الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: موقف الأنصار من توزيع الغنائم وخطبة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم
…
المبحث الخامس: موقف الأنصار من توزيع الغنائم وخطبة الرسول فيهم
وجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث لم ينلهم ما نال غيرهم من الغنائم، مع بلائهم الشديد في هذه الغزوة وفي غيرها من معارك الإسلام الفاصلة.
ولقد كانوا - لكثرة عددهم وشدة بأسهم في الحرب- أعمدة أساسية للجيش النبوي في أية معركة ضد أعداء الإسلام، فهم الذين ناصروا هذا الدين وقام على كواهلهم، وفتحوا قلوبهم وأبوبهم لكل من جاءهم من إخوانهم المهاجرين الفارين بدينهم، وناضلوا أشد النضال من أجل إقامة هذا الدين وتثبيت دعائمه.
ولقد سجل الله لهم ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، [سورة الحشر، الآية: 9] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} ، [سورة الأنفال، الآية: 74] .
فهم أنصار الله وأنصار رسوله صلى الله عليه وسلم حقا وصدقاً.
198-
وفي صحيح البخاري من طريق غيلان بن جرير قال: "قلت لأنس بن مالك: اسم الأنصار1 كنتم تسمون به. أم سماكم الله؟ قال: بل سمانا الله"2.
ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم تلك المواقف العظيمة وأثنى عليهم ثناء عطرا وأوصى بهم خيرا، وكان ذلك في آخر رمق من حياته صلى الله عليه وسلم.
1 الأنصار: جمع ناصر، كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف واللام فيه للعهد، أي أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد الأوس والخزرج، وكانوا قبل ذلك يعرفون بابني قيلة، اسم امرأة - بقاف مفتوحة وياء تحتانية ساكنة - وهي الأم التي تجمع القبيلتين - فسماهم النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصاروا علما عليهم، وأطلق ذلك على أولادهم، وحلفائهم، ومواليهم وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والقيام بأمرهم، ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم، (شرح ثلاثيات مسند أحمد 1/673) .
2 5/26 كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم.
199-
فقد روى البخاري من حديث هشام بن زيد بن أنس بن مالك قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ 1، قالوا ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي2 وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم" 3.
200-
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعطفا بها على منكبيه، وعليه عصابة دسماء4، حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد أيها الناس إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام5، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم" 6.
1 قال ابن حجر: "لم أقف على اسم الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر الصديق أو العباس بن عبد المطلب ويظهر لي أنه العباس. (فتح الباري 7/121) .
2 كرشي- الكرش بوزن الكبد، لكل مجتر بمنزلة المعدة للإنسان والكرش أيضا الجماعة من الناس.
والعيبة: بفتح المهلمة وسكون المثناة بعدها موحدة أراد أنهم بطانته وموضع سره، والذين يعتمد عليهم في أموره أي أنتم خاصتي وموضع سري، والعرب تكني عن القلوب والصدور بالعياب، لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب (النهاية في غريب الحديث 3/327، و4/163-164، ومختار الصحاح ص: 567 وفتح الباري 7/121.
وفي القاموس المحيط 1/109 والعيبة: زنبيل من أدم وما يجعل فيه الثياب ومن الرجل موضع سره، جمعه عيب، وعيبات وعياب.
3 5/29 كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
4 دسماء: أي لونها كلون الدسم وهو الدهن، وقيل المراد أنها سوداء لكن ليست خالصة السواد ويحتمل أن تكون اسودت من العرق أو من الطيب كالغالية، وقد تبين من حديث أنس أنها كانت حاشية البرد، والحاشية غالبا تكون من لون غير الأصل. (فتح الباري 7/122) .
5 قوله: "إن الناس يكثرون وتقل الأنصار"، فيه إشارة إلى دخول قبائل العرب والعجم في الإسلام وهم أضعاف أضعاف قبيلة الأنصار، فمهما فرض الأنصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبدا بالنسبة إلى غيرهم قليل، ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقا فأخبر بذلك فكان كما أخبر؛ لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك ولا التفات إلى كثرة من يدعي أنه منهم بغير برهان.
وقوله: "حتى يكونوا كالملح في الطعام"، وفي لفظ "بمنزلة الملح في الطعام" أي في القلة، لأنه جعل غاية قلتهم الانتهاء إلى ذلك والملح بالنسبة إلى جملة الطعام جزء يسير منه والمراد بذلك المعتدل (فتح الباري 7/122) .
6 البخاري: الصحيح 5/29 كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم و 4/164 كتاب المناقب، باب علامات النبوة.
وقد جعل صلى الله عليه وسلم حبهم من علامات الإيمان، وبغضهم من علامات النفاق.
201-
فقد ورد في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، آية النفاق بغض الأنصار"1.
202-
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله"2.
203-
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم 3-، "لو أن الأنصار سلكوا واديا4 أو شعباً، لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة5 لكنت امرأ من الأنصار"، فقال أبو هريرة: "ما ظلم
1 المصدر السابق 5/27، كتاب المناقب، باب حب الأنصار واللفظ له، ومسلم الصحيح 1/85، كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته الخ.
2 البخاري: الصحيح 5/27 كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار، ومسلم: الصحيح 1/85 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان الخ.
3 وعند أحمد: "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو القاسم".
4 واديا: هو المكان المنخفض، وقيل الذي فيه ماء والمراد هنا بلدهم.
والشعب: بكسر الشين المعجمة، وهو اسم لما انفرج بين جبلين، وقيل الطريق في الجبل.
وأراد صلى الله عليه وسلم بهذا: التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة والقناعة بالله ورسوله عن الدنيا، ومن هذا وصفه فحقه أن يسلك طريقه ويتبع حاله.
قال الخطابي:" لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر الطرق سلك كل قوم منهم واديا وشعبا فأراد أنه مع الأنصار"(فتح الباري 8/51-52) .
5 قوله: "ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"، قال الخطابي:"أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها وقد اختلف العلماء في تمني رسول الله صلى الله عليه وسلم الانتساب إلى الأنصار، لولا مانع الهجرة":
فقال بعضهم: "لم يرد بذلك الانتقال عن نسب آبائه، لأنه ممتنع قطعا، وإنما أراد النسبة إلى دارهم، ولولا أن النسبة الهجرية لا يسعه تركها ويحتمل أنه لما كان الأنصار أخواله لكون أم عبد المطلب منهم، أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة لولا مانع الهجرة".
وقال بعضهم: "معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها سبقت فمنعت من ذلك، وهي أعلى وأشرف فلا تتبدل بغيرها.
وقيل: "التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار ولم يرد ظاهر النسب أصلا".
وقيل: "لولا التزامي بشروط الهجرة ومنها ترك الإقامة بمكة فوق ثلاثة لاخترت أن أكون من الأنصار فيباح لي ذلك، أي الإقامة بمكة"(فتح الباري 8/51 بتصرف) .
- بأبي وأمي- آووه ونصروه، أو كلمة أخرى"1.
ومن هنا لم يكن الرسول الله صلى الله عليه وسلم بحرمانه الأنصار من الغنائم يجهل حقهم أو يحط من قدرهم حاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، وإنما تركهم ثقة منه بقوة إيمانهم وسخاوة نفوسهم، وأعطى الغنائم أناساً يخاف هلعهم وجزعهم ويتألفهم على الإسلام.
ويبدوا أن الأنصار خفي عليهم ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من توزيع الغنائم على ذلك النحو، فصدرت منهم هذه المقالة:
"إذا كانت الشدة فنحن ندعى، وترد غنائمنا على غيرنا"2.
ولما بلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في مكان واحد بين لهم وجهة نظره في إيثاره المؤلفة قلوبهم، فزال ما علق بأذهان الأنصار وطابت نفوسهم، وبرهنوا بذلك على صدق إخلاصهم لله في جهادهم وعظيم حبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وأن متاع الدنيا لم يكن غاية لجهادهم.
وهذا ما تدل عليه الأحاديث الآتية:
1-
حديث أنس بن مالك وقد جاء عنه من أربعة أوجه.
أ- من طريق هشام بن زيد بن أنس بن مالك عنه قال:
"لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عشرة آلاف، ومعه الطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقي وحده"3.
1 وعند أحمد: "فقال أبو هريرة فما ظلم بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم لآووه ونصروه، قال: وأحسبه قال: "وواسوه".
وفي لفظ "لقد آووه ونصروه وكلمة أخرى".
وفي لفظ: "قال أبو هريرة: وما ظلم بأبي وأمي لقد آووه ونصروه أو واسوه ونصروه".
قال ابن حجر: قوله: " (ما ظلم) ، أي: ما تعدى في القول المذكور ولا أعطاهم فوق حقهم، ثم بين وجه ذلك بقوله "آووه ونصروه".
وقوله: "لسلكت في وادي الأنصار" أراد بذلك حسن موافقتهم له لما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد وليس المراد أنه يصير تابعاً لهم، بل هو المتبوع المفترض الطاعة على كل مؤمن" (فتح الباري 7/112) .
2 البخاري: الصحيح 5/26 كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار 9/70 كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو واللفظ له، وأحمد المسند 2/410، و414 و469 وإسحاق بن راهويه: المسند ص: 22 أ- ب رقم 377.
3 وعند أحمد وابن أبي شيبة: "فلما التقوا ولى الناس".
قال فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئاً1، قال: فالتفت عن يمنيه فقال: "يا معشر2 الأنصار! " فقالوا: لبيك يا رسول الله! 3 أبشر نحن معك، قال: وهو على بغلة بيضاء4 فنَزل فقال: أنا عبد الله ورسوله5، فانهزم المشركون6 وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء7، ولم يعط الأنصار شيئا، فقالت الأنصار: إذا كانت الشدة8 فنحن ندعى، وتعطى الغنائم غيرنا!.
فبلغه ذلك، فجمعهم في قبة9 فقال:"يا معشر الأنصار! ما حديث بلغني عنكم" فسكتوا، فقال:"يا معشر الأنصار10! أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد صلى الله عليه وسلم تحوزونه إلى بيوتكم"11.
قالوا: بلى يا رسول الله! رضينا قال: فقال: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لأخذت12 شعب الأنصار".
1 وعند أحمد وابن أبي شيبة: "ونادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما كلام".
2 المعشر: كمسكن الجماعة وأهل الرجل (القاموس المحيط 2/90) .
3 وعند البخاري: "قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك، لبيك نحن بين يديك".
4 وعند أحمد وابن أبي شيبة: "والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على بغلة بيضاء".
5 وعند أحمد وابن أبي شيبة: "فنزل وقال: إني عبد الله ورسوله".
6 وعند ابن أبي شيبة: "ثم نزل إلى الأرض فالتقوا فهزموا ". وعند احمد: "ثم نزل بالأرض والتقو فهزموا".
7 وعند البخاري: "فأعطى الطلقاء والمهاجرين". وعند ابن أبي شيبة "وأصابوا من الغنائم، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم الطلقاء وقسم فيها".
8 وعند البخاري: "إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا". وعند أحمد: "ندعى عند الكرة وتقسم الغنيمة لغيرنا".
9 وعند أحمد وابن أبي شيبة: "فجمعهم وقعد في قبة". وعند البخاري ومسلم في لفظ وأحمد: "فجمعهم وقعد في قبة من أدم". والقبة: من الخيام: بيت صغير مستدير، وهو من بيوت العرب (النهاية (4/3) .
10 وعند أحمد وابن أبي شيبة فقال: "أي: معشر الأنصار".
11 تحوزونه بالحاء المهملة والزاي من الحوز وهو الضم يقال: حزت الشيء أحوزه حوزا وحيازة ضممته وجمعته، وكل من ضم إلى نفسه شيئا فقد حازه (المصباح المنير للفيومي 1/188) .
12 عند البخاري "لاخترت شعب الأنصار".
قال هشام1: فقلت: يا أبا حمزة! أنت شاهد ذاك؟ 2 قال: وأين أغيب عنه.
ب- من طريق الزهري قال أخبرني أنس بن مالك أن أناساً3 من الأنصار قالوا يوم حنين، حين أفاء الله على رسوله4 من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله، يعطي رجالاً من قريش5 المائة من الإبل فقالوا: يغفر الله6 لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! قال أنس بن مالك: فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار، فجمعهم في قبة من أدم7 فلما اجتمعوا8، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال له فقهاء الأنصار9: أما ذوو رأينا10 يا رسول الله! فلم يقولوا شيئاً،
1 قال ابن حجر: "هو موصول بالإسناد المذكور، أبو حمزة: هو أنس بن مالك". اهـ.
قلت: والإسناد المشار إليه هو: حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون عن هشام بن زيد بن أنس بن مالك عن أنس بن مالك (انظر فتح الباري 8/53و55) .
2 عند البخاري: "وأنت شاهد ذلك؟ ".
3 عند البخاري: "قال ناس من الأنصار". وعند أحمد: "أن ناسا من الأنصار".
4 عند البخاري: "حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما أفاء من أموال هوازن".
5 عند البخاري: "يعطي رجالا المائة من الإبل".
وعند أحمد: "يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل كل رجل".
6 عند البخاري وأحمد: "فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزرقاني: قالوا ذلك توطئة وتمهيدا لما بعده من العتاب، كقوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، [سورة التوبة، من الآية: 43] . شرح المواهب 3/38.
7 قوله:"من أدم":بفتح الهمزة المقصورة والدال جلد مدبوغ (شرح المواهب3/39) .
8 وعند أحمد: "ولم يدع أحدا غيرهم".
وعند البخاري "ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حديث بلغني عنكم".
9 عند أحمد "فقالت الأنصار".
10 عند البخاري "أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا" وتقدم في ص: 416 في رواية هشام بن زيد عن أنس "فقال: يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم" فسكتوا.
قال ابن حجر: "يحمل على أن بعضهم سكت وبعضهم أجاب، وفي رواية أبي التياح عن أنس عند الإسماعيلي فجمعهم فقال: "ما الذي بلغني عنكم؟ " قالوا: "هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون".
ولأحمد من طريق ثابت عن أنس بت مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في الآخرين يوم حنين، فقالت الأنصار: يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم" فذكر الحديث وفيه "ثم قال: أقلتم كذا وكذا؟ قالوا نعم، وكذا ذكر ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري أن الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمقالتهم سعد بن عبادة ولفظه: "لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بن عبادة فذكر له ذلك فقال له: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: ما أنا إلاّ من قومي: قال: فاجمع لي قومك فجمعهم" الحديث. وأخرجه أحمد من هذا الوجه وهذا يعكر على الرواية التي فيها: "أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا"؛ لأن سعد بن عبادة من رؤساء الأنصار بلا ريب إلا أن يحمل على الأغلب الأكثر، وأن الذي خاطبه بذلك سعد بن عبادة ولم يرد إدخال نفسه في النفي أو أنه لم يقل لفظا وإن كان رضي الله عنه رضي بالقول المذكور فقال: ما أنا إلا من قومي وهذا أوجه اهـ. (فتح الباري 8/50) انظر حديث 204و 206.
وأما أناس1 منا حديثة أسنانهم، قالوا2: يغفر الله لرسوله يعطي قريشاً وتركنا3، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإني أعطي4 رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون5 إلى رحالكم6 برسول الله؟ فوالله، لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به".
فقالوا: بلى يا رسول الله، قد رضينا، قال: "فإنكم ستجدون7 أثرة8 شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض9 قالوا: سنصبر10.
ج- من طريق شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: جمع11 رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال: أفيكم12 أحد من غيركم؟ ".
1 عند البخاري وأحمد: "وأما ناس".
2 وعند أحمد: "فقالوا: كذا وكذا اللذي قالوا".
3 وعند البخاري "من حديث شعبة عن قتادة عن أنس" يعطي قريشاً ويدعنا.
4 عند البخاري البخاري: "إني لأعطي رجالاً حديث عهدهم بكفر".
وعند أحمد: "إني لأعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتألفهم، أو قال أستألفهم ومعنى: أتألفهم، أي: أستميل قلوبهم بالإحسان ليثبتوا على الإسلام، رغبة في المال".
5 عند البخاري "وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم".
6 رحالكم: بالحاء المهملة، أي بيوتكم، وهي رواية قتادة عن أنس. انظر ص (419)(فتح الباري 8/51) .
7 عند البخاري "سترون بعدي أثرة شديدة".
(أثرة) قال النووي: فيها لغتان: إحداهما ضم الهمزة وإسكان الثاء، وأصحها وأشهرهما بفتحهما جميعاً. والأثرة: الاستئثار بالمشترك، أي يستأثر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق (شرح النووي على صحيح مسلم 3/99) .
9 وعند البخاري: "موعدكم الحوض". وعند أحمد "فإني فرطكم على الحوض".
10 وعند مسلم أيضاً: "قالوا: نصبر" وعند البخاري "قال أنس فلم يصبروا" وعند البخاري أيضا وأحمد: "قال أنس: فلم نصبر".
11 وعند البخاري والترمذي: "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من الأنصار" وعند البخاري أيضا "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار".
12 وعند البخاري وأحمد: "هل فيكم أحد من غيركم".
فقالوا: لا، إلاّ ابن أخت لنا1، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن ابن أخت القوم منهم فقال: "إن قريشا حديث2 عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم3 وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ " لو سلك الناس واديا4 وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار".
د- وفي لفظ من طريق أبي التياح5 قال سمعت أنس بن مالك قال: لما
1 قوله: "إلا ابن أخت لنا"، قال ابن حجر:"هو النعمان بن مقرن المزني كما أخرجه أحمد من طريق شعبة عن معاوية بن قرة في حديث أنس هذا وكانت أم النعمان أنصارية"(فتح الباري 6/552و 12/49) قلت: والحديث في مسند أحمد 3/19 بإسناد صحيح وسياقه: حدثنا وكيع ثنا شعبة قال قلت لمعاوية بن قرة أسمعت أنسا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنعمان بن مقرن ابن أخت القوم منهم قال: نعم، قال النووي:"استدل بحديث الباب من يورث ذوي الأرحام وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وآخرين".
ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون، وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي توريثه، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطاً وقرابة، ولم يتعرض للإرث، وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرهم بحضرته ونحو ذلك اهـ. شرح النووي على صحيح مسلم (3/99-100) .
قلت: بوب البخاري بقوله: "باب مولى القوم من أنفسهم وابن أخت القوم منهم" ثم ساق حديث: "ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم". قال ابن حجر: وكأن البخاري رمز إلى الجواب بإيراد هذا الحديث، لأنه لو صح الاستدلال بقوله "ابن أخت القوم منهم" على إدارة الميراث لصح الاستدلال به على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه، فدل على أن المراد بقوله "من أنفسهم" كذا "منهم" في المعاونة أو الانتصار والبر والشفقة ونحو ذلك لا في الميراث.
ثم قال ابن حجر: "وقال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذكر ذلك إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلاً عن أولاد الأخوات حتى قال قائلهم:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
فأراد بهذا الكلام التحريض على الألفة بين الأقارب. اهـ. (فتح الباري 12/49) .
2 قال ابن حجر: "كذا وقع بالإفراد في الصحيحين، والمعروف حديثو عهد، وكتبها الدمياطي بخطه "حديثو عهد" وفيه نظر. وقد وقع عند الإسماعيلي "إن قريشا كانوا قريب عهد".اهـ. (فتح الباري 8/54) .
وقال محمد فؤاد عبد الباقي بعد أن أشار إلى ما ذكره ابن حجر قال: "وفعيل يستوي فيه الإفراد وغيره (تعليقه على صحيح مسلم، وهذا معروف في اللغة انظر: شرح ابن عقيل (1/61) .
3 قوله: (أن أجبرهم) قال ابن حجر: "كذا للأكثر - بفتح أوله وسكون الجيم بعدها موحدة ثم راء مهملة - للسرخسي والمستملي: بضم أوله وكسر الجيم بعدها تحتانية ساكنة ثم زاي - من الجائزة"(فتح الباري 8/54) .
4 وعند الترمذي: "لو سلك الناس واديا أو شعبا، وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم"، وعند البخاري:"لو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار".
5 أبو التياح - بمثناة ثم تحتانية ثقيلة آخره مهملة- هو يزيد بن حميد.
فتحت مكة قسم الغنائم في قريش1 فقالت الأنصار: إن هذا لهو العجب2 إن سيوفنا تقطر من دمائهم3، وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم، فقال:"ما الذي بلغني عنكم؟ ". قالوا: هو الذي بلغك، وكانوا لا يكذبون، قال:"أما ترضون4 أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو سلك الأنصار وادياً أو شعبا وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار"5.
ورواه مسلم وأحمد والبيهقي الجميع عن طريق السميط السدوسي عن أنس بن مالك قال: افتتحنا مكة ثم غزونا حنينا فجاء المشركون بأحسن صفوف رأيت" الحديث.
1 وعند البخاري وأحمد: "فقسم الغنائم في قريش" وفي لفظ عند البخاري أيضا "لما كان يوم فتح مكة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بين قريش فغضبت الانصار".
قال ابن حجر: "ووقع عند القابسي: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم "غنائم قريش" ولبعضهم "غنائم من قريش" وهو خطأ؛ لأنه يوهم أن مكة لما فتحت قسمت غنائم قريش، وليس كذلك بل المراد بقوله: "يوم فتح مكة" زمن فتح مكة وهو يشمل السنة كلها، ولما كانت غزوة حنين ناشئة عن غزوة فتح مكة أضيفت إليها"(فتح الباري8/54) .
2 وعند البخاري: "والله إن هذا لهو العجب".
3 وعند البخاري وأبي يعلى: "إن سيوفنا تقطر من دماء قريش".
4 عند البخاري "أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ ".
5 البخاري: الصحيح 4/74 كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المؤلفة وغيرهم، الخ و145 كتاب المناقب، باب ابن أخت القوم منهم ومولى القوم منهم 5/26 و28 كتاب فضائل أصحاب النبي، باب مناقب الأنصار والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم الخ.
وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض و 130و 131 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، و 7/ كتاب اللباس، باب القبة الحمراء من أدم.
و8/130 كتاب الفرائض، باب مولى القوم من أنفسهم وابن الأخت منهم و9/106 كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى، وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة، ومسلم: الصحيح 2/733-736 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوى إيمانه واللفظ له، وأحمد: المسند 3/165-166 و169 و176 و222 و249 و275 و276، و277، و279-280.
والترمذي: السنن 5/371 كتاب المناقب، باب في فضل الأنصار وقريش، والسنائي: السنن 5/80، كتاب الزكاة، باب ابن أخت القوم منهم، مختصرا جدا، وابن أبي شيبة: التاريخ ص 90.
وأبو يعلى: المسند 3/292 و307 و337 ورقم 303.
والبيهقي: السنن الكبرى 6/337-338 ودلائل النبوة 3/50-51، هكذا أخرج هؤلاء الأئمة هذا الحديث مطولاً ومختصراً. تقدم برقم (40) .
وفيه: "قال فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا للمهاجرين يا للمهاجرين" ثم قال: "يا للأنصار يا للأنصار".
قال أنس: هذا حديث عمية، قال: قلنا لبيك يا رسول الله، قال: فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأيم الله ما أتيناهم حتى هزمهم الله، قال: فقبضنا ذلك المال، ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة ثم رجعنا إلى مكة، قال: فنزلنا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل المائة ويعطي الرجل المائة1 قال: فتحدث الأنصار بينهم، أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه، قال: فرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بسراة2 المهاجرين والأنصار أن يدخلوا عليه، ثم قال:"لا يدخل على إلاّ أنصاري أو الأنصار" قال: فدخلنا القبة حتى ملأنا القبة، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار – أو كما قال- ما حديث أتاني؟ " قالوا ما أتاك يا رسول الله؟ قال: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تدخلوا بيوتكم؟ ".
قالوا: رضينا يا رسول الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أخذ الناس شعبا وأخذت الأنصار شعبا، لأخذت شعب الأنصار" قالوا: يا رسول الله رضينا قال: "فارضوا أو كما قال"3.
204-
ورواه أحمد وابن أبي شيبة عن يزيد4 بن هارون قال: أنبأنا حميد5 عن أنس قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وعيينة بن حصن مائة من الإبل، فقال ناس من الأنصار: يعطي6 رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 هذا العطاء كان بالجعرانة؛ لأن قسمة الغنائم كانت بها، ولا يفهم من قوله رجعنا إلى مكة أن قسم الغنائم كان بمكة.
2 سراة المهاجرين والأنصار: أي أشرافهم (النهاية 2/363) .
3 أحمد: المسند 3/157 واللفظ له، مسلم: الصحيح 2/736 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، والبيهقي دلائل النبوة 3/50 أ، وتقدم برقم (46) .
4 هو ابن زاذان السلمي مولاهم، أبو خالد الواسطي.
5 هو ابن أبي حميد الطويل.
6 وفي لفظ عند أحمد أيضاً: "فقالت الأنصار: أيعطي غنائمنا من تقطر سيوفنا من دمائهم، أو تقطر دماؤهم من سيوفنا".
غنائمنا ناس تقطر سيوفهم من دمائنا أو تقطر سيوفنا من دمائهم، فبلغه ذلك فأرسل إلى الأنصار فقال:"هل فيكم من غيركم؟ ". قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابن الأخت القوم منهم، أقلتم1 كذا وكذا؟ أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد إلى دياركم؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"والذي نفسي2 بيده، لو أخذ الناس وادياً أو شعباً، أخذت وادي الأنصار أو شعبهم، الأنصار كرشي وعيبتي، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"3.
ورواه أحمد أيضا من:
أ- طريق ثابت البناني عن أنس بن مالك إلا أنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان وعيينة والأقرع وسهيل بن عمرو في الأخيرين يوم حنين. فقالت الأنصار: يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم، وهم يذهبون بالمغنم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة له حتى فاضت، فقال:"أفيكم أحد من غيركم؟ ". قالوا: لا، إلا ابن اختنا، قال:"ابن الأخت القوم منهم". ثم قال: "أقلتم كذا وكذا؟ " قالوا: نعم، قال:"أنتم الشعار4 والناس دثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دياركم" الحديث5.
ب- حدثنا عبيدة6 بن حميد عن حميد عن أنس بن مالك قال: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم حنين عيينة والأقرع وغيرهما، فقالت الأنصار: أيعطي غنائمنا من تقطر
1 وعند ابن أبي شيبة فقال: قلتم كذا وكذا؟ ".
2 وفي لفظ عند أحمد: "والذي نفس محمد بيده".
3 أحمد: المسند 3/201 واللفظ له وابن أبي شيبة: التاريخ ص 92 ب.
4 الشعار: بكسر المعجمة بعدها مهملة خفيفة، الثوب الذي يلي الجلد من الجسد، والدثار: بكسر المهملة ومثلثة خفيفة: الذي فوق الشعار، وأرد أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم (فتح الباري 8/52 والنهاية 2/100 و480 والقاموس المحيط 2/27و 59) .
5 مسند أحمد 3/246. وقال ابن حجر: إسناده على شرط مسلم 8/50.
6 عبيدة - بفتح أوله هو الكوفي أبو عبد الرحمن المعروف بالحذاء صدوق نحوي ربما أخطا (التقريب 1/547) .
سيوفنا من دمائهم، أو تقطر دماؤهم من سيوفنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الأنصار فقال:"يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد إلى دياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: والذي نفس محمد بيده لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، الأنصار كرشي وعيبتي، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار"1.
ج- حدثنا بن أبي عدي2 عن حميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا3 فهداكم الله عز وجل بِيَ، ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ ". قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"أفلا تقولون جئتنا خائفا فأمناك4 وطريداً فآوينك ومخذولاً 5 فنصرناك؟ "6. فقالوا: بل7 لله تبارك وتعالى المن به علينا ولرسوله صلى الله عليه وسلم 8.حمد وابن أبي شيبة عن يزيد
1 مسند أحمد 3/188 وإسناده حسن.
2 هو محمد بن إبراهيم.
3 ضلالاً: بالضم والتشديد جمع ضال والمراد هنا ضلالة الشرك بالهداية الإيمان، وقد رتب صلى الله عليه وسلم ما من الله عليهم على يديه من النعم ترتيبا بالغا فبدأ بنعمة الإيمان التي لا يوازها شيء من أمر الدنيا، وثنى بنعمة الألفة وهي أعظم من نعمة المال، لأن الأموال تبذل في تحصيله وقد لا تحصل، وقد كانت الأنصار قبل الهجرة في غاية التنافر والتقاطع لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها، فزال ذلك كله بالإسلام، كما قال الله تعالى:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ، [سورة الأنفال، من الآية: 63] ، (فتح الباري 8/50) .
4 خائفاً فأمناك: بمناصرتنا لك، وقيامنا بنصرتك، وطريداً: من بلدك قد آذاك قومك.
5 مخذولاً: أي غير منصور يقال: خذله خذلا وخذلانا - بالكسر - ترك نصرته.
6 فنصرناك: أي: على من عاداك وآزرناك على من ناوأك.
(بل) إضراب عما قال صلى الله عليه وسلم، وعدد من أياديهم ومنهم. (لله) سبحانه وتعالى:(المن علينا ولرسوله) صلى الله عليه وسلم، إذ هدانا الله تعالى به إلى الدين القويم والصراط المستقيم. والمن: بفتح الميم، وتشديد النون - العطاء والإحسان. ومن أسمائه تعالى؟ المنان، هو المنعم المعطي من المن الذي هو العطاء (السفاريني: شرح ثلاثيات مسند أحمد 1/676-677) النهاية لابن الأثير 4/365.
8 أحمد: المسند 3/104-105 و253 قال ابن حجر: وإسناده صحيح (فتح الباري 8/51) . والحديث من ثلاثيات الإمام أحمد.
وفي حديث عبد الله بن زيد بن عاصم عند البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا سياقه عند البخاري:
205-
حدثنا موسى1 بن إسماعيل، حدثنا وهيب2، عن عمرو3 بن يحيى بن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم، قال:
لما أفاء4 الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم5، ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا6 إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال:"يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة 7 فأغناكم الله بي؟ ". كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن 8. قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " 9. قال: "كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمن.
1 هو المنقري بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف.
2 وهيب - مصغراً - هو ابن خالد بن عجلان.
3 هو ابن عمارة بن أبي الحسن المازني، المدني.
4 قوله: "لما أفاء الله على رسوله يوم حنين"، أي: أعطاهم غنائم الذين قاتلهم يوم حنين، وأصل الفيء الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لأنه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئا لأنها كانت في الأصل للمؤمنين إذا الإيمان هو الأصل والكفر طاريء عليه، فإذا غلب الكفار على شيء من المال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم (فتح الباري 8/47-48) .
5 المؤلفة قلوبهم: بدل من الناس وهو بدل بعض من كل (المصدر السابق 8/48) .
6 يقال وجد عليه يجد ويجد جداً وجدة وموجدة إذا غضب، وفي الحب والحزن وجد يجد وجداً فقط. (القاموس المحيط 1/343) .
قال ابن حجر: "وفي (مغازي سليمان التيمي) أن سبب حزنهم أنهم خافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الإقامة بمكة، والأصح ما في الصحيح حيث قال: إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" على أنه لا يمتنع الجمع وهذا أولى" (فتح الباري 8/50) .
قلت: وفي مرسل قتادة عند الطبري "أن الأنصار قالوا) والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" (انظر ص 433) .
وعليه فيكون الجمع أظهر من غيره فالأنصار قالوا ما قالوا للسببين وهما خوفهم من بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة كما جاء ذلك صريحا في صحيح مسلم وكما في هذا الأثر عن قتادة، وحينما شاهدوا قسم الغنائم على الأعراب والطلقاء وغيرهم من أهل مكة ولم ينالوا منها شيئا ازداد خوفهم وصدر منهم ما صدر من القول فبين لهم بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه الحكمة في قسمة الغنائم وبين لهم أنه معهم في الحياة والممات فقال المحيا محياكم والممات مماتكم".
(انظر ص 433 تعليقة (1) .
7 عالة بالمهملة أي فقراء لا مال لكم، العيلة الفقر، جمع عائل وهو الفقير (النهاية لابن الأثير 3/323) وفتح الباري لابن حجر 8/50.
8 أمن بفتح الهمزة والميم والنون المشددة: أفعل تفضيل من المن. (المصدر السابق 8/50) .
9 وعند أحمد: "ما يمنعكم أن تجيبوني" وعند مسلم: "فقال: ألا تجيبوني".
قال: "لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا 1، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة2 والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها3، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"4.
1 قوله: "لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا". وعند مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر "أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا" لأشياء عددها زعم عمرو - وهو ابن يحيى المازني المدني راوي الحديث - أنه لا يحفظها.
قال ابن حجر: "وهذا رد على من قال أن الراوي كنى عن ذلك عمدا على طريق التأدب، وقد جوز بعضهم أن يكون المراد جئتنا ونحن على ضلالة فهدينا بك "وفيه بعد، فقد فسر ذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند ابن إسحاق ولفظه:"أما والله لشئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذباً فصدقناك، مخذولا فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فواسيناك" ونحوه في مغازي أبي الأسود عن عروة مرسلا، وابن عائذ من حديث ابن عباس موصولا، وفي مغازي سليمان التيمي أنهم قالوا في جواب ذلك:"رضينا عن الله ورسوله" وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه بغير إسناد.
وأخرجه أحمد عن ابن عدي عن حميد عن أنس بلفظ "أفلا تقلون جئتنا خائفا فأمناك وطريدا فآويناك، ومخذولاً فنصرناك" فقالوا: "بل لله تبارك وتعالى المن وعلينا ولرسوله صلى الله عليه وسلم".
وروى أحمد من وجه آخر عن أبي سعيد قال: "قال رجل من الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أنه لو قد استقامت الأمور قد آثر عليكم قال: فردوا عليه ردا عنيفا" الحديث وفيه "قال: أفلا تقولون قاتلك قومك فناصرناك وأخرجك قومك فآويناك؟ ". قالوا: "نحن لا نقول ذلك يا رسول الله، أنت تقوله". ثم قال ابن حجر: "وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك تواضعا منه وإنصافا وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم، فإنه لولا هجرته إليهم وسكناه عندهم لما كان بينهم وبين غيرهم فرق، وقد نبه على ذلك، بقوله صلى الله عليه وسلم "ألا ترضون" الخ، فنبههم على ما غفلوا عنه من عظيم ما اختصوا به منه بالنسبة إلى ما حصل عليه غيرهم من غرض الدنيا الفانية". (فتح الباري 8/51 بتصرف يسير) .
2 الشاة والبعير: اسم جنس فيهما والشاة تقع على الذكر والأنثى وكذا البعير (فتح الباري 8/51) وعند مسلم (بالشاء والإبل) .
3 وعند مسلم وابن أبي شيبة وأحمد "وشعبهم".
4 البخاري: الصحيح 5/129 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف و9/70 كتاب التمني باب ما يجوز من اللو، وفي تحفة الأشراف، للمزي 4/34 حديث (5303) ، قال رواه البخاري في المغازي بتمامه، وفي التمني ببعضه عن موسى بن وهيب والصواب عن موسى عن وهيب، ب (عن) بدل (بن) .
5 مسلم: الصحيح 2/738 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، وابن أبي شيبة: التاريخ ص: 94 ب وأحمد: المسند4/42.
والحديث رواه مسلم وابن أبي شيبة وأحمد الجميع من طريق عمرو بن يحيى به1.
وروى ابن إسحاق من حديث أبي سعيد الخدري قال:
206-
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود2 بن لبيد عن أبي سعيد3 قال: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا، في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة4، حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه5 فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي6 من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال:"فأين أنت من ذلك يا سعد؟ ". قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة7، قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال
1 مسلم: الصحيح 2/738 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه، وابن أبي شيبة: التاريخ ص: 94 ب وأحمد: المسند4/42.
2 محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأوسي الأشهلي، أبو نعيم المدني صحابي صغير، وجل روايته عن الصحابة (ت 96 وقيل 97) / ب خ م ع (التقريب 2/233) وفي تهذيب التهذيب 3/387 والإصابة 3/387 وأسد الغابة 5/117-118 اختلف العلماء في صحبته ورجح البخاري صحبته وأيده ابن عبد البر. انظر: الاستيعاب 3/423-424 مع الإصابة.
3 أبو سعيد: هو سعد بن مالك بن سنان الأنصاري، له ولأبيه صحبة.
4 القالة: الكلام الرديء وفي القاموس 4/42: القال والقيل والقالة في الشر.
5 وعند الواقدي: "أما حين القتال فنحن أصحابه، وأما حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنا نعلم ممن كان هذا إن كان هذا من الله صبرنا، وإن كان هذا من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك غضبا شديداً فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يقول فِيَّ قومك" قال: ما يقولون يا رسول الله؟ قال: يقولون: أما حين القتال فنحن أصحابه، وأمّا حين القسم فقومه وعشيرته، ووددنا أنانعلم من أين هذا إن كان من قبل الله صبرنا وإن كان من رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه، فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله، ما أنا إلا كأحدهم، وإنا لنحب أن نعلم من أين هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة"، الخ (مغازي الواقدي 3/956-957) .
6 الحي: هو اسم لمنْزل القبيلة سميت القبيلة به؛ لأن بعضهم يحيا ببعض (فتح الباري 1/131 وفي القاموس 4/322 والحي: البطن من بطونهم جمعه أحياء.
7 الحظيرة: هي الموضع الذي يحاط عليه لتأوي إليه الغنم والإبل يقيهما البرد والريح. (النهاية لابن الأثير 4/414) .
من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:"يا معشر الأنصار: ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ". ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟ قال: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال:"ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ ".
قالو: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال: صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم، ولصدقتم، أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولاً1 فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلاً2 فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة3 من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب النّاس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار4، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء
1 الخذل والخذلان ترك الإغاثة والنصرة (المصدر السابق 2/16 ولسان العرب لابن منظور 13/214 والقاموس المحيط للفيروز آبادي 3/367) .
2 عائلاً: فقيراً: وآسيناك: أي جعناك كأحدنا، والمواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق، وأصلها الهمزة فقبلت واو تخفيفا. (النهاية 1/50 والقاموس المحيط 4/299) .
3 اللعاعة: بالضم: نبت ناعم في أول ما ينبت، يعنى أن الدنيا كالنبات الأخضر قليل البقاء (النهاية 4/254 ولسان العرب 10/195 والقاموس المحيط 3/81) .
4 وذكر الواقدي في مغازيه 3/958: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليكتب لهم بالبحرين كتابا من بعده تكون لهم خاصة دون الناس، فهي يومئذ أفضل ما فتح الله عليه من الأرض، فأبو وقالوا: ماحاجتنا بالدنيا بعدك يا رسول الله؟ قال: "أمالا فسترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإن موعدكم الحوض، وهو كما بين صنعاء وعمان، وآنيته أكثر من عدد النجوم". اهـ.
قلت: وإشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار أن يكتب لهم كتاباً بالبحرين ثابت في صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك وليس فيه أن ذلك كان في غزوة حنين.
ولفظه: "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليكتب لهم بالبحرين، فقالوا: لا والله حتى تكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فقال: ذاك لهم ما شاء الله على ذلك يقولون له قال: "فإنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني".
وفي لفظ "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها" وفي لفظ "دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ليقطع لهم بالبحرين، فقالوا: يا رسول الله إن فعلت فاكتب لإخواننا من قريش بمثلها، فلم يكن ذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنكم سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني".
(البخاري: الصحيح 3/100 كتاب المساقاة، باب القطائع و4/78 كتاب الجزية، باب ما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم من البحرين الخ و 5/28 كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار اصبروا حتى تلقوني على الحوض وقال ابن حجر:"وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة - أرسل العلاء ابن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي عامل البحرين يدعوه إلى الإسلام فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية وكان ذلك في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة" (فتح الباري 6/262. وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 1/263 و4/359-360، فهذا يدل على أن الكتابة للأنصار بالبحرين متأخرة عن غزوة حنين.
الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم1، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا 2.
والحديث رواه أحمد وابن أبي شيبة والطبري والبيهقي الجميع من طريق ابن إسحاق3.
ورواه أحمد أيضا من غير طريق ابن إسحاق وذلك من الأوجه الآتية:
207-
أ- حدثنا يحيى4 بن أبي بكير ثنا الفضيل5 بن مرزوق عن عطية العوفي قال: قال أبو سعيد قال رجل من الأنصار لأصحابه أما والله لقد كنت أحدثكم أنه لو قد استقامت الأمور قد آثر عليكم، قالوا: فردوا عليه ردا عنيفا، قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"فكنتم لا تركبون الخيل، فكلما قال: قال لهم شيئاً، قالوا بلى يا رسول الله، قال: فلما رآهم لا يردون عليه شيئا، قال: "أفلا تقولون: قاتلك قومك فنصرناك وأخرجك قومك فآويناك؟
1 أخضلوا لحاهم - بفتح الهمزة وسكون الخاء وفتح الضاد المعجمتين - أي بلوها بالدموع (النهاية 2/43 وشرح ثلاثيات مسند أحمد 1/679) .
2 سيرة ابن هشام 2/498-500 والروض الأنف 7/252-254 وهو حسن لذاته.
3 أحمد: المسند 3/67و76-77 وابن أبي شيبة: التاريخ ص 92 ب-أ، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 3/93-94، والبيهقي: دلائل النبوة 3/51 أ،
4 هو: الكرماني، كوفي الأصل نزل بغداد ثقة من التاسعة (ت 208أو 209) / ع (التقريب 2/344، وتهذيب التهذيب 11/190) .
5 هو الأغر - بالمعجمة والراء - الرقاشين الكوفي، أبو عبد الرحمن ووقع في البداية والنهاية لابن كثير 4/359 (يحيى بن بكير) عن (الفضل) بن مرزوق وهو خطا مطبعي، والصواب: يحيى بن أبي بكير (والفضيل) .
قالوا: نحن لا نقول ذلك يا رسول الله أنت تقوله، قال:"يا معشر الأنصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون أنتم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "يا معشر الأنصار ألا ترضون أن الناس لو سلكوا واديا وسلكتم واديا لسلكت وادي الأنصار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، الأنصار كرشي وأهل بيتي وعيبتي التي آوي إليها، فاعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم".
قال أبو سعيد: "قلت لمعاوية1 أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أننا سنرى بعده أثرة"، قال معاوية:"فما أمركم، قلت: أمرنا أن نصبر قال: فاصبروا إذا"2.
والحديث ضعيف؛ لأن فيه عطية3 العوفي، وفضيل4 بن مرزوق.
ب- حدثنا إبراهيم5 بن خالد ثنا رباح 6 عن معمر عن الأعمش عن أبي صالح 7 عن أبي سعيد الخدري قال: اجتمع أناس من الأنصار فقالوا: آثر علينا غيرنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم ثم خطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله، قال: "الم تكونوا ضلالا فهداكم الله؟ " قالوا: صدق الله ورسوله، قال: "ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟ " قالوا: صدق الله ورسوله.
1 هو معاوية بن أبي سفيان.
2 مسند أحمد 3/89.
3 هو ابن جنادة - بضم الجيم بعدها نون خفيفة - أبو الحسن قال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرا، كان متشيعاً مدلّساً، وقال ابن حبان: سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث فلما مات أبو سعيد جعل يجالس الكلبي ويحضر قصصه فإذا قال الكلبي قال رسول الله بكذا فيحفظه وكناه أبا سعيد ويروي عنه فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟.
فيقول: "حدثني أبو سعيد فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري وإنما أراد الكلبي، فلا يحل الاحتجاج به ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب.
4 قال عنه ابن حجر: "صدوق يهم ورمي بالتشيع" وقال أحمد: "لا يكاد يحدث عن غير عطية العوفي. وقال ابن حبان: كان يخطئ على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات"(انظر: التقريب 2/113 و344 وتهذيب التهذيب 7/298-300 و11/190 والمجروحين لابن حبان 2/176و 209) .
5 هو ابن عبيد القرشي الصنعاني المؤذن، ثقة (تهذيب التهذيب 1/117 والتقريب 1/35) .
6 رباح: هو ابن زيد القرشي مولاهم الصنعاني، ثقة (تهذيب التهذيب 3/233 والتقريب 1/242) .
7 أبو صالح هو ذكوان السمان الزيات المدني ثقة ثبت (تهذيب التهذيب 3/219) .
ثم قال: "ألا تجيبونني؟ " ألا تقولون: "أتيتنا طريدا فآويناك، وأتيتنا خائفا فآمنك؟ ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبقران - يعني البقر- وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم فتدخلونه بيوتكم؟ لو أن الناس سلكوا واديا أو شعبة1 وسلكتم وادياً أو شعبة سلكت واديكم أو شعبتكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، وإنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"2.
ورواه عبد بن حميد من طريق معمر عن الأعمش به3.
والحديث من رواية معمر عن الأعمش4.
وفيه عنعنة الأعمش وهو مدلس5.
ج- من حديث جابر بن عبد الله وهذا سياقه:
208-
حدثنا موسى6 حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتحت حنين بعث سرايا فأتوا بالإبل والشاء فقسموها في قريش، قال: "فوجدنا أيها الأنصار عليه، فبلغه ذلك فجمعنا فخطبنا
1 في القاموس المحيط 1/82 والشعبة بالضم: المسيل في الرمل وما صغر من التلعة وما عظم من سواقي الأودية وصدع في الجبل يأوي إليه المطر، وتجمع على شعب وشعاب.
2 أحمد: المسند 3/57.
3 المسند: 2/121 ب رقم 323.
4 قال ابن معين: "إذا حدثك معمر عن العراقيين فخالفه إلاّ عن الزهري وابن طاوس فإن حديثه عنهما مستقيم، فأمّا أهل الكوفة وأهل البصرة فلا، وما عمل في حديث الأعمش شيئاً".
وفي التقريب: "معمر بن راشد ثقة ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت وهشام بن عروة والأعمش شيئا". (تهذيب التهذيب 10/245 والتقريب 2/266) .
5 تدليس تسوية وهو شر أنواع التدليس وهو مذموم جدا، وهو أن يعمد الراوي إلى ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر فيسقطه ويروي الحديث عن شيخه عن الأعلى لكونه سمع منه أو أدركه فيوهم الآخرين أن الحديث عن الثقة عن الثقة الآخر، وأنه لا يوجد واسطة بينهم والحال أن بينهما رجلا ضعيفا وقد أسقطه قال ابن حجر: فيقبل من الثقة ما صرح فيه بالحديث ويتوقف عما عداه. (انظر: جامع التحصيل للعلائي ص116-117،وطبقات المدلسين لابن حجر ص11،وص23.
6 قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/359 بأن موسى هو ابن عقبة صاحب المغازي، لم يدركه الإمام أحمد رحمه الله، ذلك أن وفاة موسى كانت سنة (141 أو 142 هـ-) .
وكانت ولادة الإمام أحمد سنة (164هـ) فبين ولادة أحمد ووفاة موسى (23أو 22 سنة) ، والظاهر أن موسى هنا هو ابن داود الضبي، فإنه من تلاميذ ابن لهيعة ومن شيوخ أحمد، (انظر: تهذيب الكامل للمزي 7/692 وتهذيب التهذيب لابن حجر 10/342) .
فقال: "ألا ترضون أنكم أعطيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لو سلكت الناس واديا وسلكتم شعبا لاتبعت شعبكم".
قالوا: رضينا يا رسول الله 1.
قال الهيثمي: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح2.
قلت: وفيه أبو الزبير - محمد بن مسلم بن تدرس - وهو مدلس وقد عنعن.
وأخرج الطبراني نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما3.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه محمد بن جابر السحيمي وهو ضعيف وقد وثق4.
209-
وأخرجه البزار أيضا من حديث ابن عباس مختصراً5، قال الهيثمي: وفيه حفص بن عمر العدني وهو ضعيف6 وقال ابن الطهراني7: كان ثقة8.
وروى الطبري من حديث قتادة، فقال: حدثنا بشر9 بن معاذ، قال ثنا يزيد عن قتادة، قوله:"لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين" قال
…
وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء" الحديث.
1 أحمد: المسند 3/347.
2 مجمع الزوائد 10/30.
3 المعجم الكبير 12/196.
4 مجمع الزوائد 10/31.
5 كشف الأستار 2/353.
6 انظر: التقريب 1/188 وتهذيب التهذيب 2/410 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 3/182.
7 لعله محمد بن حماد أبو عبد الله الرازي الطهراني - بكسر المهملة وسكون الهاء - ثقة - حافظ لم يصب من ضعفه من التاسعة (ت 271) فإنه يعرف بابن الطهراني كما في تهذيب التهذيب ووقع في الخلاصة للخزرجي الظهراني - بالظاء المعجمة وهو خطأ فقد قال ابن الأثير بأنه منسوب إلى طهران الري بالطاء المهملة. (انظر: التقريب 2/155 وتهذيب التهذيب 9/124-126) وميزان الاعتدال 3/527 وتذكرة الحفاظ 2/610 وسير أعلام النبلاء 12/628 كلها للذهبي والخلاصة للخزرجي 2/395 واللباب لابن الأثير 2/291.
8 مجمع الزوائد 6/189.
9 بشر: هو العقدي، ويزيد: هو ابن زريع، وقتادة: هو ابن دعامة السدوسي، تقدموا في حديث (1) و (47) .
وفيه: "فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأتى الجعرانة فقسم بها مغانم حنين، وتألف أناساً من الناس فيهم أبو سفيان بن حرب والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فقالت الأنصار: حن الرجل إلى قومه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبة له من أدم، فقال: يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله، وكنتم أذلة فأعزكم الله1 وكنتم وكنتم، قال: فقال: سعد بن عبادة رضي الله عنه: ائذن لي فأتكلم، قال: تكلم، قال: أما قولك: كنتم ضلالا فهداكم الله، كنا كذلك، وكنتم أذلة فأعزكم الله، فقد علمت العرب ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سعد أتدري من تكلم". فقال: نعم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو سلكت الأنصار وادياً والناس وادياً لسلكت وادياً الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار".
وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الأنصار كرشي وعيبتي، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ ".
فقالت الأنصار: "رضينا عن الله ورسوله، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على
1 قوله: "وكنتم أذلة فأعزكم الله"، هذه الجملة جاءت في حديث أبي سعيد الخدري وكان جواب الأنصار:"صدق الله ورسوله" انظر ص 429 وفي هذا الحديث فقال سعد بن عبادة "فقد علمت العرب ما كان حي من أحياء العرب أمنع لما وراء ظهورهم منا" وكلا الحديثين ضعيف.
والأحاديث الصحيحة لم ترد فيها هذه الجلمة "وكنتم أذلة فأعزكم الله" كما أن هذا الجواب من سعد بن عبادة لم يرد في الأحاديث الصحيحة وقد تفرد بها قتادة وسندها ضعيف، ولا شك أن عزة الإسلام أرفع وأمنع من المنعة والحمية التي كان عليها الأنصار قبل الإسلام، وما كان لسعد بن عبادة في يقينه وعظيم إيمانه أن يخفى عليه ذلك، ولا أن يجيب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، وبخاصة أن الروايات الصحيحة لم ترد فيها الجملة وقد سلم الأنصار لكل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ورسوله1 يصدقانكم ويعذرانكم"2.
والحديث فيه قتادة من صغار التابعين ولم يصرح بمن حدثه 3.
وروى البيهقي نحوه من مرسل عروة بن الزبير وموسى بن عقبة4.
وهذه الآثار يشد بعضها بعضا، وتؤيدها الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا المبحث وقد تقدمت.
وهي تدل على أن الأنصار وجدوا في أنفسهم حيث اختص بالغنائم غيرهم ولم ينلهم منها شيء، حتى حصل منهم ما حصل وتكلم منهم من تكلم، وكان ذلك قبل أن تظهر لهم وجه الحكمة في توزيع الغنائم على سائر القبائل دونهم، ولما تبين لهم الأمر واتضح الحال، وعرفوا الهدف الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، طابت نفوسهم واغتبطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا به قسما وحظا وعلموا يقينا أن الذي حظوا به لا يوازيه ولا يدانيه شيء، وما الدنيا وحطامها أمام رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وتمنيه أن يكون واحدا منهم ووجوده بين أظهرهم حيا وميتا، إنه لشرف عظيم حظيت به الأنصار دون سائر القبائل.
وقد أشار ابن حجر إلى وجه الحكمة في قسم غنائم حنين على المؤلفة دون غيرهم ممن قوي إيمانه، فقال: "اقتضت تلك الحكمة أن تقسم تلك الغنائم في المؤلفة قلوبهم ويوكل من قبله ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه، ثم كان من تمام التأليف رد من سبي
1 جاءت جملة: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" في صحيح مسلم3/1408 كتاب الجهاد، باب فتح مكة من حديث أبي هريرة مطول وفيه "وجاءت الأنصار فأطلقوا بالصفا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم، قال أبو سفيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن".
فقالت الأنصار: "أما الرجل فقد أخذته الرأفة بعشيرته ورغبة في قريته ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "قلتم: أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ورغبة في قريته، ألا فما اسمي إذا (ثلاث مرات) أنا محمد بن عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم" قالوا: والله ما قلنا إلا ضنا بالله ورسوله، قال:"فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم".
2 جامع البيان 10/100-101 وتقدم الحديث برقم (42) .
3 فهو من مراسيل قتادة ومراسيله بمنزلة الريح، كما قال: يحيى بن سعيد القطان. انظر فتح المغيث 1/148 وتدريب الراوي للسيوطي ص 125.
4 تقدم الحديث برقم (43) .
من المشركين إليهم، فانشرحت صدورهم للإسلام فدخلوا طائعين راغبين، وجبر ذلك قلوب أهل مكة بما نالهم من النصر والغنيمة، عما حصل لهم من الكسر والرعب فصرف عنهم شر من كان يجاورهم من أشد العرب من هوازن وثقيف بما وقع بهم من الكسرة، وبما قيض لهم من الدخول في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها وكثرتها.
وأما قصة الأنصار وقول من قال منهم فقد اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك كان من بعض أتباعهم، ولما شرح لهم صلى الله عليه وسلم ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنع رجعوا مذعنين ورأوا أن الغنيمة العظمى ما حصل لهم من عود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم، فسلوا عن الشاة والبعير والسبايا من الأنثى والصغير، بما حازوه من الفوز العظيم، مجاورة النبي الكريم لهم حيا وميتا. وهذا دأب الحكيم يعطي كل أحد ما يناسبه"1. اهـ.
1 فتح الباري 8/49 وانظر: زاد المعاد لابن قيم الجوزية 3/377 والصارم المسلول لابن تيمية ص 189-194.