الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى حال، على مدى الأزمان الطويلة، فتلبس أهل الجنة أحوال وصور، كما تلبس أهل النار أحوال وصور.. فى رحلة طويلة على سفينة الكون السابحة فى رحاب هذا الوجود..!
ومن يدرى.. فلعله يكون لأهل الجنة وأهل النار انتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم.. هكذا فى دورات وأطوار «مادامت السموات والأرض» أي مادام هذا النظام السماوي والأرضى قائما، وهو نظام واقع تحت حكم التبدل والتحول، كما يقول سبحانه «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) كما أنه واقع تحت حكم الزوال والفناء، كما يقول جل شأنه:«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .
الآيات: (109- 115)[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 115]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَاّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
التفسير:
بعد هذا العرض الذي حشرت فيه الآيات القرآنية الكريمة الناس إلى ربهم، وساقتهم إلى موقف الحساب والجزاء بين يديه، وسيق أهل النار إلى النار، وعذابها وبلائها، وزفّ أهل الجنة إلى الجنة، وطيباتها ونعيمها- عادت الآيات لتلقى النبىّ الكريم، بما وجد فى مشاعره من تلك المشاهد التي شهدها ليوم القيامة، وهو أنّ للظالمين يوما عبوسا قمطريرا، وأن العاقبة للمتقين.. فيقول له الحقّ تبارك وتعالى:
والمرية: الشكّ والارتياب.. وما بالنبيّ الكريم شكّ ولا ارتياب، فى أنّ ما يعبده قومه هو الضلال المودي بأهله، والمورد لهم موارد الهلاك والبلاء..
ولكن هذا النهى، هو تأكيد لما فى قلب النبىّ من إيمان بربّه، وتثبيت له على الطريق الذي هو قائم عليه، وإن لقى فيه مالقى من ضرّ وأذى! وفى الإشارة إلى المشركين من قريش بقوله تعالى:«هؤلاء» دون ذكرهم، هو تهوين لشأنهم، واستخفاف بقدرهم، إذ كانوا على هذا السخف والضلال، وإذ كانوا بحيث يعطون مقودهم لأحجار ينحتونها بأيديهم، ثم يقيمونها آلهة وأربابا عليهم! والآباء المذكورون فى قوله تعالى:«ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ» ..
قد يراد بهم آباؤهم الأبعدون، من قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين- الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن كفرهم وضلالهم.. وقد يراد بهم آباؤهم الأولون، من قريش! فالناس هم الناس، والأجيال اللاحقة غرس الأجيال السابقة.
وعلى أىّ فالنّسب متصل إلى أن تضمه تلك الدائرة الكبرى التي تضم هؤلاء الآباء، قريبهم، وبعيدهم، جميعا، وتجمعهم على طريق واحد، هو طريق الكفر والضلال.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم سيوفّون نصيبهم من العذاب، كاملا لا ينقص منه شىء..
الكتاب هنا، هو التوراة.. وهو الذي نزل على موسى، كما نزل القرآن على محمد- عليهما السلام وقد اختلف بنو إسرائيل فى كتابهم هذا، وتغايرت أنظارهم عليه، وكثر جدلهم فيه، فكانوا فرقا وأشياعا، يكفّر بعضهم بعضا.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى فى قوله:«وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران) ويقول سبحانه: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (213:
البقرة) .
- وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» ..
الكلمة هى كلمة الله بأن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وألّا يعجل لهم العذاب فى الدنيا، وهذا ما يسير إليه قوله تعالى:«وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» (14: الشورى) فلولا هذه الكلمة «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» وأخذ الله الظالمين منهم بما أخذ به الظالمين من الأمم السّالفة قبلهم، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، يلقون عنده جزاء الظالمين.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .. الضمير فى:
«إنهم» يعود إلى أهل الكتاب المعاصرين للنبىّ، وهم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين اختلفوا فيه، وقد أشار إليهم قوله تعالى:«وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» فآباؤهم قد اختلفوا فى كتابهم هذا، وتفرقوا شيعا وأحزابا، وأبناؤهم الذين أورثوا هذا الكتاب من بعدهم، فى ريب منه وفى شك فيه، إذ أورثهم هذا الخلاف الذي وقع بين آبائهم فى الكتاب- حيرة، وقلقا، واضطرابا، حيث يجدون لكل أمر جاءهم به الكتاب أكثر من وجه من وجوه الرأى، وأكثر من مذهب من مذاهب الخلاف، فتتفرق بهم السبل، وتزيغ الأبصار، وتضل العقول.. فلا يكون لهم من نظرهم فى الكتاب إلا الارتياب والشك.
«وإن كلّا لمّا ليوفّينهم ربّك أعمالهم إنه بما يعملون خبير» .. أي وإن كلّا من الآباء الذين اختلفوا فى الكتاب، والأبناء الذين ورثوا هذا الكتاب وارتابوا فيه- إن كلّا من هؤلاء وأولئك ليوفينهم ربك أعمالهم، ويجزى كلّا ما هو أهل له.. «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. يزن عمل كل واحد بميزان العليم الخبير، ويجازيه عليه جزاء القادر القاهر.
ووصف الله سبحانه وتعالى هنا بأنه «خبير» ، لأن هذه الصفة هى المناسبة للمقام، إذ كان الخلاف الذي كان بين الآباء فى الكتاب، والريب الذي فى صدور أبنائهم منه، لا يكشفه، ولا يعلم الحق من الباطل فيه، إلا عليم خبير.
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» تحذير لأصحاب القرآن الكريم من أن يختلفوا فيه، فيضلّوا كما ضل اليهود قبلهم، ثم لا يقف الأمر عند هذا، بل يورّثون أبناءهم من بعدهم الشّك والريب فى القرآن، كما ورّث اليهود أبناءهم من بعدهم الشكوك والرّيب. فى التوراة، الأمر الذي أو هى صلتهم بها، وجرّأهم على التلاعب بأحكامها، وتبديل كلماتها وتحريف نصوصها.. فكانوا كما وصفهم الله سبحانه بقوله:«مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46:
النساء) .. وهذه هى صفات من لا يثق فيما بين يديه من الأمر الذي يشغل به..
وقد وصفهم الله سبحانه كذلك فى موضع آخر بقوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) .. إنه إيمان لا ينزل من القلب مكان الاطمئنان، واليقين، وإنما هو إيمان سطحى.. له ظاهر وباطن، أشبه بظاهر المنافق وباطنه! «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
فهذا هو الذي ينبغى أن يكون عليه النبىّ والمؤمنون معه إزاء القرآن الكريم.. وهو الاستقامة على وجه واحد فيه، والوقوف به عند مفاهيمه التي تنطق بها كلماته، دون الالتواء بها، والجدل العقيم فيها.. حتى لا يقع فيه
خلاف، ولا يختلف فيه المسلمون، مثل هذا الاختلاف الذي أفسد على اليهود دينهم..
والأمر للنبىّ الكريم هنا، هو توكيد لهذا الأمر بالنسبة إلى المؤمنين..
فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مستقيم استقامة مطلقة كما أمر الله مع الكتاب الذي أنزله الله عليه، فإذا جاءه الأمر بعد هذا بالاستقامة، فإنما ليرى المؤمنين أن أمر الاستقامة مع القرآن الكريم، يحتاج إلى احتراس شديد، ورقابة دائمة، حتى يحتفظ المؤمن بهذا الوضع المستقيم، مع كتاب الله. وإلا انحرف وضلّ.. وأن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مع ما هو عليه من استقامة مع كتاب ربّه، فإنه قد نبّه إلى هذا، وأمر به، فكيف بغيره من المؤمنين؟
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَطْغَوْا» تأكيد للأمر بالاستقامة على كتاب الله، كما أمر الله.. والطغيان هو مجاوزة حدّ الاعتدال فى أي أمر من الأمور، والخروج به عن الوضع السليم الذي ينبغى أن يوضع فيه.
والمراد بالطغيان هنا، الطغيان فى الاختلاف فى كتاب الله، ومجاوزة الحدّ فيه، وهذا يعنى أن الاختلاف فى ذاته أمر لا حرج منه، بل إنه أمر لا بدّ منه، إذ كان من شأن النّاس أن ينظروا إلى الأمور بعقولهم، ويزنوها بمدركاتهم..
وبعيد أن تتلاقى عقولهم وأن تتعادل موازينهم، على حد سواء.. فكان الاختلاف بينهم أمرا لا يمكن اجتنابه، بل لا يمكن أن تقوم حياتهم بغيره.
ولكن الذي لا يحمد من أمر هذا الاختلاف، هو أن يكون عن هوّى جامح، لا يراد منه البحث عن الحقيقة، بل غايته المراء والإعنات، وذلك هو طغيان، وعدوان على الحقيقة، وتضييع لها..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» إشارة مضيئة مشرقة، إلى أن الاختلاف ينبغى أن يكون عن نظر باحث، وبصيرة نافذة، ابتغاء التعرف
على الحق.. وبهذا يكون اختلاف وجهات النظر بين المختلفين، أضواء مسلطة من كل جهة، على الطريق الموصل إلى الحق، والكاشف عنه..
- «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أي لا تميلوا إليهم، ولا تتبعوا سبيلهم، ولا تأمنوا جانبهم.
وهو نهى عام عن موالاة الظالمين، ومناصرتهم، واتباع سبيلهم.. ومن الذين ظلموا، أولئك الذين يتأولون كتاب الله حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، فيضلّون ويضلون غيرهم..
طرفا النهار: أوله، وآخره.. وهما الصبح، والمساء.
وزلفّا من الليل. الزّلف: جمع زلفى، مثل قربى وقرب.. لفظا ومعنى، ومنه قوله تعالى:«وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي أدنيت إليهم، وقرّبت لهم بحيث ينالونها..
والمراد بالزلف من الليل، أوقات قريبة من الليل.. أي ما يقرب من طرفى النهار، وفيها صلاة الصبح التي هى مدانية لأول النهار، وفيها صلاتا المغرب والعشاء، وهما مدانيتان لآخر النهار.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» إشارة إلى أن فى إقامة الصّلاة حسنات يكتسبها المرء منها، فتذهب بالسيئات التي تقع منه.. وفى التعبير عن الصلاة بالحسنات، إشارة إلى أن الصلاة إذا أديت على وجهها كانت حسنات خالصة..