الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في المسير إلى حنين
المبحث الأول: تاريخ الغزوة
…
المبحث الأول: تاريخ غزوة حنين:
تاريخ وقت هذه الغزوة مرتبط بوقت فتح مكة المكرمة، ذلك أن غزوة حنين ناشئة عنه ومتممة له، ومن هنا أطلقت بعض الروايات الخروج إلى حنين في شهر رمضان، والمعروف أن هذا إنما كان في غزوة الفتح.
ولما كانت غزوة حنين من تتمة هذا الفتح العظيم الذي أيد الله به عباده المؤمنين، وأن هذا النصر بصورته الكاملة لم يتحقق إلا بعد الانتهاء من غزوة حنين.
جاء إطلاق الخروج شاملا لهما كما جاء كثير مما تم في غزوة حنين من قسم الغنائم وغيره مذكور في فتح مكة، من ذلك:
30-
ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: "لما كان1 يوم فتح مكة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بين قريش". الحديث2.
31-
وما رواه البخاري من حديث عبد الله بن عباس قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان إلى حنين3 والناس مختلفون، فصائم ومفطر، فلما استوى على راحلته دعا بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحلته - أو على راحته - ثم نظر إلى الناس، فقال المفطرون للصوام: أفطرو ا4.
ومن خلال هذا الاتصال بين الغزوتين فإن تاريخ غزوة حنين يتوقف على معرفة فتح مكة ومدة الإقامة فيها بعد الفتح، لأن المؤرخين عولوا على هذا التاريخ في هذه الغزوة، على أنه قد اختلفت الروايات في فتح مكة ومدة الإقامة فيها بعد الفتح،
1 قوله: "لما كان يوم فتح مكة قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بين قريش" قال ابن حجر: ولأبي ذر عن شيخه "قسم غنائم في قريش".
وله في رواية الكشميهني "بين قريش" وهي رواية الأصيلي. ووقع عند القابسي "غنائم قريش" ولبعضهم "غنائم من قريش" وهو خطأ، لأنه يوهم أن مكة لما فتحت قسمت غنائم قريش، وليس كذلك بل المراد بقوله "يوم فتح مكة" زمان فتح مكة وهو يشمل السنة كلها، ولما كانت غزوة حنين ناشئة عن غزوة مكة أضيفت إليها كما تقدم عكسه.
وقد قرر ذلك الإسماعيلي فقال: قوله "لما فتحت مكة قسم الغنائم" يريد غنائم هوازن، فإنه لم يكن عند فتح مكة غنيمة تقسم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غزا حنينا بعد فتح مكة في تلك الأيام القريبة، وكان السبب في هوازن فتح مكة لأن الخلوص إلى محاربتهم كان بفتح مكة. (فتح الباري8/54، وانظر: حديث (31) مع التعليق عليه) .
2 البخاري: (الصحيح 5/130 كتاب المغازي، باب غزوة الطائف) . ومسلم: (الصحيح 3/735 كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه) .
3 قال ابن حجر: هذا الحديث استشكله الإسماعيلي بأن حنينا كانت بعد الفتح، فيحتاج إلى تأمل، فإنه ذكر قبل ذلك أنه خرج من المدينة إلى مكة. وكذا حكى ابن التين عن الداودي أنه قال: الصواب أنه خرج إلى مكة. أو كانت "خيبر" فتصحفت.
قال ابن حجر: وحمله على خيبر مردود، فإن الخروج إليها لم يكن في رمضان، وتأويله ظاهر، فإن المراد بقوله "إلى حنين" أي التي وقعت عقب الفتح لأنها لما وقعت إثرها أطلق الخروج إليها، وقد وقع نظير ذلك في حديث أبي هريرة. وبهذا جمع المحب الطبري. (فتح الباري 8/5) .
قلت: وحديث أبي هريرة المشار إليه أخرجه البخاري في صحيحه 5/121 كتاب المغازي، باب أين ركز النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم الفتح بلفظ "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد حنينا: منزلنا غدا إن شاء الله بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر".
(صحيح البخاري 5/120 كتاب المغازي، باب غزوة الفتح في رمضان) .
وسأعرض أقوال العلماء في ذلك ووجهة كل منهم، ثم أحاول الترجيح بعد ذلك ما وجدت إليه سبيلا.
والأقوال التي يمكن الاعتماد عليها في تاريخ غزوة حنين، قولان1:
الأول: أن غزوة حنين كانت في اليوم الخامس من شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة. روي ذلك عن ابن مسعود2، وإلى هذا ذهب عروة ابن الزبير وابن إسحاق وأحمد وابن جرير الطبري3.
32-
ودليل هذا القول ما رواه ابن إسحاق قال: حدثني ابن شهاب4 الزهري، عن عبيد5 الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال:"أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة".
قال ابن اسحاق: وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان6. والحديث مرسل لأن عبيد الله لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد وصله أبو داود، وابن ماجة من طريق محمد7 بن سلمة، عن ابن
1 هناك قول ثالث وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين لليلتين بقيتا من رمضان. (فتح الباري 8/27) .
2 عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبه جمة، وأمّره عمر على الكوفة (ت 32) أو في التي بعدها في المدينة./ع. (ابن حجر: التقريب 1/450) .
3 ابن كثير: (البداية والنهاية 4/322، والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/6) .
4 محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة ابن كلاب القرشي الزهري، أبو بكر الفقيه الحافظ، متفق على جلالته وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة الرابعة (ت125) وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين./ع. (ابن حجر: التقريب 2/207) .
5 عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه ثبت، من الثالثة (ت94) وقيل: 98، وقيل غير ذلك./ع. (المصدر السابق 1/535) .
(سيرة ابن هشام2/437، وتاريخ الرسل والملوك للطبري3/69- 70، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/143، والمعارف لابن قتيبة ص17، وفتح الباري لابن حجر 8/27) .
7 محمد بن سلمة بن عبد الله الباهلي، مولاهم، الحراني، ثقة، من الحادية عشرة (ت 191) على الصحيح./ز م عم. (التقريب 2/166، وتهذيب التهذيب 9/193- 194) .
إسحاق عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما1.
ثم قال أبو داود: روى هذا الحديث عبدة2 بن سليمان، وأحمد3 بن خالد الوهبي، وسلمة4 بن الفضل، عن ابن إسحاق، لم يذكروا فيه ابن عباس.
والحديث اختلف فيه على ابن إسحاق كما ترى.
فرواه عنه محمد بن سلمة موصولا. وخالفه عبدة بن سليمان، وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة بن الفضل، وابن إدريس5 فأرسلوه. قال البيهقي: وهو الصحيح6.
قلت: ومحمد بن سلمة7 ثقة إمام مفت، وقد تفرد بزيادة الوصل، والزيادة من الثقة مقبولة. وهو مذهب الجمهور من الفقهاء، وأصحاب الحديث8.
وقال ابن حجر: وأما رواية "خمسة عشر" فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك9 بن مالك، عن عبيد الله كذلك10.
(سنن أبي داود 1/280 كتاب صلاة المسافر، باب متى يتم المسافر) . وسنن ابن ماجة 1/342 كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب كم يقصر المسافر إذا أقام ببلدة.
2 عبدة بن أبي سليمان الكلابي - بكسر الكاف وتخفيف اللام - الكوفي، يقال اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار الثامنة (ت 187) وقيل: بعدها. /ع. (التقريب 1/530، وتهذيب التهذيب 6/458، 9/39) .
3 أحمد بن خالد بن موسى، ويقال: ابن محمد الوهبي الكندي، أبو سعيد صدوق من التاسعة، (ت 214) . /ز بخ عم. (التقريب 1/14، وتهذيب التهذيب 1/26) .
4 سلمة بن الفضل الأبرش - بموحدة فراء ثم معجمة - مولى الأنصار، قاضي الري، صدوق كثير الخطأ، من التاسعة (ت 191) . /د ت فق. (التقريب 1/318، وتهذيب التهذيب 3/153) .
5 هو عبد الله بن إدريس الأودي - بمفتوحة فواو ساكنة، فدال مهملة –الزعافري– بفتح المعجمة والعين المهملة وكسر الفاء - أبو محمد الكوفي ثقة فقيه عابد، من الثامنة (ت 192) . /ع. (التقريب 1/401، وتهذيب التهذيب 5/144، والخلاصة للخزرجي 2/39، والمغني لابن طاهر الهندي ص8) .
(السنن الكبرى 3/151) .
(انظر: تذرة الحفاظ 1/316، وسير أعلام النبلاء 9/49 كلاهما للذهبي) .
(انظر الكفاية للخطيب البغدادي ص580- 581، ومقدمة ابنالصلاح ص111- 112 مع التقييد والإيضاح، والتقريب والتيسير للنووي ص138 مع تدريب الراوي، والتبصرة والتذكرة للعراقي 1/174- 175) .
9 عراك بن مالك الغفاري، الكناني، المدني، ثقة فاضل، من الثالثة، مات في خلافة يزيد بن عبد الملك، بعد المائة./ع. (التقريب 2/17، وتهذيب التهذيب 7/172) .
10 (فتح الباري 2/562) .
ورواية النسائي المشار إليها هي:
33-
أخبرنا عبد الرحمن1 بن الأسود البصري، قال: حدثنا محمد2 بن ربيعة، عن عبد الحميد3 بن جعفر، عن يزيد4 بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أقام بمكة خمسة عشر يصلي ركعتين ركعتين"5.
وقال البيهقي: "رواه عراك بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا6. وتعقبه ابن التركماني7 بقوله: قلت: أخرجه النسائي عن عراك مسندا ثم ساق رواية النسائي هذه"8.
وبهذا تكون رواية "أقام بمكة بعد الفتح خمسة عشر" صحيحة.
القول الثاني: أن غزوة حنين كانت يوم السبت لست ليال خلون من شهر شوال، ووصل إلى حنين مساء الثلاثاء لعشر ليال خلون من الشهر المذكور. وبهذا قال الواقدي.
ودليله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان، وأقام
1 عبد الرحمن بن الأسود بن المأمون، الهاشمي، مولاهم البصري، ثقة، من الحادية عشرة (ت بعد سنة240) /ت س. (التقريب1/472، وتهذيب التهذيب 6/140) .
2 محمد بن ربيعة الكلابي - بكسر الكاف وتخفيف اللام-ابن عم وكيع، صدوق من التاسعة (ت بعد 190) /بخ عم. (التقريب 2/160، وتهذيب التهذيب 9/162) .
3 عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاري، صدوق رمي بالقدر، وربما وهم، من السادسة (ت 153) /خت م عم (التقريب 1/467، وتهذيب التهذيب6/111- 112) . ورمز له الذهبي بـ: (صح) ، إشارة إلى أنه ثقة. (ميزان الاعتدال 2/539) .
4 يزيد بن أبي حبيب المصري، أبو الرجاء، واسم أبيه سويد، واختلف في ولائه، ثقة فقيه، وكان يرسل، من الخامسة (ت 128) /ع. (التقريب 2/363، وتهذيب التهذيب 11/318) .
5 النسائي: السنن 3/100 كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة.
6 السنن الكبرى 3/151.
7 هو: علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني الحنفي، قاضي القضاة علاء الدين بن التركماني، علق على سنن البيهقي تعليقات نافعة طبعت معها بعنوان "الجوهر النقي" (ت 749) . انظر ترجمته في:(لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ لابن فهد المالكي ص125- 126) .
(الجوهر النقي 3/151 مع سنن البيهقي) .
بمكة خمس عشرة، ثم غدا يوم السبت لست ليال خلون من شهر شوال، وانتهى إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال1.
وتابعه ابن سعد2.
هذه هي أقوال العلماء في هذا الباب، والذي يظهر لي ما يأتي:
أ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى حنين في شهر شوال من السنة الثامن للهجرة، بغض النظر عن كونه خرج في خامس شوال أوسادسه.
ب- يترجح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما في سادس شهر شوال، لأنه يمكن الجمع بينه وبين القول بأن الخروج إلى حنين كان في الخامس شوال.
قال الزرقاني - بعد إن ذكر هذين القولين - وهذا الخلاف: إما أنه للاختلاف في هلال الشهر، أو أن من قال لست ليال عدّ ليلة الخروج، ومن قال لخمس لم يعدها، لأنه خرج في صبيحتها فكأنه خرج فيها.
وجمع بعضهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بالخروج في أواخر رمضان، وسار سادس شوال، ووصل إليها في عاشره3.
إذا أخذنا برواية ابن عباس رضي الله عنهما التي أخرجها أحمد وأبو داود بإسنادين أحدهما صحيح "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عام الفتح سبع عشرة"4.
مع ذكره النووي وابن حجر: من أن المشهور في كتب المغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح من المدينة لعشر خلون من رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة خلت منه5.
كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة حنين في اليوم السادس من شهر شوال.
(الواقدي: المغازي 3/889 و892) .
(الطبقات الكبرى 2/150، وانظر: ابن كثير: البداية والنهاية 4/322، والقسطلاني: المواهب اللدنية 1/161، والزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/6، والسفاريني: شرح ثلاثيات مسند أحمد 2/78، 793) .
(الزرقاني: شرح المواهب اللدنية 3/6، وابن حجر: فتح الباري 8/27) .
(أحمد: المسند 1/315، وأبو داود: السنن 1/280. كتاب صلاة السفر، باب متى يتم المسافر) .
(النووي: شرح مسلم 3/176، وابن حجر: فتح الباري 4/181 و8/4) .