الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحنة المقبلة عليهم، وأن يخرجوا منها سالمين، وإلا فإنهم إن نسوا فى خصبهم أيام الجدب المقبلة عليهم، هلكوا جميعا.. إنهم مقدمون على حرب قاسية مع الجدب والقحط، فإذا لم يستعدوا لهذه الحرب هلكوا بيد الجوع والحرمان.
- وفى قوله: «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» إجابة على سؤال يتردد فى خواطر الناس.. وهو: ماذا سيكون عليه الحال بعد هذه السّنوات المجدبة؟ وهل يجىء بعدها الخصب الذي اعتادوه، أم أنها ستكون سنة تجمع بين الخصب والجدب؟ فكان هذا الذي بشّرهم به، وأراهم منه طريق النجاة، فسيحا، رحيبا:«عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون» ..
إنه عام فيه خير كثير، يذهب بكل ما عانى الناس من بلاء وشدة خلال هذه السنوات الأربع عشرة! وفى هذا ما يشدّ عزمات الناس، ويمسك بهم على طريق الصبر والاحتمال، حيث تتوارد عليهم الحياة فى شدتها ولينها، وضرّائها وسرائها..
الآيات: (50- 52)[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
التفسير:
ما خطبكن: أي ما شأنكن.. حاش لله: أي تنزيها لله.. وحاشا:
فعل استثناء يعزل ما بعده عن الحكم الواقع على ما قبله..
حصحص الحق: أي انكشف، وظهر، وتمحّص.
«وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» .. لقد وقع ما تأول به يوسف حلم الملك موقع اليقين من الملك، ورأي ما كان قد رآه مناما أمرا واقعا بين يديه، ورأى فى يوسف الأمل الذي طلع عليه من حيث لا ينتظر، مادّا يده إليه بحبل الخلاص والنجاة، فهتف فيمن حوله:«ائتوني به» !! ولم يقل: ائتوني بيوسف، استعجالا لإحضاره، واختصارا للوقت الذي يضيع فى النطق باسمه، مكتفيا بالإشارة إليه بضميره! - «فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» لقد انتهز يوسف الفرصة السانحة له، وقد أصبح مطلوبا من الملك، لا طالبا له، ومرغوبا لا راغبا، فأراد أن يملى شروطه، ولم تنسه فرحة الخلاص من السجن بعد هذه السنين الطويلة التي قضاها بين جدرانه- لم ينسه ذلك أن يبدأ أولا بمحو هذه التهمة التي علقت به، وأن يقيم الملك على رأى صحيح فيه، وأن يعلم علم اليقين من هو هذا الإنسان الذي رمى بهذا البهتان، وقذف بهذا المنكر؟
فهناك واقعة لا يمكن إنكارها، إذ كانت بمشهد من عدد كثير من النسوة، كما كان أثرها المادي مما لا يخفى، وربما لا يزال بعضه باقيا إلى يومه هذا.. «النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» .. ما بالهن فعلن هذا الفعل؟ وفى
أية مناسبة حدث هذا لهن؟ ففى الإجابة عن هذا السؤال ما يكشف عن الكيد الذي كدن له به! «قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ» ؟.
وسأل الملك عن أمر هؤلاء النسوة، فلما أخبر به، دعاهن إليه، وسألهنّ:
«ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ ويوسف لم يقل إنهن راودته عن نفسه، بل اكتفى بذكر الحادثة، ولم يذكر مدلولها، وذلك أدب من أدب النبوة الذي يأبى عليه أن يذكر كلمة السوء، وأن يفضح الحرائر! ولكن الملك قالها لهن صريحة:«ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ لقد ملك يوسف عليه مشاعر الحب والإجلال، وساءه أن يلقى هذا الإنسان الكريم ما لقى من هذا الاتهام الشنيع، وهو العفّ الطاهر، التقىّ النقىّ، فأراد أن ينتقم له، وأن يعرض هؤلاء النسوة على الملأ فى مقام الخزي والفضيحة!.
ولم تجد النسوة فى يوسف ما يقلنه فيه، دفاعا عن أنفسهن، ولم تكن غير كلمة الحق كلمة يمكن أن تنطق بها ألسنتهن، إزاء هذه الشمس التي ملأ نورها الآفاق من حولهن، حتى إن الملك نفسه ليستضىء بضوئها، ويستهدى بهديها.. فكان جوابهن إقرارا منهن ليوسف بالعفة والطهارة..
«قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» أي تنزيها لله عن كلّ نقص، وكما ننزّه الله عن كل عيب ونقص، ننزه يوسف عن كل منكر وقبيح! «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» .
ولم تقل النسوة: ما رأينا عليه من سوء وإنما قلن هذا القول: «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» تأكيدا لطهره وعفّته، فإنهنّ لم يرين منه ما يسوء ولم يعلمن من أمره ما يشين.. سواء أكان ذلك معهن، أو مع غيرهن.
وتتلفت الأنظار هنا إلى امرأت العزيز، وتصغى الآذان إلى ما تقول فى هذا المقام، وهى رأس هذا الأمر كله..فماذا قالت امرأت العزيز؟.
«قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» لقد قهرها الحق، فأقرت على نفسها بمشهد من هذا الملأ:
«أنا راودته عن نفسه» .. فقد ظهر الحق، ولم يعد ثمة سبيل إلى إخفائه.
«أنا راودته عن نفسه» : تقولها هكذا صريحة مؤكّدة «أنا راودته عن نفسه» ! ولم تكتف بهذا العرض الذي تعرض فيه نفسها فى معرض الاتهام الصريح المؤكد، بل تستحضر يوسف الذي لا يزال فى سجنه، وتستدعى صورته التي لا تزال تملأ خيالها فنقول:«وإنه لمن الصادقين» .. أي إننى لكاذبة فيها تقوّلته عليه، وإنه لصادق فيه نفى هذا الاتهام عنه.. وفى قول يوسف:
«فاسأله ما بال النسوة» دون أن يشير إلى امرأة العزيز- أدب عال لا يصدر إلا ممن تأدب بأدب السماء، من أنبياء الله ورسله.
«ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» أي إنّى أقرر ذلك، وأشهد به على نفسى فى غير مواجهة، وذلك ليعلم أنّى لم أكذب عليه فى غيبته، حيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ودفع ما أتقوّله عليه.
وفى قولها: «ذلك ليعلم أنّى لم أخنه بالغيب» اعتذار منها ليوسف، وتودّد إليه، وفتح لباب الصفح والمغفرة بينها وبينه.
- وفى قولها: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» تعليق على ما كان منها من كيد وخيانة ليوسف، وأن هذا التدبير السيّء قد فضحه الله، وأخزى أهله.. وهكذا كل باطل لا بد أن تكشف الأيام زيفه، وتفضح وجهه المطلى بالزور والبهتان.. وفى هذا ما يدلّ على حسرتها على ما كان
منها فى حق هذا الإنسان العظيم، الذي لم يكن له من ذنب، إلا أن الله سبحانه صوّره فأحسن صورته، وأكمل خلقه! هذا، ويجوز أن يكون هذا القول من يوسف عليه السلام، وأنه قاله بعد أن علم بإقرار النسوة، وشهادة امرأة العزيز على نفسها، قاله معلّقا ومعلّلا لهذا الطلب الذي طلبه من الملك، وهو أن يسأل النسوة اللّاتى قطعن أيديهنّ.
وبهذا ينكشف له واقع الأمر، وقد انكشف هذا الواقع عن براءة يوسف مما رمى به، وبهذا يعلم العزيز أن يوسف لم يخنه فى غيبته وأنه كان أمينا على حرماته، وأنه لو كان خائنا له أو لغيره ما هداه الله إلى كشف هذه الحقائق التي كشف عنها، لأن هذا لا يكون إلا عن بصيرة استضاءت بنور الله، واهتدت بهذا النور، والله لا يهدى كيد الخائنين، ولا ينجح لهم أمرا، ولا يجعل لهم نورّا:«ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور» .
ونحن نميل إلى القول بأن قوله تعالى: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. نميل إلى القول بأن هذا هو من حديث يوسف إلى نفسه، تعليقا على ما انكشف للملك من أمر النسوة، وما ظهر من براءته.
وذلك لأنه قد جرى فى هاتين الآيتين، ذكر الله سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات الكمال، كقوله:«وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» ..
وقوله: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وهذا لا يصدر إلا من إنسان مؤمن بالله إيمانا مشرقا متمكنا.. وامرأة العزيز، لم تكن- فى غالب الظن- مؤمنة.. وأنه إذا كانت مصر قد عرفت التوحيد فى فترة من
تاريخها الفرعوني، فإنها فى فترات كثيرة كانت تعبد أنواعا من الآلهة تتخذها من عالم الحيوان، أو الكواكب، وغير ذلك..
ثم إن مصر فى هذه الفترة بالذات، التي عاصرت يوسف عليه السلام، كانت على غير دين التوحيد، حيث رأينا يوسف فى سجنه يدعو صاحبيه إلى الإيمان بالله، ويكشف لهما عن زيف الآلهة التي يعبدونها من دون الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانه:«يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» والله أعلم.
تم بعون الله الجزء الثاني عشر، ويليه الجزء الثالث عشر، إن شاء الله