الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى الآية الكريمة، تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين يستمعون إلى القرآن، بقلوب مريضة، ونيّات خبيثة، منعقدة على الكيد، لا تبتغى بهذا الاستماع طلب هدى، أو التماس حق.. وإنما غايتها اصطياد المعاثر، والوقوع على ما يغذّى ضلالهم، ويقيم لهم حجة على هذا الضلال.
- وفى قوله تعالى: «بِهِ» إشارة إلى تلك الأجهزة الفاسدة التي صحبوها معهم، ليستمعوا بها إلى القرآن.. فهذا الذي يستمعون به من أجهزة، إن هو إلا قلوب مريضة، وطوايا خبيثة، مبيّتة للشر، راصدة للعدوان! - وفى قوله تعالى:«إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» فصح لهؤلاء المشركين، وهم يستمعون إلى القرآن.. إنهم يستمعون إليه متلصصين، بعيدا عن أن يراهم أحد.. حيث تقع لآذانهم كلمات الله، فيتناجون فيما بينهم بها، ويبحثون عما يقولونه من زور وبهتان فيها.. ثم تنتهى بهم تلك المناجاة إلى هذا الحكم الفاسد، الذي يصدرونه على القرآن، وعلى النبىّ لذى يتلو هذا القرآن فيقولون:«إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي إن اتبعنا هذا الرجل فلن نتبع «إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» قد مسّه طائف من الجنّ، فاضطرب عقله، واحتلّ تفكيره، وأصبح يهذى بهذا القول الذي يردّده، ولا يملّ ترديده.. «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» (25: المؤمنون) .
الآيات: (48- 52)[سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 52]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَاّ قَلِيلاً (52)
التفسير:
قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ..
الأمر هنا «انظر» هو إلفات للنبىّ، ولكلّ مؤمن، أن ينظر فى تلك المقولات التي يقولها المشركون، وإلى تلك الأمثال التي يضربونها، ويتحدون منها حجة على إنكار البعث.. وقد كانت تلك الأمثلة التي ضربوها مما أملته عليهم أهواؤهم الفاسدة، وعقولهم المريضة- كانت سببا فى أن ضلّوا هذا الضلال، الذي ألقى بهم فى متاهات لا يستطيعون الخروج منها، ولا يجدون فيها من يدلّهم على طريق يسيرون فيه، حتى فى وسط هذا الضلال.. إنهم فى حيرة مطبقة، يدورون فيها حول أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» حيث نفى الاستطاعة المطلقة عنهم، إلى التعرّف على أي طريق.. ولو كان من طرق الضلال..
وقدّم الأمر بالنظر إلى تلك الأمثال التي ضربوها، على هذه الأمثال، حتى يتهيأ الناظر إليها، ويخلى نفسه من كل نظر إلى غيرها.. وذلك لما فيها من فتنة وضلال.. الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر فيها، حتى يتوقى الناظر إليها ما فيها من شرّ مستطير، وخطر داهم..
قوله تعالى: «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» هذا هو المثل الذي ضربوه.. وهو مثل واحد، وقد سمّى «أمثالا» لأنه
يحوى منكرا غليظا، تتولد منه منكرات.. إذ هو ينكر البعث أولا، وينكر قدرة الله ثانيا، ثم يتولّد من هذا وذاك ما يتولّد، من كفر، وضلال، وشرك بالله ثالثا والاستفهام هنا، استفهام إنكارى.. ينكرون فيه أن يبعثوا، بعد أن تبلى أجسادهم وتصير ترابا.
والرّفات: العظام المتحلّلة، التي ضاعت معالمها، وصارت ترابا فى التراب..
ينغضون إليك رءوسهم: أي يحركونها فى إنكار، وإباء، وتكرّه..
شأن من يأخذ دواء مرا، فيأتى بهذه الحركة الجنونيّة برأسه، من غير وعى! والآية تردّ على المشركين هذا الضلال، الذي ضربوا له مثلهم هذا.. إنهم يستنكرون أن يبعثهم الله بعد أن تبلى عظامهم، وتتحلل أجسامهم.. فدفع الله سبحانه مثلهم هذا بمثل هو أشدّ إنكارا عندهم للبعث، فقال تعالى:«قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» .. أي كونوا على أية صفة هى أبعد وأغرب من صفتكم التي تكونون عليها بعد الموت.. كونوا حجارة جامدة، لا صلة بين الحياة وبينها، أو حديدا، أصلب من الحجارة، وأبعد منها نسبا إلى الحياة.. أو كونوا أي خلق آخر يكبر فى صدوركم، ويكون أبعد من الحجارة والحديد استحالة فى بعث الحياة فيه.. كونوا عدما مطلقا.. فإن قدرة الله سبحانه وتعالى لا يعجزها شىء.. وإنكم إذا أنكرتم هذا، وقلتم: من يبعثنا إذا صرنا على هذه الحال أو تلك، فهذا هو الجواب:«قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إنه سبحانه، قد خلقكم من تراب وفطركم منه، أي أنبتكم كما ينبت
النبات، الذي يفطر الأرض، أي يشقّ وجهها.. وإذا قلتم فى إنكار:«متى هو؟» أي متى هذا البعث؟ فهذا هو الجواب أيضا: «عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» . إنكم لا تعلمون وقته، ولكنه آت لا ريب فيه، وربما كان ذلك قريبا، أقرب مما تقدّرون وتتصورون.. «وعسى» فعل يفيد الرجاء، وتوقع الحدوث لما وقع عليه.. وهذا الرجاء إنما هو بالنسبة إلى المخاطبين.. وأنهم فى موقف الانتظار لهذا الأمر لذى لن يطول انتظارهم له..
قوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» ..
هو بيان لميقات هذا البعث الذي سأل المشركون عنه هذا السؤال الإنكارى، بقولهم:«متى هو؟» ..
إنه اليوم الذي ينتظر أمر الله، ودعوته الموتى من قبورهم، كما يقول سبحانه:«ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» (25: الروم) - وفى قوله تعالى: «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» - ما يسأل عنه، وهو: كيف يستجيبون لدعوة الله لهم من قبورهم، بالحمد، وقد جاء فى قوله تعالى فى سورة يس «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» فهم ينادون هنا بالويل، فكيف يستجيبون هناك بالحمد. والموقف هو هو؟
والجواب على هذا- والله أعلم-: أن هذا وذاك وإن كان منهم فى يوم البعث، إلا أن كلّا منهما فى موقف غير الموقف الآخر.. فهم حين يبعثون من قبورهم، يحمدون لله، على أن أحياهم بعد موتهم، فالحياة نعمة تستوجب الحمد والشكر لله ربّ العالمين.. ولكنهم حين يشهدون أهوال هذا اليوم، ينادون بالويل، إذ يرون بأعينهم المصير الذي هم صائرون إليه، كما يقول سبحانه: