المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (100- 106) [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٦

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (93- 99) [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 99]

- ‌الآيات: (100- 106) [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106]

- ‌الآيات: (107- 110) [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110]

- ‌الآيتان: (111- 112) [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112]

- ‌الآيات: (113- 116) [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116]

- ‌الآيات: (117- 119) [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]

- ‌الآيات: (120- 122) [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 127) [سورة التوبة (9) : الآيات 123 الى 127]

- ‌الآيتان: (128- 129) [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129]

- ‌10- سورة يونس

- ‌الآيات: (1- 4) [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4]

- ‌(الآيات: (5- 10) [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 10]

- ‌الآيات: (11- 14) [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 19) [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 19]

- ‌الآيات: (20- 23) [سورة يونس (10) : الآيات 20 الى 23]

- ‌الآيات: (24- 30) [سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 36) [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 36]

- ‌السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان

- ‌الآيات: (37- 41) [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 44) [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 52) [سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 56) [سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 60) [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 64) [سورة يونس (10) : الآيات 61 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 70) [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 74) [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 74]

- ‌الآيات: (75- 82) [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 82]

- ‌الآيات: (83- 86) [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 86]

- ‌الآيات: (87- 89) [سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 92) [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92]

- ‌الآيات: (93- 95) [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 95]

- ‌العلم وأسلوب تحصيله

- ‌الآيات: (96- 103) [سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 103]

- ‌الآيات: (104- 107) [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]

- ‌الآيتان: (108- 109) [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109]

- ‌11- سورة هود

- ‌الآيات: (1- 5) [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 5]

- ‌الآيات: (6- 11) [سورة هود (11) : الآيات 6 الى 11]

- ‌الآيات: (12- 16) [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 24) [سورة هود (11) : الآيات 17 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 31) [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31]

- ‌الآيات: (32- 35) [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 39) [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 44) [سورة هود (11) : الآيات 40 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 49) [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49]

- ‌الآيات: (50- 60) [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 68) [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]

- ‌الآيات: (69- 76) [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76]

- ‌الآيات: (77- 83) [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 88) [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 88]

- ‌الآيات: (89- 95) [سورة هود (11) : الآيات 89 الى 95]

- ‌الآيات: (96- 109) [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 108]

- ‌الآيات: (109- 115) [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 115]

- ‌الآيات: (116- 119) [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119]

- ‌الآيات: (120- 123) [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123]

- ‌12- سورة يوسف

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 23) [سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 22]

- ‌[يوسف.. والفتنة المتحدّية]

- ‌الآيات: (23- 29) [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29]

- ‌(الآيات: (30- 35) [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 42) [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 49) [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49]

- ‌الآيات: (50- 52) [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (100- 106) [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106]

وقوله تعالى: «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو الجزاء الذي سيجزيه الله هؤلاء الذين أنفقوا فى سبيل الله، فنالوا رضا الله عنهم، ورضا رسوله، وصلواته عليهم..

‌الآيات: (100- 106)[سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106]

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

التفسير: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ

ص: 880

خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»

مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تعرض صورة مشرقة للمؤمنين، الذين يتجلّى عليهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وينزلهم منازل فضله وإحسانه، وذلك بعد أن عرض فى الآية السابقة عليها صورة مضيئة، انبثقت من بين ظلام البداوة، وطلعت من مهابّ سمومها وهجيرها..

فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- هم الإنسانية الكريمة الوضيئة، يتمثل فيهم كل ما يمكن أن تعطيه الإنسانية من ثمر طيّب مبارك.. فهم من الإنسانية بمنزلة هذه القلّة من أعراب البادية، الذين خلصوا من كدر البادية، وسلموا من أدرانها وأوضارها..

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. هم الذين سبقوا إلى الإسلام، فكانوا الكوكبة الأولى التي تقدمت ركبه الميمون، وكانوا الكواكب الدّريّة التي بين يد فجره الوليد.. أولئك هم الذين حملوا أعباء الدعوة الإسلامية، واحتملوا- فى صبر ورضا- مواجهة العاصفة التي هبّت عليهم عانية مزمجرة، تحمل فى كيانها جهالة الجاهلية، وحماقاتها، وسفاهاتها، وعتوّها وضلالها.. فكان لهم عند الله هذا المكان الكريم، وتلك المنزلة التي اختصهم بها، وأفردهم فيها..

فمن أراد أن يلحق بهم ويضاف إليهم، فسبيله إلى ذلك أن يقفو أثرهم، ويتبع سبيلهم، ويحسن كما أحسنوا، ويبلى كما أبلوا.. فذلك هو الثمن لمن يطلب رضا الله، ويطمع فى أن يكون مع أحبابه وأصفيائه.. فيكون بهذا مضافا إليهم مع الذين اتبعوهم بإحسان.

وفى قوله تعالى: «بِإِحْسانٍ» هو قيد مؤكّد، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتأسّى بهم..

ص: 881

فمتابعتهم هى إحسان، وقوله تعالى:«بِإِحْسانٍ» هو توكيد لهذا الإحسان الذي تنطوى عليه المتابعة.. وهذا يعنى أن ما كان من السابقين من المهاجرين والأنصار، هو إحسان كلّه، فمن تابعهم، وتأسّ بهم على ما كانوا عليه، فهو محسن.. كل الإحسان!.

وقوله تعالى: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» هو عرض كاشف لمنزلة هؤلاء الصفوة من عباد الله، وأنّ الله رضى عنهم، بما كان منهم من إحسان، وأنّهم رضوا، بما أرضاهم الله به، ونعموا فيه..

وفى قوله تعالى: «وَرَضُوا عَنْهُ» رضوان فوق رضوان من عند الله، يحفّهم به، ويزيدهم نعيما إلى نعيم.. إذ جعل الله سبحانه وتعالى رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم، حتى لكأنه سبحانه وتعالى، يتبادل الرضا معهم، فيرضى عنهم، ويرضون عنه.. فسبحانه، ما أعظم لطفه، وما أوسع فضله، وما أكرم عطاءه، وأسبغ إحسانه! قرئ:«والأنصار» بالرفع. على الاستئناف..

وفى هذه القراءة يكون قوله تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» مقصورا على المهاجرين وحدهم.. وهذه القراءة ينقضها التفسير العملىّ للآية الكريمة التي احتج بها أبو بكر رضى الله عنه على الأنصار، وجعلها مستنده فى تقديم المهاجرين على الأنصار، فقال فى خطبة «يوم السقيفة» مخاطبا الأنصار:«أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى الكتاب عليكم، فقال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء..

وهذا يعنى أن الأنصار شركاء للمهاجرين فى هذا الفضل، الذي تطلب الخلافة به، وأن المهاجرين إذا كانوا أولا، فالأنصار ثانيا، كما جاء ذكرهم فى

ص: 882

القرآن الكريم: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فذكر المهاجرون أولا، ثم الأنصار ثانيا..

وإذا كانت واو العطف النحوية لا تفيد ترتيبا، ولا تعقيبا، فإن واو العطف القرآنية، تفيد ترتيبا وتعقيبا.. هكذا دائما. فى كل مقام وقع فيه العطف بين متعاطفين أو أكثر..

وأما قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» .. فهو معطوف كذلك على ما قبله عطف نسق، بمعنى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والأنصار، هم جميعا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعدّ لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. وإن كان ثمة تفاضل فهو فى الدرجة، وليس فى الرتبة.

والأنصار أعنى السابقين الأولين منهم، وهم الذين بايعوا النبىّ بيعتى العقبة.

الأولى والثانية قبل الهجرة، والذين استجابوا له، وأقاموا المجتمع الإسلامى الأول بالمدينة، وكانوا حصن الإسلام والمسلمين- هؤلاء جديرون بأن يشاركوا المهاجرين الأولين منزلتهم، وأن يزاحموهم بالمناكب عليها، وإن كان فضل الله أوسع وأرحب من أن يقع فى رحابه زحام أو صدام..

وكذلك الذين جاءوا من بعد المهاجرين الأولين والأنصار، وسلكوا طريقهم، وساروا سيرتهم، هم جديرون بأن يلحقوا بهذا الركب الميمون، وأن يكونوا منه غير بعيد..

فإذا كانت مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آيات النبوّة، ونفحات النبىّ، فسبقوا إلى الإيمان، ودانوا له، وأعطوه ولاءهم كاملا، حتى اشتمل عليهم ظاهرا وباطنا، وكان حريّابهم أن يبلغوا من الصفاء والشفافية واليقين ما بلغوا، مما تتقطع دونه الأعناق- إذا كان ذلك كذلك، فإن الذين

ص: 883

يجيئون من بعدهم فى أجيال الإسلام المتعاقبة إلى يوم القيامة، ويؤمنون إيمانا أقرب إلى إيمانهم، ويأخذون سمتا مدانيا لسمتهم- هم أهل لأن يلحقوا بهم، وأن ينزلوا منزلتهم، إذ أنهم آمنوا وأحسنوا، ولا نبوة بين أيديهم، ولا نبىّ يملأ حياتهم هدى ونورا..

يقول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه..

والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم تلا قوله تعالى:

«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هذا وقد جاء ذكر هؤلاء الصفوة من المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- جاء ذكرهم على هذا الترتيب فى قوله تعالى:«لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (8- 10: الحشر) .

وهكذا الإسلام، طريقه مفتوح دائما لأصحاب النفوس الطيبة، والقلوب السليمة، والعزائم الصادقة، يرتادون فيه منازل الرضوان، وينزلون منها حيث

ص: 884

يبلغ جهدهم، وتحتمل عزماتهم.. وهكذا يدخل المسلمون جميعا، بل الناس جميعا، تحت قوله تعالى:«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. ففى ذلك فليتنافس المتنافسون، ولهذا فليعمل العاملون.. قوله تعالى:«وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» بعد هذه الصورة المشرقة التي عرضتها الآية السابقة لأهل السبق والإحسان وما أعدّ لهم من نعيم، وما أسبغ عليهم من رضا- جاءت هذه الآية لتعرض صورة معتمة طامسة، لأهل الزيغ والضلال، وتكشف عن وجوه منكرة للإنسانية حين تفسد فطرتها، وتشوه معالم إنسانيتها.. وذلك ليكون لهؤلاء المنافقين الضالين نظر فى أنفسهم، ورجعة إلى ربهم، إن كانت قد بقيت فيهم بقية صالحة لنظر واعتبار.

ففى الأعراب الذين حول المدينة منافقون، وفى المدينة ذاتها منافقون..

وهؤلاء وأولئك جميعا قد مردوا على النفاق، أي شبوا عليه، ورضعوا أخلاقه وهم شباب مرد، فمرنوا عليه، وخف عليهم محمله، إذ شب معهم وصار بعضا منهم، أشبه بالجارحة من جوارحهم..

وفى قوله تعالى «لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» تهديد ووعيد لأولئك المنافقين الذين برعوا فى النفاق، وصاروا أساتذة فيه، حتى لا يكاد يطلع عليهم أحد، وهم يتعاملون به، ويتعاطون كئوسه مترعة! ولكن الله يعلمهم، وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابهم ويأخذهم بذنوبهم، بل ويفضحهم فى هذه الدنيا، بما ينزل من آيات فيهم..

وقوله تعالى: «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» ..

اختلف المفسرون فى عذاب المنافقين مرتين.. ولم نجد عندهم ما نرضاه ونستريح إليه..

ص: 885

ونقول- والله أعلم-: إن عذاب المنافقين مرتين هو فى النصر الذي يتحقق للإسلام، وفى المغانم التي تمتلىء بها أيدى المسلمين، هذا عذاب من أحد العذابين، الذي تتقطع به قلوب المنافقين كمدا وحسرة.. أما العذاب الآخر، فهو ما يصيبهم فى أنفسهم من بلاء على أيدى المؤمنين، حيث يجرفهم تيار الإسلام، ويزعج أمنهم وسلامتهم، ويخرجهم من ديارهم وأموالهم كما حدث مع اليهود..

أما العذاب العظيم الذي يردّون إليه بعد هذين العذابين، فهو عذاب الآخرة، «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (55: العنكبوت) قوله تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .

هو إشارة إلى صنف آخر من الذين نافقوا فى غزوة تبوك، فتخلفوا عنها بأعذار ملفّقة، وتعللوا بتعللات كاذبة، وقد وقع فى أنفسهم النّدم على ما كان منهم، وجاءوا إلى النبىّ معترفين بذنوبهم، ومنهم الثلاثة الذين خلّفوا، والذين ذكرهم الله بعد ذلك فى قوله سبحانه:«وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» .

فهؤلاء المخلّفون، قد خلطوا عملا صالحا كان منهم قبل هذا التخلف، بآخر سيّىء، هو هذا التخلف عن رسول الله وعن المؤمنين فى غزوة تبوك..

- وفى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة لهم إلى المبادرة بالتوبة، والانخلاع مما تلبّسوا به من خلاف لله ولرسوله.

فإنهم إن أخلصوا نيّاتهم، وأخلوا قلوبهم من وساوس النفاق، ورجعوا إلى الله تائبين- كانوا بمعرض الصفح والمغفرة، فإنهم يطلبون الصفح والمغفرة من رب غفور رحيم.

ص: 886

قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» - هو تحريض للمؤمنين عامة، ولهؤلاء المذنبين خاصة على البذل والإحسان فى سبيل الله، فإن إنفاق المال فى سبيل الله هو عدل الجهاد بالنفس، وهو تطهير للمتصدق، وتزكية له من الأوضار والآثام التي تعلق به.

- وفى قوله سبحانه: «مِنْ أَمْوالِهِمْ» إشارة إلى أن المطلوب بذله فى وجوه الإحسان من المال، هو بعضه لا كلّه، وفى ذلك رحمة بالناس.

- وفى قوله تعالى: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» - أكثر من إشارة:

فأولا: أن فى صلاة النبىّ على المتصدّق، ودعائه له، مجازاة عاجلة بالإحسان، يجد المتصدّق أثرها فى نفسه، وبردها على قلبه، فيشيع فى كيانه الرضا، وتملأ قلبه السكينة.

وهذا أدب ينبغى أن يتأدب المسلمون به، فيلقون إحسان المحسن بالحمد والشكران، فإن ذلك أقلّ ما يجزى به، والله سبحانه وتعالى يقول:«هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .. وبهذا تتفتح النفوس للخير، وتسخو الأيدى بالإحسان..

وثانيا: أن الإحسان فى ذاته جدير بأن يحمد للمحسن فى كلّ إنسان، سواء أصابه شىء من هذا الإحسان أم لم يصبه، فهو عمل طيب، وصنيع مبرور، وكما ينبغى على المؤمن أن ينكر المنكر لذاته، كذلك يجب عليه أن يحمد المعروف لذاته.. وبهذا يشيع فى الناس الخير، وتتكاثر أعداد المتعاملين به.

ص: 887

والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إنما يدعو للمتصدقين، ويصلّى عليهم، لا لأنه يحتجز صدقاتهم لنفسه، ويضمها لذات يده، وإنما لأنها خير مبذول فى وجوه الخير، وبرّ مرسل فى سبيل الله..

وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قائم على رسالة الخير والبرّ.

هذا، وقد قيل فى سبب نزول هذه الآية: إن الثلاثة الذين خلّفوا، حين اعترفوا بذنوبهم، ونزل فى قبول توبتهم قوله تعالى:«وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» ، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنا، فقال النبىّ:«ما أمرت» فنزلت الآية: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» .

وهذا سبب غير واضح، وغير مناسب لهذا الموقف، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كرّم هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا، وقبل توبتهم، وأنزل فى ذلك قرآنا، فكيف لا يقبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يقدّمون من صدقات؟ أليسوا مؤمنين؟ أليسوا ممن تجب عليهم الزكاة؟ أليسوا ممن يطلب إليهم الإحسان ويقبل منهم.؟

والذي نستريح إليه، هو أن الآية أمر مطلق ببذل الصدقات، وأن مناسبة ذلك هو ما عرض من آثام المنافقين وجرائمهم، فناسب ذلك أن يجىء الأمر بالدعوة إلى الزكاة، التي من شأنها تطهير الآثمين.. وفى توجيه الأمر للنبى صلوات الله وسلامه عليه بقبولها، تحريض للمسلمين على أدائها، وإشارة دالّة على اليد الكريمة التي تتناولها منهم، والجزاء الحسن الذي تجزيهم به..

وليس هذا فحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل منهم صدقاتهم، كما تشير إلى ذلك الآية التالية..

ص: 888

قوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .. فى الآية وعد كريم من الله سبحانه وتعالى بأنه يقبل التوبة عن عباده. فيلقى التائب منهم بالقبول والمغفرة، ويتقبل ما يقدّم من صدقة.. وهذا ينقض ما قيل فى سبب نزول الآية:«خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» . كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. فإن من قبل الله توبته، لم يردّ صدقته..

والاستفهام هنا تقريرى، وضمير الفصل هو توكيد لاختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بقبول التوبة، ومنح العفو والغفران.. وليس ذلك لغير الله..

- وفى قوله تعالى «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» ما يسأل عنه، وهو:

لم عدّى الفعل «يقبل» بحرف الجرّ «عن» مع أن الاستعمال اللغوي لهذا الفعل لم يجىء متعديا إلّا بحرف الجرّ «من» .. كما جاء ذلك فى الاستعمال القرآنى لهذا الفعل فى قوله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وفى قوله سبحانه: «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. فلم عدّى الفعل هنا بحرف الجر «عن» ؟

الجواب- والله أعلم- أن التوبة التي يقبلها الله من عباده تضع عنهم ما حمّلوا به من أوزار، وما أثقل كاهلهم من ذنوب، فكان فى قبول التوبة منهم رفع لهذه الآثام عنهم، ولهذا ضمن الفعل «يقبل» معنى الفعل يضع، أو يسقط.. ونحو هذا، كما نظر إلى التوبة على أنها شىء محمّل بالذنوب والآثام لأن التوبة لا تكون إلا عن ذنب وقع، أو إثم اقترف.. فكان قوله تعالى:

ص: 889

«أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» يعنى ألم يعلموا أن الله يضع الذنوب والآثام عن عباده. ويرفعها عن كواهلهم؟. وقوله تعالى: «وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ صدقات المتصدقين ويجزيهم عليها، وأن النبىّ إذ يأخذها منهم، فإنما يأخذها بأمر الله، وينفقها فى سبيل الله، وكذلك كل صدقة يأخذها متصدّق عليه من متصدّق.. إنها لله، لا للمتصدّق عليه، وهو سبحانه الذي يجزى عليها كما يقول الله سبحانه وتعالى:«قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» (88: يوسف) . وفى هذا يقول النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «إن الصدقة تقع فى يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل» .

قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .

هو دعوة عامة للمبادرة إلى العمل فى مجال الخير والإحسان.. وفى العمل فى هذا المجال يعرف العاملون بأعمالهم.. فما كان فى السرّ أو الجهر يعلمه الله، وما كان فى الجهر يعلمه الرسول ويعلمه المؤمنون، وعلى حسب هذه الأعمال يجزى الله، ويضع المحسنين، والمقصرين، والمسيئين، كل منهم فى منزلة، ويجزيه الجزاء الذي هو أهل له.. وعلى ما يظهر من هذه الأعمال الرسول وللمؤمنين، يكون قرب العاملين أو بعدهم من رسول الله ومن المؤمنين، ويكون حسابهم معهم، من موالاة أو معاداة..

هذا فى الدنيا، فإذا كانت الآخرة كشف الغطاء عن أعمال العاملين، خيرها وشرها، وجوزوا عليها بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا.

ص: 890

قوله تعالى: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .

الإرجاء: التأخير والانتظار،.. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته، أي أخرته.. ومرجون لأمر الله، أي مؤخرون ومنظرون لما يقضى به الله فيهم.

قيل نزلت هذه الآية فى الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وهم من الأنصار، وكانوا قد تخلفوا فى غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، ولم يكن هذا التخلف عن نفاق. ولكن عن توان وفتور، وتردد.. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك تلقاه المنافقون بأعذارهم، فقبلها منهم، وتركهم لحسابهم مع الله.. وأما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا الرسول فيما قالوا إذ قالوا:«والله يا رسول الله مالنا من عذر نعتذر به» وكانوا حين تخلّفوا عن رسول الله قد استشعروا الندم. فأوثقوا أنفسهم بسوارى «1» المسجد، وأقسموا ألا يطلقوا أنفسهم منها، حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقهم، فلما رجع الرسول، وأخبر خبرهم، قال:«وأنا أقسم لا أكون أول من حلّهم إلّا أن أومر فيهم بأمر» . فلما نزل قوله تعالى:

«وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلّهم.. ونهى رسول الله المسلمين عن مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم.. حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأقاموا على ذلك خمسين ليلة، ثم نزل قوله تعالى:«وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» فكان ذلك إيذانا بقبول توبتهم.

هذا مما أجمع عليه المفسّرون..

غير أن لنا فى الآية رأيا آخر، وهو أنها تكشف عن جانب من رحمة

(1) السواري: جمع سارية. وهى عمود المسجد.

ص: 891

الله بعباده، وتفضله على المذنبين العصاة منهم، وهم الذين لم يتوبوا إلى الله، ولم ينزعوا عما اقترفوا من إثم.. فهؤلاء مذنبون عصاة، ينتظرون حكم الله فيهم، إن شاء أخذهم بذنوبهم فعذّبهم، وإن شاء عاد بفضله عليهم، فعفا عنهم، هكذا كرما منه وفضلا.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة:«نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) ولا يردّ على هذا، بأنّ ذلك مما يبطل عمل العاملين، ويسوّى بين المحسنين والمسيئين، كما أنه يناقض قوله تعالى:«وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .

ونقول: إن الله سبحانه وتعالى بإحسانه إلى المسيئين، وتجاوزه عن سيئاتهم لا يجور على عمل المحسنين، ولا ينقص من إحسانهم شيئا، بل إنه سبحانه يوفّيهم أجرهم غير منقوص، كما يقول سبحانه:«وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .

أما التسوية بين المحسنين والمسيئين: فليست واقعة على إطلاقها.. وذلك:

أولا: أن المحسن مجزىّ بإحسانه، بلا شك، كما يقول سبحانه:

«وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .. أما المسيء فهو فى منزلة بين منزلتين: إما أن يأخذه الله بذنبه، وهذا هو الوجه الذي يطلّ عليه من سوء عمله، وإما أن يتجاوز الله عنه، ويعود بفضله عليه، وهذا هو الوجه الذي يطلع عليه من رحمة ربّه! وثانيا: أنه ليس إحسان المحسن وحده هو الذي يدخله الجنة، وإنما قبل ذلك كلّه، هو شموله برحمة الله، كما فى الحديث الشريف:«لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .. رحمة الله التي وسعت كلّ شىء.. تنال البر والفاجر.

ص: 892