

لقد كانت الصلات قوية بين أهل مكة وأهل الطائف، تجمع بينهم روابط قوية من المصالح المشتركة، فالأسواق العربية الكبرى4 كانت تقوم في المنطقة الواقعة بين مكة والطائف في ديار هوازن فيستفيد منها الجميع، كما كانت الطائف تسد النقص الذي تعاني منه مكة المكرمة، وهو افتقارها إلى الزراعة مع شدة حرارة جوها في فصل الصيف، وكانت الطائف خصبة التربة تنمو فيها الفواكه والزروع المختلفة، إلى جانب جوها اللطيف في فصل الصيف لقيامها على قمة جبل غزوان5، وتحف بها وديان كثيرة تسيل فيها المياه عند سقوط الأمطار، وحولها عيون وآبار كثيرة6.

لذلك كانت الطائف مصيف أهل مكة المكرمة.

1 بلّحوا: بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم مهملة مضمومة، أي امتنعوا وأبوا. (ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث1/151. وابن حجر: فتح الباري 5/339) .

2 خطة رشد: بضم الخاء المعجمة: أي عرض عليكم أمرا واضحا في الهدى والاستقامة. (ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 2/48) .

3 البخاري: (الصحيح 3/170) ، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب.

4 من أشهرها: سوق عكاظ (انظر ياقوت: معجم البلدان 4/142. وابن خميس: المجاز ص239- 242. وعبد القدوس الأنصاري: بين التاريخ والآثار ص37- 44. وسعيد الأفغاني: أسواق العرب ص333. وباشميل: غزوة حنين ص46) .

5 جبل غزوان: هو الجبل الذي تقع عليه مدينة الطائف.

6 انظر: (ياقوت: معجم البلدان 4/9-11.والسهلي: الروض الأنف7/263-264. وابن حجر: فتح الباري 8/43.والبلادي: نسب حرب ص367.وابن خميس: المجاز ص254-255، 257، 264-265.وباشميل: غزوة حنين ص200-202) .

ص: 45

وكان للأغنياء من أهل مكة بها بساتين وزروع، فكان لعتبة وشيبة ابني ربيعة1 بستان في الطائف، وهو الذي لجأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرج من الطائف طريدا عندما ذهب يطلب نجدتهم بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها -2.

وكان للعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مال بالطائف، كرم كان يحمل زبيبه إلى مكة فينبذ فيسقى به الحجاج وكان ذلك دأبه في الجاهلية والإسلام، ثم كان عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك، ثم كان عليّ بن عبد الله بن عباس يفعل مثل ذلك3.

وكان لأبي سفيان بن حرب مال بالطائف أيضا يسمى "ذا الهرم"4 وكان لعمرو بن العاص مال بالطائف يسمى "الوهط"5.

قال ياقوت: "وهو كرم كان على ألف ألف خشبة شرى كل خشبة بدرهم، وكان أكداس الزبيب في وسط البستان كأنها حرار سود، ثم صار هذا البستان لابنه عبد الله بن عمرو بن العاص بعد وفاة عمرو بن العاص رضي الله عنهم. وكان أهل مكة يستهلكون كثيرا من أعناب الطائف ورمانها ويجلبون منها الزبيب والأدم"6.

كما كان الثقفيون يشاركون في قوافل مكة التجارية، وكان كثير من رجالهم حلفاء للقرشيين، وقد بلغ بعضهم مبلغ السيادة في البطون القرشية، كالأخنس بن شريق حليف بين زهرة الذي كان مسموع الكلمة فيهم مطاعا.

1 قتل عتبة وربيعة يوم "بدرالكبرى" على كفرهما. (سيرة ابن هشام 1/420) .

2 المصدر السابق 1/709.

(الواقدي: المغازي 2/838) .

4 ذو الهرم: بفتح الهاء وإسكان الراء وميم. (الواقدي: المغازي 3/971. وابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/500. والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 4/9) . ووقع في زاد المعاد "ذو الهدم" بالدال المهملة وهو خطأ.

5 الوهط: بفتح أوله وسكون ثانيه، وطاء مهملة. (ياقوت: معجم البلدان 5/386. والذهبي: تذكرة الحفاظ 1/42، وسير أعلام النبلاء 3/89. وابن خميس: المجاز بين اليمامة والحجاز ص255- 256) .

6 الأدم: بضم الهمزة والدال: جمع أديم وهو الجلد. (الفيروزآبادي: القاموس المحيط 4/73) .

ص: 46

وقد أشارت بعض الآيات القرآنية إلى ما بين مكة والطائف من ترابط، وأنهم كانوا يماثلون أهل مكة قوة وجاها1، قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف، الآية: 31]2.

هذه لمحة موجزة عن مدى الصلة والترابط الذي كان بين مكة ورجال هوازن وثقيف، وهي تتمثل في النسب والمصاهرة والمصالح المشتركة. وأحسب أن هذه اللمسات تعطي صورة واضحة عن الصلات القوية والروابط المتينة بين القبيلتين الكبيرتين: قريش وهوازن.

1 انظر: (دور الحجاز في الحياة السياسية العامة لأحمد إبراهيم شريف ص23- 24) .

2 ويريدون بالقريتين: مكّة، والطّائف، وبالرّجل: الوليد بن المغيرة بمكّة، وعروة بن مسعود الثقفي بالطّائف، وقيل: غير ذلك مما جاء في تفسير هذه الآية. انظر: ابن كثير 4/126-127.

ص: 47

رسم توضيحي

ص: 48

رسم توضيحي

ص: 49

رسم توضيحي

ص: 50

رسم توضيحي

ص: 51

رابعاً: موقف هوازن وثقيف من ظهور الإسلام ودعوته:

يمكن أن يتحدد هذا الموقف في الأمور الآتية:

أ – رفض دعوة التوحيد، ويرجع ذلك إلى تغلغل رواسب الوثنية في نفوس القوم وحبهم للأوثان واعتزازهم بتقاليدهم وعاداتهم الجاهلية بوجه عام.

وقد واجهوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداء والكراهية الشديدة.

ب – كان لرفض قريش الإسلام أثر بالغ في نكول كثير من القبائل العربية الأخرى عن الإسلام لما وقر في نفوس العرب جميعا من تعظيم هذا الحي من قريش؛ لأنهم سدنة البيت الحرام وحجاب الكعبة وأهل الحرم، وهم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما حاربوا دعوته ورفضوا ما جاء به، رفض غيرهم دعوته وقالوا:"القوم أدرى بصاحبهم"، وكانت قريش نفسها تقول ذلك منفرة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:"نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لتبعناه:، فحين شاهدت قبائل هوازن وثقيف ذلك الموقف العدائي من أهل مكة، وهم قوم الرسول صلى الله عليه وسلم الأقربون، رفضوا دعوته وقالوا: "أترون أنّ رجلاً يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه".

وسوف أورد الآثار الدالة على ذلك منها:

6-

ما رواه الإمام أحمد بإسناد حسن من طريق عبد الرحمن1 ابن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه2، أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على

1 قال ابن حجر: روى عن أبيه وله صحبة، وعنه عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي. قال الحسيني: مجهول. ثم عقب ابن حجر بقوله: قلت: صحح ابن خزيمة حديثه، ومقتضاه أن يكون عنده من الثقات. (تعجيل المنفعة ص166) .

2 هو خالد بن أبي جبل - بالجيم والباء الموحدة - ووقع "جيل" بالجيم والمثناة التحتية الساكنة، العدواني: بفتح المهملتين، الطائفي، يقال إنه بايع تحت الشجرة.

له هذا الحديث الواحد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة وابن خزيمة في صحيحه، والطبراني وابن شاهين، كلهم من طريق عبد الله بن الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني عن أبيه.

ثم قال ابن حجر: وفرق ابن حبان بين خالد بن جبل العدواني وخالد بن أبي جبل الثقفي، ووهم في ذلك. (تعجيل المنفعة ص76، والإصابة 1/402- 403، والاستيعاب 1/414- 415 مع الإصابة، وأسد الغابة 2/91- 92) .

ص: 52

قوس – أو عصا – حين أتاهم يبتغي عندهم النصر قال: فسمعته يقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، [سورة الطارق، الآية: 1] ، حتى ختمها.

قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام، قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش:"نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لتبعناه"12.

والحديث رواه البخاري في تاريخه، والطبراني في معجمه، كلاهما من طريق عبد الرحمن بن خالد، عن أبيه به3.

قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وعبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يجرحه أحد4، وبقية رجاله ثقات5.

7-

ما رواه البخاري من طريق أيوب6، عن أبي قلابة، عن عمرو بن سلمة قال7: قال لي أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله؟

قال: فلقيته فسألته فقال: كنا بماء ممر8 الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس، ما للناس؟ ما هذا الرجل9؟

1

2 أحمد: (المسند 3/335) .

3 البخاري: (التاريخ الكبير 3/138- 139) . والطبراني: المعجم الكبير 4/234- 235.

4 وقد عرفت أن الحسيني قال عنه: " مجهول" وصحح ابن خزيمة حديثه.

(مجمع الزوائد 7/136. وانظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 5/229) .

6 أيوب: هو ابن أبي تميمة السختياني. وأبو قلابة: هو عبد الله بن زيد الجرمي. وعمرو بن سلمة - بكسر اللام- ابن قيس الجرمي، صحابي صغير. (ابن حجر: التقريب 2/71، وفتح الباري 8/23) .

7 قوله: "قال لي أبو قلابة" هو مقول أيوب، والضمير في "تلقاه" يعود على عمرو ابن سلمة، أي قال أبو قلابة لأيوب: ألا تلقى عمرو بن سلمة فتسأله. (ابن حجر: فتح الباري 8/23) .

8 "ممر" يجوز في ممر الحركات الثلاث.

9 قوله: "ما هذا الرجل" أي يسألون عن النبي - صلى الله غليه وسلم - وعن حال العرب معه.

ص: 53

فيقولون: "يزعم أن الله أرسله، أوحي إليه، أو أوحى الله بكذا1، فكنت أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يغرى2 في صدري، وكانت العرب تلوم3 بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر4 أبي5 قومي بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً -"6 الحديث.

والحديث رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد7.

وأخرجه الحاكم ثم قال: قد روى البخاري هذا الحديث عن سليمان بن حرب مختصرا فأخرجته بطوله ووافقه الذهبي8.

لقد كانت هوازن وثقيف من جملة القبائل العربية التي تنتظر بإسلامها قبائل مكة المكرمة وقد وقفت إلى جانب قريش تحارب الإسلام وتناصبه العداء.

1 وقوله: "أوحي إليه أو أوحى الله إليه بكذا" يريد ما كانوا يخبرونه به مما سمعوه من القرآن.

2 قوله: "وكأنما يغرى في صدري" بضم أوله وبغين معجمة مفتوحة وراء ثقيلة، أي يلصق بالغراء، ورجحها عياض. وفي رواية الكشميهني:"يقر" بضم أوله وفتح القاف وتشديد الراء، من القرار.

وفي رواية عنه: "يقرى" بزيادة ألف مقصورة، من التقرية: أي يجمع. وللأكثر "يقرأ" بهمز من القراءة. (فتح الباري 8/23) .

3 "تلوم" بفتح أوله واللام وتشديد الواو تنتظر، وإحدى التاءين محذوفة. (المصدر السابق 8/22)

4 بدر: أي سبق قومه بالإسلام.

5 هو: سلمة بن قيس:، ويقال: ابن نفيع، ويقال غير ذلك - الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء - البصري، صحابي، له وفادة، وما له سوى هذا الحديث، وهو والد عمرو بن سلمة. (ابن حجر: التقريب 1/319، وتهذيب التهذيب 4/154، وفتح الباري 8/23) .

6 البخاري: الصحيح 5/124 كتاب المغازي، باب وقال الليث: حدثني يونس

الخ، وتمام الحديث:"فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عَلَيَّ بردة كنت إذا سجدت تقلصت عني، فقالت امرأة من الحي: ألا تغطوا عنا است قارئكم، فاشتروا، فقطعوا لي قميصا، فما فرحت بشيء فرحي بذلك".

7 أبو داود: السنن1/138- 139 كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة. والنسائي: السنن 2/9 كتاب الأذان، باب اجتزاء المرء بأذان غيره في الحضر. و55 كتاب القبلة، باب الصلاة في الإزار و26- 36 كتاب الإمامة، باب إمامة الغلام قبل أن يحتلم. وأحمد:(المسند 5/30) .

(المستدرك 3/47) .

ص: 54

8-

فقد ورد في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟

قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال1، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق2 إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين3، فقال النبيصلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا 4.

1 قوله: "ابن عبد يا ليل" بتحتانية وبعد الألف لام مكسورة، ثم تحتانية ساكنة ثم لام، و"ابن عبد كلال" بضم الكاف وتخفيف اللام وآخره لام، واسمه كنانة. والذي في المغازي أن الذي كلمه هو عبد يا ليل نفسه. وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه، وأنه عبد يا ليل بن عمرو بن عمير بن عوف، ويقال اسم عبد يا ليل: مسعود، وله أخ أعمى له ذكر في السيرة في قذف النجوم عند المبعث النبوي. وكان عبد يا ليل من أكابر أهل الطائف من ثقيف. (ابن حجر: فتح الباري 6/315) . انظر سيرة ابن هشام 1/419.

2 قوله: "فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب" أي لم أفطن لنفيسي ولم أنتبه لحالي إلا وأنا بقرن الثعالب لكثرة همي الذي كنت فيه. وقرن الثعالب: هو قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد، ويقال له الآن وادي السيل. (فتح الباري 6/315. والنووي: شرح مسلم 4/438) .

3 الأخشبان: بالمعجمتين، هما جبلا مكة أبو قبيس والذي يقابله، وكأنه قُعَيْقِعَان. وقال الصاغاني:"بل هو الجبل الأحمر الذي يشرف على قعيقعان، ووهم من قال: هو ثور كالكرماني، وسميا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما، والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على أهل مكة، ويحتمل أن يريد أنهما يصيران طبقاً واحداً". ابن حجر: (فتح الباري 6/316) .

وقال عبد الله بن خميس: أما أخشبا مكة فهما (أبو قبيس) و (قعيقعان) وما يتصل من الجبال المشرفة على مكة غربا وشرقا. (المجاز بين اليمامة والحجاز ص322) .

4 البخاري: (الصحيح 4/91 كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء

الخ، 9/95 كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعاً بصيراً) . ومسلم:(الصحيح 3/1420 كتاب الجهاد والسير) .

ص: 55

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغشى الناس في أسواقهم ومنتدياتهم، يعرض عليهم دعوته ويطلب من ينصره حتى يبلغ رسالة ربه فلم يجد أذنا واعية، وما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه1.

3 – بعد فتح مكة ودخول أهلها في الإسلام أوجست قبائل هوازن خيفة من الإسلام وأهله ولم يدعهم ذلك إلى التفكير في الدخول فيه أو مهادنته، بل فخر القوم بجموعهم المتكاثرة وبأسهم الشديد وشجاعتهم الباسلة، فأخذوا يعدون عدتهم ويحشدون قواهم لمهاجمة المسلمين، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خبرهم وما يبيتون من كيد ووقيعة بالمسلمين فبادرهم بالهجوم قبل أن يهاجموه وكانت وقعة حنين الشهيرة كما سيأتي تفاصيلها.

خامساً: موقف هوازن من الصراع بين المسلمين وقريش:

لم تشر المصادر التي بين أيدينا إلى أن هوازن اشتركت مع قريش في معاركها التي خاضتها ضد المسلمين، لا في بدر الكبرى ولا في غيرها من الغزوات، كما أن هوازن أيضا لم تساند قريشا في فتح مكة عندما داهمهم الجيش الإسلامي المسلح، رغم اتحادهم في المبدإ والغاية وهو عداوة الإسلام وأهله، ولعل السبب في ذلك يعود إلى:

أ– ما انتشر وذاع في ربوع هوازن من أن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة كان قاصدا هوازن أولا.

يؤيد هذا ما ساقه الطبري في هذا الصدد، فقال: وكان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين هوازن:

9 -

ما حدثنا علي2بن نصر بن علي الجهضمي، وعبد الوارث3 ابن عبد الصمد بن عبد الوارث.

1 ابن كثير: (البداية والنهاية 3/140- 141) .

2 علي بن نصر بن علي بن نصر الجهضمي - بفتح الجيم وسكون الهاء بعدها معجمة مفتوحة - أبو الحسن البصري الصغير، ثقة حافظ من الحادية عشرة (ت 250) /م د ت س. (ابن حجر: التقريب2/45،وتهذيب التهذيب7/390- 391) .

3 عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، أبو عبيدة العنبري البصري، صدوق، من الحادية عشرة (ت 252) /م ت س ق (المصدر السابق 1/527، 6/443- 444) .

ص: 56

قال علي: حدثنا عبد الصمد.

وقال عبد الوارث: حدثنا أبي1 قال: حدثنا أبان2 العطار، قال: حدثنا هشام3 بن عروة، عن عروة4، قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح نصف شهر، لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوازن وثقيف، فنزلوا بحنين، وحنين واد إلى جنب ذي المجاز – وهم يومئذ عامدون يريدون قتال النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد جمعوا قبل ذلك حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وهم يظنون أنما يريدهم حيث خرج من المدينة. الحديث5

10-

وعن عليّ6 رضي الله عنه قال: "لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إلى ناس من أصحابه أنه يريد مكة وفيهم حاطب7 بن أبي بلتعة وفشا في الناس أنه يريد حنينا. قال: فكتب حاطب إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم. الحديث.

قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وفيه الحارث الأعور8،وهو ضعيف.

1 هو: عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري مولاهم، التنوري - بفتح المثناة وتثقيل النون المضمومة -، أبو سهل البصري والد الذي قبله، صدوق، ثبت في شعبة، من التاسعة (ت 207)(المصدر السابق 1/507، 6/327) .

2 أبان بن يزيد العطار البصري، أبو زيد، ثقة له أفراد، من السابعة (ت في حدود 160) /خ م د ت س. (المصدر السابق 1/31 و1/101) .

3 هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة فقيه ربما دلس، من الخامسة (ت 145 أو 146)(المصدر السابق 2/319، 11/48) .

4 عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أبو عبد الله المدني، والد الذي قبله، ثقة فقيه مشهور، من الثانية (ت 94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه/ع. (المصدر السابق 2/19، 7/180) .

5 الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/70، وانظر: تاريخ ابن خلدون 2/45.

6 عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة، من السابقين الأولين، المرجح أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة، مات في رمضان سنة (40) وهو يومئذ من أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السنة، وله (63) سنة على الأرجح /ع. (ابن حجر: التقريب 2/39، وتهذيب التهذيب 7/334) .

7 حاطب بن أبي بلتعة - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها مثناة ثم مهملة مفتوحتان - ابن عمرو بن عمير بن سلمة بن صعب بن سهل اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى، شهد بدرا والحديبية ومات في خلافة عثمان سنة (65) . (الإصابة 1/300) .

8 الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني - بسكون الميم - الحوتي - بضم المهملة وبالمثناة الفوقية - الكوفي، أبو زهرة الخارفي، صاحب علي، كذبه الشعبي في رأيه، ورمي بالرفض، وفي حديثه ضعف. وليس له عند النسائي سوى حديثين، (ت في خلافة ابن الزبير) /ع (ابن حجر: التقريب 1/141، وتهذيب التهذيب 2/145) .

وساق الذهبي أقوال أئمة الجرح والتعديل ثم قال: "وحديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنته في الرجال، فقد احتج به وقَوَّى أمره". والجمهور على توهين أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب. فهذا الشعبي يكذبه ثم يروي عنه، والظاهر أنه كان يكذب في لهجته وحكاياته، وأما في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم. (انظر: ميزان الاعتدال 1/435- 437) .

ص: 57

والحديث في الصحيح1 بغير هذا السياق2.

والحديث الأول مرسل.

والثاني فيه الحارث الأعور.

وهكذا ذكر الواقدي أن هوازن بعثت جاسوسا لها يرصد وجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم لهم خبره، وأنه إن كان يريد قريشا فسيسلك الطريق، وإن كان يريدنا أولا فسيسلك بطن وادي سَرِف3 حتى يخرج إلينا، وهذا يدل على أن هوازن كانت مهددة بالخطر في عقر دارها، وأنها كانت تتوقع أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبدأ بهم قبل قريش، ولذا فقد وقفت داخل حدودها متخوفة من هجوم المسلمين.

وكون هوازن لم تساند قريشا في معاركها ضد المسلمين، لا يمنع ذلك من وجود بعض أفراد من هوازن وقفوا إلى جانب قريش ضد المسلمين، وخاصة من ثقيف، كما حصل من الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة فإنه كان ممّن خرج مع قريش إلى غزوة بدر الكبرى، وأشار إلى حلفائه من بني زهرة بعدم حضور بدر وقال لهم: إنكم خرجتم لنجدة عيركم، وقد سلمت فلا حاجة لكم بحرب المسلمين، فأطاعه بنو زهرة ولم يحضر بدرا زهري فكان في ذلك سلامة لأرواحهم4.

وكما حصل أيضا من عروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية، فقد جاء بأهله وولده ومن أطاعه من قومه مساندة لقريش، وكان أحد المبعوثين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 انظر: (صحيح البخاري5/119 كتاب المغازي، باب غزوة الفتح. وصحيح مسلم 4/1941 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أهل بدر، وقصة حاطب بن أبي بلتعة) .

(مجمع الزوائد 6/162- 163) .

3 سرف: بفتح السين المهملة وكسر الراء وآخره فاء: واد كبير من روافد مر الظهران، يسيل من جبل أظلم وما حوله، وفيه هناك الجعرانة يمر شمال مكة على اثني عشر كيلا، ثم يصب في مر الطهران عند دف خزاعة، وفيه بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وتوفيت بنفس المكان. (معالم مكة التاريخية والأثرية لعاتق البلادي ص132- 133) .

4 انظر: (ابن الأثير: أسد الغابة 1/60. وابن حجر: الإصابة 1/25) .

ص: 58

من قبل قريش للتفاوض معه، وأشار إلى قريش بقبول ما عرضه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم:"إن هذا عرض عليكم خطة رشد اقبلوها"1.

ب– تحركات المسلمين العسكرية قبل غزوة حنين:

إن المراد بهذا التحرك هو ذكر الأحداث العسكرية والتحركات الإسلامية التي كانت توطئة لهذه الغزوة.

وبالنظر إلى الروايات التي وردت في هذا الصدد، ظهر أن هذه التحركات الإسلامية كانت ترمي إلى نشر الإسلام بالدعوة إليه، ثم القضاء على كل من يقف في وجه الدعوة الإسلامية.

وكان أبرز أعمال هذه السرايا2 ملاحقة فلول الوثنية حول مكة وهدم ما تبقى من أصنام تُعبد من دون الله، وكان ذلك تمهيداً عسكرياً وتطهيراً للأرض من رجس الوثنية حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

ولقد انهارت الزعامة الوثنية على أيدي المسلمين بفتح مكة، ولم تبق في الجزيرة العربية قوة يحسب لها حساب عند المسلمين بعد أن فتح الله عليهم مكة سوى قبائل هوازن، وهي قبائل كثيرة ممتدة في رقعة واسعة من الأرض، وكانت ذات شوكة ومنعة، فصرف المسلمون نظرهم إليها بعد فتح مكة مباشرة، وفيما يلي بيان التفاصيل وفقا للروايات التاريخية في ذلك.

1 تقدم هذا الحديث برقم (5) .

2 السرايا: جمع سرية، وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو ثم تعود إليه. سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري، أي النفيس.

وقيل: سموا بذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية، وليس هذا بوجيه، لأن لام السر (راء) وهذه ياء. (ابن الأثير: النهاية 2/363) .

ص: 59

أوّلاً: سرية خالد بن الوليد لهدم العزى:

كانت هذه السرية مكونة من ثلاثين فارسا بقيادة خالد بن الوليد، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم – بعد فتح مكة لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان للهجرة – لهدم العزى أعظم صنم عند قريش ومن دان بدينها من كنانة وبني شيبان من بني سليم1.

فقد ذكر ابن إسحاق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى العزى، وكانت بنخلة2، وكانت بيتا يعظمه هذا الحي من قريش وكنانة ومضر كلها، وكانت سدنتها وحجابها من بني شيبان3 من بني سليم4 حلفاء بني هاشم5، فلما سمع صاحبها السلمي بمسير خالد إليها، علق عليها سيفه وأسند6 في الجبل الذي هي فيه، وهو يقول:

على خالد ألقي القناع وشمري

أيا عزى شدي شدة لا شوى7 لها

فبوئي بإثم عاجل أو تنصري

يا عزى إن لم تقتلي المرء خالدا

فلما انتهى إليها خالد هدمها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -8.

(ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/145. والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/65. وابن الأثير: الكامل 2/176. وابن كثير: البداية والنهاية 4/316، 375. وابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/413- 414. والقسطلاني: المواهب اللادنية 1/160. والخضري بك: نور اليقين ص219. وباشميل: غزوة حنين ص17) .

2 هي نخلة الشامية انظر: ص 61 تعليقة (5) .

3 هو: شيبان بن جابر بن مرة بن عيسى بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور (الكشميري: فيض الباري 4/239) .

4 بنو سليم: نسبة إلى سليم - بضم السين وفتح اللام- ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. (ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب 2/128) .

5 قال ابن هشام: حلفاء بني أبي طالب خاصة. (سيرة ابن هشام 1/84) .

6 أسند في الجبل: رقي وصعد. (المعجم الوسيط 1/453) .

7 لا شوى لها: أي لا تبقي على شيء. يقال: رمى فأشوى إذا لم يصب المقتل. (ابن الأثير: النهاية 2/511) .

8 سيرة ابن هشام 2/436. وانظر: (ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/145. وخليفة بن خياط: تاريخ خليفة ص88. والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/65. وابن الأثير: الكامل 2/176. وابن كثير: البداية والنهاية 4/316، 2/192) .

ص: 60

12-

وأخرج النسائي في السنن الكبرى فقال، أخبرنا عليّ1 ابن المنذر أخبرنا ابن فضيل2: حدثناالوليد3 بن جميع، عن أبيالطفيل4 قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد إلى نخلة5، وكانت بها العزى، فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم

1 علي بن المنذر الطريقي - بفتح المهملة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم قاف - الكوفي، صدوق يتشيع، من العاشرة (ت 256) / ت س ق (ابن حجر: التقريب 2/44، وتهذيب التهذيب 7/386) .

وقال ابن أبي حاتم: سمعت منه مع أبي وهو ثقة صدوق.

وقال أيضا: سئل عنه أبي فقال: حج خمسين أو خمسا وخمسين حجة، ومحله الصدق. (الجرح والتعديل 6/206. والذهبي: ميزان الاعتدال 3/157) .

2 محمد بن فضيل بن غزوان - بفتح المعجمة وسكون الزاي - الضبي مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمي بالتشيع، من التاسعة /ع (التقريب 2/200- 201، وتهذيب التهذيب 9/405) . وفي هدي الساري ص441 نقل فيه أقوال العلماء، ثم عقب بقوله: قلت: إنما توقف فيه من توقف لتشيعه، وقد قال أحمد بن علي الأبار، حدثنا أبو هاشم قال: سمعت ابن فضيل يقول: رحم الله عثمان، ولا رحم الله من لا يترحم عليه، قال ورأيت عليه آثار أهل السنة والجماعة، رحمه الله، وقد احتج به جماعة.

وقال الذهبي: روى عنه عدد كثير وجم غفير على تشيع كان فيه، إلاّ أنّه كان من علماء الحديث، والكمال عزيز. وختم ترجمته بقوله: وقد احتج به أرباب الصحاح. (سير أعلام النبلاء 9/173- 175) .

وقد ذكر البخاري في (التاريخ الكبير 1/207- 208) : أن وفاة محمد بن فضيل كانت سنة (195) ، وهكذا ذكر الذهبي في (سير أعلام النبلاء، وميزان الاعتدال 4/9- 10، وتذكرة الحفاظ 1/315، والخلاصة للخزرجي 2/450)، إلاّ أن الذهبي قال: وقيل مات سنة (194) . ووقع في تهذيب التهذيب 9/406 أنّ وفاته كانت سنة (295) وهو خطأ.

3 الوليد بن عبد الله بن جميع - مصغرا - الزهري المكي، نزيل الكوفة، صدوق يهم، ورمي بالتشيع، من الخامسة /بخ م د ت س. هكذا ذكر ابن حجر في التقريب، والرجل وثقه ابن معين وابن سعد، والعجلي وغيرهم، وضعفه العقيلي وابن حبان والحاكم. (ابن حاتم: الجرح والتعديل 9/8، والذهبي: ميزان الاعتدال 4/337، وابن حجر: التقريب2/333،وتهذيب التهذيب11/138-139،والخزرجي: الخلاصة3/121) . وقال الذهبي: في (الكاشف30/210) وثقوه، وقال ابن أبي حاتم: صالح الحديث.

4 هو: عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي، أبو الطفيل وربما سمي عمرا، ولد عام أحد، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر فمن بعده، وعُمِّرَ إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قال مسلم وغيره /ع (التقريب1/389، وتهذيب التهذيب5/82) .

5 نخلة: هي الشامية: وهو واد يصب من الغمير ويجتمع مع وادي نخلة اليمانبة في البستان، ويصيران واديا واحدا فيه بطن مر، وكانت العزى في حراض من وادي نخلة الشامية، وحراض: موضع قرب مكة بين المشاش والغمير، وكان أول من اتخذ العزي ظالم بن أسعد. (ياقوت: معجم البلدان 2/234، 5/277) .

وقال حمد الجاسر: المراد بالبستان الذي هو مجتمع النخلتين هو بستان بن معمر، وهو معمر بن عبيد بن معمر، من تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.

ثم قال: والعامة يسمونه بستان بن عامر وهو غلط. (التحقيق على كتاب المناسك للحربي ص365) .

وقال عاتق بن غيث البلادي: نخلة الشامية أكبر روافد وادي مر الظهران تأخذ أعلى مساقطها من جبل "الحبلة" بثلاث فتحات من جهته الشرقية قرب الطائف من الغرب، ثم تسمى أسماء عديدة في رحلتها الطويلة فتمر بالمحرم ثم قرن ثم السيل ثم بعج ثم حراض، ثم المضيق ثم تجتمع مع نخلة اليمانية في وادي الزبارة، لها روافد ضخام من السيل الصغير، وبرى، والزرقاء، وسقام وفيه العزى، سكنها ثقيف، فعتبية، فهذيل. (نسب حرب ص388) .

ص: 61

فأخبره فقال: "ارجع فإنك لم تصنع شيئا": فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة وهم حَجَبَتُهَا أمعنوا1 في الجبل وهم يقولون:

يا عزى، يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، فغمسا بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:"تلك العزى"2.

والحديث نسبه السيوطي للنسائي وابن مردويه3.

وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه علي4 بن المنذر وهو ضعيف5.

ورواه أبو يعلى فقال: حدثنا أبو كريب6، ثنا محمد بن الفضل به7.

ورواه البيهقي أيضاً من طريق أبي كريب عن محمد بن الفضيل به8.

1 أمعنوا في الجبل: أي جدوا وأسرعوا في طلوع الجبل. (ابن الأثير: النهاية 4/344) .

2 المزي: تحفة الأشراف 4/235 (حديث 5054) . وابن كثير: التفسير 4/254.

3 الدر المنثور 6/176.

4 في مجمع الزوائد: وفيه يحيى بن المنذر، وهو خطأ، والحديث أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ص469 عن الطبراني فقال: علي بن المنذر، وقد تقدم القول في علي ابن المنذر في أول هذا الحديث ص وتابعه أبو كريب محمد بن العلاء عند أبي يعلى والبيهقي.

5 مجمع الزوائد 6/176.

6 محمد بن العلاء بن كريب، أبو كريب الهمداني، ثقة حافظ، من العاشرة (ت 248) وقال في التقريب: مات سنة 247، وقال في تهذيب التهذيب: وهو وهم.

ووقع في التقريب الطبعة المصرية في باب الكنى "أبو كريبة" هو محمد بن العلاء، وهو خطأ والصواب أبو كريب بدون هاء./ع (ابن حجر: التقريب2/197، وتهذيب التهذيب 9/385- 386، والخزرجي: الخلاصة 2/46) .

(مسند أبي يعلى 1/107 أ) .

8 ابن كثير: البداية والنهاية 4/316.

ص: 62

13-

ما رواه بن أبي شيبة في التاريخ قال: حدثنا علي بن مسهر1، حدثنا الأجلح2 عن عبد الله3 بن أبي هذيل قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى فجعل يضربها بسيفه، ويقول:

يا عزى كفرناك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك4

والحديث الثاني من طريق أبي الطفيل رضي الله عنه وهو من صغار الصحابة فإن كل من ترجم له قال بأنه ولد عام أحد5.

وبعث خالد بن الوليد إلى العزى كان أواخر السنة الثامنة من الهجرة، فيكون سن أبي الطفيل عندئذ خمس سنوات، لأن أحد كانت في السنة الثالثة، وهو وقت يصح السماع فيه6.

14-

وقد ورد عند أبي يعلى: عن أبي الطفيل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالجعرانة فقسم لحما وأنا يومئذ غلام7، فأقبلت امرأة بدوية، فلما دنت من النبي صلى الله عليه وسلم بسط لها رداءه،

1 علي بن مسهر - بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء - القرشي الكوفي، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعدما أضر، من الثامنة (ت 189)(التقريب 2/44، تهذيب التهذيب 7/383) .

وقال الذهبي عنه: "علي بن مسهر الإمام الحافظ أبو الحسن". قال أحمد العجلي: "كان ممن جمع بين الفقه والحديث ثقة". (تذكرة الحفاظ 1/290- 291) .

2 الأجلح بن عبد الله بن حجية - بالمهملة والجيم مصغرا - يكنى أبا حجية الكندي، يقال اسمه يحيى، والأجلح لقب، صدوق شيعي من السابعة (ت 145) /بخ ع (التقريب 1/49، تهذيب التهذيب 1/189) .

3 عبد الله بن أبي الهذيل الكوفي، أبو المغيرة، ثقة، من الثانية، مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق/زم ت س. (التقريب1/458،وتهذيب التهذيب 6/62. وكان خالد بن عبد الله القسري واليا على العراق من قبل هشام بن عبد الملك، ثم عزله في سنة (125) . (تهذيب التهذيب 3/101) .

(تاريخ ابن أبي شيبة ص25 بسم الله الرحمن الرحيم) .

5 أنظر ابن عبد البر: (الاستيعاب 4/115 مع (الإصابة)، وابن الأثير: أسد الغابة 3/145، وابن حجر: تهذيب التهذيب5/82- 83، والتقريب 1/389) . وقد ورد عند أحمد في المسند 5/454 عن أبي الطفيل قال: أدركت ثماني سنين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وولدت عام أحد.

6 يؤيد ذلك ما رواه البخاري في صحيحه 1/22 من كتاب العلم، باب متى يصح سماع الصغير من حديث محمود بن الربيع قال:"عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو". وانظر: (فتح الباري 1/171- 173 وتدريب الراوي ص237) .

7 الغلام الطار الشاب والكهل ضد، أو من حيث يولد إلى ان يشيب. (القاموس 4/157) .

ص: 63

فجلست عليه، فسألت من هذه؟ قالوا أمه التي أرضعته1.

فلو صح هذا الحديث لكان صريح في السماع أبي الطفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن قصة الجعرانة، وقصة هدم العزى كانتا في وقت واحد، لأن هدم العزى كان قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه مسلم - إلى غزوة حنين، وقصة الجعرانة كانت في وقت تقسيم الغنائم التي غنمها رسول الله-صلى الله عليه وسلم-من غزوة حنين، ولكن الحديث لم يصح لأن فيه جعفر بن يحيى بن ثوبان، وعمارة بن ثوبان، وكلاهما مجهول الحال2.

ولذا فقد جزم ابن السكن3 برؤية أبي الطفيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون سماعه منه، فقال: جاءت عنه روايات ثابتة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم4، وأما سماعه منه صلى الله عليه وسلم فلم يثبت5.

وعلى هذا فيكون أبو الطفيل لم يسمع حديث خالد بن الوليد لهدم العزى من رسول الله-صلى الله عليه وسلم، وعليه فيكون الحديث من مراسيل الصحابة وهو مقبول على المعتمد سواء أكان الصحابي الذي أرسل الحديث صغيرا أم كبيرا لم يشهد الحادثة لتأخر إسلامه.

قال النووي: في آخر كلامه على الحديث المرسل: "هذا كله في غير مرسل الصحابي، أما مرسله فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح"6.

قال السيوطي: "قوله أما مرسله" أي مرسل الصحابي وذلك كإخباره عن شيء

(أبو يعلى: المسند 1/107 أ) . والحديث أيضا عند البيهقي، وفيه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعماً بالجعرانة. (البداية والنهاية لابن كثير4/364) . والظاهر: أن "نعما" أولى من "لحما".

(الذهبي: ميزان الاعتدال 1/420) . ابن حجر: التقريب 1/132، 2/49، تهذيب التهذيب 2/109، 7/412.

3 ابن السكن: هو الحافظ الحجة أبو علي سعيد بن عثمان بن السكن البغدادي، نزيل مصر (294- 353) . (الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/937، وكحالة: معجم المؤلفين 4/227) .

4 ثبتت رؤيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح 2/927، وأحمد: المسند 5/454 من طريق معروف بن خَرَّبُوذ قال: سمعت أبا الطفيل يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن" لفظ مسلم، وزاد أحمد:"وأنا غلام شاب".

(ابن حجر: الإصابة 4/113، وتهذيب التهذيب 5/83) .

(تقريب النووي ص126 مع تدريب الراوي) .

ص: 64

فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوه ممّا يعلم أنه لم يحضره لصغر سنه أو تأخر إسلامه، (فمحكوم بصحته على المذهب الصحيح) الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيرهم، وأطبق عليه المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بضعف المرسل، وفي الصحيحين من ذلك ما لا يحصى1، لأن أكثر رواياتهم عن الصحابة وكلهم عدول، ورواياتهم عن غير الصحابة نادرة، وإذا رووها بينوها، بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة، بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات"2. إ?

والحديث بهذا يكون حسنا لغيره، وهو نص في أن الذي تولى هدم العزى هو خالد بن الوليد رضي الله عنه.

وقد ذكره ابن إسحاق معضلا، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن أبي الهذيل مرسلا3، وأطبق على ذلك علماء المغازي والتفسير.

وأما وجود العزى فقد ثبت في القرآن الكريم، في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} ، [سورة النجم، الآية: 19] .

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

15-

"من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلَاّ الله". الحديث..لفظ البخاري4.

هذه إحدى السرايا التي بعثها الرسول صلى الله عليه وسلم لضرب معاقل الوثنية وهدم ما تبقى من أعلامها، لأن هدف الإسلام الأول، هو تثبيت عقيدة التوحيد في نفوس الناس، وبيان أن هذه الأوثان والأصنام لا يصح أن تعبد من دون الله، وعبادتها ضرب من

1 مثل محمود بن الربيع وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو والسائب بن يزيد.

(السيوطي: تدريب الراوي ص126، والسخاوي: فتح المغيث 1/146) .

3 انظر: الحديث رقم 11، 13.

4 الصحيح (6/117) تفسير سورة النجم و8/23 كتاب الأدب، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلا، و8/56 كتاب الاستئذان، باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله الخ. و8/112 كتاب الأيمان والنذور، باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت.

ومسلم: الصحيح (3/1267- 1268) كتاب الأيمان، باب من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله.

ص: 65

السفه والجهل والخروج عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن ثمّ عني الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر غاية العناية، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهيَّاج1 الأسدي، قال:

16-

قال لي عليّ بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلاّ سويته" 2.

ثالثاً: هدم مناة:

ومن الأصنام التي كانت خارج الحرم "مناة"، وهي أقدم صنم وأعظمه عند العرب، فقد كان لهذا الصنم من المكانة والإجلال في نفوسهم ما جعلهم يتسمون به، وكانوا يقربون له القرابين ويطوفون به.

قال ابن الكلبي: كان الذي وضع الأصنام في بلاد العرب عمرو ابن لحي3، فكان أقدمها كلها مناة4، وكان منصوبا على ساحل البحر من ناحية المشلل5 بقديد، بين المدينة ومكة، وكانت العرب جميعا تعظمه، وتذبح حوله، وكانت الأوس

1 أبو الهياج - بتشديد الياء - حيان بن حصين الأسدي، الكوفي، ثقة، من الثالثة/م د ت س. (ابن حجر: التقريب 1/208)

2 مسلم: (الصحيح 2/666 كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبور) .

3 عمرو بن لحي - باللام والمهملة مصغرا - وهو والد خزاعة. (انظر: فتح الباري 6/547. ونهاية الأرب للنويري 2/332) .

4 مناة: بفتح الميم والنون المخففة. قرأ الجمهور "مناة" بألف من دون همزة مشتقة من منى يمنى أي صب، لأن دماء النسك كانت تصب عندها يتقربون بذلك إليها.

وقرأ غير الجمهور "مناءة" بالمد والهمزة، مشتقة من النوء، وهو المطر، لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء. وقيل: هما لغتان للعرب. (الشوكاني: فتح القدير 5/107- 108)

5 المشلل: بضم الميم وفتح الشين المعجمة ثم لامين أولهما مشدد مفتوح، وأصل هذا الاسم لتل صغير تكسوه حجارة المرو بطرف قديد من الشمال كانت عليه "مناة" الطاغية، ثم نسبت إليه الحرة الكبيرة المنقادة بين قديد ودوران والتي يقع تل المشلل بطرفها الغربي، يفصل بينهما ثنية المشلل، وتسمى الحرة الآن "القديدية" نسبة على وادي قديد.

(انظر: ياقوت: معجم البلدان 2/480، 4/313، 5/136، 204- 205. والبلادي: نسب حرب ص40، 385)

ص: 66

والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المنطقة يعظمونه ويذبحون له، ويهدون له، ولم يكن أحد أشد إعظاما له من الأوس والخزرج.

وكانت الأوس والخزرج ومن يأخذ بإخذهم1 من عرب أهل يثرب وغيرها يحجون فيقفون مع الناس المواقف كلها، ولا يحلقون رؤوسهم، فإذا نفروا أتوا مناة فحلقوا رؤوسهم عنده وأقاموا عنده، ولا يرون لحجهم تماما إلا بذلك.

ومناة هذه هي التي ذكرها الله عز وجل فقال: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ، [سورة النجم، الآية: 20] . وكانت لهذيل وخزاعة، وكانت قريش وجميع العرب تعظمه2 ا.?.

هكذا ذكر ابن الكلبي عن تعظيم العرب لمناة ومكانته في نفوسهم.

17-

وقد ورد عند البخاري وغيره من حديث عروة، عن عائشة رضي الله عنها قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حديث السن -: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، [سورة البقرة، الآية: 158] ، فلا أرى3 على أحد شيئا ألا يطوف بهما، فقالت عائشة: "كلا، لو كانت كما تقول4 كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين

1 الإخذ: بكسر الهمزة، قال ابن منظور: والعرب تقول: لو كنت منا لأخذت بإخذنا بكسر الهمزة أي أخذت بخلائقنا وزينا وشكلنا وهدينا. (لسان العرب 5/3-4) .

2 ابن الكلبي: كتاب الأصنام ص13-15.

3 فلا أُرى - بضم الهمزة - أي فلا أظن.

4 قوله (لو كانت) أي هذه الآية (كما تقول) أي كما تأولها عليه من الإباحة (لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) بزيادة "لا" بعد "أن" فإنها كانت حينئذ تدل على رفع الإثم عن تاركه، وذلك حقيقة المباح، فلم يكن في الآية نص على الوجوب ولا عدمه.

قال النووي: "قال العلماء: هذا من دقيق علمها وفهمها الثاقب وكبير معرفتها بدقائق الألفاظ، لأن الآية الكريمة إنما دل لفظها على رفع الجناح عمن يطوف بهما، وليس فيه دلالة على عدم وجوب السعي، ولا على وجوبه، فأخبرته عائشة رضي الله عنها أن الآية ليست فيها دلالة للوجوب ولا لعدمه، وبيَّنت السبب في نزولها، والحكمة في نظمها وأنها نزلت في الأنصار حين تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة في الإسلام، وأنها لو كانت كما يقول عروة لكانت لا جناح عليه ألا يطوف بهما، وقد يكون الفعل واجبا ويعتقد إنسان أنه يمنع إيقاعه على صفة مخصوصة، وذلك كمن عليه صلاة الظهر وظن أنه لا يجوز فعلها عند غروب الشمس، فسأل عن ذلك فيقال في جوابه: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت، فيكون جوابا صحيحا ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر". إهـ. (شرح النووي على صحيح مسلم 3/410. وانظر: ابن حجر: فتح الباري 3/499، والمباركفوري: تحفة الأحوذي 8/302، ومحمد شمس الحق العظيم آبادي: عون المعبود 5/356) .

ص: 67

الصفا والمروة، فلمّا جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 1.

وفي لفظ عند البخاري من طريق الزهري عن عروة، قالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية2 التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية.

قالت عائشة رضي الله عنها: وقد سن3 رسول الله- صلى الله عليه وسلم-الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.

ثم أخبرت4 أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هذا لعلم ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس – إلا من ذكرت عائشة ممن كان يهل بمناة – كانوا يطوفون بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة، وأنّ الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوّف بالصفا والمروة؟

1 البخاري: الصحيح 3/6 كتاب العمرة (باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج) . ومالك: (الموطأ 1/373) كتاب الحج (باب جامع السعي) . وأبو داود: (السنن 1/438- 439) ، كتاب المناسك (باب أمر الصفا والمروة) .

2 الطاغية: صفة إسلامية (لمناة) . (ابن حجر: فتح الباري 3/499) .

3 قول عائشة: "وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة

الخ": أي فرضه بالسنة وليس مرادها نفي فرضيتها، ويؤيده قولها "لم يتم الله حج أحدكم ولا عمرته ما لم يطف بينهما". (ابن حجر: فتح الباري 3/501) وانظر ص70 تعليقة (3) .

4 القائل (ثم أخبرت) : هو الزهري راوي هذا الحديث كما هو مصرح به عند مسلم. انظر ص69.

ص: 68

فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية، قال أبو بكر:"فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما: في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون، ثم تحرجوا ان يطوفوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا حتى1 ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت"2.

وهو عند مسلم أيضا ولفظه: قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأعجبه ذلك، وقال: إن هذا لعلم، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية.

وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} . قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء3.

وعند البخاري أيضا قال: قال معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة – ومناة صنم بين مكة والمدينة – قالوا: يا نبي الله: كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة4.

هكذا علقه البخاري عن معمر، ووصله أحمد ولفظه: ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قالت: كان رجال من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ومناة صنم بين مكة والمدينة قالوا: يا نبي الله: إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بهما، فأنزل الله عز وجل {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 5.

1 قوله: "حتى ذكر ذلك بعدما ذكر الطواف بالبيت"، يعني تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج وهي قوله تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، [الحج: من الآية29] . (ابن حجر: فتح الباري 3/501) .

2 البخاري: (الصحيح 2/132) ، كتاب الحج (باب وجوب الصفا والمروة) .

3 مسلم: (الصحيح 2/929) ، كتاب الحج (باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به)

4 البخاري: (الصحيح 6/118 كتاب التفسير (باب ومناة الثالثة الأخرى) .

5 أحمد: (المسند 6/162)، ووقع فيه خطأ مطبعي فأسقط "لا" من قوله: كنا لا نطوف

الخ، والصواب إثباتها كما في رواية البخاري.

ص: 69

18-

وورد من حديث عاصم بن سليمان قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن الصفا والمروة؟

فقال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} .. إلى قوله.. {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} لفظ البخاري1.

ولفظ مسلم: عن أنس قال: كانت الأنصار يكرهون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى نزلت:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 2.

وعند مسلم أيضا: قال عروة: قلت لعائشة: ما أرى علي جناح أن لا أتطوف بين الصفا والمروة. قالت: لم؟ قلت: لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية. فقالت: لو كان كما تقول لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما وإنما أنزل هذا في أناس من الأنصار، كانوا إذا أهلوا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج، ذكروا ذلك له، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلعمري: ما أتم الله3 حج من لم يطف بين الصفا والمروة4.

وفي لفظ: "قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئا، وما أبالي ألا أطوف بينهما، قالت: بئسما قلت يا ابن أختي. طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون فكانت سُنة وإنما كان من أهلَّ لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة، فلما كان الإسلام سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله عزوجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ولو كانت كما تقول لكانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"5.

1 البخاري: (الصحيح 6/19- 20) ، كتاب التفسير، باب قوله (إن الصفا والمروة من شعائر الله) .

والترمذي (السنن: 4/277- 278 أبواب التفسير) .

2 مسلم: (الصحيح 2/930 كتاب الحج) ، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به.

3 وعند البخاري: "ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ما لم يطف بين الصفا والمروة".

4 مسلم: (الصحيح 2/928 كتاب الحج) .

وابن ماجه: (السنن 2/994 فيه (باب السعي بين الصفا والمروة) .

5 مسلم: (الصحيح 2/929 كتاب الحج) . والترمذي: (السنن 4/277 كتاب التفسير) .

والبخاري: (الصحيح 6/117 كتاب التفسير، باب ومناة الثالثة الأخرى) .

ص: 70

وفي لفظ عن عروة بن الزبير: أن عائشة أخبرته أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا هم وغسان يهلون لمناة فتحرجوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة وكان ذلك سنة في آبائهم، من أحرم لمناة1 لم يطف بين الصفا والمروة، وأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله عز وجل في ذلك {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} .

إن حديث عائشة رضي الله عنها برواياته المتعددة يعطينا صورة عن حالة العرب قبل الإسلام، وكيف تمكن الشيطان منهم فزيّن لهم عبادة غير الله من الأصنام والأحجار والأشجار، ويصور لنا مدى حبهم واحترامهم وإجلالهم لهذه الآلهة المزعومة حتى أنهم كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، وأشدهم في ذلك تعظيما لمناة الأوس والخزرج، فلما جاء الله بالهدى والنور ودخلوا في دين الله الحق، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حكم طوافهم بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} كما ورد ذلك في حديث عائشة وأنس بن مالك.

هذه نبذة يسيرة عن موقف العرب من الأصنام وما كان لها في نفوسهم من المكانة، وخاصة "مناة" التي كان يعبدها جل العرب، ولذا فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-عندما دخل مكة فاتحاً وجّه عنايته البالغة إلى تحطيم هذه الأصنام الموجودة داخل الحرم وخارجه، حتى يعبد الله وحده ويكفر بما سواه من الأنداد الفاسدة والعقائد الضالة المنحرفة.

1 ورد عند مسلم أيضا من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه "أن عائشة قالت لعروة: وهل تدري فيما كان ذاك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيؤون فيطوفون بين الصفا والمروة ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية. قالت: فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ، [البقرة: من الآية158] ، إلى آخرها، قالت: فطافوا".

قال النووي: قال القاضي عياض: (هكذا وقع في هذه الرواية، وهو غلط، والصواب ما جاء في الروايات الأخرى في الباب "يهلون لمناة"، وفي الرواية الأخرى "لمناة الطاغية التي بالمشلل" قال: وهذا هو المعروف، و"مناة" صنم كان نصبه عمرو بن لحي في جهة البحر بالمشلل مما يلي قديدا، وكذا جاء مفسرا في هذا الحديث في الموطأ، وكانت الأزد وغسان تهل له بالحج،

وأما "إساف ونائلة" فلم يكونا قط في جهة البحر، وإنما كانا عند الكعبة، وقيل على الصفا والمروة. (شرح النووي على صحيح مسلم 3/411، وابن حجر: فتح الباري 3/500) .

قلت: ولعل الوهم من أبي معاوية، فإن الحديث رواه مالك، عن هشام بن عروة عن أبيه فجاء مفسرا فيه أنهم كانوا يهلون لمناة وكانت حذو قديد. انظر: الموطأ 1/373 كتاب الحج، باب جامع السعي.

ص: 71

أما الحديث عمن تولى هدم هذا الصنم "مناة" فقد اختلف في ذلك على النحو التالي:

أ- فعند ابن الكلبي أن الذي تولى هدمها هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان ذلك سنة ثمان للهجرة، عندما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدا فتح مكة، فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس ليال بعث عليا إليها فهدمها وأخذ ما كان لها، فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فيما أخذ سيفان كان الحارث1 بن أبي شمر الغساني ملك غسان أهداهما لها، أحدهما يسمى (مِخْذَماً) والآخر (رسوبا) 2 فوهبهما النبي صلى الله عليه وسلم لعيّ رضي الله عنه، فيقال: إن ذا الفقار3 سيف عليّ رضي الله عنه أحدهما4.

ونسب هذا الفعل إلى علي بن أبي طالب ابن هشام وابن كثير بصيغة التمريض5.

ب- وعند الواقدي وابن سعد أن الذي تولى هدمها هو سعد6 بن زيد الأشهلي. وهذا نص كلام ابن سعد قال: "ثم سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى "مناة"

1 هو الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق، وعند ابن هشام: ملك تخوم الشام، وكان تابعا لقيصر ملك الروم بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب مع شجاع بن وهب الأسدي يدعوه فيه إلى الإسلام، فامتنع من الدخول فيه وأسلم حاجبه، ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح. (ابن هشام: السيرة النبوية 2/207، وابن سعد: الطبقات الكبرى 1/261، 3/94، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/644) .

2 ويقال: أن عليا وجد هذين السيفين في الفِلس - بكسر الفاء - وهو صنم طيئ. حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهدمه. (ابن الكلبي: كتاب الأصنام ص15، الفيروز آبادي: القاموس 2/238) .

3 كون ذي الفقار أصابه عليّ رضي الله عنه عندما هدم "مناة" أو هدم "الفلس" يرد هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد فقال: رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم. الحديث: لفظ أحمد. (أحمد: المسند 1/271، والترمذي: السنن 3/61 كتاب السير (باب في النفل)، وابن ماجه: السنن 2/939 كتاب الجهاد (باب السلاح)، والحاكم: المستدرك 2/128- 129، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأقره الذهبي، ومن طريق الحاكم أورده البيهقي كما هو عند ابن كثير: البداية والنهاية 4/11. وبهذا الحديث يتضح أن ذا الفقار كان موجودا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هدم "مناة" بأعوام.

4 ابن الكلبي: (كتاب الأصنام ص15، ابن حجر: فتح الباري 8/612) .

5 ابن هشام: (السيرة النبوية 1/86، ابن كثير: التفسير 4/254، والبداية والنهاية 2/192) .

6 سعد بن زيد بن مالك بن عبد بن كعب بن عبد الأشهل الأنصاري الأشهلي، هو الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبايا من بني قريضة فاشترى بها من نجد خيلا وسلاحا. (ابن حجر: الإصابة 2/28) .

ص: 72

في شهر رمضان سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي، إلى مناة، وكانت بالمشلل للأوس والخزرج وغسان، فلما كان يوم الفتح بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي، يهدمها فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن، فقال السادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة! قال: أنت وذاك! فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك! ويضربها سعد بن زيد الأشهلي وقتلها ويقبل إلى الصنم معه أصحابه فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئا، وانصرف راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك لست بقين من شهر رمضان1.

هكذا ذكر ابن سعد بدون إسناد.

?- وقيل أن الذي بعث لهدمها هو أبو سفيان بن حرب2.

هذه هي أقوال العلماء فيمن بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدم مناة وهذه الروايات مختلفة في تعيين الصحابي الذي هدم "مناة" كما أنها اختلفت أيضا في زمن الهدم، فيظهر من بعضها أنه حصل هدم "مناة" قبل الفتح، وهذا ما ذكره ابن الكلبي، وذكر الواقدي وابن سعد أن ذلك كان بعد الفتح، وهو خلاف لا أثر له؛ لأن الغاية التي تحققت هي هدم "مناة" هذا الصنم الذي يحتل مكانة خاصة في نفوس العرب، وتصرف له العبادة، من دون الله، فهو إذاً واحد من الآلهة المزعومة التي يقف عابدوها في وجه الدعوة الإسلامية، بل هو أعتى صنم عند القوم، من أجل ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه، فبعث له من يقوم بهذه المهمة، وحين أراد تنفيذ هدمه اعترضه السادن قائلا: ماذا تريد؟ فقال الصحابي الجليل: أريد هدم مناة، فقال السادن: أنت وذاك، ثم قال بثقة غريبة:"مناة دونك بعض غضباتك" وهو يعتقد بأن إلهه سوف

(ابن سعد: الطبقات الكبرى2/146-147، والواقدي: المغازي 2/869-870) . وانظر: (الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/66، وابن عبد البر: الاستيعاب 2/47 مع "الإصابة"، وابن الأثير: الكامل 2/177 وأسد الغابة 2/352، وابن قيم الجوزية: زاد المعاد 3/414، وابن حجر: الإصابة 2/28) .

(ابن هشام: السيرة النبوية 1/86، وابن كثير: التفسير 4/254 والبداية والنهاية 2/192، وابن حجر الإصابة 2/179 منسوبا لابن إسحاق) .

ص: 73

يدافع عن نفسه ويبطش بمن أراده بسوء، ممَّا يدل على تمكن هذه العقيدة في نفوس العرب، فتقدم الصحابي الجليل فهدمه، فسقط في أيدي القوم واتضح لهم ما كانوا عليه من باطل.

وصدق الله إذ يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ، [سورة الأنبياء، الآية: 18] .

ثالثاً: سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة:

كانت هذه السرية مكونة من ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من قبائل العرب، وكانت عقب فتح مكة في شهر شوال سنة ثمان للهجرة، قبل الخروج إلى غزوة حنين.

قال ابن حجر: وهذا البعث كان عقب فتح مكة في شهر شوال قبل الخروج إلى حنين عند جميع أهل المغازي1.

19-

قال ابن اسحاق: حدثني حكيم2 بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر3 محمد بن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العرب:

(فتح الباري 8/57، وعند ابن سعد "كان ذلك بعد أن رجع خالد من هدم العزّى، وتعرف هذه السرية "بيوم الغميصاء". (الطبقات الكبرى 2/147) . والغميصاء: بضم الغين المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية فصاد مهملة ممدودة - ماء لبني جذيمة أوقع فيه خالد بن الوليد ببني جذيمة. (الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/66، وخليفة بن خياط: التاريخ ص 88، وياقوت: معجم البلدان 4/214، والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/2) .

2 حكيم بن حكيم بن عبّاد بن حنيف - مصغرا - الأنصاري الأوسي، صدوق، من الخامسة / عم (ابن حجر: التقريب 1/194، وتهذيب التهذيب 2/448) .

3 محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، ثقة فاضل من الرابعة (ت بضع عشرة ومائة) /ع. (التقريب 2/192، وتهذيب التهذيب 9/350، وفتح الباري 8/57) .

ص: 74

سُليم1بن منصور، بن مُدِلج2 بن مرة، فوطئوا بني جَذِيْمة3 ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا

فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك، فاكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع يديه على السماء، ثم قال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد"4.

والحديث أخرجه خليفة بن خياط من طريق ابن إسحاق مختصرا، والطبري وابن كثير بتمامه5.

والحديث معضل لأنه من رواية محمد بن علي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لم يدرك ذلك، لأن ولادته كانت ما بين سنة أربعين إلى سنة ست وخمسين6. وبالتالي يكون الحديث ضعيفا.

1 سليم بن منصور بن هوازن.

2 مُدِلج - بضم الميم وسكون الدال وكسر اللام - هو: مدلج بن مرة بن عبد مناة ابن كنانة، بطن كبير من كنانة، منهم سراقة بن مالك بن جعثم المدلجي له صحبة، ومنهم القافة الذين يلحقون الأولاد بالآباء منهم مجزز المدلجي له صحبة أيضا. (ابن الأثير: اللباب في تهذيب الأنساب 2/183، وأسد الغابة 2/331، وابن حجر: الإصابة 3/365) .

3 جذيمة: بفتح الجيم وكسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة، وزن "عظيمة" بين في الحديث بأنه ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وكانوا بأسفل مكة من ناحية يَلَمْلَم.

ووهم الكرماني فظن أنه من بني جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف، قبيلة من عبد القيس. (ابن حجر: فتح الباري 8/58 و10/142) .

قلت: ومثل قول الكرماني قال القسطلاني (المواهب اللدنية 1/161) . وتعقبه الزرقاني بقوله: فعجب من المصنف كيف جزم بما حكم شيخ الحفاظ ابن حجر بأنه وهم، وكذا قال إمام المغازي ابن إسحاق، وتابعه الإمام اليعمري وغيره. (انظر: شرح المواهب 3/2) .

ويَلَمْلَم: بفتح المثناة التحتية فلامين مفتوحتين بينهما ميم ساكنة، آخره ميم أخرى، اسم لا ينصرف، وهو جبل من جبال تهامة، يبعد عن مكة جنوبا بمرحلتين، وبالكيلمتر (80) وهو ميقات أهل اليمن. وميقات جاوه والهند والصين قديما. (ياقوت: معجم البلدان 5/441، وعبد الله بن صالح آل بسام: تيسير العلام 1/501) . وعاتق البلادي: (معالم مكة التاريخية والأثرية ص 328) .

(سيرة ابن هشام 2/428- 429) .

(تاريخ خليفة ص87- 88، وتاريخ الرسل والملوك للطبري 3/66- 67، والبداية والنهاية لابن كثير 4/312) .

6 ابن حجر: (تهذيب التهذيب 9/351) .

ص: 75

20-

وأخرج الطبري من طريق ابن إسحاق قال حدثني عبد الله1 بن أبي سلمة قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف-فيما بلغني-كلام2 في ذلك، فقال له3: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام، فقال: إنما ثأرت بأبيك، فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت، قد قتلت قاتل أبي. ولكنك ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة، حتى كان بينهما شيء، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"مهلاً يا خالد، دع عنك صاحبي، فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله، ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته"4. والحديث مرسل.

وهو يدل على ما وقع من خالد بن الوليد مع بني جذيمة، إنما هو انتقام وثأر لعمه الفاكه بن المغيرة، وهذا لا يليق بخالد بن الوليد وبصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة، ولا ينبغي أن يظن بهم أنه يصدر منهم مثل هذا، والحديث ضعيف لا تقوم بمثله حجة، والصحيح في ذلك ما جاء في حديث ابن عمر عند البخاري والنسائي وأحمد وعبد بن حميد، وهذا سياقه عند البخاري:

1 عبد الله بن أبي سلمة الماجشون-بفتح الجيم وضم الشين-التيمي مولاهم، ثقة من الثالثة (ت106) / م د س. (ابن حجر: التقريب1/420،وتهذيب التهذيب5/343) .

2 هذا الكلام الذي حصل بين خالد وعبد الرحمن بن عوف جاء عند ابن إسحاق أن سببه أن بني جذيمة كانوا قد أصابوا في الجاهليه عوف بن عبد عوف، والد عبد الرحمن بن عوف، والفاكه بن المغيرة. وذلك أن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وعوف بن عبد مناف بن عبد الرحمن بن زهرة، وعفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس قد خرجوا تجارة إلى اليمن، ومع عفان ابنه عثمان، ومع عوف ابنه عبد الرحمن، فلما أقبلوا حملوا مال رجل من بني جذيمة بن عامر - كان هلك باليمن إلى ورثته، فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام، ولقيهم بأرض بني جذيمة قبل أن يصلوا إلى اهل الميت، فأبوا عليه، فقاتلهم بمن معه من قومه على المال لياخذه، وقاتلوه، فقتل عوف بن عبد عوف، والفاكه بن المغيرة، ونجا عفان بن أبي العاص وابنه عثمان وأصابوا مال الفاكه بن المغيرة، ومال عوف ابن عبد عوف، وانطلقوا به، وقتل عبد الرحمن بن عوف خالد بن هشام قاتل أبيه، فهمت قريش بغزو بني جذيمة، فقالت بنو جذيمة: ما كان مصاب أصحابكم عن ملأ منا، إنما عدا عليهم قوم بجهالة، فأصابوهم ولم نعلم، فنحن نعقل لكم ما كان لكم قبلنا من دم أو مال، فقبلت قريش ذلك، ووضعوا الحرب. (سيرة ابن هشام 2/431، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/68، والسهيلي: الروض الأنف 7/129، وابن كثير: البداية النهاية 4/314) .

3 أي فقال عبد الرحمن بن عوف لخالد بن الوليد.

(الطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/66، وسيرة ابن هشام 2/431) .

ص: 76

21-

قال حدثني محمود1، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، -ح2- وحدثني نعيم3، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: بعث النبي - صلى الله خالد - بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا4 صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر5، ودفع إلى كل رجل منا أسيره6، حتى إذا كان يوم7 أمر خالد أن يقتل كل

1 محمود: هو ابن غيلان العدوي مولاهم.

(ابن حجر: فتح الباري 8/57، وتهذيب التهذيب 10/64) .

(ح) هذه لها أربعة معان:

أ - أن المراد بها التحويل من سند إلى سند آخر، وهذا هو المشهور.

ب - أنها من الحيلولة أي حالت بين السند الأول والسند الثاني، بمعى فصلت بين إسنادين.

?- أنها إشارة إلى بقية الحديث، كأنه قال لك اقرأ الحديث.

د- أن المراد بها صح، كأنه يقول: الإسناد الأول صحيح، هؤلاء رواته، والإسناد الثاني صحيح وهؤلاء رواته. وحسن إثبات صح هنا لئلا يتوهم أن حديث هذا الإسناد سقط، ولئلا يركب الإسناد الثاني على الأول، فيجعلا إسنادا واحدا. (انظر: المقدمة ابن الصلاح ص218- 219 مع (التقييد والإيضاح) ، وتقريب النووي ص303- 304 مع (تدريب الراوي) .

3 نعيم: هو ابن حماد، وعبد الله: هو ابن المبارك (ابن حجر: فتح الباري 8/57) .

4 قوله: "صبأنا صبأنا" قال ابن حجر: هذا من ابن عمر راوي الحديث، يدل على أنه فهم أنهم أرادوا الإسلام حقيقة، ويؤيد فهمه أن قريشا كانوا يقولون لكل من أسلم صبأ، حتى اشتهرت هذه اللفظة، وصاروا يطلقونها في مقام الذم. ومن ثم لما أسلم ثمامة بن أثال وقدم مكة معتمرا قالوا له: صبأت؟ قال: لا بل أسلمت، فلما اشتهرت هذه اللفظة بينهم في موضع أسلمت استعملها هؤلاء.

وأما خالد فحمل هذه اللفظة على ظاهرها، لأن قولهم "صبأنا" أي خرجنا من دين إلى دين، ولم يكتف خالد بذلك حتى يصرحوا بالإسلام.

وقال الخطابي: يحتمل أن يكون نقم عليهم العدول عن لفظ الإسلام، لأنه فهم عنهم أن ذلك وقع منهم على سبيل الأنفة، ولم ينقادوا إلى الدين فقتلهم متأولا قولهم. (فتح الباري 8/57) .

5 وعند النسائي "وجعل خالد قتلا وأسرا". وعند أحمد "وجعل خالد بهم أسرا وقتلا".

قال ابن حجر: وفي كلام ابن سعد أن خالدا أمرهم أن يستأسروا فاستأسروا فاكتف بعضهم بعضا، وفرقهم في أصحابه.

ثم قال ابن حجر: فيجمع بأنهم أعطوا بأيديهم بعد المحاربة. (فتح الباري 8/57، وانظر: (الطبقات الكبرى لابن سعد 2/147- 148) .

6 وعند أحمد "ودفع إلى كل رجل منا أسيراً".

7 وعند النسائي وأحمد وعبد بن حميد "حتى إذا أصبح يوماً".

ص: 77

رجل منا أسيره، فقلت1: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه2، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، فقال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين"34.

والحديث رواه أحمد، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق، عن معمر به5.

ورواه النسائي من طريق هشام6 بن يوسف، وعبد الرزاق، ومن طريق عبد الله بن المبارك ثلاثهم عن معمر به7.

والحديث صريح في أن خالدا قتل بني جذيمة لعدم تصريهم بالإسلام، واقتصارهم على قولهم "صبأنا" فلم يقبل ذلك خالد منهم ولم يعتبره عاصما لدمائهم، وهذا يرد ما جاء في الروايات المتقدمة من أن خالدا قتلهم ثأرا بعمه الفاكه بن المغيرة.

ولذا فقد أورد ابن كثير الأحاديث التي ساقها ابن إسحاق، التي ظاهرها أن ما وقع من خالد بن الوليد مع بني جذيمة كان بدافع الانتقام والأخذ بثأر عمه، ثم عقب بقوله "وهذه مرسلات ومنقطعات".

ثم أورد حديث ابن عمر بإسناد أحمد بن حنبل، ثم قال: ورواه البخاري والنسائي من حديث عبد الرزاق به نحوه8.

1 وعند النسائي وأحمد وعبد بن حميد "قال ابن عمر: فقلت".

2 وعند أحمد "قال: فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له صنيع خالد".

وعند النسائي "قال: فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له صنيع خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع يديه، "اللهم إني أبرأ إليك"

الخ.

وعند عبد بن حميد "فذكر له ما صنع خالد".

3 وعند عبد بن حميد "مرتين أو ثلاثا".

4 البخاري: (الصحيح 5/131 كتاب المغازي (باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن وليد إلى بني جذيمة) . و9/1 كتاب الأحكام، باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد. و8/63 كتاب الدعوات، باب رفع الأيدي في الدعاء تعليقا مختصرا. و4/80 كتاب الجزية، باب إذا قالوا صبأنا، تعليقا أيضا.

5 أحمد: (المسند 2/150- 151، وعبد بن حميد: المسند 1/100 بسم الله الرحمن الرحيم) .

6 هشام بن يوسف، هو: الصنعاني أبو عبد الرحمن. (ابن حجر: تهذيب التهذيب 11/57) .

7 السنن 8/208 كتاب آداب القضاة (باب الرد على الحاكم إذا قضى بغير حق) .

(البداية والنهاية 4/313- 314) .

ص: 78

وعند تفسير قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية1،

قال: والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة

22-

وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد2 ابن عبد الملك، حدثنا زهير3، حدثنا حميد4، عن أنس5، قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أُحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم"6.

ثم قال ابن كثير: ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة، الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك7.

فهذا الصنيع من ابن كثير - رحمه الله تعالى - يدل على أنه لم يرتض ما قاله

1 سورة الحديد – آية: 10.

2 أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني، أبو يحيى الأسدي، ثقة تكلم فيه بلا حجة، من العاشرة (ت221) /خ س ق. (ابن حجر: التقريب1/20،وتهذيب التهذيب1/57) .

3 زهير بن معاوية بن خديج، أبو خثيمة الجعفي الكوفي، نزيل الجزيرة، ثقة ثبت، من السابعة (ت72 أو173 أو 174) /ع. (التقريب1/265،وتهذيب التهذيب1/351) .

4 حميد بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصري، ثقة مدلس، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء، من الخامسة (ت 142، 143) وهو قائم يصلي/ع. (التقريب 1/202، وتهذيب التهذيب 3/38) .

5 أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، صحابي مشهور (ت92 وقيل 93) وقد جاوز المائة/ع. (ابن خجر: التقريب 1/84، وتهذيب التهذيب 1/376) .

6 الحديث في مسند أحمد 3/266 وفيه حميد وهو مدلس وقد عنعن ولكن أصل المشاجرة بين خالد وعبد الرحمن بن عوف ثابتة في صحيح مسلم 4/1967 كتاب فضائل الصحابة (باب تحريم سب الصحابة) من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه".

(ابن كثير: التفسير 4/306) .

ص: 79

ابن إسحاق وموافقوه من أن سبب الخصومة بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف هو قتل خالد لبني جذيمة ثأرا بعمه الفاكه1.

والحق أن الاختلاف والمشاجرة بين عبد الرحمن وخالد، كان بسبب قول بني جذيمة "صبأنا صبأنا".

ففهم منها عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر أن مراد القوم بهذه الكلمة الدخول في الإسلام.

وحملها خالد على أن القوم يتنقصون الإسلام ويحتقرونه وأنه لا بدّ من تصريهم بكلمة "أسلمنا".

وهذا هو الذي يتعين المصير إليه إجلالا لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوع في مثل هذا.

وفيما يلي ننقل شيء ممّا قاله العلماء حول موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه مع بني جذيمة، ليتجلى الموقف أكثر، ويتضح أن ما فعله خالد كان بهدف نصرة الإسلام والمسلمين:

عذر خالد بن الوليد:

إن الذي فعله خالد بن الوليد رضي الله عنه مع بني جذيمة كان عن تأويل واجتهاد إذ لم يتيقن أن القوم أسلموا بقولهم "صبأنا"، ومعلوم أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.

وهذا ما حصل من خالد رضي الله عنه، فإنه اجتهد في ذلك ولكنه أخطأ، ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذه على ما صنع، وإن كان تبرأ من فعله وغضب صلى الله عليه وسلم لتسرعه وعدم تثبته.

قال بن كثير- بعد أن ساق المشاجرة التي أوردها ابن إسحاق بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف2:

1 انظر ص76 من هذا المبحث، تعليقة (1) .؟؟؟

2 انظر ص: 78- 80.

ص: 80

والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئا من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة، فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الإسلام وأهله، وإن كان أخطأ في أمر، واعتقد أنهم ينتقصون الإسلام بقولهم "صبأنا صبأنا" ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الأسرى أيضا؛ ومع هذا لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل استمر به أمرا، وإن كان قد تبرأ منه في صنيعه ذلك، وودى1 ما كان جناه خطأ في دم أو مال

ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك2 ابن نويرة أيام الردة وتأول عليه ما تأول حين ضرب عنقه واصطفى امرأته أم تميم، فقال له عمر بن الخطاب: اعزله فإن في سيفه رهقا3، فقال الصديق: لا أغمد سيفا سله الله على المشركين4.

وقال ابن حجر: قوله: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" يعني من قتله الذين قالوا: "صبأنا" قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول، فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل ابن عمر ومنم تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من

1 أي سلم دية القتلى، جاء ذلك عند ابن إسحاق من مرسل أبي جعفر محمد بن علي قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: يا علي، اخرج إلى هؤلاء القوم، فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك، فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال، حتى إنه لا يدي لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم علي - رضوان الله عليه - حين فرغ منهم: هل بقي لكم بقية من دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يعلم ولا تعلمون ففعل. الحديث. (انظر: سيرة ابن هشام 2/430) .

2 هو: مالك بن نويرة اليربوعي، ومحصل قصة قتله أن خالد بن الوليد سار إليه وكان بالبُطحاء، فلما وصل خالد البطحاء بث السرايا، فأسروا مالكا في جملة من أصحابه، وكانت ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد قتلهم فقتلوهم، وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة.

وقيل: إن خالدا استدعى مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة، وقال له: ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزعم ذلك. فقال خالد: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟. يا ضرار اضرب عنقه، فضرب ضرار عنقه، واصطفى خالد امرأته أم تميم بنت المنهال. (ابن كثير: البداية والنهاية 6/322) .

3 رهقا: بالتحريك: أي عجلة (ابن الأثير: النهاية 2/283) .

(ابن كثير: البداية والنهاية 4/314) . وفي مسند أحمد 3/475- 476 أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، خطب الناس بالجابية ووزع عليهم الأعطيات حسب سبقهم في الإسلام الحديث مطول وفيه "فقال له أبو عمرو بن حفص بن المغيرة يعاتبه في عزل خالد ابن الوليد: لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله، وغمدت سيفا سله رسول الله، ووضعت لواء نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 81

المذكورين، ثم قال: وقال الخطابي1: الحكمة في تبرئه صلى الله عليه وسلم من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك، لكونه مجتهدا أن يعرف أنه لم يأذن له في ذلك خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، لينْزَجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله.

وقال أيضا: إنما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد حيث لم يتثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا. ا.? كلام الخطابي2.

وقال العامري: إنما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على خالد حيث لم يتثبت في أمرهم، ثم عذره في إسقاط القصاص، لأن هذا ليس تصريحا في قبولهم الدين3.

وقال القسطلاني: إنما نقم على خالد استعجاله في شأنهم، وترك التثبت في أمرهم إلى أن سيرى المراد من قولهم صبأنا4، ولم يرى عليه قودا لأنه تأول أنه كان مأمورا بقتالهم إلى أن يسلموا5.

وقد تبين ممّا سبق من أقوال العلماء أن هذه المسألة بين خالد قائد السرية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر مسألة اجتهادية أخطأ فيها خالد حينما تسرع في قتل القائلين "صبأنا"، ورأى عبد الرحمن وابن عمر أن مراد القوم بهذه الكلمة الإسلام.

1 هو الإمام العلامة المفيد المحدث الرحال أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي، صاحب التصانيف، وكان ثقة متثبتا من أوعية العلم، من تصانيفه الكثيرة:"أعلام السنن"، شرح به صحيح البخاري، و"معالم السنن" شرح به سنن أبي داود، توفي الخطابي رحمه الله سنة (388هـ) . (الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/1018-1020، والمباركفوري: مقدمة تحفة الأحوذي1/126،253-254) .

2 ابن حجر: (فتح الباري 6/274، 8/57- 58، 13/182، والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/3-4) .

3 بهجة المحافل 1/444.

4 قال الزرقاني: وهذا إنما هو على رواية الصحيح، وأما ما ذكره ابن سعد من أن بني جذيمة عندما جاءهم خالد فقال لهم: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا وأذّنا فيها. فيحمل على أن خالدا تأول أن هذا القول منهم تقية، كما تأول أسامة بن زيد في الرجل الذي قتله بعد أن قال لا إله إلا الله، ظنا منه أنه قالها خوفا من السيف. (شرح المواهب اللدنية 3/4) . وانظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 2/147 فقد ساق قصة خالد مع بني جذيمة بدون إسناد.

وساقها الواقدي في مغازيه 3/875 من مرسل أبي جعفر محمد بن علي بن حسين الباقر.

5 إرشاد الساري 6/416- 417. وقال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالدا أنه قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد الله بن حذافة السهمي، وقال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام. (سيرة ابن هشام2/430) .

ص: 82

ولم يفهم ذلك خالد، ولذلك وقع النزاع، وبما أن خالدا هو أمير السرية فقد أنفذ القتل فيهم، إذ فهم أن القوم يسخرون من الإسلام بقولهم "صبأنا" لأن قريشا كانت تنبز الذي يدخل في الإسلام بأنه صابئ، تعييرا له، وكان هذا مشهورا وقد وقع لخالد نفسه حين أسلم، فقال له عكرمة بن أبي جهل صبأت يا خالد، قال بل أسلمت، وكذلك وقع مثله لثمامة بن أثال، وعمر بن الخطاب1 وغيرهم من الصحابة، فعذر خالد في إسراعه بقتل أولئك القوم قائم، وهو أنه لم يفهم منهم إلا رفض الإسلام، لأنهم لم يصرحوا به، ولكنه لم يستفسرهم عن مرادهم ولم يأخذ برأي عبد الرحمن بن عوف وابن عمر فكان ذلك خطأ منه تبرأ من صنيعه فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وودى أولئك القتلى وأقر خالدا على إمرته، لأنه مجتهد ولم يكن يقصد إلا نصرة الإسلام بما فعل2.

1 انظر: (أسد الغابة لابن الأثير 1/294. والإصابة لابن حجر: 1/203، 244) .

2 انظر: (صادق العرجون في كتابه: خالد بن الوليد ص81، 83، 89، 90، 91) .

ص: 83