الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ أكرمهم الله سبحانه وتعالى..، فهداهم بالإيمان إلى الأعمال الصالحة وإلى تقوى الله، والإعداد ليوم لقائه. فكان أن جزاهم ربّهم بما عملوا، جنات تجرى من تحتها الأنهار، ينعمون فيها بما يفضل الله عليهم به، من رزق كريم..
فيسبّحون بجلال الله وعظمته، وما شهدوا من روعة ملكه، ويحمدون له أن وفقهم إلى الإيمان، وهداهم إلى العمل الصالح الذي أرضاه، فرضى عنهم وأدخلهم جناته، وأذاقهم هذا النعيم الذي يتقلبون فيه..
هكذا يعيشون ألسنة تسبح الله، وتحمد له، ويتبادلون السّلام والمودة والمسرّة فيما بينهم:«إخوانا على سرر متقابلين» .. وكما استفتحوا مجالسهم بحمد الله وتنزيهه، يختمونها بالتنزيه والحمد لله ربّ العالمين..
الآيات: (11- 14)[سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ»
الطغيان: مجاوزة الحدّ فى الشر، وبلوغ الغاية فى العدوان والبغي.. ومنه الطاغية، والطاغوت..
ويعمهون: من العمه، والعمه: ما يصيب البصيرة من عمى فلا تهتدى إلى طريق الحق والخير أبدا..
والآية الكريمة تشير إلى موقف المشركين من النبىّ الكريم، وأنهم فى إمعانهم فى تكذيبه وتحدّيه، كانوا يسألون الله أن ينزل عليهم مهلكات من السماء، إن لم يكن ما جاءهم به محمد هو الحق من عند الله، وذلك ليكون مقطع الفصل فيما بينهم وبينه.. فإن يكن ما يقوله الحقّ أهلكهم الله، وأخذهم بدعائهم، وإن لم يكن حقّا لم يصبهم شىء، وافتضح أمره فيهم.. هكذا سوّلت للمشركين أنفسهم، وهكذا أعماهم ضلالهم، حتى طلبوا لأنفسهم البلاء، وتمنّوا العذاب.. ولو كانوا على شىء من العقل والحكمة لكان لهم فى مجال التمنيات ما هو أسلم وأحسن، ولقالوا مثلا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه.. ولكنها الجهالة والعمى والضلال.. «ومن يضلل الله فلا هادى له» .
قوله تعالى:
«وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» .. المراد بالناس هنا مشركو قريش، الذين طلبوا إلى الله أن يعجل لهم العذاب، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم فى آية أخرى:«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (53- 54: العنكبوت) والله سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب، والنبىّ صلى الله عليه وسلم فيهم،
إكراما له، وشفاعة له فيهم.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) .
- وفى قوله تعالى: «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعجّل لهم الخير، ولا يعجّل لهم العذاب، بل يؤخره عنهم لتتاح لهم الفرصة لمراجعة أنفسهم، والاستقامة على طريق الإيمان.. فمن آمن منهم فقد أمن من العذاب فى الدنيا والآخرة، ومن استمسك بكفره وضلاله، فله خزى فى الدنيا وله فى الآخرة عذاب عظيم.. والتقدير. ولو يعجّل الله للناس الشرّ كما يعجل لهم ما يعجّل من خير، لهلكوا، ولأخذهم البلاء، دون أن تتاح لهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وتصحيح لوضعهم المقلوب، الذي اتخذوه من دعوة الحق التي يدعون إليها.
- وفى قوله تعالى: «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لو عجّل لهم الشرّ الذي يتمنونه لأهلكهم جميعا فى لحظة خاطفة.. ولكنه سبحانه يؤخرهم لأجل معدود، ولا يأخذهم بعاجل ما يستحقون من عقاب، إكراما للنبىّ الكريم، ولمقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» (58: الكهف) .
- وفى قوله سبحانه: «فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ..»
إشارة إلى المحذوف، الذي دل عليه العطف بالفاء.. والتقدير.. ولو يعجّل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير، لقضى إليهم أجلهم.. ولكنا نمدّ لهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا منهم فى طغيانهم يتخبطون، فى بحر متلاطم الأمواج.
وهذه الآية غير مقيدة بأسباب نزولها، بل هى مطلقة، حيث يقع تحت حكمها الناس جميعا.. فقد كان من رحمة الله بالنّاس أن أمهلهم، فلم يعجّل لهم
العقاب الذي يستحقونه بما فعلت أيديهم.. وذلك أنه- سبحانه- لو آخذ كل إنسان بذنبه عاجلا لقضى إليه أجله بعد كلّ ذنب يقع منه، ولكان الناس جميعا فى معرض الهلاك، إذ لا يسلم إنسان من أن يواقع معصية، أو يرتكب ذنبا.. وهذا من شأنه ألّا يدع لإنسان فرصة ليكفّر عن خطيئته، ويستغفر لذنبه، ويرجع إلى ربّه.. وفى هذا يقول الله تعالى:«وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ.. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» (45: فاطر) .
وإذن فهذه نعمة من نعم الله على الناس، ورحمة من الله بهم أن لم يعجّل لهم الشّرّ، وهو أخذهم بذنوبهم من غير إمهال.. وهذا من شأنه أن يكون داعية لأن يعيد الإنسان النظر إلى نفسه، وأن يصلح ما أفسد، وأن يتصالح مع ربّه فيما ارتكب من إثم، فتلك فرصة ينبغى ألا يفوته انتهازها، وهو فى عافية من أمره، وفى فسحة من أجله.
والتعبير عن التعجيل بالعقوبة، وتنفيذ حكم الله فى المذنب بإهلاكه- والتعبير عن هذا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الإنسان الذي يقع عليه هذا الحكم، فهو شر بالنسبة له، إذ يحول بينه وبين أن يجد الفرصة التي يصحح فيها موقفه، ويرجع إلى ربه.
قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن ضلال الإنسان، وكفره بنعم الله، وجحوده لأفضاله عليه، وإحسانه إليه.
فالإنسان- مطلق الإنسان- هو كما وصفه الله سبحانه، فى قوله عزّ من قائل:«إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (19- 23: المعارج) وقوله سبحانه: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (6- 7: العلق) فالإنسان فى كيانه، هو واه ضعيف.. لأنه خلق من ضعف، كما يقول سبحانه:«اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» (54: الروم) .. وكما يقول جلّ شأنه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28: النساء) .. ولكنه حين تلبسه القوة، ينسى ضعفه، ويستولى عليه الغرور، ويستبدّ به العجب والخيلاء، فإذا هو مارد جبار، وسفيه أحمق، وطائس نزق.. يحارب ربّه، ويكفر بخالقه، ويستعبد الناس، أو يتعبّد هو للناس، ولا يتعبد لربّ العالمين! - وفى قوله تعالى:«وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» .. نجد التعبير بالمسّ هنا مفصحا عن مدى ضعف هذا الإنسان وخوره..
وأن مجرّد مسّ الشرّ له، يكر به ويزعجه، ويفسد عليه حياته.. وإذا هو صاخ إلى الله، ضارع بين يديه.. يدعو فى كل حال يكون عليه: لجنبه، أو قاعدا، أو قائما.. فهو من لهفته وانحلال عزيمته، يدعو بكل لسان، ويستصرخ بكل جارحة..
- وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» .. نجد أن هذا الإنسان الصارخ الضارع المستسلم المستكين، حين يرفع الله عنه البلوى، ويكشف ما به من ضر، يمكر بفضل الله عليه، وينسى رحمته به..
ويمضى فيما كان فيه من كفر وضلال.. كأن ضرّا لم يكن قد مسّه، وكأن حالا من الذّلة والاستكانة لم تكن قد لبسته، وكأن رحمة السماء لم تمدّ يدها إليه وتستنقذه من الهلاك المطبق عليه!! هكذا الإنسان، كما وصفه خالقه فى قوله تعالى:«وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (83: الإسراء) وفى قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، الذين لا يرعوون عن كفرهم، ولا ينزعون عن ضلالهم، ولا يستمعون لدعوة خير، ولا يستجيبون لرائد هدى، ورسول رحمة، لا يتعظون بما يحلّ بهم من غير، وما يلبسهم من نعم! لقد استمرءوا هذا الضلال الذي هم فيه واستحبوا العمى على الهدى:«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» .
هو تهديد أيضا ووعيد للكافرين والضالين، الذين وقفوا من الدعوة النبوية هذا الموقف المتصدّى لها، أو الحائد عنها..
فلقد أخذ الله المكذبين الضالين من الأمم قبلهم بالبأساء والضرّاء حين عتوا عن رسل ربّهم، وكذّبوا بهم.. وذلك هو الجزاء الذي يجزى به الظالمون.. لا جزاء لهم غير أن يؤخذوا بنقم الله ويلقوا فى جهنّم خالدين فيها..
وها أنتم أولاء، أيها المشركون، قد خلفتم هؤلاء الأقوام، وورثتم ديارهم،