الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفى توجيه الخطاب إلى النبي الكريم، تشنيع على الشرك، وتهويل لخطره، وأنه مطلوب من النبىّ- وهو من هو عند الله- أن يحرس نفسه منه..
ويتوقّى المواطن التي يجىء منها.
فإذا كان هذا شأن النبىّ، وهو المصطفى من بين عباد الله، والمحفوف بألطاف الله ورحمته.. فكيف شأن الناس، وهم فى مواجهة هذا الداء الخطير؟ إنّهم فى حاجة إلى مراقبة شديدة، وإلى حراسة دائمة، من أن يندسّ إليهم هذا الداء، فى سرّ أو علن.. فما أكثر المسارب الخفيّة التي ينفذ بها الشرك إلى الناس..
الآيات: (40- 44)[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَاّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
التفسير:
قوله تعالى: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» ..
ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، الشرك، والخطر الذي يتهدّد الناس
منه.. فناسب أن تجىء هذه الآية، لتضبط المشركين من أهل مكة، وهم متلبسون بشركهم بالله، وعبادتهم الملائكة واتخاذهم لهن ربّات، على حساب أنهن بنات الله! وفى هذا الاستفهام إنكار عليهم، وتوبيخ لهم أن يجعلوا لله البنات، على حين أنهم لا يرضون أن يولد لهم البنات.. فكيف يئدون البنات، ثم يعبدونهن؟ ثم كيف يجعلون لله البنات، ويجعلون لهم البنين؟ أهذا يتفق- حتى فى منطقهم- مع مقام الله الذي يعبدون بناته؟ إنّ أقل ما يقتضيه هذا المنطق أن يكون أبناء الله ذكورا، إذ كان الذكور عندهم فى مقام محمود محبوب! ولهذا جاء قوله تعالى:«أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (21- 22: النجم) .. منكرا عليهم هذه القسمة الجائرة، مسفّها أحلامهم الفاسدة، وتصوراتهم المريضة! - وفى قوله تعالى:«إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» اتهام لهم بهذا القول المنكر الشنيع الذي يقولونه على الله سبحانه وتعالى.. ووراء هذا الاتهام إدانة، وعقاب راصد شديد! وأصفاه بالشيء: اختصه به، وجعله خالصا له..
وفى نسبة الإصفاء إلى الله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي يهب لكم ما يهب من بنين، إنه لا يستقيم مع منطق أن يخصهم الله تعالى بالبنين، ثم يجعل لنفسه البنات؟
قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ..
التصريف: عرض الأمر على وجوه مختلفة، حتى يظهر ظهورا تاما، ويتضح وضوحا مبينا.. وفى القرآن الكريم معارض كثيرة للقضايا التي عرضها
على العقل الإنسانى، حتى يراها على كل وجه من وجوهها، وذلك زيادة فى البيان، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد هذا البيان المبين..
- وفى قوله تعالى: «لِيَذَّكَّرُوا» إشارة إلى الحكمة من هذا التصريف الذي جاء فى القرآن لآيات الله.. وذلك ليكون للناس منه عبرة وذكرى، حيث تلقاهم العبر، ناطقة الدلائل والشواهد..
- وفى قوله تعالى: «وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» إشارة إلى ما فى الناس، وخاصة هؤلاء المشركين من قريش، من عناد، يعمى أبصارهم عن الحق، ويصمّ آذانهم عن الاستماع إلى آيات الله وكلماته.. فلا يبصرون شيئا، ولا يعقلون حديثا..
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» ..
فى هذه الآية ردّ على مفتريات المشركين، على الله، واتخاذهم آلهة يعبدونها من دونه، ويجعلونهم شركاء له، قائلين:«ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .
فالله سبحانه وتعالى عند المشركين- هو إله مع آلهة، وربّ مع أرباب، وإن كان له المقام الأول فيهم.. وهذا ما لا يجعل لله السلطان المطلق فى هذا الوجود، بل يجعل لهذه الآلهة، وتلك الأرباب شأنا معه، كشأن الأمراء مع الملك مثلا..
الأمر الذي لا بد أن ينتهى يوما إلى منازعة وشقاق، بين هؤلاء الآلهة وبين الإله الأكبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» أي لو كان مع الله آلهة، لتطاولت أيديهم إلى صاحب العرش، ولنازعوه السلطان، فرادى أو مجتمعين.. وهل سلم صاحب سلطان من أن ينازعه فى سلطانه من هم دونه من أمراء، ووزراء؟ فكيف يكون مع الله سبحانه وتعالى
آلهة أخرى ثم لا ينازعونه سلطانه؟ وهل إذا وقع تنازع فى هذا الملكوت، يستقيم له نظامه هذا الذي يقوم عليه؟
قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً» ..
هو تنزيه لله، وتقديس لمقامه أن يقال فيه هذا القول المنكر، وهو ما يقوله المشركون، من أن لله أبناء، أو بنات، هن آلهات معه..
إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من مخلوقات ناطقة أو صامتة، كبيرة أو صغيرة كلها، تسبّح بحمده، تسبيح ولاء وخضوع، كما يقول جلّ شأنه:
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وكما يقول سبحانه عن الملائكة: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (26- 27: الأنبياء) .
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. أي إن هذه العوالم المبثوثة فى السموات والأرض، تسبّح لله تسبيحا لا يفقهه إلا العالمون، الذين يرون فى تجاوب هذا الوجود، وفى خضوعه للسنن التي أجراه الله عليها، تسبيحا وولاء، وعبودية خالصة لله ربّ العالمين.. ففى التعبير بكلمة «تفقهون» إشارة إلى أن هذا التسبيح لا يراه ولا يدرك معناه إلا أهل الفقه، الذي اختصّ به الراسخون فى العلم.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» إشارة إلى تلك المقولات الضّالة التي يقولها المشركون فى الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخذهم بحلمه، فلم يعجّل لهم العقاب، بل أفسح لهم فى الأجل، ومدّ لهم فى العمر، حتى يتاح لهم إصلاح ما أفسدوا، ويرجعوا إلى الله، ويستقيموا على طريق