الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: جفاء الأعراب وغلظتهم
لقد عرف الأعراب بالجشع والحرص على أتفه متاع الدنيا مع الغلظة وشراسة الطبع والجفاء، لبعدهم عن مواطن الوعي الاجتماعي وتحررهم من قيود النظام وقوانين الحضارة الإنسانية، فالأعراب قوم من العرب يعيشون في البوادي ويتتبعون مواقع القطر وأماكن الخصب، ولا تجمعهم قرية ولا يحكمهم قانون ولا يخضعون لسلطان وقد سجل القرآن على هؤلاء الأعراب أشد الكفر والنفاق وأسوأ الجهل والفظاظة الأمر الذي يؤدي إلى كل تصرف وحشي وكل قول غليظ جاف.
قال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . [سورة التوبة: آية 97و98] .
وتاريخ الأعراب في الجاهلية حافل بالهمجية والفوضى وما يتبع من تصرفات نادة عن الذوق والوعي والمسئولية.
والإسلام جاء ليستنقذ هؤلاء التعساء وغيرهم من الظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، وقد استمرت الدعوة الإسلامية في طريقها لتخليص هذه النفوس المأفونة من رق الكفر وأغلال الجاهلية فأقبل على هذه الدعوة المحمدية من علم الله فيه الخير فتحرر من تقاليد الجاهلية وانحرافها في الفكر والسلوك في العقيدة والعمل بيد أنّ كثيراً من هؤلاء الجاهليّين ظل شاكاً في حقيقة الدعوة الإسلامية يتربص بها الدوائر يخرج مع المسلمين لا حباً في نصر الدين وإنما للحصول على الغنائم ويبدوا أن فرار الأعراب يوم حنين لا يبعد أن يكون من دوافعه ريب في قلوبهم وشك في إيمانهم، على أنهم ليسوا على درجة واحدة في ذلك.
ومن الظواهر العجيبة التي تستحق التنبيه أن هؤلاء الأعراب كانوا أول من فر من ميدان القتال فصاروا سببا مباشرا في انكشاف المسلمين بادئ الأمر أمام جموع
هوازن كما كانوا في نهاية المعركة أحرص الناس على الغنائم وأشدهم غلظة في القول يوضح ذلك الموقف المشار له في الأحاديث الآتية:
ما رواه مسلم وأحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "افتتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت، قال: فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت الغنم، ثم صفت النعم، قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف، وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، قال: فجعلت خيلنا تلوى خلف ظهورنا فلم نلبث أن انكشفت خيلنا، وفرت الأعراب ومن نعلم من الناس" الحديث1.
وما رواه البخاري وغيره من حديث جبير بن مطعم وهذا سياقه عند البخاري:
179-
قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح2 عن ابن شهاب قال: أخبرني عمر بن محمد ابن جبير بن مطعم أن محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم أنّه بينا هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقبلاً3 من حنين علقت4 رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه حتى اضطروه5 إلى
1 تقدم تخريجه برقم (46) .
2 صالح: هو ابن كيسان.
3 مقبلا: قال ابن حجر: منصوب على الحال، للكشمهيني:"مقفله من حنين" وهو بفتح الميم وسكون القاف وفتح الفاء وباللام يعني: زمن رجوعه (فتح الباري 6/35 و254) .
قلت: وهو كذلك عند عبد الرزاق وأحمد وأبي يعلى والطبراني (مقفله من حنين) وعند الطبري "مقبله من حنين".
4 علقت: بفتح العين وكسر اللام الخفيفة بعدها قاف - أي نشبوا وتعلقوا - قال ابن حجر: وفي رواية الكشميهيني: "فطفقت" وهو بوزنه ومعناه (فتح الباري 6/35، و254 ولسان العرب 12/95) .
وعند البخاري أيضا "فعلقت الناس يسألونه" وعند عبد الرزاق وأحمد والطبراني "علقه الأعراب" وعند الطبري "عاقت رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب".
5 اضطروه إلى سمرة: أي ألجؤه، والسمرة: بفتح المهملة وضم الميم، شجرة طويلة متفرقة الرأس قليلة الظل، صغيرة الورق والشوك صلبة لخشب، قاله ابن التين. وقال الخطابي: ورق السمرة أثبت وظلها أكثف، ويقال: هي شجرة الطلح وقال الدوادي: السمرة هي العضاه. (فتح الباري 6/35 و254 ولسان العرب 6/45) . وعند الطبراني: "حتى اضطره بسدرة خطفت رداءه". ذ
سمرة فخطفت1 رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاه2 نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا3 ولا جبانا"4.
قال ابن حجر: "في هذا الحديث: ذم الخصال المذكورة وهي البخل والكذب والجبن، وأن إمام المسلمين لا يصلح أن يكون فيه خصلة منها، وفيه ما كان في النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم وحسن الخلق وسعة الجود والصبر على جفاة الأعراب، وفيه جواز وصف المرء نفسه بالخصال الحميدة عند الحاجة لخوف ظن أهل الجهل به خلاف ذلك، ولا
1 قوله فخطفت رداءه: وعند عبد الرزاق وهو على راحلته.
قال ابن حجر: "وفي مرسل عمرو بن سعيد عند عمر بن شبة (في كتاب مكة) حتى عدلوا بناقته عن طريق، فمرت بسمرات فانتهسن ظهره وانتزعن رداءه، فقال: "ناولني ردائي" فذكر نحو حديث جبير ابن مطعم وفيه "فنَزل ونزل الناس معه فأقبلت هوازن فقالوا: جئنا نستشفع بالمؤمنين إليك، ونستشفع بك إلى المؤمنين" فذكر القصة. (فتح الباري 6/254) .
والزرقاني شرح المواهب 3/40 ووقع عنده (عمرو بن شبة) وصوابه (عمر) .
2 والعضاه بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة، وفي آخرها هاء، يقرأ في الوصل وفي الوقف بالهاء. واختلف في واحدها فقيل: عضة - بفتحتين - مثل شفة وشفاه، والأصل عضهة وشهقة فحذفت الهاء، وقيل: واحدها عضاهة.
قال القزاز: "العضاه: شجر الشوك كالطلح والعوسج والسدر، ويدخل فيه السمر"(فتح الباري 6/254، ولسان العرب 17/411) .
3 وعند عبد الرزاق وأحمد وأبي يعلى والطبري والطبراني "ولا كذابا" قال الزرقاني: أي إذا جربتموني لا تجدوني ذا بخل ولا ذا كذب ولا ذا جبن، فالمراد نفي الوصف من أصله، لا نفي المبالغة التي تدل عليها الثلاثة، لأن كذوبا من صيغ المبالغة، وجبانا صفة مشبهة، وبخيلا يحتمل الأمرين.
قال ابن المنير: "وفي جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه الصفات اللطيفة لأنها متلازمة، وكذا أضدادها الصدق والكرم والشجاعة، وأصل المعنى هنا الشجاعة فإن الشجاع واثق من نفسه بالخلف من كسب سيفه فبالضرورة لا يبخل، وإذا سهل عليه العطاء لا يكذب بالخلف في الوعد، لأن الخلف إنما ينشأ من البخل".
وقوله: "فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم: تنبيه بطريق الأولى لأنّه إذا سمح بمال نفسه فلأن يسمح بقسم غنائمهم عليهم أولى، واستعمال (ثم) هنا بعدما ما تقدم ذكره ليس مخالفا لمقتضاها، وإن كان الكرم يتقدم العطاء، لكن علم الناس بكرم الكريم إنما يكون بعد العطاء، وليس المراد (بثم) الدالة على تراخي العلم بالكرم عن العطاء، وإنما التراخي هنا لعلو رتبة الوصف، كأنه قال: أعلى من العطاء بما لا يتعارف أن يكون العطاء عن كرم، فقد يكون عطاء بلا كرم، كعطاء البخيل ونحو ذلك". (شرح المواهب اللدنية 3/40-41) والكندهلوي أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/321-322.
4 البخاري: الصحيح 4/19 كتاب الجهاد، باب الشجاعة في الحرب والجبن 4/75 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم من الخمس ونحوه.
وعبد الرزاق: المصنف 5/243. وأحمد: المسند 4/82-84.
وأبو يعلى: المسند 6/683 أرقم 306. الطبري: تهذيب الآثار كما في كنز العمال 10/357، ومنتخب كنز العمال 4/170، والمواهب اللدنية 1/167. والطبراني: المعجم الكبير 2/134-136. أبو عبيد: كتاب الأموال ص 354.
يكون ذلك من الفخر المذموم، وفيه رضاء السائل للحق بالوعد إذا تحقق عن الواعد التنجيز، وفيه أن الإمام مخير في قسم الغنيمة إن شاء بعد فراغ الحرب، وإن شاء بعد ذلك"1.
والحديث رواه الطبراني أيضا والطبري من طريق نافع2 بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: وهو عند ثنية الأراكة3 وهو يعطي حين فرغ من حنين، فاضطره الناس إلى سلمة 4 فانتزع غصن من السلمة رداءه، فالتفت إلينا بوجهه مثل شقة القمر، فقال:"أعطوني ردائي فأعطيناه إياه، ثم قال: تخافون علي البخل، فوالذي نفسي بيده لو كان عندي صواحي هذا الجبل لأعطيتكموه". وقال: "صوحا الجبل5 جانبا مقادمه ومآخره"6
وقال الهيثمي: "رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم"7.
180-
وما رواه الطبري أيضا من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين سأله الناس فأعطاهم من البقر والغنم والإبل، حتى لم يبق شيء من ذلك، فقال:"فماذا تريدون أتريدون أن تبخلوني؟ فوالله ما أنا بخيل ولا جبان ولا كذوب، فجذبوا ثوبه حتى بدا منكبه فكأنما انظر حين بدا منكبه إلى شقة قمر من بياضه"8.
1 ابن حجر: فتح الباري 6/254، والزرقاني: شرح المواهب 3/41.
2 نافع بن جبير بن مطعم النوفلي، أبو محمد، أو أبو عبد الله، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة (ت 199) /ع (التقريب 2/295، وتهذيب التهذيب 10/404) .
3 ذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان 1/135 قال: أراك بالفتح وآخره كاف: وهو وادي الأراك، قرب مكة ونقل عن الأصمعي أن أراك جبل لهذيل، وقيل هو موضع من نمرة، في موضع من عرفة.
4 السلم: بفتحتين: نوع من العضاه (لسان العرب 15/188) .
5 الصوح: بفتح الصاد وضمها: الجانب من الرأس والجبل، ووجه الجبل القائم كأنه حائط، وصوحا الوادي حائطاه. لسان العرب3/352،والقاموس المحيط1/235) .
6 كنْز العمال 10/358 ومنتخب كنز العمال 4/170 ونسبه للطبري في تهذيبه، وانظر المعجم الكبير للطبراني 2/142.
7 مجمع الزوائد 8/280.
8 منتخب كنز العمال 4/171 مع مسند أحمد ونسبه لابن جرير الطبري وقال: سنده على شرط الشيخين.
وكان سبب هذا الفعل الصادر من الأعراب وغيرهم هو ما صرح به حديث عمرو بن شعيب عند ابن إسحاق وغيره وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رد على هوازن سبيهم خاف الناس أن يرد إليهم الأموال أيضا فطالبوا بقسم الأموال بإلحاح شديد1.
وهذا سياق الحديث عن ابن إسحاق:
قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسلموا، فقالوا يا رسول الله إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فأمنن علينا من الله عليك، الحديث وفيه:"ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من رد سباياً حنين إلى أهلها، ركب، واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فاختطفت رداءه، فقال: "ردوا علي ردائي أيها الناس فوالله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا" الحديث2.
والحديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد وابن الجارود والطبري والبيهقي، الجميع من طريق ابن إسحاق منهم المختصر ومنهم المطول، وقد صرح بالتحديث عند ابن الجارود والطبري والبيهقي، وكذا عند ابن هشام3 فالحديث حسن لذاته4.
وقد تابع ابن إسحاق على وصل هذا الحديث - يحيى5 بن سعيد الأنصاري
1 انظر البداية والنهاية: لابن كثير 4/355.
2 سيرة ابن هشام 2/488-490 و 492 والروض الأنف 7/241-243 و245 و 279 -280.
3 أبو داود: السنن 2/57 كتاب الجهاد، باب في الفداء الأسير بالمال والنسائي: السنن 6/220 كتاب الهبة7/119كتاب قسم الفيء، وأحمد: المسند2/184 و218 وابن الجارود: المنتقى ص:362، والطبري: تاريخ الرسل والملوك3/86-87و89-90.
والبيهقي: السنن الكبرى 6/336-337 و7/17 و9/75 ودلائل النبوة 3/54-55 ب أب.
4 انظر الألباني: تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي ص 426 وصحيح الجامع الصغير 6/280 وإرواء الغليل 5/36-37 و73-74، وتقدم الحديث برقم (130) مع تراجم رواته، وسيأتي تحت رقم (288) .
5 ثقة ثبت تقدم في حديث (109) .
عند ابن أبي شيبة والطبراني، ومحمد1 بن عجلان وعمرو2 بن دينار عند الطبراني والبيهقي الجميع عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده3.
ورواه مالك عن عبد الرحمن4 بن سعيد عن عمرو بن شعيب فأرسله ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدر من حنين، وهو يريد الجعرانة سأله الناس حتى دنت به ناقته من شجرة، فتشبكت5 بردائه، حتى نزعه عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ردوا علي ردائي أتخافون أن لا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم، والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا" الحديث 6.
قال ابن عبد البر: "لا خلاف عن مالك في إرساله".
1 محمد بن عجلان المدني، صدوق، إلا أنه اختلط عليه أحاديث أبي هريرة من الخامسة (ت 148) خت م ع (التقريب 2/190 وتهذيب التهذيب 9/341) وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء 6/317-322.
محمد بن عجلان: الإمام القدوة الصادق بقية الأعلام، وختم ترجمته بقوله: وقد ذكرت ابن عجلان في الميزان فحديثه إن لم يبلغ رتبة الصحيح فلا ينحط عن رتبة الحسن (انظر ميزان الاعتدال 3/644 وتذكرة الحفاظ 1/165.
2 عمرو بن دينار المكي، أبو محمد الأثرم، الجمحي مولاهم ثقة ثبت من الرابعة (ت 126) / ع (التقريب 2/69 وتهذيب التهذيب 8/28-30) .
3 ابن أبي شيبة: التاريخ ص 87 أرقم 665 والطبراني: كما في مجمع البحرين 2/235 و 244 رقم 77 ومجمع الزوائد 5/338-339 كلاهما للهيثمي.
4 قال الألباني: "عبد الرحمن بن سعيد، هكذا لم أجد من ترجمه، لكن شيوخ مالك كلهم ثقات كما هو معلوم لدى العلماء بالرجال"، (إرواء الغليل 5/74) .
وقال الكندهلوي: "إنما هو عبد ربه بن سعيد، هكذا في النسخ الهندية وبعض المصرية، وفي بعضها عبد الرحمن بن سعيد وليس الصحيح، وهو عبد ربه بن سعيد بن قيس الأنصاري، أخو يحيى بن سعيد له في الموطأ مرفوعا ثلاثة أحاديث هذا ثانيها.
وفي التقصي: له ثلاثة أحاديث، وذكر من جملتها هذا الحديث ولم يذكر عبد الرحمن بن سعيد في شيوخ مالك في الموطأ إهـ. (أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/320) .
قلت: الأحاديث المشار إليها في "التقصي" هي في ص 105-106 من التقصي وهي برقم (328 و329 و330) .
وقد قرأت الموطأ بتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي من أوله إلى آخره فلم أجد مالكا روى عن عبد الرحمن بن سعيد وإنما وجدته روى عن عبد ربه بن سعيد خمسة أحاديث من جملتها حديث الباب، وهي في الموطأ1/289-290 و2/457 و514، و574، و589، وهي في كتاب الجهاد، باب ما جاء في الفلول، وكتاب الفرائض، باب ميراث الجدة، وكتاب الطلاق، باب ما جاء في طلاق العبد، وباب عدة المتوفى زوجها إذا كانت حاملاً، وكتاب الصيام، باب ما جاء في صيام الذي يصبح جنبا.
وأرقامها: (و6، و10 و22 و49 و83) ذكر صاحب التقصي منها رقم (10 و22 و83) فقط وهي عنده رقم 328 و329 و330 ولم يذكر حديث رقم (6/49) وهما في الموطأ 2/514 و2/574 من كتاب الفرائض وكتاب الطلاق وانظر ترجمة عبد ربه بن سعيد في التقريب 1/470 وتهذيب التهذيب 6/126.
5 تشبكت: أي نشبت (القاموس المحيط 3/308) .
6 الموطأ 2/457.
قال الكاند هلوي: "ووصله النسائي، قال الحافظ بإسناد حسن من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن جده. وأخرجه النسائي أيضاً بإسناد حسن من حديث عبادة، قاله الزرقاني. ثم قال: قلت: ووصله أبو داود أيضاً برواية حماد عن ابن إسحاق بهذا السند"1.
وأورد ابن كثير حديث ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ثم قال: وهذا السياق يقتضي أنه عليه السلام رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة كما ذهب إليه محمد بن إسحاق بن يسار خلافا لموسى بن عقبة وغيره2.
ثم قال: "وفي صحيح البخاري من طريق الليث عن عقيل عن الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوا أن ترد إليهم أموالهم ونساؤهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معي من ترون واحب الحديث إليّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال. وقد كنت استأنيت بكم" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظهرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما تبيّن لهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلاّ إحدى الطائفتين، قالوا: إنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول يفيء الله علينا فليفعل".
فقال الناس: "قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم: "إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم". فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بأنهم قد طيبوا وأذنوا" فهذا الذي بلغنا عن سبي هوازن 3 إلى أن قال: والمقصود من هذا
1 أوجز المسالك إلى موطأ مالك 8/320. وسنن النسائي 6/220 كتاب الهبة و 7/119 كتاب قسم الفيء. وسنن أبي داود 2/57 كتاب الجهاد، باب في الفداء الأسير بالمال.
2 انظر قول موسى بن عقبة عند البيهقي في دلائل 3/54 أ. وابن حجر: فتح الباري 8/33 وانظر ص (436) تعليقة (6) من مبحث قدوم وفد هوازن إلى الجعرانة.
3 قال ابن حجر:" القائل: فهذا الذي بلغنا إلخ هو الزهري"(فتح الباري 8/34) وانظر الحديث في صحيح البخاري 5/126 كتاب المغازي باب ويوم حنين وقد تقدم برقم (108) .
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم بعد القسمة كما دل عليه السياق وغيره، وظاهر سياق حديث عمرو بن شعيب الذي أورده محمد بن إسحاق عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة، ولهذا لما رد السبي وركب علقت الأعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون اقسم علينا فيئتنا حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فقال:"ردوا علي ردائي أيها الناس، فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد هذه العضاه نعما لقسمته فيكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا". كما رواه البخاري عن جبير بن مطعم بنحوه.
ثم قال: "كأنهم خشوا أن يرد إلى هوازن أموالهم كما رد إليهم نسائهم وأطفالهم فسألوه قسمة ذلك فقسمها عليه الصلاة والسلام بالجعرانة كما أمره الله عز وجل1.اهـ.
قلت: وقد وردت أحاديث غير هذا تدل على أن قدوم وفد هوازن، كان بعد قسم سبيهم بين المسلمين، كما سيأتي ذلك في قدوم وفد هوازن2. والذي يهمنا هنا هو ما حصل من هؤلاء الأعراب وغيرهم من الطلقاء وغوغاء الناس الذين لم يكن همهم إلا الحصول على الغنيمة سواء أكان قدوم وفد هوازن بعد قسم نسائهم وأطفالهم على المسلمين، أم كان قدومهم قبل ذلك.
وهذه الأحاديث تدل على حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعة صدره وصبره على عتاة الأعراب وغيرهم من ضعفاء الإيمان، ويزيد ذلك وضوحا ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
181-
كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة3 ومعه بلال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي4 فقال: "ألا تنجز لي ما وعدتني"5.
1 ابن كثير: البداية والنهاية 4/354، 355 وانظر فتح الباري 8/33، 34.
2 انظر ص 435.
3 قال ابن حجر: أنكر الدوادي: الشارح قوله: أن (الجعرانة) بين مكة والمدينة، وقال: إنما هي بين مكة والطائف، وكذا جزم النووي بان الجعرانة بين الطائف ومكة، وهو قول عياض والفاكهي. (فتح الباري 8/46) .
4 وعند مسلم: "رجل أعرابي".
5 وعند مسلم: "ألا تنجز لي يا محمد! ما وعدتني".
قال ابن حجر: "يحتمل أن الوعد كان خاصا به، ويحتمل أن يكون عاما، وكان طلبه أن يعجل نصيبه من الغنيمة فإنه صلى الله عليه وسلم، كان أمر أن تجمع غنائم حنين بالجعرانة، وتوجه هو بالعساكر إلى الطائف، فلما رجع منها قسم الغنائم حينئذ بالجعرانة فلهذا وقع في كثير ممن كان حديث عهد بالإسلام استبطاء الغنيمة واسنتجاز قسمتها 0 فتح الباري8/46.
فقال له: "أبشر، فقال، قد أكثرت علي من أبشر1. فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان، فقال: "رد البشرى2، فاقبلا أنتما، قالا: قبلنا، ثم دعا بقدح3 فيه ماء، فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه، ثم قال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وابشرا، فأخذ القدح ففعلا 4، فنادت أم سلمة من وراء الستر أن أفضلا لأمكما، فأفضلا لها منه طائفة" 5
قال النووي: "في الحديث: فضيلة ظاهرة لأبي موسى وبلال وأم سلمة رضي الله عنهم، وفيه استحباب البشارة واستحباب الازدحام فيما يتبرك به وطلبه ممن هو معه، والمشاركة فيه"6.
ومجموع ما مضى من الأحاديث صريح في الدلالة على ضعف إيمان هؤلاء الجشعين على غنائم حنين وعلى سوء أدبهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم، ويؤخذ منها أيضا أن هم هؤلاء هو المغنم لأنهم فروا في ميدان القتال وأصابهم الهلع والجشع بعد النهاية المعركة على الغنائم، وفي ذلك دلالة واضحة على أن نفوس هؤلاء الأعراب والطلقاء ونحوهم، ولم تتهذب بأخلاق الإسلام ولم ترسخ في نفوسهم العقيدة الإسلامية ويظهر أن كثيرا من هؤلاء حسن إسلامهم فيما بعد وأصبحوا جنوداً باسلة في صفوف الجيش الإسلامي، وقد كان لحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه على هؤلاء وقسمه بينهم تلك الغنائم الهائلة أثر كبير في تحسن إسلامهم ورضا نفوسهم وإيقانهم بأن هذا الكرم العظيم الذي لا يقادر قدره لا يصدر إلا من رسول حق لا يخشى الفقر ولا يقيم لحطام الدنيا وزنا. والله أعلم.
1 أبشر: بهمزة قطع، أي بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر (المصدر السابق 8/46) .
وعند مسلم: "فقال له الأعرابي"
2 عند مسلم: "إن هذا قد رد البشرى".
3 القدح: بفتح القاف والدال- آنية للشرب تروي الرجلين، وقيل هو اسم يجمع صغارها وكبارها، والجمع أقداح. ومتخذها قداح، وصنعته القداحة.
(لسان العرب لابن منظور3/388 والقاموس المحيط للفيروزآبادي 1/241، ومختار الصحاح لبي بكر الرازي ص 523) .
4 عند مسلم "ففعلا ما أمرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادتهما أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لأمكما مما في إنائكما"
قال ابن حجر: "أم سلمة هي: زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين ولهذا قالت: لأمكما"(فتح الباري 8/46-47) .
5 البخاري: الصحيح 5/129 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف و 1/42 كتاب الوضوء، باب الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجارة، ذكر طرفا منه، انظر فتح الباري 1/295و302و8/46، ومسلم: الصحيح 4/1943 كتاب الفضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين.
6 النووي: شرح صحيح مسلم 5/367.