الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» .. أي لا أريد بدعوتكم إلى ترك عبادة الأصنام، أن أعبدها، وأستخلص عبادتها لى من دونكم.. وما أبغى بدعوتكم إلى الوزن بالقسطاس، والكيل بالعدل، أن أعود أنا فأخسر المكيال والميزان، وأستأثر بهذا الربح الحرام الذي كان يعود إليكم، من تلاعبكم بالمكاييل والموازين.. كلا «ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» ..
يقال: خلفه، وخالفه: أي جاء خلفه، وأخذ مكانه الذي كان فيه.
- «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» أي هذا هو كل الذي أبغيه مما أدعوكم إليه، ما أريد به إلا الإصلاح، إصلاح أمركم، وإقامة ما أنتم فيه من زيغ وعوج، وذلك فى حدود ما أقدر عليه. وهو النصح لكم، وليس لى أن أكرهكم على شىء ولو كان فى يدى السلطان القاهر..
- «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» فإذا وفّقت إلى بلوغ هذه الغاية التي أريدها.
أو إلى شىء منها، فذلك بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.. وليس ذلك من عملى، فما أنا إلا زارع يزرع، والله سبحانه هو الذي ينبت الزرع، ويخرج الحبّ والثمر..
- «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. أي أننى معتمد على الله، مستند إليه فى سعيى وعملى، وراجع إليه فيما أسعى وأعمل.. فهو سبحانه الذي يملك كل شىء.. ويملك منّى ما لا أملك من نفسى.
الآيات: (89- 95)[سورة هود (11) : الآيات 89 الى 95]
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
التفسير:
لا يجر منّكم: أي لا يحملنّكم على كسب الجرم، وإتيان المنكر..
والشقاق: الخلاف عن عناد.. وفى هذه الآية يتابع شعيب- عليه السلام النصح لقومه.. وفى كل مرة يدعوهم إليه بتلك الكلمة الودود: «يا قَوْمِ» أي يا أهلى، ويا أحبابى. «لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي» أي لا يكن عنادكم لى، وخلافكم علىّ، سببا فى ارتكاب هذا الجرم الغليظ فى حق أنفسكم، فتقتلوا أنفسكم بأيديكم! إن امتناعكم عن الاستجابة لى، وعن قبول الخير الذي أبسط به يدى إليكم، هو جريمة تقترفونها فى حق أنفسكم، وتتعرضون لأن
يصيبكم من الله ما أصاب الظالمين من قبلكم.. قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط الذين لم يبعد الزمن كثيرا بينكم وبين ما حلّ بهم من عذاب الله ونقمته..
وقد جاءت قصص هؤلاء الأقوام فى القرآن الكريم حسب ترتيبها الزمنى.. قوم نوح، ثم قوم هود، ثم قوم صالح، ثم قوم إبراهيم وقوم لوط، ثم قوم شعيب، ثم موسى وقومه.. ولم يكن التزام القرآن لهذا الترتيب متابعة لمنطق التاريخ فى تسجيل الأحداث، وإنما لغاية أبعد من هذا وأعمق.. هى ما ينكشف من تسلسل الأحداث على هذا الترتيب، من تطوّر الإنسانية، وانتقالها من طور الطفولة، إلى أطوار الصبا، والمراهقة، والشباب.. حتى تبلغ تمامها عند التقائها بالرسالة الإسلامية «1» على يد خاتم المرسلين «محمد» عليه صلوات الله وسلامه.
«وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» .. أي فإن استمعتم نصحى، واستجبتم لى، فأقبلوا على الله مستغفرين تائبين.. «إِنَّ رَبِّي» الذي أدعوكم إليه «رحيم» بعباده، «ودود» لهم- بما يضفى عليهم من رحمته، وفضله، ورضوانه! وفى العدول عن لفظ «ربكم» الذي يقتضيه النظم- إلى قوله:«ربى» تحريض لهم على مشاركته فى الانتساب إلى هذا الرب الرحيم الودود، ربّ شعيب الذي أضاف نفسه إليه، ونال مانال من رحمته وودّه.. أما إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى:«وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» فهى إضافة قهر وإلزام، رضوا بذلك أم لم يرضوا، آمنوا به أو لم يؤمنوا.. والمطلوب منهم
(1) اقرأ فى هذا دراستنا لهذه القضية فى كتابنا «إعجاز القرآن» - الجزء الثاني.
هو أن يضيفوا هم أنفسهم إلى الله، وأن يؤمنوا به، حتى ينالوا رحمته وودّه وبغير هذا، فإنهم مطرودون من رحمة الله، مبعدون من ودّه.. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» (96: مريم) .
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» .
«يا شُعَيْبُ!» هكذا، وفى كل مرة، ينادونه باسمه مجردا.. فى جفاء..
وغلظة.. على حين أنه يناديهم أبدا بيا قوم، متوددا متلطفا! وشتان بين أدب النبوة، ومنطق السفهاء! - «ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» .. أي إنك تخلط فى كلامك، وتأتى بالمحال من القول، فلا نفقه ما تقول، ولا نرى له مدخلا إلى عقولنا.. وإنا إذ نزنك بنا نجدك ضعيف الرأى، طائش الحلم، «وَلَوْلا رَهْطُكَ» أي قرابتك وأهلك الأدنون، «لَرَجَمْناكَ» إذ لا يحق للسفيه الأحمق أن يعيش بين العقلاء! «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» إذ كانت تلك صفتك، وهذا هذيانك فينا..!
إن شعيبا ينتسب إلى الله، ويخلى يده من كل نسب إلى أهل وقرابة..
فكيف يبقون عليه من أجل رعايتهم لأهله، ولا يجعلون لنسبته إلى الله حسابا عندهم؟ «يا قَوْمِ.. أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ» وقد جئتكم من عنده، أدعوكم إليه باسمه، وأحمل إليكم رسالته؟ .. ولكن هكذا أنتم فى جهلكم وضلالكم، قد نظرتم إلى أهلى، وقدّرتموهم قدرهم، ولم تنظروا إلى الله،
سبحانه، ولم تقدروه قدره «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» أي جعلتموه من وراء ظهوركم، لا تنظرون إليه، ولا تعملون له حسابا «إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» أي عالم، محيط علمه بكل ما تعملون، ولن تفلتوا من عقابه وعذابه..
«وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» هذه هى خاتمة المطاف فيما بين شعيب وقومه.. إنه يتركهم وشأنهم، بعد أن بلّغهم رسالة ربه، وبالغ فى إبلاغها إياهم.. «اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» أي اعملوا على ما أنتم مقيمون فيه من كفر وضلال.. «إِنِّي عامِلٌ» على ما أنا عليه، مما تعلمونه منّى وتنكرونه علىّ.. «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» فسينجلى لكم الأمر، ويتكشف لكم الحال عن عملكم وعملى، وسيطلع عليكم من عملكم عذاب يخزيكم، ويؤمئذ تعلمون من هو الكاذب، ومن كان فى ضلال مبين.. أما متى ذلك؟ فعلمه عند ربّى، ولكنه آت لا ريب فيه، فانتظروا يومكم هذا «وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» ..
وقد جاء النظم القرآنى بلفظ «رقيب» بدل «مرتقب» الذي يقتضيه النظم ليدلّ على أن شعيبا فى المكان الذي يشرف منه على هؤلاء القوم، وهم المنزل الدّون الذي يلقون فيه العذاب المهين! إنه رقيب، يقوم على مرقب عال، كما يقوم القاضي على منصة القضاء.
وحين جاء أمر الله، ودنت ساعة القصاص من هؤلاء القوم الضالين، نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه، وحملهم على جناح رحمته، إلى مرفأ الأمن والسّلام..