الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي قتلهم دريد بن الصمة للعلة التي ذكرنا، دليل على أنه لا بأس بقتل المرأة، إذا كانت أيضا ذات تدبير في الحرب، كالشيخ الكبير ذي الرأي في أمور الحرب.
ثم قال: فهذا الذي ذكرنا هو الذي يوجبه تصحيح معاني هذه الآثار1.
قلت: وما قال الطحاوي هو الصواب جمعا بين الأدلة وإذا أمكن الجمع تعين المصير إليه إذ إن العمل بجميع الأدلة أولى من ترك بعضها.
وقد ذكر أهل المغازي أن هوازن خرجت بدريد بن الصمة معها للتيمن برأيه ومعرفته بالحرب فدل على أن قتله كان لما له رأي في الحرب والمشورة.
1 الطحاوي: شرح معاني الآثار 3/224-225.
وانظر: ابن التركماني: الجوهر النقي 9/92-93 مع سنن البيهقي وعون المعبود 7/329-330.
المبحث الثاني: سرية أوطاس
كانت هذه السرية في شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة، وكانت بقيادة أبي عامر الأشعري رضي الله عنه.
وسببها أن هوازن لما انهزمت في حنين، ذهبت فرقة منهم، فيهم رئيس هوازن مالك بن عوف فلجأوا إلى الطائف فتحصنوا بها1.
وسارت فرقة فعسكرت بأوطاس فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم أبا عامر الأشعري، وأمره على جمع من الصحابة فيهم أبو موسى الأشعري وسلمة بن الأكوع، والزبير بن العوام. توضح هذا الموقف الأحاديث الآتية:
ما رواه ابن إسحاق قال: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف، ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قِبل أوطاس أبا عامر الأشعري، فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه 2 القتال، فرمي
1 البداية والنهاية لابن كثير 4/337 وتاريخ الخميس للديار بكري 2/107.
2 تناوش القوم في القتال إذا تناول بعضهم بعضا بالرماح ولم يتدانوا كل التداني (لسان العرب لابن منظور 8/254) .
أبو عامر بسهم فقتل، فأخذ الراية أبو موسى الأشعري، وهو ابن عمه1 فقاتلهم ففتح الله على يديه وهزمهم، فيزعمون أن سلمة بن دريد هوالذي رمى أبا عامر الأشعري بسهم، فأصاب ركبته فقتله، فقال:
إن تسألوا عني فإني سلمة
…
ابن سماد ير لمن توسمه2
أضرب بالسيف رؤوس المسلمة
…
وسماد ير أمه 3.
قال الألباني: "هكذا ذكره ابن إسحاق بدون إسناد وهو صحيح، ومعناه في البخاري وابن جرير من حديث أبي موسى الأشعري"4.
قلت: "والحديث أخرجه أيضا مسلم وغيره وهذا سياقه عند البخاري":
118-
حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة5 عن بريد6 ابن عبد الله عن أبي بردة 7 عن أبي موسى رضي الله عنه قال: "لما فرغ8 النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصمة فقتل9 دريد وهزم الله أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر فرمي أبو عامر في ركبته رماه جشمي10 بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه، فقلت: يا عم11 من رماك؟ فأشار
1 قال ابن حجر: كذا قال ابن إسحاق، والأشهر أن أبا عامر عم أبي موسى الأشعري (فتح الباري 8/42 و11/137و141) .
2 توسمه: أي تفرس فيه (لسان العرب 16/123) .
3 سيرة ابن هشام2/454 وانظر حديث رقم (116) والطبري: تاريخ الرسل والملوك3/80 والواقدي: المغازي 3/915 وابن سعد: الطبقات الكبرى: 2/151-152 وابن حزم: جوامع السيرة ص 241، والسهيلي: الروض الأنف 7/178 وابن الأثير: الكامل 2/180 وابن كثير: البداية والنهاية 4/337 و338. وابن حجر فتح الباري 8/42 والديار بكري: تاريخ الخميس 2/107، والزرقاني: شرح المواهب 3/ 24.
4 تخريج أحاديث فقه السيرة للغزالي ص: 425.
5 هو حماد بن أسامة بن زيد القرشي مولاهم أبو أسامة الكوفي.
6 بريد: بالموحدة والراء، ووقع في معاني الآثار 3/224:(يزيد) بالمثناة التحتية والزاي وكذا في الاستيعاب 4/135 مع الإصابة وهو خطأ.
7 قيل: اسمه عامر، وقيل الحارث، وقيل: اسمه كنيته.
8 عند الطبري: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر الخ.
9 تقدم الخلاف في قاتله نحن حديث رقم (97) .
10 جشمي: بضم الجيم وفتح المعجمة، أي رجل من بني جشم. وعند مسلم وأبي يعلى والطبري:"رماه رجل من بني جشم".
11 عند أبي يعلى: "فقلت: يا أبا عامر من رماك؟ ".
إلى أبي موسى فقال: ذاك1 قاتلي الذي رماني، فقصدت له2 فلحقته فلما رآني ولى3 فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي، ألا تثبت، فكف4، فاختلفنا5 ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فانتزعته فنزا منه6 الماء، قال: يا ابن أخي اقرئ 7 النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته8 على سرير مرمل9 وعليه فراش قد أثر رمال السرير بظهره وجنبه،
1 عند مسلم وأبي يعلى والطبري: "إن ذاك قاتلي، تراه ذلك الذي رماني".
2 عند مسلم وأبي يعلى والطبري: "قال أبو موسى: فقصدت له فاعتمدته فلحقته".
3 في المصادر السابقة: فلما رآني ولى عني ذاهبا، فاتبعه "وجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربيا؟ ".
4 عند الطبري: "فكر".
5 وعند مسلم وأبي يعلى والطبري: فالتقيت أنا وهو فاختلفنا أنا وهو ضربتين، فضربته بالسيف فقتلته.
6 نزامنه الماء: هوبالنون والزاي، يقال نزف دمه، ونزِي إذا جرى ولم ينقطع، النهاية 5/43، قال ابن حجر قال المهلب: فيه جواز نزع السهم من البدن وإن كان في غبه الموت، وليس ذلك من الالتقاء إلى التهلكة إذا كان يرجو الانتفاع بذلك، ومثله البط والكي وغير ذلك من الأمور التي يتداوى بها.
وقال ابن المنير: "لعل البخاري ترجم (بنزع السهم من البدن) لئلا يتخيل أن الشهيد لا ينزع منه السهم بل يبقى فيه، كما أمر بدفنه بدمائه حتى يبعث كذلك، فبين هذه الترجمة أن هذا مما شرع" إهـ.
ثم قال ابن حجر: "والذي قاله ابن المهلب أولى لأن حديث الباب يتعلق بمن أصابه ذلك وهو في الحياة بعد. والذي أبداه ابن المنير يتعلق بنزعه بعد الوفاة"(فتح الباري 6/81) وانظر صحيح البخاري 4/28 كتاب الجهاد، باب "نزع السهم من البدن".
7 وعند مسلم وأبي يعلى والطبري:يا ابن أخي انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك أبو عامر: استغفر لي.
8 في المصادر السابقة "دخلت عليه وهو في بيت".
9 مرمل: براء مهملة ثم ميم مثقلة، أي معمول بالرمال، وهي حبال الحصر التي تظفر بها الأسرة.
قال النووي: "قوله (وعليه فراش) كذا وقع في صحيح البخاري ومسلم" فقال القابسي: "الذي أحفظه في غير هذا السند (عليه فراش) قال: وأظن لفظة: (ما) سقطت لبعض الرواة، وتابعه القاضي عياض وغيره على لفظة: (ما) ساقطة وأن الصواب إثباتها، قالوا: وقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش قد أثر الرمال بجنبه" إهـ.
ونقل ابن حجر هذا الاعتراض ثم قال: "هو إنكار عجيب، فلا يلزم من كونه رقد على غير فراش كما في قصة عمر أنّ لا يكون على سريره دائما فراش إهـ. ونقل الزرقاني كلام ابن حجر ثم قال: لكن قال الشامي: يؤيد أبا الحسن – هو القابسي – قول أبي موسى قد أثر رمال السرير بظهره وجنبه"إهـ.
ثم قال الزرقاني: "وقد لا يؤيده لرقة الفراش فلا يمنع تأثير الرمال فالحاصل على هذا دفع دعوى الخطأ عن الرواية". (شرح مسلم 5/368، وفتح الباري 8/43 وشرح المواهب 3/26-27) .
فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ 1 ثم رفع يديه فقال: "اللهم اغفر لعبيد2 أبي عامر ورأيت بياض إبطه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من3 الناس، فقلت: ولي فاستغفر، فقال: اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا4 كريما، قال أبو بردة5: إحداهما6 لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى7.
والحديث أخرجه مسلم والنسائي والطبري وأبو يعلى والطحاوي، والبيهقي وابن عبد البر كلهم من طريق أبي أسامة به8.
1 وعند الواقدي: "فصل ركعتين ثم قال: "اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة! وأمر بتركة أبي عامر فدفعت إلى ابنه، قال: فقال أبو موسى: يا رسول الله إني أعلم أن الله قد غفر لأبي عامر، قتل شهيدا، فادع الله لي، فقال:"اللهم اغفر لأبي موسى واجعله في أعلى أمتي"، فيرون أن ذلك وقع يوم الحكمين (المغازي 3/915) .
قال النووي: "فيه استحباب الدعاء واستحباب رفع اليدين فيه، وأن الحديث الذي رواه أنس أنه لم يرفع يديه إلا في ثلاث مواطن، محمول على أنه لم يره، وإلاّ فقد ثبت الرفع في مواطن كثيرة فوق ثلاثين موطنا" شرح مسلم 5/368.
وقال ابن حجر: "يستفاد منه استحباب التطهر لإرادة الدعاء، ورفع اليدين في الدعاء خلافا لمن خصه بالاستسقاء"(فتح الباري 8/43) ونقل السهيلي الخلاف في رفع اليدين في الدعاء وذكر حجة كل فريق ثم قال: ولكل شيء وجه، فمن كره، فإنما كره الإفراط في الرفع، كما كره رفع الصوت بالدعاء جدا، قال صلى الله عليه وسلم:"أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا"(الروض الأنف 7/216) .
2 قوله: (لعبيد أبي عامر) قال الزّرقاني: "أبو عامر: بدل من عبيد، جمع بين اسمه وكنيته، وفي نسخ: لعبيدك: بزيادة كاف من تحريف الجهّال فالثابت في البخاري، بدون كاف وهو اسمه كما مر"(شرح المواهب 3/27) قلت: والحديث عند أحمد بلفظ "عبيدك" بإسناد ضعيف، وهو كذلك عند البلاذري وأبي يعلى، انظر ص 260.
3 عند مسلم: "فوق كثير من خلقك أومن النّاس".
4 مدخلا: بضم الميم ويجوز فتحها وكلاهما بمعنى المكان والمصدر (شرح المواهب 3/27) .
5 قال ابن حجر: "هو موصول بالإسناد المذكور"(فتح الباري 8/43) .
6 أي: إحدى الدعوتين.
7 البخاري: الصحيح 5/128 كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، 4/28 كتاب الجهاد، باب نزع السهم من البدن، باختصار و8/69 كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الوضوء، باختصار أيضا. وعلقه مختصرا جدا في 8/61 باب قول الله وصل عليهم، و8/63 باب رفع الأيدي في الدعاء، من كتاب الدعوات.
8 مسلم: الصحيح 4/1943 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى أبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما.
والنسائي: السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي6/439 حديث (9046) .
والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/79، وأبو يعلى: المسند 6/672ب رقم 306، والطحاوي: شرح معاني الآثار 3/224، وابن عبد البر الاستيعاب 4/135 (مع الإصابة) .
والبيهقي: السنن الكبرى 6/335، 9/51 و91 ودلائل النبوة 3/46-47.
وروى الإمام أحمد والبلاذري وأبو يعلى الجميع من طريق الوليد1 ابن مسلم ثنا يحيى2 بن عبد العزيز الأردني عن عبد الله3 بن نعيم القيني قال: حدثني الضحاك4 بن عبد الرحمن بن عزرب الأشعري أن أبا موسى حدثهم قال: لما هزم الله عز وجل هوازن بحنين عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي عامر الأشعري على خيل الطلب فطلبهم فكنت فيمن طلبهم فأسرع به فرسه فأدرك ابن دريد بن الصمة فقتل أبا عامر وأخذ اللواء، وشددت على ابن دريد فقتلته وأخذت اللواء وانصرفت بالناس فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمل اللواء، قال: يا أبا موسى قتل أبو عامر؟.
قال: قلت نعم يا رسول الله، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه يدعو يقول: "اللهم عُبَيْدَك عُبَيْدَ أبا عامر اجعله من الأكثرين يوم القيامة" لفظ أحمد 5.
والحديث فيه يحيى بن عبد العزيز الأردني، وقد قال فيه ابن حجر: مقبول، وعبد الله بن نعيم قال فيه: لين الحديث، وقد عرفت أن الذي ضعف عبد الله هو ابن معين، وقد فسر قوله بأنه ليس بمشهور، والطعن فيهما إنما هو لعدم شهرتهما ومثل هذين ونحوهما يرتفع حديثهم بالمتابعة ويشهد لهذا الحديث حديث الصحيحين.
119 -
وروى ابن سعد والروياني من طريق حماد بن سلمة عن عاصم6 بن بهدلة عن أبي7 وائل عن أبي موسى الأشعري أن النبيصلى الله عليه وسلم قال: "اللهم اجعل عبيدا أبا عامر فوق أكثر الناس يوم القيامة"، فقتل يوم أوطاس فقتل أبو موسى قاتله.
1 الوليد بن مسلم القرشي مولاهم، أبو العباس الدمشقي، ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية من الثامنة /ع (التقريب 2/336، تهذيب التهذيب 11/151-155) .
2 يحيى بن عبد العزيز "مقبول" تقدمت ترجمته في حديث (68) .
3 عبد الله بن نعيم لين الحديث تقدمت ترجمته في حديث (68) .
4 الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب ثقة تقدم في حديث (68) وفي الاستيعاب 4/135 مع الإصابة (الضحاك بن عبد الله بن عريب) وهو خطأ (انظر التقريب 1/372-373) .
5 أحمد: المسند 4/399 والبلاذري: أنساب الأشراف ص 366 وأبو يعلى: المسند 6/662-663 ب- أرقم 306 وانظر حديث (68) .
6 عاصم بن بهدلة – بمفتوحة وسكون هاء وإهمال دال مفتوحة – وهو ابن أبي النجود - بنون وجيم -، الأسدي - مولاهم الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام، حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون من السادسة (ت 128) / ع، (التقريب 1/383 وتهذيب التهذيب 5/38) .
وساق الذهبي ترجمته ثم قال: هو حسن الحديث، وقال أحمد وأبو زرعة: ثقة (ميزان الاعتدال 2/357) .
7 هو شقيق بن سلمة الأسدي: أبو وائل الكوفي، ثقة مخضرم، (ت في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة) / ع (التقريب 1/354، وتهذيب التهذيب 4/361) .
قال أبو وائل: "إني لأرجو أن لا يجتمع أبو موسى وقاتل عبيد في النار"1.
والحديث حسن لذاته وأصله في الصحيح.
وبهذا نكون قد انتهينا من هذه السرية التي خاضها الجيش الإسلامي بقيادة أبي عامر الأشعري رضي الله عنه وقد قتل شهيدا فيها، وقد حصل خلاف في قاتله، ففي صحيح البخاري أنه رماه جشمي بسهم فأثبته في ركبته، وعند مسلم:"رماه رجل من بني جشم بسهم"، وقال ابن حجر:"واختلف في اسم هذا الجشمي فقال ابن إسحاق: زعموا أن سلمة ابن دريد بن الصمة هو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته فقتله، وأخذ الراية أبو موسى الأشعري فقاتلهم ففتح الله عليه".
وقال ابن هشام: حدثني من أثق به أن الذي رمى أبا عامر أخوان من بني جشم وهما أوفى2 والعلاء ابنا الحارث، فأصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته، وقتلهما أبو موسى الأشعري وعند ابن عائذ3 والطبراني4 في "الأوسط" من وجه آخر عن أبي موسى الأشعري بإسناد حسن "لما هزم الله المشركين يوم حنين بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخيل الطلب أبا عامر الأشعري وأنا معه فقتل ابن دريد أبا عامر، فعدلت إليه فقتلته، وأخذت اللواء" الحديث.
فهذا يؤيد ما ذكره ابن إسحاق5. إهـ. كلام ابن حجر.
قلت: "ونحوه عند أحمد والبلاذري وأبي يعلى من طريق الوليد بن مسلم كما تقدم"6.
وساق ابن عبد البر حديث الوليد بن مسلم المشار إليه ثم قال: وقد قيل إن أبا
1 ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/115 والروياني مسند الصحابة 1/112أرقم 575.
2 قال ابن حجر: وفي نسخة "وافى" بدل "أوفى".
3 هو محمد بن عائذ: بتحتانية وإعجام ذال - الدمشقي، أبو أحمد صاحب المغازي، صدوق، رمي بالقدر، من العاشرة (ت233) / د س (التقريب 2/173 وتهذيب التهذيب 9/241-242 وميزان الاعتدال 3/589) .
4 هو الحافظ الإمام العلامة الحجة بقية الحفاظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب ابن مطير اللخمي الشامي الطبراني، مسند الدنيا وصاحب المعاجم الثلاثة. (260-360-هـ) (الذهبي: تذكرة الحفاظ 3/912-917) .
5 فتح الباري 8/42-43 أي من أن قاتل أبي عامر هو ابن دريد.
6 ص (260) .
عامر قتل يومئذ تسعة مبارزة وأن العاشر ضربه فأثبته فحمل وبه رمق ثم قاتلهم أبو موسى فقتل قاتله، ورواية الوليد بن مسلم عندي أثبت.
وقد قيل أيضا في هذا الخبر أن دريد بن الصمة قتل أبا عامر وقتله أبو موسى الأشعري وذلك غلط وإنما كان ابن دريد، لا دريد، فقد ذكرنا قاتل دريد يوم حنين في غير هذا الموضع1. إهـ.
وقد قال ابن حجر: "ذكر ابن إسحاق أن الذي قتله أبو موسى الأشعري هو سلمة بن دريد بن الصمة وهذا أشبه فإن دريد بن الصمة، إذا ذاك لم يكن ممن قاتل لكبر سنه"2.
وأثر هشام الذي أشار إليه ابن حجر3 هذا نصه:
120-
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر وحديثه أن أبا عامر الأشعري لقي يوم أوطاس عشرة أخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه، فقتله أبو عامر، ثم حمل عليه آخر، فحمل عليه أبو عامر، وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول:"اللهم أشهد عليه" فقتله أبو عامر، ثم جعلوا يحملون عليه رجلا رجلا، ويحمل أبو عامر وهو يقول ذلك، حتى قتل تسعة4 وبقي العاشر، فحمل على أبي عامر، وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول:"اللهم أشهد عليه"، فقال الرجل:"اللهم لا تشهد علي"، فكف عنه أبو عامر، فأفلت، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآه قال:"هذا شريد أبي عامر"، ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث، وبني جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته
1 ابن عبد البر: الاستيعاب2/507-508 و4/135-136مع الإصابة وابن الأثير: أسد الغابة 6/187.
2 الإصابة 1/507.
3 انظر ص (261) .
4 وعند ابن سعد: "فقتل أبو عامر منهم تسعة مبارزة ثم برز له العاشرة معلما بعمامة صفراء فضرب أبا عامر فقتله، واستخلف أبا عامر أبا موسى الأشعري فقاتلهم حتى فتح الله عليه وقتل قاتل أبي عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لأبي عامر واجعله من أعلى أمتي في الجنة"، ودعا لأبي موسى أيضا.
(الطبقات الكبرى 2/151-152 ومغازي الواقدي 3/914-915) .
فقتلاه، وولي الناس1 أبو موسى الأشعري فحمل عليهما فقتلهما، فقال رجل من بني جشم بن معاوية يرثيهما:
إن الرزية قتل العلاء
…
وأوفى جميعا ولم يسندا 2
هما القاتلان أبا عامر
…
وقد كان ذا هبة 3 أربدا4
هما تركاه لدى معرك
…
كأن على عطفه مجسدا 5
فلم تر في الناس مثليهما
…
أقل عثارا وأرمى يدا 6
وقد نسب ابن حجر لابن إسحاق نحو هذا.
فقال: ذكر ابن إسحاق في المغازي أن أبا عامر لقي يوم أوطاس عشرة من المشركين أخوة فقتلهم واحدا بعد واحد، حتى كان العاشر فحمل عليه وهو يدعوه إلى الإسلام وهو يقول:"اللهم اشهد عليه"، فقال الرجل:"اللهم لا تشهد علي"، فكف عنه أبو عامر ظنا منه أنه أسلم فقتله العاشر، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يسميه شريد7 أبي عامر8.
ثم عقب ابن حجر على هذا فقال: "وهذا يخالف الحديث الصحيح في أن أبا موسى قتل قاتل أبى عامر، وما في الصحيح أولى بالقبول، ولعل الذي ذكره ابن إسحاق شارك في قتله"9.
1 قوله: "وولي الناس أبو موسى الأشعري" أي: أقروا ولايته على استخلافه عمه، كما في الصحيح أن أبا عامر استخلف أبا موسى، انظر ص 258 والزرقاني: شرح المواهب 3/25.
2 لم يسندا: أي لم يدركا وبهما رمق فينسدا إلى ما يمسكهما.
3 ذاهبة: يعني سيفا ذاهبة، وهبة السيف: اهتزازة.
4 أربدا: الأربد: الذي فيه ربد، أي طرائق من جوهر.
5 المعرك: موضع الحرب، والمجسد: الثوب المسبوغ بالجساد. وهو الزعفران. (القاموس المحيط 1/138 و293 و303 و3/313) .
6 سيرة ابن هشام 2/457 والروض الأ نف للسهيلي، 7/181 وقد نسب ابن كثير هذا لابن إسحاق، وهو خلاف ما في سيرة ابن هشام والروض الأنف (انظر البداية والنهاية 4/338) .
7 شريد: بالراء، وفي فتح الباري (شهيد) قال الزرقاني: وقع في خط الحافظ ابن حجر بالهاء بدل (الراء) وهو سبق قلم، فالذي في سيرة ابن إسحاق التي هو ناقل عنها (بالراء) وهو الوجيه، وبالهاء لا وجه له (شرح المواهب 3/25) .
8 وعلى هذا يكون لابن إسحاق في قاتل أبي عامر قولان: الأول أنه سلمة بن دريد وقد قتله أبو موسى، والثاني: أنه عاشر الإخوة، وقد أسلم بعد وحسن إسلامه.
9 فتح الباري 8/43 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/25.
قال الزرقاني: "وما ذكره ابن حجر عن ابن إسحاق انتقده الشامي1 وقال: بأن هذا ليس في رواية البكائي2، وإنما زاده ابن هشام عن بعض من يثق به، ولم يذكر أن العاشر قتل أبا عامر أصلاً بل قال رماه أخوان، والحافظ قلد القطب3 الحلبي دون مراجعة السيرة".
قال الزرقاني: "وفيه أن اتفاق مثل هذين الحافظين4 على نقله لا يتجه رده بما قال فإن رواة سيرة ابن هشام متعددون فهو قطعاً في رواية يونس الشيباني وإبراهيم بن سعد أو غيرهما عنه"5. إهـ.
وبعد ذكر أقوال علماء المغازي والسير في قاتل أبي عامر، وهل أسلم أولم يسلم؛ لا يخلو الأمر من إشكال وتعارض؛ لأن بعض الروايات تقول: القاتل أخوان، وبعضها تذكر أن القاتل عاشر الإخوة الذين هاجموا أبا عامر، وبعضها - كما في الصحيح - تقول: إنه جشمي أو رجل من بني جشم، والذي ينبغي اعتماده في القاتل أنه هذا الجشمي الثابت ذكره في الصحيح، وقد ذكر اسمه في كتب السيرة أنه سلمة بن دريد، وهو جشمي. والصحيح أن القاتل لم يسلم، لأن أبا موسى قد قتله كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، ولا شك أنّ ترجيح وتقديم ما ثبت في الصحاح وغيرها من كتب الحديث على ما تذكره كتب السير والتاريخ هو المنهج الأقوم، خاصة، إذا كان ما في الصحاح نصاً في محل النزاع كما هنا، فلا يعارض بأقوال محذوفة الأسانيد في كتب السيرة، وبذلك يزول الإشكال ونخلص من تلك الانتقادات والمناقشات التي أثارها الشامي والزرقاني وغيرهما. والله أعلم.
1 هو محمد بن يوسف الصالحي (ت: 942) له كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد. (انظر معجم المؤلفين لكحالة 10/63) .
2 هو: زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري، البكائي – بفتح الموحدة وتشديد الكاف، أبو محمد الكوفي، صدوق، ثبت في المغازي وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، من الثامنة ولم يثبت أن وكيعا كذبه، وله في البخاري موضع واحد متابعة (ت 183) خ م ت ق (التقريب 1/268 وتهذيب التهذيب 3/375) .
3 القطب الحلبي: هو عبد الكريم بن عبد النور بن منبر الحلبي، الحافظ المتقن المقرئ أبوعلي الحلبي ثم المصري، مفتي الديار المصرية، صنف وخرج وأفاد وشرح أكثر صحيح البخاري في عدة مجلدات ولد سنة 664 وتوفي سنة 735) (أبو المحاسن الدمشقي ذيل تذكرة الحفاظ ص 13-15) .
4 هما القطب الحلبي وابن حجر.
5 شرح المواهب 3/25 و26 و27 وانظر: الديار بكري: تاريخ الخميس 2/107 و108.