الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنه ليس له أن يحكم فى أمر هؤلاء الذين يحقرونهم، ويزدرونهم ويرون أنهم ليسوا أهلا لأن يلبسوا فضلا، أو يسبقوا إلى خير.. الله أعلم بما فى أنفسهم، وما استكنّ فى قلوبهم، من إيمان أو نفاق.. فإن الحكم عليهم من جهة نوح بما استكنّ فى سرائرهم، هو ظلم، لأنه حكم بغير بينة، إذ لا يعلم ما فى السرائر إلا الله..
فهذا هو نوح، الذي يدعوهم إلى الله.. إنه بشر مثلهم، وإنه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا.. فإن قبلوه على ما هو عليه، وآمنوا بالله، فذلك من حظّهم..
وإن أبوا عليه، وخالفوه.. فلهم ما شاءوا.. «أنلزمكموها وأنتم لها كارهون» إنه لا إكراه فى الدين..!
الآيات: (32- 35)[سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35]
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
التفسير: قوله تعالى: «قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. إنه بهذا اللقاء الذي يفيض بالجفاء، والضجر- يلتقى القوم بنوح، فيلقون إليه بهذه الكلمات المتهجّمة المتوعدة:
«يا نوح: قد جادلتنا فأكثرت جدالنا» .. وإنه لجدل عقيم، قد تصدّعت له الرءوس.. فأعفنا من جدلك هذا، وهيّا ائتنا بما تعدنا من العذاب، إن كنت من الصادقين!! هكذا منطق السفهاء والحمقى، مع دعاة الخير، وقادة الناس إلى الهدى والرشاد! تطاول، وسفاهة، وسخرية، واستهزاء.. ثم تحدّ وقاح لما أنذروا به من عذاب الله.. إنهم ينكرون أن يكون نوح على صلة بالله، ويرون ما أنذرهم به ليس إلا من مفترياته على الله.. فليأت بهذا العذاب إن كان من الصادقين.
وفى لطف ووداعة ولين، وتواضع، يلقى هذا التحدي.. فيقول ما حكاه القرآن عنه، فى قوله تعالى:
: «قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» .
فذلك ليس أمره إلى يدى، وإنما أمره إلى الله، ينزله بكم حيث شاء علمه، وقضت إرادته.. ولستم بالذين يعجزون الله، أو يجدون مهربا من وجه العذاب الذي يأخذكم به، حين يشاء!:«وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .
وليس لى كذلك أمر هدايتكم وإرشادكم، والانتقال بكم من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان.. فذلك أمره إلى الله وحده.. فإن كان الله سبحانه وتعالى قد أراد بكم ألّا تبصروا من عمى، وألا تهتدوا من ضلال، فذلك شأنه فيكم، وحكمه عليكم، وأنتم مربوبون له، وهو ربكم، وإليه مرجعكم.. إن شاء عذّبكم، وإن شاء عفا عنكم..
وفى قصر الحديث معهم على الإغواء، وهو الإضلال، دون الحديث عن الهداية والإرشاد إلى الإيمان- إشارة إلى أنّهم لن يكونوا إلا هكذا، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخبر أنهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى بعد ذلك:«وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» ..
- وفى قوله: «إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ» مع أنه ينصح لهم فعلا، إشارة لى أنه لو أراد معاودة النصح، ومراجعتهم فى موقفهم، بعد أن قطعوا عليه لطريق بقولهم:«يا نوح.. قد جادلتنا فأكثرت جدالنا» - إنه إن أراد أن يجدّد النصح ويعاوده، فلن ينفعهم ذلك، إن كان الله قد أراد لهم الضلال وكتب عليهم الكفر.
قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» - هو حديث إلى المشركين من قريش وأحزابهم، وفضح لما يدور فى خواطرهم، ويتردد فى صدورهم، ويتحرك على شفاههم من اتهام للنبىّ بأنه افترى هذا الحديث الذي تحدّث به عن نوح وقومه، أو أنه افترى هذا القرآن الذي يحدثهم به، وأنه ليس وحيا من عند الله، كما يقول..
وقد ردّ الله عليهم بقوله للنبىّ: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» أي إن يكن ما جئت به هو اختلاق وكذب، فهو جريمة منكرة، وإثم غليظ.. ولكن تبعة هذا الجرم علىّ وحدي، إن يكن ما جئت به مفترى على الله.. وليس عليكم منه شىء، وإنما عليكم تبعة هذا الجرم الذي أنتم فيه، وهو الكفر بالله.. وأنا برىء مما أجرمتم، وممّا يصيبكم منه من عذاب عظيم.
وقد جاءت هذه الآية فى ثنايا قصة «نوح» ليلتفت إليها المشركون، وكأنّها قصتهم.. ثم لينتبهوا إلى ما سيجيئ بعدها.. من أخذ الله سبحانه وتعالى للظالمين والمكذبين.