الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا المثل، وأن ينظروا إلى ما فيه من عبرة واعتبار! .. فعلى ضوء هذا المثل ينكشف الفرق بين المؤمنين والكافرين!
الآيات: (25- 31)[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَاّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
التفسير:
مناسبة هذه القصّة، لما قبلها أنها تعرض من الماضي صورة للصراع بين
الحق والباطل، وبين المحقّين والمبطلين، بعد أن عرضت الآيات السابقة موقفا قائما بين النبىّ وقومه، وما يدعوهم إليه من هدى وخير، وما يلقونه به من صدّ وتكذيب! وفى ذكر أخبار الأولين، وما فى تلك الأخبار من مواقف مشابهة للأحداث الجارية التي يعيش فيها الناس يومهم هذا، تذكير لهم بتلك الحقيقة التي تقررت بحكم الواقع، وهى أن النصر دائما للمؤمنين، وأن الخزي والهوان دائما على المكذبين الكافرين..
وقصة نوح وقومه، هى أولى الأحداث الإنسانية، التي اصطدم فيها رسول من رسل الله بقومه.. ثم تجىء بعد هذا قصص مشابهة لها، يجىء بها القرآن مرتبة ترتيبا زمنيا، حسب وقوعها.. قصة «عاد» ونبيّهم «هود» وقصة «ثمود» ونبيّهم «صالح» .. وهكذا.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وعيسى.
فهذا نوح- عليه السلام يلقى قومه برسالة ربه، منذرا إياهم بالعذاب الأليم، إن هم لم يستجيبوا له، ويؤمنوا بالله رب العالمين.. ومبشرا لهم بالجنة والرضوان إن هم آمنوا بالله، وأخلصوا دينه له.. «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» وهذا أول صوت نسمعه من نوح، يؤذّن به فى قومه، فى هذه القصة..
ولا شك أن هناك أحداثا كثيرة، طواها النظم القرآنى، ولم يذكرها، إذ هى مما يفهم بداهة.. كمجىء نوح إلى قومه، ودعوته لهم، وشرحه لرسالته فيهم.. ومن قبل ذلك، كان إعلام الله سبحانه وتعالى إيّاه باختياره للنبوة، واصطفائه بالرسالة، ثم تلقيه مضمون هذه الرسالة.. وهكذا..
وفى قول نوح لقومه: «إنى لكم نذير مبين. ألّا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم» هو تلخيص لمضمون رسالته، وضبط لمحتواها.. فهو نذير بليغ، يحذرهم عذاب الآخرة..
- والضمير فى قوله تعالى: «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.. وهو- جلّ شأنه- وإن يكن لم يجر ذكره فى اللفظ، فهو مذكور على كل حال، وفى كل زمان، ومكان، وفى هذا إشارة إلى أن ما فيه الضالون من غفلة عن الله، وشرود عن ذكره، هو أمر خارج عن مقتضى الطبيعة الإنسانية السليمة الرشيدة..
هذا هو الجواب الذي استقبله نوح من قومه، ردّا على دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله..
«ما نراك إلا بشرا مثلنا» .. فهذا هو ما رابهم من أمر نوح ومن دعوته..
إنه بشر مثلهم.. وليس لبشر- كما قدّروا ضلالا وجهلا- أن يكون أهلا للسفارة بين الله والناس! وقد كان الأولى بهم أن ينظروا أولا فى وجه الدعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، قبل أن ينظروا فى وجه هذا الرسول.. فإذا كانت دعوة فيها خيرهم ورشدهم، كان من الحكمة والرأى، أن يقبلوها، ولا ينظروا فيما وراءها..
وإلا كان لهم أن يقفوا منها الموقف الذي يدلّهم عليه العقل والرأى..
- وقوله تعالى: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» هو إشارة إلى مدخل من مداخل الريب والشك عندهم، فى أمر نوح وفى دعوته، وهو أن الذين استجابوا لنوح، هم من ضعفة القوم والمرذولين فيهم، والرّذل من كل شىء هو الخسيس منه..
فالذين استجابوا لدعوة نوح، كانوا من الذين لم تقم لهم فى مجتمعهم رياسة، أو تقع لأيديهم سلطة، يخشون عليها من هذا الطارق الجديد، الذي يطرقهم بتلك الدعوة، التي يخشى منها أرباب الجاه والسلطان، أن تكون سببا فى تغيّر الأحوال التي اطمأنوا إليها، وشدّوا أيديهم عليها..
وهكذا، يكون الموقف دائما فى مواجهة كل جديد، يطلع على الناس..
فأصحاب الجاه والسيادة والسلطان، يتصدّون له، ويقفون فى وجهه، لأنه غالبا لا يطلع عليهم إلا بما يبدّل من أحوالهم، ويغيّر من أوضاعهم.. أما من لا سلطان لهم ولا جاه، فإنهم يستقبلون الجديد، وينظرون فيه نظرا غير محجوز بهذه الحواجز التي يقيمها المال والجاه والسلطان، بين أهله وبين كل جديد..
- وفى قولهم: «بادِيَ الرَّأْيِ» إشارة إلى أن الذين انبعوا نوحا هم- فى نظر أصحاب السيادة والسلطان- من أراذل القوم، الذين لا يخفى أمرهم على أحد، ولا يحتاج التعرف عليهم إلى بحث ونظر، بل إن النظرة الأولى تحدّث عنهم، وتمسك بهم! فلا خلاف بين القوم على منزلتهم الاجتماعية فيهم، وأنهم بحكم فقرهم وضعفهم، موضوعون فى أدنى درجات السّلّم الاجتماعى! هكذا ينظر إليهم القوم، وهكذا يحكمون عليهم..
- وفى قوله تعالى: «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» تأكيد للرأى الذي رآه القوم فى نوح وفيمن اتبعه، وأنه لا فضل لنوح والذين معه على القوم، فكيف يدعونهم إلى متابعتهم، والتابع من شأنه أن يكون دون المتبوع ووراءه.. فهل يعقل- والأمر كذلك- أن يكون نوح ومن معه متبوعين، ويكون القوم أتباعا لهم؟
ثم لا يكتفى القوم بهذا، بل يرمون نوحا ومن اتبعه بالكذب والبهتان
على الله.. والظن هنا يقين.. بدأ عند القوم ظنّا، ثم استحال مع الجدل والعناد، يقينا..
البيّنة: الحجة والبرهان والدليل، الذي به يتبين الإنسان موقفه من الأمر الذي معه..
والرحمة: النعمة التي أنعم الله بها عليه، وهى التعرف على الله، والإيمان به..
عمّيت عليكم: أي خفى عليكم أمرها، وعميت أبصاركم عنها..
أنلزمكموها: أصلها أنلزمكم إياها.. والإلزام بالأمر: الحمل عليه بالقهر والقوة..
و «ها» فى قوله تعالى: «أنلزمكموها» ضمير بعود إلى الرحمة، وهى الإيمان بالله.
وفى هذا الردّ الذي ردّ به نوح على قومه إشارة إلى أن المعتقد الديني لا يكون عن قهر وإكراه، وإنما هو أمر لا يتمّ إلا عن اقتناع، وقبول، ورضا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» ..
وقد أشرنا من قبل إلى معنى البينة عند تفسير قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» (الآية 17 من هذه السورة) وقلنا إن البينة هى الفطرة السليمة المركوزة فى كيان الإنسان، والتي يجد منها صاحبها الدليل الذي يدلّه على الله سبحانه وتعالى، من غير أن يرد عليه وارد من الخارج، يدلّه على الله.. فإذا جاء هذا الوارد، كان رحمة وفضلا من الله سبحانه، إلى ما أودع الله فى الإنسان من فطرة سليمة.، وعقل مدرك مبصر.
ومن حجّة نوح على قومه، أنه إذ يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه، وإذ يحتمل فى سبيل ذلك ما يحتمل من جهد وبلاء- أنه لا يسألهم أجرا على هذا العمل، الذي يحتمل من أجله ما يحتمل من عناء، وإنما هو حسبة لله.. ولو أن نوحا كان يبغى بما يدعوهم إليه أجرا منهم، أو نفعا ذاتيا له، لكان لهم أن يظنّوا به الظنون، وأن يرتابوا فى أمره، وفى هذا الإلحاح الّذى يلحّ به عليهم، رغم ما يجبهونه من تكذيب، وما يرمونه به من ضرّ..
وإذ كان الأمر كذلك، فإنه مقيم على دعوته، ممسك بمن استجاب له من قومه، وإن كانوا كما يقولون فيهم، إنهم أراذلهم! .. ذلك أن القوم جميعا مدعوون إلى الله، ولا يأخذ الداعي أجرا من المدعوّين، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء.. أصحاب جاه وسلطان، أم مجردين من كل جاه وسلطان..
فالباب مفتوح، لكل من يريد الدخول إلى ساحة الله، ومن دخلها مستجيبا لدعوة الله، فإنه من غير المقبول أو المعقول أن يطرد بعد أن أجاب.. فهؤلاء الذين آمنوا هم فى طريقهم إلى الله، ولن يطردهم ويردّهم من دعاهم إليه..
ولكنّ القوم فى جهل وضلال، لا يرون حتى هذه البديهيّات من الأمور.
قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ.. أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .
أي إن الجماعة الذين آمنوا قد أصبحوا فى ضيافة الله، فكيف أعتدى على ضيوف الله؟ وكيف أطردهم من ساحته وقد تحصّنوا به، ونزلوا فى حماه؟
أفلا يحمى الله- سبحانه وتعالى ضيوفه؟ أفلا يأخذ على يد من يعتدى على من كان فى ضيافته، ومن احتمى فى حماه؟ إن ذلك ما لا بد أن يكون.. فلله سبحانه وتعالى غيرة على حرماته أن تنتهك.. فهل إذا انتهك نوح حرمة الله، وطرد المتحرمين بهذه الحرمة، ثم أخذه الله ببأسه.. أفي القوم من ينصر نوحا ويدفع عنه بأس الله إن جاءه؟ .. ذلك محال..
وإذن فلن يطرد نوح من آمن بالله، ولن يخلى مكانهم لهؤلاء السادة الذين يأبون أن يكونوا هم وهؤلاء «الأرذلون» على مائدة واحدة، ولو كانت مائدة الله، الممدودة لعباد الله!! قوله تعالى:«وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ.. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» .
إنه ليس بين يدى نوح ما يقدّمه لهؤلاء القوم، الذين يقدّرون خطواتهم التي يخطونها نحو أمر من الأمور، بقدر ما يمكّن لهم هذا الأمر من سلطان، وما يكثّر فى أيديهم من أموال..
إنه ليس معه شىء يغريهم به، ويشدّهم إليه نحو هذه الدعوة التي يدعوهم إليها..
إنّه ليس عنده خزائن الله، حتى يملأ أيديهم منها.. فذلك إلى الله وحده..
وإنه لا يعلم الغيب، حتى يكشف لهم عن مسالك الطرق التي يأخذونها إلى غايات النجاح والفلاح، وإنه ليس ملكا من السماء، يملك من القوى ما لا يملكون.. إنه بشر مثلهم!!