الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عسير، والمصير سيّىء، بالغ الغاية فى السوء.. فكان من الحكمة التي يدعو إليها مقتضى الحال أن ينبّه على هذا الخطر، وأن تقوم إلى جانب هذا التنبيه مؤكدات له، أشبه بتلك الإشارات الضوئية الحمراء، التي تظهر فى مواطن الخطر، منبهة إليه، محذرة منه، قائلة بلسان الحال.. هنا «خطر» !! فخذ حذرك منه! وإلا فأنت وما جنت يدك!
الآيات: (61- 68)[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لقصة نبىّ آخر من أنبياء الله، هو «صالح» عليه السلام، وقد بعثه الله إلى «قومه ثمود» .. وكانوا يسكنون «الحجر» بين المدينة والشام.
ولم يكن موقفهم من هذا النبي الكريم بأحسن من موقف من سبقوهم من أهل الضلال والعناد.. قوم نوح، وقوم هود..
«وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» .. والعطف هنا عطف قصة على قصة، وحدث على حدث.. وقد نصب «أخاهم» بفعل محذوف، تقديره: أرسلنا، أو بعثنا.
وهو أخو القوم.. أي منهم.. نسبا، وموطنا، ولغة.
«قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. فهذا مجمل كل دعوة دعا بها نبىّ قومه.. الإيمان بالله، والانخلاع عن كل معبود سواه.. من بشر، أو حجر! «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» .. أي هو وحده- سبحانه- المستحق للألوهية، المستوجب للربوبية.. لأنه- سبحانه- هو الخالق الذي أوجد الناس من عدم.. «هو أنشأكم من الأرض» أي خلقكم من تراب هذه الأرض، وأنبتكم منها، كما ينبت الزرع، وينمو، وينضر، ويزهر، ويثمر.. كما يقول سبحانه:«وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) ..
«واستعمركم فيها» أي هيأ لكم أسباب الحياة فيها، ومكن لكم من عمرانها، فعمر تموها بإقامة المدن، وغرس الحدائق، وزرع النبات والحبّ، وتسخير الدواب والأنعام.. كما يقول تبارك وتعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ»
(80- 81: النحل) فذلكم مما لله فى عباده.. خلقهم، ورزقهم، وأمدهم بأنعام وبنين وجنات وعيون.. فهل فى شرع العقلاء ما يقضى بالولاء لغيره، والتعبد لسواه؟
«فَاسْتَغْفِرُوهُ.. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ.. إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» .
ومع أن كثيرا من الناس فى غفلة عن الله، وفى عمى وضلال عن السبيل المستقيم إليه فإنه- سبحانه وتعالى يبسط لعباده يد المغفرة والقبول، ويبعث للضالين رسلا من عنده، يدعونهم إليه، ويذكرونهم بآلائه ونعمه، ويهتفون بهم:«أن استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه» ..
والاستغفار، هو طلب المغفرة: مما كان منهم من كفر وضلال، قبل أن يهتدوا ويرشدوا، ويؤمنوا بالله..
والتوبة، هى الرجوع إلى الله، بعد الشرود عنه، وذلك فى حال الإيمان، حيث يقع المرء فى معصية، فيبعد بها عن الله، فيكون رجوعه إليه سبحانه بالتوبة عما وقع فيه..
ولهذا جاء العطف «بثم» .. لأنها تعطف مرحلة على مرحلة قبلها..
مرحلة الإيمان، على مرحلة ما قبل الإيمان، وهذا إشعار بأن كلّا منهما من عالم غير عالم الآخر.. وشتّان بين الإيمان والكفر، والنور والظلام! «قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا» .
بهذا السّفه، كان ردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي دعاهم إليها
صالح، عليه السلام.. لقد أنكروه حين سمعوا هذه الدعوة منه، وتغيرت فى الحال حاله عندهم، وشاهت صورته فى أعينهم. فلقد كان عندهم الرجل المرجوّا لكل ملمّة، المدعوّ لكل معضلة، المؤمّل لكل طالب خير، ومرتاد فلاح ورشاد.. ولكنه الآن- وقد دعاهم إلى هذه الدعوة- قد صار فى نظرهم إنسانا غير هذا الإنسان الذي عرفوه!. «يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا» أي كنت مرجوّا للخير والفلاح قبل أن تدعونا إلى هذا الذي تدعونا إليه.. أما الآن فلا رجاء فيك، ولا خير يؤمّل منك.
أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟» أي ما هذا الذي جئتنا به؟ وكيف طوّعت لك نفسك أن تقول هذا القول المنكر؟ وإذا لم نعبد ما كان يعبد آباؤنا، فمن نعبد؟ أنعبد إلهك الذي تدعونا إليه؟
«وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» !. فكيف نترك ما نحن عليه من يقين، قد اطمأنت قلوبنا به، وسكنت نفوسنا إليه- إلى هذا المعبود الجديد الذي تحدثنا عنه، ولم نعرفه، ولم نتعامل معه من قبل؟ أذلك مما يقول به عاقل، ويرضى به العقلاء؟
قوله تعالى:
البينة. البرهان، والدليل، والحجة.
والتخسير: الخسران بعد الخسران..
إن صالحا- عليه السلام لعلى هدى من ربه، وعلى يقين من إيمانه به، وإنها لرحمة من رحمات ربه، أن هداه إلى الحق، وشرح صدره للإيمان..
وإنه- لهذا- لن يعصى الله، ولن يخرج عن طاعته، وامتثال أمره،
فذلك بعض ما يوجبه عليه ولاؤه لمن خلقه، ورزقه، وهداه إلى الإيمان، وإلا كان مستحقّا للانتقام، والعقاب.. وإنه لن يجد ناصرا ينصره، ويدفع عنه ما يريد الله به! وشتّان بين ما يدعوهم إليه صالح، مما فيه رشدهم وخيرهم، وما يدعونه هم إليه، مما يعرضه لنقمة الله وعذابه..
- وفى قوله تعالى: «فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» إشارة إلى أنه إذا أخذ برأى قومه، وخرج عن طاعة الله، ووقع تحت نقمته، ثم دعاهم إلى نصرته من دون الله، فلن يكون له منهم إلا بلاء إلى بلاء، وخسران إلى خسران! لأنه إنما ينتصر بمخذولين، واقعين تحت النقمة والبلاء، فلن يقدموا له- إن قدموا شيئا- إلا ما عندهم من بلاء وعذاب! «فما تزيدوننى غير تخسير» .
قوله تعالى:
وبين يدى تلك الدعوة، التي دعا بها صالح قومه إلى الإيمان بالله، أقام لهم آية متحدية من آيات الله، تشهد له بأنه رسول الله.. فهذه ناقة الله. قد نصبها الله لهم آية، ورفعها لأعينهم، ليشهدوا منها ما لم يشهدوا من النّياق التي عرفوها.. إنها ناقة على صفة عجيبة.. إنها آية من آيات الله، ولهذا جاء وصفها بأنها «ناقة الله» ، أي آيته إليهم.. فليأخذوا منها الشاهد الذي يشهد بقدرة الله، ويحدّث عن علمه، وحكمته، ومن ثمّ يقوم لهم منها دليل آخر على صدق الرسول، الذي جاءهم يدعوهم إلى الله.. فليصدقوه وليؤمنوا به، وليدعوا الناقة تأكل فى أرض الله- شأنها فى هذا شأنهم، ولها فى الأرض مالهم، لأنها ناقة الله، والأرض أرض الله، وهم عبيد الله، والأرض التي يعيشون عليها
أرض الله.. وإذن فليدعوا ناقة لله تأخذ رزقها من أرض الله، ولا يمسّوها بسوء! فإن اعتدوا عليها، وخالفوا أمر الله فيها، فلينتظروا العذاب القريب الذي سيحل بهم! ولقد كان من سفه القوم، وجهلهم، وغلبة الشّقوة عليهم، أن تخطت نظرتهم إلى الناقة، كل شىء فيها، مما يكشف لهم الطريق إلى الله، وإلى الإيمان به- ووقفوا عند العذاب، الذي أنذروا به منها، إذا هم عرضوا لها بسوء- فعملوا على كشف هذه الآية منها، واستحلابها من ضرعها! وذلك لأنهم كانوا على تكذيب بكل ما حدّثهم به «صالح» عنها، وإنهم لكى يقيموا البرهان على كذبه، استعجلوا العذاب الذي أنذرهم به إن هم مسّوها بسوء.
فما هو إلا أن يعقروا الناقة حتى يأتيهم هذا العذاب، إن كان هناك عذاب، وإلا فقد افتضح أمر صالح، وظهر كذبه! وقد فعلوها! «فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا يا صالح: ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين» (77: الأعراف) .
وهكذا يلعب الأطفال بالنار، فتقع بهم الواقعة، ويحلّ بهم العذاب الذي لا مردّ له! قوله تعالى:
«فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» .
وتلك آية أخرى.. إنها العذاب الذي سيأخذهم الله به، بعد ثلاثة أيام..
وفى توقيت وقوع العذاب بثلاثة أيام:
أولا: أن يظلوا خلال تلك المدة واقعين تحت وطأة تلك الخواطر المزعجة المقلقة، بين التصديق والتكذيب، وكانوا كلما مضت لحظة من الزمن ازداد قلقهم واضطرابهم، انتظارا لما يطلع به عليهم هذا الوعيد، فى اليوم الثالث من تلك الأيام التي أقتت لهلاكهم.
وثانيا: حصر الأجل المضروب لهلاكهم بثلاثة أيام، هو غاية ما يمكن أن يقع فى النفس موقع الاهتمام له والالتفات إليه.. ولو امتد الزمن إلى أكثر من هذا لما التفتت إليه النفوس هذا الالتفات الذي يشدها إليه، ويقيمها على همّ وقلق من لقائه.. ولو قصر الزمن إلى ما دون ذلك لقصرت فترة العذاب النفسي الذي عالجه القوم قبل أن يهلكوا..
فهذه الأيام الثلاثة التي عاشها القوم قبل أن يحلّ بهم الهلاك قد أقتت بحكمة الحكيم العليم، فكانت بوتقة عذاب، تجرّع منها القوم جرعات الموت قبل أن يحل بهم الموت..!
لقد شخصت أبصار القوم إلى هذه الأيام الثلاثة وما يطلع عليهم فى أعقابها.
وقد طلع عليهم منها الويل والبلاء:
«فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منّا ومن خزى يؤمئذ إن ربك هو القوى العزيز» .. لقد نجى الله صالحا والذين آمنوا معه، إذ عزلهم عن القوم الظالمين، وما رماهم به من مهلكات، فهو- سبحانه- الذي لا يعجزه ما يعتزّ به الظالمون من قوة وسلطان، وما يعتصمون به من قلاع وحصون..
والصيحة التي أخذ بها القوم، هى صيحة الحق، وهو صوت العذاب الذي نزل عليهم، فرجفت بهم الأرض منه، «فأصبحوا فى ديارهم جاثمين» ..
أي جمد الدم فى عروقهم، من رجفة الصيحة، فلم يتحرك أحد منهم حركة، ولم يتنفس نفسا! إنها صيحة تحمل فى كيانها صاعقة، أقرب مثل إليها الرعد المحمل بالصواعق المهلكة.. وهكذا صاروا جثثا هامدة، وتحولت ديارهم إلى