الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- وفى قولهم: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» دعاء منهم إلى الله ألا يعرّضهم للبلاء والضرّ على يد الطغاة الظالمين، حتى لا يكون فى ذلك ما يفتنهم عن دينهم، ويفتن الظالمين بهم أيضا، فيؤخذوا بجنايتهم على هؤلاء المظلومين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20: الفرقان) ..
الآيات: (87- 89)[سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 89]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)
التفسير:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ، أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» البيوت هنا: هى بيوت العبادة، لا بيوت السّكنى..
والتّبوّء: يقال تبوأ المكان أي اتخذه مباءة له وسكنا، وهو من البوء، بمعنى الرجوع.. يقال: باء يبوء، أي رجع، وسمى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يرجع إليه الإنسان آخر مطافه.. فقد أوحى الله سبحانه وتعالى، إلى موسى وهرون، أن يدعوا قومهما إلى اتخاذ بيوت لعبادة الله.. يجعلونها خاصة لعبادته،
فلا يدخل فيها ما يدخل فى بيوت السكنى من لهو وعبث.. ذلك أن للمكان أثره فى إثارة المشاعر الطيبة والخبيثة.. فإن كان المكان طيبا أشاع فى النفس السكينة والرضا، وملأ القلب جلالا وخشوعا، وعلى عكس هذا ما يكون من المكان الخبيث.
روى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، نام وهو فى غزوة تبوك حتى طلعت عليه الشمس، ولم يدرك صلاة الصبح حتى طلعت الشمس.. فلما استيقظ قال لبلال:«ألم أقل يا بلال.. اكلأ لنا الفجر؟ فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك!! فانتقل النبي من ذلك المكان غير بعيد.. ثم صلّى» فقد كره صلى الله عليه وسلم أن يصلى فى مكان أجلب عليه النوم، وفوّت عليه الصلاة فى وقتها، فاعتزله كما يعتزل الإنسان إخوان السوء..
- وفى قوله تعالى: «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» إشارة إلى أن يكون متوجه الصلاة فى هذه البيوت إلى القبلة، وهى الكعبة كما يقول بذلك كثير من المفسرين..
ولكنا نخالف هذا الرأى، ولنا على مخالفتنا إياه أكثر من دليل:
فأولا: القبلة فى اللغة ليس معناها الكعبة.. وإنما هى بمعنى الوجهة، أو الاتجاه، الذي يتجه إليه الإنسان.. وهى مشتقة من الاستقبال، لأن الإنسان فى توجهه إلى الله يستقبل الرحمة والمغفرة والرضوان..
وثانيا: فى قوله تعالى للرسول الكريم: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» فتنكير القبلة هنا دليل على أنها واحدة من كثير غيرها.. ولهذا أيضا وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: «تَرْضاها» وقد كان متّجه النبي صلى الله عليه وسلم قبل، ذلك، وقبلته، هو بيت المقدس.
والمراد بجعل بيوتهم قبلة، هو أن يجعلوا متوجّههم إليها حين يريدون الصلاة فيها، فتكون مقصدا لكل من يريد الصلاة منهم..
العطف هنا «وَقالَ مُوسى» هو عطف على قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ» إذ كان معنى الوحى «القول» .. أي قال الله لموسى وأخيه هرون تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا.. وقال موسى ربنا.. فهو عطف قول على قول..
- وفى قوله تعالى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» ..
يرى أكثر المفسرين أن هذا دعاء من موسى على فرعون.. وقد تكلّفوا لهذا التخريج والتأويل، حتى يخرجوا بلام التعليل عن معناها إلى المعنى الذي أرادوه لها..
واللام هنا لام تعليل- كما هو ظاهر- وأن قول موسى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» هو علة لما طلبه موسى بعد هذا من ربه، وهو قوله:
«رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» ..
والطمس على أموالهم، هو ذهلبها من أيديهم، وغروبها عن أعينهم، والشدّ على قلوبهم، هو الختم عليها وربطها ربطا محكما، على ما انعقد فيها من كفر وضلال، فلا تقبل خيرا أبدا..
ويكون معنى الآية هكذا: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدّنيا فكفروا بنعمتك، وحاربوك بها، وكانت تلك
الأموال سببا فى عتوّهم وضلالهم «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» ..
فيكون سلب هذه النعم، وذهاب هذه الأموال من أيديهم، ضربا من العقاب المعجل لهم، يأخذ الله به الظالمين والضالين، الذين يكفرون بالله ورسله، فيمطرهم حجارة، أو يرسل عليهم صاعقة من السماء، أو يغرقهم.. وبهذا الذي ينزل بفرعون وملائه، من سلب النعم، وذهاب الأموال، يكون العقاب الذي يذلّ كبرياءه، ويذهب بسلطانه، ويريه سوء عمله فى الدنيا، ثم لا يكون له منه عبرة وعظة، تفتح قلبه إلى الله، وإلى الإيمان به بعد أن ختم الله على قلبه، بل إنه سيمضى على طريق الضلال والكفر هو ومن معه، حتى يروا العذاب الأليم، عذاب يوم القيامة «فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..» .
وهذه الصورة التي يصورها القرآن الكريم لمن يطغيهم الغنى، ويفتنهم الجاه والسلطان، ويفسد عليهم تفكيرهم، ويطمس على أبصارهم وبصائرهم- هذه الصورة تقابلها صورة أخرى للمال، حين يقع فى يد من يؤمن بالله، ويلتزم حدوده، إذ المال هنا، قوة تعين على قضاء حقوق الله، وأداء ما افترض على عباده من عبادات وطاعات..
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:
«ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (37: إبراهيم) ..
هذا، ويلاحظ ما بين النظم القرآنى فى الصورتين من اتفاق فى الأسلوب الذي جاء عليه النظم هنا وهناك.. وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان..