الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله: «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي؟ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ! وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ!» فبهذا القلب الحزين الذي يتمرق أسى وحسرة يناجى نوح ربه، وكأنه يعاتبه أو يراجعه فيما قضى به سبحانه وتعالى فى هذا الابن العاقّ! أفبعد هذا يقال فى ابن نوح قول غير أنه ابنه؟ اللهم إلا أن تفقد الألفاظ مدلولها، وتتحول إلى ألغاز وطلاسم! وهنا يحتاج الأمر إلى منجّمين..
لا مفسرين لقرآن كريم، بلسان عربى مبين.
الآيات: (45- 49)[سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49]
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
التفسير:
الذين شكّوا فى نسبة ابن نوح إليه، وقالوا إنه ابن زوجته.. لا أدرى كيف
قبلوا على أنفسهم هذا القول، وبين أيديهم أكثر من شاهد يشهد ببنوة هذا الابن إلى نوح، بنوّة حقيقية لا لبس فيها.. وأنه إذا كان من الممكن حمل الألفاظ على غير محاملها، ونقلها من الحقيقة إلى المجاز، فإنه من غير الممكن أن يكون ذلك بالنسبة للعواطف الإنسانية، التي تحكمها صلات النسب، كالبنوّة، والأبوة، والأخوة ونحوها، والتي تحتل عاطفة الأبوة المكان المكين منها؟.
فهذا «نوح» لا ينسى ابنه الغارق، مع أنه كان من المخالفين له، الخارجين على طاعته، المكذبين له، الكافرين بالله.. ولكنها عاطفة الأبوة المتأججة، التي لا يطفىء وقدتها ما يكون من الأبناء من عقوق، وما يكون فيهم من انحراف، واعوجاج! وإن الابن ليكون على حال من السوء والسّفه، حتى ليلفظه المجتمع كله.. ولكن عاطفة واحدة تظل ملتحمة به، متّسعة لقبوله على ما هو عليه، أيّا كان هذا الذي هو عليه.. من سوء وسفه.. تلك هى عاطفة الأبوة.. الممثلة فى الأبوين معا.. الأب والأم..
فكيف يسوغ بعد هذا لقائل أن يقول فى ابن نوح إنه ليس ابنا حقيقيا له؟ لقد كانت امرأة نوح من الجبهة المناوئة له، الخارجة على دعوته، الكافرة بالله، وقد أغرقها الله مع من أغرق من قوم نوح، فلم يأس عليها نوح، بل ولم يلتفت إليها، وقد جرفها التيار، واحتواها الموج.. فكيف يأسى على ابنها ويمسك به، ويشدّه إليه؟ ثم كيف يعود إلى ربه باكيا متوجعا، يطلب العزاء والسلوان.؟
«وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» - وفى قول نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى، لنوح: «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ»
.. فقد كان نوح يعلم أن من أهله من حقّ عليه القول بأنه من المغرقين، ولكن عاطفة الأبوة قد حجبت عنه رؤية ابنه أن يكون فى هؤلاء الغرقى، ولهذا ظل ممسكا به إلى أن حال بينهما الموج فكان من المغرقين..
ومع أن نوحا على يقين بأن ابنه قد هلك، ولا سبيل إلى أن يلقاه حيّا فى هذه الدنيا- فإن ما به من لذعة الألم، وحرقة الأسى، قد حمله على أن يشكو إلى ربه هذا الذي يجده.. ليسمع من ربه كلمة يبرّد بها صدره، ويطفىء لهيب النار المشتعلة فيه..
وقد عاد الله سبحانه وتعالى على «نوح» بفضله، فناجاه وواساه، ووقف به على الحد الذي يجب أن يلتزمه نوح مع أمر ربه، وعلمه، وحكمته.
- وفى قوله تعالى: «يا نُوحُ» عزاء جميل، ومواساة كريمة من ربّ كريم.. إذ ناداه الحقّ جلّ وعلا باسمه، كما يدعو الحبيب حبيبه، ويناجى الخليل خليله.. «يا نوح» ! - وفى قوله تعالى:«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» إشارة إلى أن هذا الابن ليس من أهل «نوح» الذين ينسبون إليه نسبة ولاء، وطاعة.. إن أهله هم المؤمنون به..
ولهذا كشف الله سبحانه وتعالى لنوح عن السبب الذي من أجله لم يكن ابنه من أهله، فقال سبحانه:«إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» أي إنه عمل من غير الأعمال الصالحة، التي يتقبلها الله، وما كان لنوح أن يمسك بين يديه عملا غير صالح..
وسمّى الابن «عملا» لأنه غرس من غرس أبيه، وثمرة من زرعه..
ولكن هذا الابن كان غريبا، غرس فى منبت سوء، هى أمّه. فجاء ثمرة معطوبة فاسدة! - وفى قوله تعالى:«فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» - ما يسأل عنه:
إذ كيف ينهاه الله سبحانه وتعالى عن أن يسأله ما ليس له به علم؟ وهل يسأل الإنسان إلا عن الذي ليس له به علم؟ والجواب: أن المراد بالعلم هنا، العلم الذي لا يقع فى متناول العقل البشرى، لأنه علم فوق مستوى هذا العقل، وقد استأثر به الله سبحانه وتعالى وحده..
فالنهى الواقع على السؤال عما لا يعلم نوح، هو نهى واقع على العلم الإلهى الذي لا يدركه نوح، ولا يتّسع له عقله..!
وفى قصة موسى والعبد الصالح ما يشير إلى شىء من هذا، فقد سأل موسى العبد الصالح أن يعلّمه شيئا من هذا العلم الذي وهبه الله العبد الصالح، واختصه به، وذلك فى قوله تعالى:«فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً..» ولهذا قال له موسى: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» ؟ وكان جواب العبد الصالح له: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ؟ إنه علم تحار أمامه العقول، وتزيغ به الأبصار.. لأنه علم فوق مستواها، وأكبر مما تحتمل.. كالضوء الباهر تحدّق فيه العين، فيحجبها ضوءه عن أن ترى شيئا، حتى لكأنها فى ظلام دامس مطبق! ولهذا جاء قوله تعالى لنوح:«إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» منبها له إلى أن هناك علما لا يعلمه نوح، ولا يحتمل وقعه على مدركاته.. فليعلم
أن له علما، وأن لله سبحانه وتعالى علما فوق هذا العلم، لا تناله الأفهام، ولا تدركه العقول..
وقد علم نوح أين يقف به علمه.. فقال:
فهو يستعيذ بالله أن يجهل حدّ ما بين المخلوق والخالق، فيجاوز هذا الحد، فيكون ظالما لنفسه، معتديا على حدود الله.. ولهذا، فقد عرف أن ما كان منه من سؤال عن ابنه، وعن حكمة الله فى إغراقه مع المغرقين- هو أمر جاوز به الحدّ الذي ينبغى أن يقف عنده مع الله، فجاء إلى الله تائبا مستغفرا..
فتلّقاه الله سبحانه بالقبول والمغفرة..
فقال سبحانه:
ولقد هبط نوح إلى الأرض، يصحبه السلام والبركة من الله:«اهبط بسلام منّا وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك» .. وقد أخذ الذين كانوا مع نوح حظهم من هذا السلام وتلك البركة، فكانوا جميعا محفوفين بالسلام والبركة من رب العالمين..
- وفى قوله تعالى: «وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - إشارة إلى أن من مواليد هؤلاء الذين كانوا مع نوح ستنشأ أمم كثيرة، وأن هذه الأمم التي ستنشأ من ذرّية هؤلاء القوم المؤمنين، لن يكونوا على شاكلة واحدة، بل سيكون منهم المؤمنون الذين يمسّهم السلام، وتحفّهم البركة من الله،
وهم أمم، ويكون منهم الذين يتخلّون عن نصيبهم من السلام، ويتعرّون عن حظهم من البركة، فيكفرون بالله، فيمتعهم الله فى الدنيا هذا المتاع القليل، ثم يلقون العذاب الأليم فى الآخرة، جزاء كفرهم بالله..! وهم أمم أيضا.
وفى هذا إشارة إلى نوح وابنه.. وأن نوحا إذا كان ممن ألبسهم الله لباس السلام والبركة، فإن ذلك ليس مما يرثه الأبناء عن الآباء.. وأن المؤمن قد يكون من ذريته المؤمن والكافر.. كما أن الكافر قد يكون من ذريته الكافر والمؤمن.. وفى هذا إشارة ثالثة إلى أن للإنسان إرادة، وله سعى وعمل، وأنه بإرادته وسعيه وعمله، يأخذ الطريق الذي يريده، ويخرج به عن حكم الوراثة، الذي إن تسلط على جميع الكائنات الحية، وألزم الخلف منها طريق السلف، فإنه لن يتسلط على الإنسان، ذى العقل، والإدراك، والإرادة..
هذا، ومن إعجاز الصياغة فى النظم القرآنى، أنك تقرأ قوله تعالى:«قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - فتجد هذا النغم الموسيقى الهادر، فى وقار وسكينة وجلال، أشبه بأنفاس الموج، وقد أخذت تهدأ بعد انحسار العاصفة! ففى الآية الكريمة سبعة عشر ميما، موزّعة بين حروفها، هذا التوزيع الذي يقيم منها ذلك النغم الرائع، الذي يصحب السفينة فى عودتها إلى موطن السلامة والأمن، وكأنه أهازيج النصر، ينشدها العائدون من أرض المعركة، بعد قتال ضار مرير! قوله تعالى:«تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.. فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» .