الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجرمين، ليروا فى هذا الموقف ماذا كان منهم من منكر غليظ، إذ جعلوا لله شركاء! إن ذلك أشبه بعرض جثة القتيل على قاتله، وهو مقود إلى القصاص منه، حتى يعاين من ذلك، الحال التي سيصير إليها، وهى أن يقتل كهذه القتلة! قوله تعالى:
«وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» .
المجرمون هنا، هم هؤلاء المشركون، الذي عرضوا فى هذا العرض الذي جمع بينهم وبين من أشركوا بهم من دون الله.. فقد أمروا أن يدعوا شركاءهم، فلما دعوهم ولم يستجيبوا لهم، تلفتوا فإذا هى النّار بين أيديهم.. فلما رأوها ظنوا أنهم واقعون فيها.. وقد صدق ظنهم فى هذه المرة، وأصبح يقينا واقعا..
إذ لا مصرف لهم عنها، ولا نجاة لهم من الوقوع فيها..
الآيات: (54- 59)[سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)
التفسير:
بعد هذا العرض الكاشف الذي جاءت به الآيات السابقة، لمواقف المؤمنين والمشركين، وأولياء الرحمن وأتباع الشيطان، وما يرى هؤلاء وأولئك من جزاء فى الآخرة- بعد هذا، تعود آيات القرآن الكريم، فتلتقى بالمشركين من أهل مكة مرة أخرى، وتذكرهم بما يتلى عليهم من آيات الله.. فيقول سبحانه:
«وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بقوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنِ» - وهو معروف لهؤلاء المخاطبين- تنويه بشأن هذا القرآن، وبمقامه العالي الرفيع، الذي لا يراه إلا من رفع رأسه عن تراب هذه الأرض، واستشرف ببصره إلى مطالع الحق فى آفاقه العليا، عندئذ يأخذ الإنسان الوضع الذي يمكن أن يرى فيه من معالم الوجود، ما لم يكن يرى منها شيئا، وهو ينظر إلى موقع قدميه! والتصريف: هو الإرسال، والبعث، والسوق.. ومنه تصريف الرياح، وهو هبوطها من أكثر منه؟؟؟ .. وتصريف الأمثال: سوقها، وبعثها، مثلا بعد مثل..
وكلّ مثل فيه العبرة والعظة، وفيه ما يفتح للعاقل الطريق إلى الحقّ والهدى.. فكيف وهى أمثال كثيرة، تلتقى مع كل عقل، وتتجاوب مع كلّ فهم.. ولكن الجدل والمراء، آفة الإنسان، والحجاز الذي يحجز عقله عن أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين النور والظلام! «وَكانَ الْإِنْسانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»
.. فتلك هى بليّة الإنسان، ومضلّة الضالين، ومهلك الهالكين، من أبناء آدم.
قوله تعالى:
الناس هنا، ليسوا مطلق الناس، ولكنهم المكابرون المعاندون، الذين غلبت عليهم شقوتهم، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يصيخوا لصوت الدّاعى الذي يدعوهم إليه، وهم مشرفون على هاوية سحيقة تلقى بهم فى مهاوى الهلاك.. والهدى الذي جاءهم: هو القرآن الكريم.
فهؤلاء الأشقياء الضالون، لم يمنعهم مانع من خارج أنفسهم أن يؤمنوا، ويستغفروا ربّهم على ما فرط منهم فى جنب الله، وفى جنب رسل الله- ما منعهم من ذلك إلا ما ركّب فيهم من عناد عنيد وجدل سقيم، وأنهم- وهذا شأنهم، وتلك حالهم- لن يؤمنوا «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» وهى وقوع البلاء بهم، وأخذهم بما أخذ الله به الضالين المكذبين قبلهم، من هلاك مبين، لا يبقى لهم أثرا.. «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» أي أو حين يطلع عليهم العذاب فيرونه عيانا، مقبلا عليهم، كما رأى فرعون الموت مقبلا عليه.. فقال:«آمنت» ! ففى النظم القرآنى الذي جاءت عليه الآية حذف، يدل عليه السياق..
قوله تعالى:
أي إنه ليس هناك قوة خارجة عن كيان الإنسان ترغمه على الإيمان بالله..
وإن رسل الله الذين أرسلوا لهداية الناس، ودعوتهم إلى الحق، لا يملكون هذه القوّة التي تحمل الناس حملا على الهدى، وتكرههم إكراها على الإيمان:
«وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» فتلك هى مهمّة الرسل، وهذه هى وظيفتهم فى أقوامهم.. يبلغونهم رسالة ربهم، وما تحمل إليهم من مبشّرات ومنذرات..
- وفى قوله تعالى «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» بيان لموقف المعاندين الضالين، من دعوة الرسل، وأنهم يلقون رسالة الله، ودعوة الرسل بالمراء والجدل، وليس بين أيديهم فى هذا الجدل، إلا الباطل يرمون به فى وجه الحق، يريدون به أن يدحضوه، أي يوقعوه ويهزموه..
- وفى قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً» تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يسخرون بآيات الله، ويهزءون برسله، وبما ينذرونهم به من عذاب الله، فيقولون فيما يقولون:«فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (32: هود) .
قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» وإنه لا أظلم من إنسان جاءه من يذكّره بآيات ربّه- وكان من شأنه بما معه من عقل أن يذكر آيات ربّه المبثوثة فى هذا الوجود، ويتهدّى إليه، ويؤمن به- من غير أن يدعوه أحد «فَأَعْرَضَ عَنْها» وأصمّ أذنه عن الاستماع إليها، «وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من آثام وضلالات» .
إنه لهو الظلم أعظم الظلم، وهو الضلال أظلم الضلال، أن يقع الإنسان
فى الوحل، ثم يجىء من يمدّ يده إليه لاستنقاذه، بعد أن يكشف له الحال الذي هو فيه، فيأبى أن يسمع، ويمتنع أن يجيب!.
وانظر إلى تلك المنّة العظيمة، بإضافة هذا الإنسان الجحود، إلى «ربّه» واستدعائه إليه باسمه تعالى: وبآلائه التي يضفيها عليه، وهو يأبى إلا نفورا، وإلا إمعانا فى الكفر والضلال!.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» بيان للعلة الكامنة فى هؤلاء الضالين، الذين أعرضوا عن آيات الله، واتخذوا آياته وما أنذروا به هزوا، وتلك العلّة هى أن الله سبحانه وتعالى لحكمة أرادها- قد جعل على قلوبهم «أكنّة» ، أي حجبا تحجبها عن الهدى، وأن تفقه آيات الله، وجعل فى آذانهم «وقرا» أي صمما، فلا تسمع ما يتلى عليها من آيات الله.. فهم لهذا لن يهتدوا أبدا:«وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) .
«أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (23: محمد) .
الموئل: الملجأ، والمهرب.. والخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وفحوى الخطاب مراد به قومه.. وإذ كشفت الآية السابقة عن جحود الإنسان، وكفره بآلاء ربّه، وإعراضه عن الاستماع لدعوته إليه- فقد جاءت هذه الآية لتكشف عن سعة رحمة الله ومغفرته لعباده، وهم على حرب معه ومع أوليائه..
فقد وسعتهم رحمته، ومغفرته، فلم يعجل سبحانه وتعالى لهم العذاب، ولم يأخذهم بما هم أهل له من نقمة وبلاء، كما أخذ الأمم السابقة من قبلهم، بل أمهلهم،
وأفسح لهم المجال لإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، والرجوع إلى ربهم من قريب..
وهذا- ولا شك- من خصوصيات هذه الأمة، التي اختصها الله بها، تكريما لرسوله الكريم، حيث يقول سبحانه:«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»
(33: الأنفال) ..
وأكثر أنبياء الله ورسله، قد شهدوا بأعينهم مصارع أقوامهم.. ولكن هذه الأمة قد عافاها الله من هذا الابتلاء، وأكرم نبيّها فلم يفجعه فى أهله وقومه..
وكان من تمام هذه النعمة على النبي الكريم وعلى أمته، أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى رأى بعينيه قومه جميعا يدخلون فى دين الله أفواجا، ورأى العرب جميعا أمّة مؤمنة بالله، وحتى تلقى من ربّه- سبحانه وتعالى هذا الثناء العظيم على أمته بقوله تعالى:«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110: آل عمران) وفى قوله تعالى: «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» - إشارة إلى أن مغفرة الله ورحمته، لا يدفعان بأسه عن القوم المجرمين.. فهناك حساب، وهناك جزاء، توفى فيه كل نفس ما كسبت.. وليس لأحد سبيل إلى الفرار من هذا الحساب، وذاك الجزاء!.
قوله تعالى:
«وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» .
الإشارة هنا، إلى تلك القرى التي أهلكها الله من قبل، كقرى عاد، وثمود، ولوط.. فهذه القرى وغيرها ممن كفروا بآيات الله وعصوا رسله، قد أهلكهم الله، وعجّل لهم العذاب فى الدنيا، ولم يمهلهم كما أمهل أهل هذه القرية «مكة» والقرى التي حولها، رحمة منه سبحانه وإكراما لنبيه