الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أهلها حجارة من سجيل، أي من صوّان أملس.. «مَنْضُودٍ» أي منتظم، كما تنتظم الحبات فى العقد.!
وهى حجارة.. «مُسَوَّمَةً» أي معلمة، وموسومة بسمات خاصة، «عِنْدَ رَبِّكَ» أي قد أعدّها الله سبحانه وتعالى، لهلاك الظالمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا..
- وفى قوله تعالى: «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» .. تهديد لمشركى قريش، وتلويح بهذه الحجارة المرصودة لهلاك الكافرين والمحادّين لله- تلويح بها فى وجوه هؤلاء المشركين من أهل مكة وأنها قريبة منهم، وأنّهم على وشك أن يمطروا بها، وأن يصيروا هم وقريتهم إلى هذا المصير الذي انتهى إليه قوم لوط وقريتهم.
الآيات: (84- 88)[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 88]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَاّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
التفسير:
وموقف شعيب مع قومه، هو موقف نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، مع أقوامهم.. دعوة منه لهم إلى الله، وإلى الإيمان به، والاستقامة على صراطه المستقيم.. وخلاف منهم عليه، وتنكّر لما كانوا يعرفونه منه، من خلق ودين! وأنبياء الله- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- كانوا عند أقوامهم قبل دعوتهم إلى الله، بالمنزلة العالية من الاحترام والتقدير، لحسن سيرتهم، واستقامة سلوكهم، فلما أعلنوا فيهم أنهم رسل الله، وأنهم يحملون إليهم كلمته، شغبوا عليهم، وأنكروا منهم ما كانوا يعرفون.. حسدا، وبغيا..
فهذا صالح- عليه السلام، يقول له قومه:«يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا» وهذا شعيب- عليه السلام يقول قومه له: «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» !! وهذا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- يقول له الحق تبارك وتعالى عن قومه: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..
وهكذا الأنبياء جميعا.. هم صفوة الله المصطفون من عباده.. يأخذون مكان الصدارة فى أقوامهم، وينزلون منهم منازل الإعزاز والإكبار، فى كمال الخلق، وحسن السيرة، حتى إذا آذنوهم بأنهم رسل الله إليهم، أنكروا منهم ما عرفوا، وأصبح ما كان بالأمس حبّا وإكبارا، عداوة وطعنا وتسفيها.
ومدين: على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام.. وقد نسب إليها القوم الذين كانوا يعيشون فيها، وهم قوم شعيب! ودعوة شعيب إلى قومه، هى دعوة كل نبى، جاء ليصحح عقيدة قومه التي لعبت بها الأهواء، وأفسدها الجهل والسفه..
فهو يدعوهم إلى الإيمان بالله، وترك ما بين أيديهم من معبودات غيره:
«يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. تلك هى مفتتح دعوته، بل وخاتمتها.. فالإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، هو الفلك الذي تدور حوله تعاليم الأنبياء، وهو الينبوع الذي ترتوى منه قلوب المؤمنين، والمغترس الذي تغتذى منه وجداناتهم ومشاعرهم، والمصباح الذي تستضىء به أبصارهم، وتهتدى به بصائرهم.. فإذا عرف المرء ربه وآمن به، عرف الطريق إلى كل خير، وتفتح قلبه لاستقبال كل رشاد..
ولهذا فقد جاءت دعوة شعيب لقومه، بألّا ينقصوا المكيال والميزان- بعد دعوتهم إلى الإيمان بالله:«اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ» .. وذلك أنهم لو آمنوا بالله لكان تقبلهم لدعوته تلك، أمرا مقبولا عندهم، لا يراجعونه فيه..
وفى قوله: «إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ.. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» تحريض لهم على الإيمان بالله، وإغراء لهم باستنقاذ أنفسهم من الهلاك، لأنه يتوسم فيهم الخير، ويضنّ بهم أن يكونوا من أهل الشقوة والبلاء فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. ويصحّ أن يكون قوله:«إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» مرادا به أنهم فى حال من الرخاء والنعمة وسعة الرزق، بحيث لا تضطرهم الحاجة إلى الخيانة فى الكيل والميزان. والرأى الأول أولى.
وفى وصف العذاب بأنه عذاب يوم محيط، إشارة إلى شناعة هذا العذاب
وأنه عذاب لا يفلت منه من حقّ عليه، ووقع تحت حكمه..
«وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» القسط، والقسطاس: العدل.. والبخس: النقص، واغتيال الحقوق..
وبخس الشيء: عدم أدائه على وجهه كاملا..
ولا تعثوا فى الأرض: عاث، يعيث عيثا، أي ضرب فيها من غير مبالاة، فيكون من ذلك التخبط والفساد.. ولهذا لا يستعمل هذا الفعل إلا مقترنا بالفساد.. تأكيدا له، واستخراجا لمحتواه ومضمونه.
وفى إعادة لوط دعوته إلى قومه بالوفاء بالكيل والميزان، توكيد لهذه الدعوة وتقرير لها، فهو قد نهاهم أولا عن إتيان هذا الفعل المنكر، ثم دعاهم إلى إتيان ما ينبغى لهم إتيانه، بعد أن ينتهوا عما نهوا عنه.. وهو أن يوفوا المكيال والميزان، وبهذا يجىء المطلوب منهم على وجهه كاملا.. فقد ينتهى المرء عن الشيء المكروه، ولكنه لا يفعل المحبوب الذي يقابله.. وذلك وقوف منه عند منتصف الطريق إلى الغاية المدعوّ إليها من بلوغ الخير.. وهو موقف سلبى، لا ترضاه الحياة منه.. وإنه لحسن أن ينتهى الإنسان عن الشر، ولكنه ليس بالحسن أن يكون أداة معطلة عن فعل الخير..
هذا، ولم يكرر شعيب دعوته لقومه إلى الإيمان بالله، لأنه جاءهم بها من أول الأمر، أمرا لازما:«اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ثم جاءهم بها فى دعوة تطبيقية لها، فى قوله تعالى بعد ذلك:
«بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي أن ما تدخرونه عند الله من أجر، وما تستبقونه عنده مما يفوتكم من حظوظ الدنيا، هو خير لكم، وأبقى.. وإنكم لتعلمون هذا إن كنتم مؤمنين بالله،
وما له من سلطان وحكم فى عباده.. ولست عليكم رقيبا، يحفظ عليكم أعمالكم، ويحاسبكم عليها، إنما ذلك إلى الله وحده.. وإنما أنا نذير مبين، أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
وبهذا المنطق السفيه، يردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي يدعوهم إليها نبى كريم، بلسان عفّ، وبأسلوب يفيض رقّة وحنانا ومودة..
«يا شُعَيْبُ» !؟ هكذا فى جفاء وغلظة، ينادونه باسمه مجردا، دون أن يضيفوه إليهم بنسب، كأن يقولوا: يا أخانا، أو يا أبانا، أو يا ابننا.. أو نحو هذا.. ثم يتبعون هذا قولهم فى استهزاء وسخرية:«أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ؟ وهم يريدون بالصلاة، الدّين الذي يدين به، إذ كانت صلاته التي يرونها منه، هى المظهر العملي لهذا الدين.!
يعنون بهذا أن الدين الذي يدين به ويدعوهم إليه- هو الذي حمل شعيبا على أن يدعوهم إلى ترك ما كان يعبد آباؤهم من آلهة، وإلى ترك التصرف فى أموالهم، والتسلط عليها حسب ما يشاءون؟ أفهذا دين يدين به العقلاء؟ وأي دين هذا الذي يخرج الناس عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم؟ وأي دين هذا الذي يدخل على الإنسان فيما بينه وبين ما فى يديه من مال، فلا يدعه يتصرف فيه كما يشاء.. ويشترى بالأسلوب الذي يرضاه، ويبيع بالوجه الذي يعجبه؟
فما للدين ولهذا؟ فليزن المرء بالميزان الذي يحقق له الربح، وليكل بالمكيال الذي يضاعف من ربحه! فذلك حقّنا فى أموالنا! ولا ندرى كيف ساغ لشعيب هذا الدين الذي يذهب به هذا المذهب المجانب للصواب، والمجافى للعقل، وهو- فيما نعلم- الحليم الرشيد؟ أفهذا يكون من حليم رشيد؟
هكذا كان منطق القوم مع تلك الدعوة الكريمة، ومع هذا النبي الكريم.. يسخرون منه، ويسفّهونه، ويستحمقونه، وهم- على ما كانوا يعهدون منه- الحليم الرشيد.. «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» .
والحليم: من الحلم، وهو العقل.. وهو ضد السفاهة، والجهل..
كما يقول الشاعر:
أحلامنا تزن الجبال رزانة
…
وتخالنا جنّا إذا ما نجهل
والرشيد، ذو الرشد، وهو الكامل العقل..
وكذلك كان شعيب عليه السلام، غاية فى كمال العقل. وسلامة الإدراك.
وبمنطق الحليم الرشيد، يردّ شعيب على قومه:«يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً؟» .
أي إذا كان هذا ظنكم بي، وتقديركم للدعوة التي أدعوكم إليها، فكيف يكون الحال لوأننى كنت على بينة من ربّى، وعلى نور وهدى منه، وأن ذلك رزق حسن رزقنى الله إياه، وأنا أدعوكم إلى مشاركتى فى هذا الرزق الحسن- كيف يكون الحال إذن لو فاتكم حظكم من هذا الخير الذي أرتاده لكم وأوردكم موارده؟ .. إننى لا أبغى من وراء هذا الذي أدعوكم إليه إلا خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم، وما أريد أن أصرفكم عن هذا الذي أنها كم عنه لأخلفكم عليه، وأستأثر به دونكم.. فما أنتم عليه إلا الضلال، وإلا الهلاك، الذي ليس للعاقل إلا اجتنابه، والفرار منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى