الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإذا جاءت كتب الله، ورسل الله، تحدّث عن البعث، وتؤكد وقوعه، لتجزى كل نفس بما كسبت- كان ذلك أمرا لا ينبغى لعاقل أن يشك فيه، إذ كان مما يطلبه العقل، ويقيم له من تصوراته وخيالاته مفهوما يستريح له، ويرضى به!
(الآيات: (5- 10)[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 10]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
التفسير: قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله سبحانه، والتي ذكرت الآيات السابقة بعضا منها..
فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالّة على قدرته، وعلمه، وحكمته..
وآثارهما فى عالمنا الأرضى واضحة مشهودة.. عليهما تقوم حياة كل كائن فى هذا الكوكب الأرضى، وينتظم نظامه.. ولو أنهما أخذا من الأرض موضعا غير موضعهما، لاختلّ نظام هذا الكوكب، وفسد أمره، وتحول إلى صورة أخرى غير صورته تلك.. لا يدرى أحد ماهيتها التي تكون عليها..
- وفى قوله تعالى: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» إشارتان:
أولاهما: أن الجعل غير الخلق.. إذ هو تدبير بعد تدبير الخلق.. فالخلق إيجاد لما هو غير موجود، والجعل تقدير وتنظيم لهذا المخلوق الذي خلق، وإقامته على الوجه الذي يحقق الحكمة من خلقه..
والخلق بالإضافة إلى الله- سبحانه- خلق متلبس بالحكمة، قائم على التقدير.. فليس هناك انفصال بين خلق الله، وبين الحكمة والتقدير لما خلق..
ولكن التعبير «بالجعل» الذي يكشف عن حكمة الخالق المودعة فى المخلوق، هو إلفات لأنظارنا إلى ما فى هذا المخلوق من آثار رحمة الله وحكمته.. ومن جهة أخرى، فإن التعبير بالجعل لا يكشف عن الحكمة من خلق المخلوق إلا من الجانب الذي يتّصل بنا، ويؤثر فى وجودنا.. ففيما كشف عنه قوله تعالى:«هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» .. عرض مقصور على ما يتصل بنا من خلق الشمس والقمر، أمّا مالهما من شأن أو شئون تتصل بالعوالم الأخرى، وبالكون ونظامه، فذلك ما ليس لنا علم به، وإن وقع لنا به علم، فهو علم يزيد فى معارفنا، ولا يتصل اتصالا مباشرا بمقومات حياتنا القائمة على ما تعطينا الشمس من ضوئها، والقمر من نوره.
وثانية هاتين الإشارتين: ما فى اختلاف التعبير عن ضوء الشمس «بالضياء» ونور القمر «بالنور» هكذا: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» .
وذلك أن الضوء نور ذاتىّ، ينبعث من جسم مشعّ له، بفعل الحرارة النّاريّة المتوقّدة فى هذا الجسد.. ومن هنا كان الضوء مشتملا على حرارة، دائما.. فلا ضوء إلّا عن حرارة متوقدة، ولا حرارة إلا ومعها ضوء..
وهذا هو السرّ فى ندائه صلى الله عليه وسلم لجماعة كانت توقد نارا بقوله لهم:
«يا أهل الضوء» .. ولم يقل لهم: «يا أهل النّار» تحاشيا لهذه الكلمة التي ربما انصرفت إلى نار جهنم فمسّهم منها وعيد، أو وقع لهم منها تطيّر وتشاؤم..
فعليك صلوات الله وسلامه يا رسول الله.. ما أعظم خلقك، وما أروع أدبك.. وكيف لا يعظم خلقك وقد سوّاك ربّك فى أحسن تقويم، وحلّاك بكل كمال وجمال، فقال سبحانه فيك:«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وقلت أنت فى مقام التحدّث بنعمة الله وقد رأيت ما خلع الله عليك من كمال وجمال: «أدّبنى ربّى فأحسن تأديبى» ذاكرا فضل ربك، شاكرا نعماءه؟.
والضوء والنار.. بمعنى واحد..
وضوء الشمس.. ضوء ذاتى، صادر من جسم نارى ملتهب..
أما نور القمر فهو غير ذاتىّ، لأنه صادر من جسم بارد معتم، وقع عليه ضوء الشمس، فانعكس منه على الأرض، هذا النور، الذي لا يحمل شيئا من حرارة الضوء..
والضوء يحمل مع النّور حرارة.. والنور، نور خالص، لا حرارة فيه..
الضوء متوهّج، متّقد، متماوج، مضطرب.. والنور لطيف، هادىء،
رقيق وديع.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بالنور عن لطف الله، وسريان حكمته، فى هذا الوجود، وإلباس رحمة الله إياه، فى قوله تعالى:«اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فهو لطف ورحمة وحكمة، لا يخالطه شىء- مما يصحب الضوء، من حرارة، وتوقّد، واضطراب!! - وفى قوله تعالى:«وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ» إشارة إلى القمر، واختلاف منازله ومطالعه، على مدى أيام الشهر القمري..
- وفى قوله تعالى: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» إلفات إلى بعض ما لهذا النظام الشمسىّ والقمري من أثر، فى ضبط الزمن، وحسابه، وتقدير أيامه، ولياليه، وشهوره، وسنيه..
وليس يبطل هذا الأثر أبدا بما وقع لأيدينا من مقاييس وموازين للزمن، إذ كل هذه الموازين وتلك المقاييس مرتبط بالشمس- خاصة- ومتصل بتعاقب الليل والنهار بين يديها، وبتقلب الفصول على مدار السنة حولها.. ولو تغيّر هذا النظام لاختلّ كل ميزان، وكل مقياس للزمن..
وفى قوله سبحانه: «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» .. إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله، لم يخلق عبثا، وإنما هو خلق قائم على حكمة وتقدير.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى:«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (16: الأنبياء) ويقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) فهذا الوجود الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى على غير مثال سبق، هو- من غير شك- المرآة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وعلمه وحكمته..
وهو- من غير شكّ أيضا- منزّل عند الله تعالى فى مقام الحبّ
والإعزاز، إذ كان من آثار قدرته، وعلمه، وحكمته.. فإن ما تبدع يد الحكمة والعلم والقدرة لا يكون هملا، ولا يذهب مذهب الضّياع..
هكذا شأن كل ذى صنعة مع ما صنع.. هو ضنين به، حريص عليه..
فكيف بالصّانع الأعظم، وكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين..
الله رب العالمين..؟
فهذا الحقّ الذي خلقت به السموات والأرض، هو الذي يمسك بهذا الوجود، ويسرى فى عوالمه، ويشتمل على كل ذرّة من ذرّاته..
فبالحق خلق كل مخلوق، وبالحق قام كل موجود..
- وفى قوله تعالى: «يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» إشارة إلى أن العلم هو المفتاح الذي يفتح مغالق هذا الكون، ويكشف معالم الوجود، وأسراره.. وأن من لم يحصّل العلم والمعرفة، فلن يكون له حظّ من النظر إلى هذا السكون، ولن يمسك بسرّ من أسراره، ولن يتعرف على آية من آياته..
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» يشير إلى أن التقوى لا تقوم فى كيان إنسان إلا ومعها العلم.
ذلك أنه إذا نظر الناظر إلى هذا الوجود بعين العالم، وبأجهزة العلم، رأى فى اختلاف الليل والنّهار، وفى تعاقبهما لمحة مشرقة من لمحات حكمة الله، وقدرته وعلمه.. ففى هذا الاختلاف بين اللّيل والنهار ضمان وثيق لكفالة الحياة للكائنات على هذا الكوكب الأرضى.. فما كانت لتطيب الحياة أبدا، بل ولا تقوم الحياة بحال، للمخلوقات- وخاصة الإنسان- لو أن الزمن كان نهارا دائما، أو ليلا مستمرّا.. وفى هذا يقول الحق سبحانه وتعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
(71- 73: القصص) وليست هذه هى معطيات النظر فى اختلاف الليل والنهار، بل هى معطياته فى كل نظرة ينظر بها إلى كل ما خلق الله فى السموات والأرض.. من الهباءة والذّرة، إلى الشموس والكواكب.. ففى كل ما خلق الله، لمسات من حكمته، وأقباس من علمه، ونفحات من رحمته، وآثار من قدرته..
والنّظر المتفحّص الذكىّ، هو الذي يكشف عن وجود الله، ويحدّث عن جلاله، وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.. ومن هنا ينبعث الإيمان بالله، ويقوم الولاء له، وتتحقق التقوى للمتقين من عباده.. إن فى ذلك «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .. فلا تقوى لمن لا يعرف الله، ولا يعرف الله، من لا علم له بما أبدع الخالق وصوّر، وبما فى هذا الإبداع والتصوير من علم العليم وحكمة الحكيم، وقدرة القدير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» .. فعلى قدر ما يعلم الإنسان من صفات الخالق بقدر ما يكون إيمانه به، وخشيته له، واتقاؤه لمحارمه! قوله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لأولئك الّذين لا يتدبّرون فى ملكوت الله، ولا يتفكرون فى خلق السموات والأرض- فلقد أهملوا استعمال ملكاتهم التي أودعها الله
سبحانه وتعالى فيهم، وشغلوا بأنفسهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن أن يرفعوا أبصارهم إلى أبعد مما تصل إليه أيديهم، من مطلوب شهواتهم البهيمية، ولذاتهم الجسدية، فغفلوا عن آيات الله، وعموا عن النظر إلى ملكوت الله، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها.. وإنه ليس لهؤلاء اللاهين الغافلين إلا النار، لأنهم لم يكسبوا فى حياتهم الدنيا إلّا ما هو من النّار وإلى النار..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ» بالعطف على قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» إشارة إلى أن هذا الذي أوقع هؤلاء الضالين فيما هم فيه، من عدم توقعهم للقاء الله، والحياة الآخرة، حتى رضوا بالحياة الدنيا، وأعطوها كل وجودهم، واطمأنوا إلى السّكن إليها- إنما كان ذلك لأنهم غفلوا عن النظر فى آيات الله، والتفكر فى ملكوت السّموات والأرض.. ولو أنهم نظروا وتدبروا لكانوا على غير ما هم عليه، ولآمنوا بالله، ولأيقنوا بلقائه، ولعملوا لهذا اللقاء، واستعدّوا له، فذلك هو شأن «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191: آل عمران) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» هو عرض للوجه المقابل للذين عموا عن النظر فى ملكوت السموات، والأرض، فلم يؤمنوا بالله، ولم يرجوا لقاءه.. وهو وجه الذين آمنوا بالله،