الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى هذا دعوة إلى العلم الذي يسبق كل عمل يعالجه الإنسان، فمن عمل بلا علم ضلّ سعيه، وبطل عمله.
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. إذ قد دعت الآيات السابقة إلى قطع علائق المودة والموالاة بين المؤمنين وبين من لهم بهم صلة من المشركين.. وهذه الآية تشدّ المؤمنين بالله إليه، وتقيم وجوههم له، دون التفات إلى غيره، إذ أن له وجده- سبحانه- ملك السموات والأرض، وإليه أمر الحياة والموت..
لا يملك أحد معه شيئا من نفع أو ضر، ومن موت أو حياة.. فمن جعل ولاءه لغير الله فقد ضلّ وخسر، وليس له من دون الله ناصر ينصره، أو ولىّ يعينه ويشدّ أزره.
الآيات: (117- 119)[سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَاّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
اللام فى «لَقَدْ» هى اللام الواقعة، فى جواب قسم مقدر.. وهذا القسم لتوكيد التوبة، ووقوعها وقوعا تاما كاملا، لم يبق معها ذنب، أو معصية..
فهى توبة يخرج بعدها من وقعت عليه معافى من كل سوء، مبرأ من كل مأخذ..
والزيغ: الانحراف عن طريق الحق، والميل إلى الباطل..
وذكر النبىّ هنا فى التوبة- وهو صلوات الله وسلامه عليه لم يقع منه- وحاشاه- شىء، فى هذا تكريم للمهاجرين والأنصار وتشريف لهم، بنظمهم مع هذا الكوكب الدرّىّ الوضيء.. فى ساحة رضوان الله ومغفرته.. وقد قرأ الرّضا علىّ بن موسى: «لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار..
الذين اتبعوه فى ساعة العسرة..»
ويجوز أن يكون المعنى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» أي لقد غفر له كل هنة تمسّ مقام النبوّة، ليظلّ النبىّ هكذا فى مقامه العظيم من ربّه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ بالاستغفار من ذنوبه بقوله تعالى:«وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» ..
وغفر للنبى الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر فى قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» .
فليست ذنوب النبىّ- صلى الله عليه وسلم ذنوبا بالمعنى الذي يفهم من كلمة ذنب بالنسبة لغير النبىّ من الناس.. وقد قيل: «سيئات المقربين حسنات الأبرار» .. فكيف بالنبيّ الكريم؟
وقد عدّ الله سبحانه وتعالى إذن النبىّ المنافقين الذين جاءوه معتذرين-
عدّ ذلك ذنبا، عفا الله عنه.. وهو أمر لو وقع من غير النبىّ لما كان موضعا لمؤاخذة أو لوم.. وفى هذا يقول الله تعالى:«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» . (43: التوبة) وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» إشارة إلى ما كان من لطف الله بالمؤمنين فى غزوة تبوك، وأن شدّة هذه الغزوة، والظروف التي دعى فيها المسلمون إلى الجهاد قد عرضت بعض المؤمنين لامتحان عسر، ضاقت به صدورهم، وتلجلجت معه نياتهم، واضطربت عزائمهم، ولكنّ الله سبحانه ربط على قلوبهم، وأمسك بهم على طريق الحقّ، فمضوا على طريق الجهاد.
وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ما يكشف عن فضل الله على النبىّ ومن تبعه من المهاجرين والأنصار.. وأنه سبحانه، لرأفته بهم، ورحمته لهم، قد أخذ بيد من كاد يسقط منهم، وينزل عن هذا المنزل الكريم الذي أحلّ الله فيه المهاجرين والأنصار، واختصّهم به، فهم أبدا فى ظلال رأفته ورحمته.. وحسبهم بهذا سلاما وأمنا، وحسبهم به شرفا وفضلا.
قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» عطفت هذه الآية على ما قبلها، فشملت بهذا توبة الله التي تابها على النبىّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة- شملت هذه التوبة الثلاثة الذين خلّفوا، وقد أشرنا إلى قصتهم من قبل.
وفى عطف الثلاثة الذين خلّفوا على النبىّ والمهاجرين والأنصار تكريم لهم، وتنويه بتوبتهم، وأنها توبة مقبولة، محيت بها كل الآثار التي علقت بهم من تخلّفهم عن النبىّ.. وبهذا حقّ لهم أن يكونوا فيمن تاب الله عليهم:
النبىّ والمهاجرين والأنصار.. وهم درجات عند الله..
وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» إشارة إلى ما وقع فى نفوس هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا من ندم وحسرة.
لقد ضاقت عليهم الأرض على سعتها، بل وضاقت عليهم أنفسهم، فلم تحتملهم، ولم تجد القرار والسّكن إليهم، وهذا يعنى ثقل عما كانوا يعانونه من ندم وألم، ولهذا كانت توبتهم نصوحا صادقة، لا تنتكس بهم على أعقابهم أبدا..
وقد حذف جواب الشرط هنا، إذ دلّ عليه قوله تعالى:«وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» .. أي أنهم حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه- لجئوا إلى الله، وفرّوا إليه تائبين مستغفرين..
والظن هنا بمعنى اليقين، أي أنهم أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه..
ولو كان ظنهم غير واقع موقع اليقين، لما كان منهم هذا الندم القاتل، وتلك الحسرة المميتة! - وفى قوله تعالى:«ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» .. نلحظ من العطف بالحرف «ثُمَّ» الذي يفيد التراخي.. أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمتحنهم بهذا البلاء الذي هم فيه، وأن يدعهم مع هذا الهمّ الذي ركبهم، حتى يكون فى هذا تصفية لنفوسهم وتمكين لتوبتهم- فلم ينزل القرآن بالعفو عنهم وقبول توبتهم إلا بعد مدة قيل إنها بلغت خمسين يوما.. فهذه الخمسون يوما التي قضاها الثلاثة الذين خلّفوا كانت أشبه ببوتقة صهرت فيها نفوسهم، وصفّيت مما كان قد علق بها من خبث ووضر!.
ولو جاءت التوبة عليهم قبل أن يدخلوا فى هذه التجربة ويعيشوا فيها تلك الأيام والليالى، لما وجدوا أنفسهم على تلك الحال التي استقبلوها بها بعد هذا الزمن المتراخى، وبعد تلك التجربة القاسية، التي كشفت عن هذا المعدن الكريم لتلك النفوس الكريمة، ولولا ذلك لحطمتها المحنة وأكلتها نار التجربة.
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» إشارة إلى أن التوبة النصوح لا تكون إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى إليها.. وأنه إن لم يوفقهم الله سبحانه إلى هذا الموقف، ويربط على قلوبهم فيه، لم يكن منهم هذا الصبر على البلاء، ولا احتمال هذا المكروه الذي وقعوا فيه.. وهذا هو معنى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» أي قبلهم الله وتاب عليهم، فكانوا من التائبين.
والتوبة: أصلها من التّوب، والرجوع، يقال تاب إلى الله يتوب: أي رجع عن معصيته إليه.
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قد جاء فى الآية السابقة ذكر الثلاثة الذين خلّفوا، وأن الله قد تاب عليهم، وعفا عنهم، وأنزلهم منازل رضوانه، وجعلهم معلما من معالم الثبات مع الحق والولاء له..
فأجرى لهم فى القرآن الكريم ذكرا، وجعل لهم فى العالمين قدرا..
وذلك كله بسبب أنهم أقاموا أنفسهم على كلمة الصدق، فلم يكذبوا على رسول الله، ولم يجيئوا إليه بأعذار ملفقة، بل جاءوا إليه يقولون قولة الحق على أنفسهم!.
فقالوا: يا رسول الله.. إننا لا عذر لنا فى تخلفنا عن الجهاد معك، فخذ لله ولك من أنفسنا وأموالنا ما تشاء! فكانت ثمرة صدقهم، هو هذا الذي انتهى إليه أمرهم..
فالدعوة إلى الصدق هنا وإلى التمسك به، دعوة تجد بين يديها المثل الواقع للخير العظيم الذي يناله الصادقون بصدقهم.. وإن احتمل الصادقون فى سبيل كلمة الحق شيئا من الأذى والضرّ، فى أول الأمر، فإن العاقبة دائما لهم، وهى عاقبة طيبة، مسعدة.. تهيىء لصاحبها الفوز والفلاح فى الدنيا والآخرة..