الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرخصة التي أذن له فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا يكون الاتباع والامتثال بالوقوف عند أوامر الشرع ففيها الفلاح والصلاح.
المبحث السادس: بقايا من رواسب الجاهلية:
في السنة الثامنة من الهجرة النبوية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا وتم الاستيلاء عليها.
ثم وجه عنايته إلى حنين لمواجهة هوازن المتجمعة هناك، التي غاظها هذا الفتح العظيم، فخرج صلى الله عليه وسلم، وخرج معه بعض الكفار من أهل مكة الذين لم يدخلوا في الإسلام، وأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه - وسلم الأمان، وخرج معه أيضا بعض مسلمة الفتح الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام، وكان منهم من بقي فيه بقية من أمر الجاهلية لقرب عهدهم بها.
فبينما هم يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين مروا بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتكم يتبركون بها، فتنادوا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
يوضح هذا الموقف حديث أبي واقد الليثي عند الترمذي وغيره، وهذا سياقه عند الترمذي قال:
51-
حدثنا سعيد1 بن عبد الرحمن المخزومي، أخبرنا سفيان2، عن الزهري3، عن سنان4 بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي5: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سعيد بن عبد الرحمن بن حسان، أبو عبد الله المخزومي، ثقة من صغار العاشرة (ت 249) /ت س. (التقريب 1/300) . وفي تهذيب التهذيب 4/55: وهو ثقة في ابن عيينة. وانظر الخلاصة للخزرجي 1/383.
2 سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، أبو محمد، الكوفي، ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، إلا أنه تغير بآخره، وربما دلس، لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة الثامنة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار (ت 198) /ع. (التقريب 1/312، وتهذيب التهذيب 4/117- 122)
3 هو محمد بن مسلم، تقدم في الحديث (32) .
4 سنان بن أبي سنان الديلي - نسبة في دؤلي - المدني، ثقة من الثالثة (ت 105) /خ م ت س. (التقريب 1/334، وتهذيب التهذيب 4/242) .
5 أبو واقد الليثي الكناني، اختلف في اسمه فقيل: الحارث بن مالك، وقيل: الحارث ابن عوف، وقيل: عوف بن الحارث. كما اختلف أيضاً في وقت ميلاده، وفي وقت إسلامه.
قال ابن حجر: وقد نص الزهري على أنه أسلم يوم الفتح وأسند ذلك عن سنان ابن أبي سنان الدؤلي، أخرجه ابن مندة بسند صحيح إلى الزهري، ثم قال ابن حجر: وهذا هو الصحيح. إهـ.
قال ابن الأثير: وهو يؤيد هذا القول: "إخباره عن نفسه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بحنين قال: ونحن حديثو عهد بكفر". ثم قال ابن الأثير: مات أبو واقد سنة (68) /ع.
(الاستيعاب 4/215- 216، وأسد الغابة 1/409، 325، وتهذيب الكمال للمزي 9/828، والكاشف للذهبي 3/387، والإصابة 4/215- 216، وتهذيب التهذيب 12/270، والخلاصة للخزرجي 3/252، ووقع في التقريب 2/482 الطبعة المصرية، والتقريب الطبعة الهندية ص431 (بخ) وهو خطأ. والصواب أنه أخرج له (ع) .
لما خرج1 إلى حنين مرّ بشجرة2 للمشركين يقال لها "ذات أنواط"3 يعلقون عليها أسلحتهم، قالوا4: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله"5 كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي
1 عند أحمد والطبري: "أنهم خرجوا من مكة مع رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم إلى حنين".
وعند ابن إسحاق: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بالجاهلية". وعند الطبراني: "ونحن حدثاء عهد بكفر، ونحن حديثو عهد بكفر بجاهلية".
2 وعند الطبري: فمررنا بسدرة، قلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون بها.
وعنده أيضا: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط.
وعند ابن إسحاق والواقدي والطبراني: وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة خضراء، يقال لها ذات أنوات يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضراء عظيمة فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
لفظ الواقدي: "فرأينا شجرة عظيمة خضراء فسترتنا من جانب الطريق، فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط
…
الخ".
وعند الطبراني: ونحن حديثو عهد بكفر وكانوا أسلموا يوم الفتح فانتهينا إلى شجرة كان المشركون يعلقون عليها أسلحتهم، يعكفون عندها في السنة، يقال لها ذات أنواط. وعنده أيضا: يأتونها كل عام فيعلقون بها أسلحتهم ويريحون تحتها.
3 ذات أنواط: هي اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم، أي يعلقونها بها، ويعكفون حولها، وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط. (ابن الأثير: النهاية 5/128) .
4 عند أحمد والطبري والطبراني: فقلنا: يا رسول الله. وعند الطبري: قلت: يا نبي الله. وعند الطبراني: فقلت: أي رسول الله.
5 وعند ابن إسحاق والطبرا"ي: "الله أكبر، قلتم، والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى
…
الخ". وعند الطبري والطبراني: "الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى". وعند الواقدي:" الله أكبر الله أكبر".
بيده لتركبن1 سنة من كان قبلكم" 2.
والحديث أخرجه: النسائي، وأحمد، وابن أبي حاتم، والطبري، وأبو يعلى، والطبراني، وعبد الرزاق، والبيهقي، والواقدي، وابن إسحاق، كلهم من طريق الزهري، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي به3.
والحديث رجاله ثقات.
وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب عن أبي سعيد4، وأبي هريرة.
1 قوله: "لتركبن سنة من كان قبلكم".
قال المباركفوري: تركبن - بضم الموحدة - والمعنى: للتتبعن. والسنة: الطريقة حسنة كانت أو سيئة، والمراد هنا طريقة أهل الأهواء والبدع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم من تغيير دينهم وتحريف كتابهم، كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. (تحفة الحوذي 6/408) .
وقال النووي: المراد: الموافقة في المعاصي والمخالفات، لا في الكفر. وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. (شرح صحيح مسلم 5/525) .
وعند أحمد: "إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة".
وعند الطبري والطبراني: "إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم".
2 الترمذي: (السنن3/321-322) ،كتاب القدر، باب لتركبن سنن من كان قبلكم.
3 النسائي: في السنن الكبرى (تحفة الأشراف للمزي 11/112 حديث (15516) .
وأحمد: (المسند 5/218، وابن أبي حاتم: التفسير 3/356- 357 أ - ب رقم 280، والطبري: جامع البيان 9/45- 46، وأبو يعلى: المسند 2/161 أرقم 302، والطبراني: المعجم الكبير 3/275- 276، والبيهقي: دلائل النبوة 3/43 أ - ب، وعبد الرزاق: المصنف 11/379، والواقدي: المغازي 3/890- 891) . (وسيرة ابن هشام 2/442 إلاّ أن فيها: قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب، عن سنان بن أبي سنان الدؤلي، عن أبي واقد الليثي، أن الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين
…
الخ".
فقوله: (عن أبي واقد الليثي أن الحارث بن مالك) يوهم أنهما اثنان. والصواب: إسقاط "أن" لأن الحارث بن مالك هو أبو واقد الليثي. كما تقدم ذلك في ترجمته ص130.
4 حديث أبي سعيد أخرجه البخاري في الصحيح 4/135 كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، 9/83 كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لتتبعن سنن من كان قبلكم) . ومسلم: الصحيح 4/2054 كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى. وأحمد: المسند 2/327، 3/84، 89، 94.
ولفظه عند البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن". وحديث أبي هريرة أخرجه البخاري في الصحيح 9/83 كتاب الاعتصام باب لتتبعن سنن من كان قبلكم. وابن ماجة: (السنن 2/1322) ، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم. وأحمد:(المسند 2/450، 511، 527) ، ولفظه قريب من حديث أبي سعيد.
وأورده الألباني، ثم قال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ثم نقل قول الترمذي فيه، وقال: وقواه ابن القيم في "إغاثة اللهفان" وعزاه في مكان آخر للبخاري في "صحيحه"، وهذا وهم منه رحمه الله فليس هو في "الصحيح" ولم يعزه النابلسي في "الذخائر" - للترمذي. وأورده ابن كثير في تفسيره من طريق ابن جرير وأحمد فقط، وكأنه ذهل من كونه في "الترمذي" أحد الستة، وإلا لما أبعد النجعة1. أهـ.
قلت: وعزاه المزي في "تحفة الأشراف" للترمذي والنسائي في الكبرى دون البخاري2.
والحديث يبين:
أ- أن المجتمع الجاهلي وصل إلى الدرك الأسفل في فساد الاعتقاد والجهل بحقائق التوحيد والبعد عن المنهج السوي.
ب- كما يدل على أن تعليق الأسلحة على ذات أنواط هذه مع أن ظاهره لا شيء فيه تابع للباعث عليه وهو الاعتقاد، ولذلك اعتبر هذا الفعل اتخاذ إله من دون الله كما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إله كما لهم آلهة.
جـ- فيه معجزة نبوية حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستتبع سنن الأمم الماضية، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وما يشاهد في حياة المسلمين اليوم من انحراف وتقليد وتبعية في مختلف جوانب الحياة دليل ظاهر على هذه المعجزة.
1 الألباني: حجاب المرأة المسلمة ص103. وانظر: إغاثة اللهفان 1/205، 2/300، وذخائر المواريث 4/156 حديث (10461) ، وتفسير ابن كثير 2/243.
(تحفة الأشراف 11/112 حديث (15516) . وفي دليل القارئ إلى مواضع الحديث في صحيح البخاري ص219 ساق مؤلفه عبد الله الغنيمان لأبي واقد الليثي حديثا واحدا عند البخاري، وليس هو حديث "ذات أنواط".
د- فيه تحذير شديد من اتباع أهل الأهواء والزيغ من الأمم الماضية من اليهود والنصارى وغيرهم.
هـ- وفيه أيضا بيان جهالة بني إسرائيل وغباوتهم وشدة تعنتهم فقد من الله عليهم فأخرجهم من تحت سيطرة فرعون وقومه وأغرق عدوهم في البحر وهم يشاهدون بأم أعينهم، وجعل لهم البحر أرضا صلبة فعبروا ولم يغرق منهم أحد، ثم بعد ذلك كان منهم ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا فقال تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، [سورة الأعراف، الآية: 138] .
قال ابن كثير: يخبر الله تعالى عمّا قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا، فمروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، قال بعض المفسرين: كانوا من الكنعانيين، وقيل: من لخم، وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون. أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل1.
وقال الشوكاني: وصفهم بالجهل لأنهم قد شاهدوا من آيات الله ما يزجر من له أدنى علم عن طلب عبادة غير الله، ولكن بني إسرائيل أشد خلق الله عنادا وجهلا وتلونا2.
(ابن كثير: التفسير2/242-243وانظر: إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية1/205،211) .
(فتح القدير 2/240) .