الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى جزم الفعل «ننج» ما يكشف عن مزيد من فضل الله وكرمه وإحسانه إلى عباده المؤمنين.. ففى مجىء الفعل «ننج» مجزوما، ولا جازم له، يفتح الطريق إلى تقدير فعل أمر، ليقع هذا الفعل تحت سلطان الأمر من الله سبحانه وتعالى.. وهو أمر من الله سبحانه، إلى الله سبحانه!! والتقدير: كذلك حقّا علينا إنجاء المؤمنين.. فلننجهم إذن!! فسبحانه من ربّ كريم، يفيض على المؤمنين من عباده ما لا يفيض الأب البرّ الرحيم على صغاره، من حدبه، وعطفه، وتبسطه معهم، وتدليله لهم.!
الآيات: (104- 107)[سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
التفسير:
المراد بالنّاس هنا هم المشركون، الذين لم يستجيبوا للرسول، وأمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. وجواب الشرط هنا جاء على غير ما يقتضيه السياق..
فالشرط وهو قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» مطلوبه أن يكون الجواب على هذا النحو.. فلا تدخلوا فى هذا الدين.. أو: فأنتم وشأنكم..
ولكن الجواب الذي جاء به القرآن الكريم، هو الجواب الذي لا يجىء إلّا من الحكيم العليم.. رب العالمين.. هكذا:«فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وفى هذا الجواب تنكشف أمور:
فأولا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- متمسّك بهذا الدين، الذي يشكّ فيه هؤلاء الشاكّون، وأن شكوكهم لا تثير فى نفسه أىّ ريب فى هذا الحق الذي بين يديه.. وفى هذا ما ينبىء عن ثقة النبىّ، ويقينه، بهذا الدّين الذي يؤمن به، ويدعو إليه.
وثانيا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لن يتحول عن هذا الدّين، إلى الدّين الذي عليه هؤلاء المشركون، ولن يعبد تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله..
وثالثا: أن هذه الآلهة التي يعبدونها هى الضلال.. ولا يعبدها إلّا الضالّون، ولا يمسك بها إلّا المبطلون.. وأن آلهتهم تلك لا تملك لهم ضرّا، وأنهم لو تركوها، ونفضوا أيديهم منها، فلن تضرّهم شيئا.. أما الله سبحانه وتعالى، الذي يعبده «محمد» ويدعو إلى عبادته، فهو الذي يملك الضّرّ لهم.. إنه هو الذي يتوفّاهم، ويتولىّ حسابهم وجزاءهم على ما كان منهم من كفر وضلال.
رابعا: أنه- صلوات الله وسلامه عليه- متّبع لما أمر به، وهو أن يكون
من المؤمنين.. فهو من المؤمنين، لأنه مؤمن بهذا الدّين الذي أمر أن يدين به، وهم غير مؤمنين، لأنهم لا يدينون بدين الله..
قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .
«الواو» هنا فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» هى واو العطف، على تقدير أن الخبر قبلها وهو قوله تعالى:«وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» هو فى معنى الأمر، أي تلقيت هذا الأمر، بأن قيل لى: كن من المؤمنين، «وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين» فجعل قول الله سبحانه وتعالى له- صلوات الله وسلامه عليه- أمرا لازما لا انفكاك له منه، وهذا أبلغ فى الدلالة على الامتثال والطاعة والولاء..
وإقامة الوجه على الأمر: فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» كناية عن الاشتغال به وحده، دون التفات إلى سواه.. ومنه قوله تعالى:
«يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» (9: يوسف) .. وذلك أن الوجه إذ يستقيم على طريق، فإنه لا يلتفت إلى طرق أخرى.. فإقامة الوجه على الدّين: توجيه الوجه إليه كله، دون أن يخطف خطفة بصر إلى غيره..
والحنيف: هو المائل عن طريق إلى طريق.. والمستقيم على دين الله، قد مال باستقامته تلك عن كل طريق، وأخذ طريق الله طريقا..
وفى التعبير بلفظ «الحنيف» بمعنى المائل عن الضلال إلى الحق، إشارة إلى أن أكثر الطرق هى طرق الضلال، وأكثر الناس هم الضالون، القائمون على هذه الطرق.. وخروج إنسان من الناس عن هذه الطرق، وميله عن الجماعات التي تسلكها، هو أمر يحتاج إلى مكابدة وعناء، كما أنه أمر ملفت للنظر، جدير بالتنويه.. فهو أشبه بالخروج على الإجماع! - وفى قوله تعالى:«وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين،
وتهديد لهم، إذ كانوا على أمر محظور منهىّ عنه، يتعرض مقترفه للنقمة والبلاء..
قوله تعالى: «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ» هو تعريض أيضا بالمشركين، وتهديد لهم، وأنهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم، وأنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وباعوها فى سوق الضلال، بهذا النّقد الزائف، الذي لا قيمة له إذا عرض فى سوق الحق! وفى خطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه بهذا النهى، تغليظ لشناعة المنهىّ عنه، وتهويل للخطر الذي يتهدد الناس منه، وأن على كل إنسان أن يوقظ وجوده كله، حتى لا يقع فى هذا المحذور أو يدنو منه.. وكفى أن يكون المنهي عنه هو الشرك بالله، وكفى أن ينبّه النبىّ الكريم إلى هذا الخطر، وهو أعلم الناس به، وأبعدهم عنه.
إن الذي يعبده المشركون من آلهة، هو سراب خادع، ووهم باطل.. إنها لا تملك ضرّا ولا نفعا.. وإن الذي يملك الضّرّ والنفع هو الله سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له فى هذا الوجود، ولا فيما يجرى على هذا الوجود من أمور فإذا مسّ الإنسان ضرّ- أىّ ضر- فلا يكشف هذا الضرّ عنه إلا الله..
وإن أصاب الإنسان خير- أي خير- فهو مما أراده الله، وقدّره، وأجراه له..
لا يستطيع أحد فى هذا الوجود أن يردّه، أو ينقص منه، أو يؤخر وقته المقدور فى علم الله..
وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ بهذا الحكم الذي قضى الله به فى عباده، ما يشعر بأن النبىّ- وهو من هو عند الله، قربا وحبّا- خاضع لهذا القضاء..