الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (7- 15)[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 15]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
التفسير:
فى هذه الآيات نجد ما يأتى:
أولا: قد استجاب الله لزكريا ما طلب، وهو فى مقام الدعاء لم يبرحه بعد..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» (39: آل عمران) كما يشير إلى هذا أيضا، ما جاء عليه النظم القرآنى فى هذه الآية، حيث لم تصدّر بقول، بل جاءت بمقول القول هكذا:«يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى» .. وهذا يعنى أن زكريّا كان فى مقام التخاطب مع الله سبحانه وتعالى.. فهو يدعو، والله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب.
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي اختار للولد اسمه، فسمّاه «يحيى» .. وهو اسم لم يسمّ به أحد قبله..
وفى تسميته بيحيى، إشارة إلى أنه سيبقى له ذكر مخلّد فى هذه الحياة، وأن
حياته ستمتدّ بعد موته، بما يجرى على ألسنة الناس من ذكره، فى مقام الحمد والثناء..!
وثالثا: أن عجب زكريّا ودهشه من أن يولد له ولد، وهو يعلم أن الله سبحانه لا يعجزه شىء، وأنه إذ يعلم هذا فقد طلب الولد، وهو فى حال لا يولد منه ومن امرأته العقيم ولد- نقول: إن عجبه ودهشه لم يكن متوجها إلى الله سبحانه وإلى قدرته، وإنّما كان عجبا ودهشا من نفسه ومن زوجه أن يكون لهما ولد، وأن يراهما الناس وقد ولد لهما بعد هذا الزمن الطويل الذي عاشاه بغير ولد.. وقد جاء قوله تعالى:«قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» - جاء هذا القول من الله تعالى، ليسكن به قلب زكريّا الذي طارت به الفرحة، واستبدّت به المفاجأة بهذا الأمر العجيب! ورابعا: استعجل «زكريا» الإمساك بهذا الولد الذي كان حلم حياته، فأراد ألّا يخرج من هذا المقام الذي هو فيه، دون أن يكون بين يديه أثر من هذا الولد، يمسك به، ويتعلل بالحياة معه، حتى يحين مولده، ولهذا قال:«رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! فهو يريد الآية التي يرى من خلالها وجه هذا الغلام، الذي طال انتظاره له.. فجاء قوله تعالى:«آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» ..
فكانت آيته أن يحبس الله لسانه عن الكلام لغير علة ثلاثة أيام، وثلاث ليال كاملة، لا يتعامل مع الناس فيها إلا بالرمز والإشارة..
وقد جعل بعض المفسّرين هذه الآية ضربا من الأدب، أو نوعا من العقوبة لزكريا، على اعتبار أن طلب الآية إنما هو لطلب اليقين من قدرة الله! وهذا فهم لا يستقيم، مع تلك النعم، وهذه الألطاف التي يفيضها الله على عبده زكريا..
والفهم الذي نستربح له هنا، هو أن هذا الصوم عن الكلام إنما كان عبادة يتقرب بها زكريّا إلى الله، إزاء تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه.. ثم هو إشارة إلى الناس الذين سيطلع عليهم زكريا بأن حدثا عجيبا سيحدث، وأنهم فى وجه معجزة، وشيكة الوقوع.. وهذا ما كان من موقف مريم حين ولدت عيسى، فقد أمرها الله سبحانه وتعالى، أن تلقى قومها صائمة عن الكلام يوما.. كما سيأتى فى هذه السورة وقد عرضنا لهذا الأمر فى سورة آل عمران..
وخامسا: فى قوله تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» نداء من الله ليحيى الذي سيولد.. فهو مخاطب من الحق سبحانه وتعالى، وهو فى عالم الغيب، كما يخاطب أبوه زكريّا، وهو فى عالم الشهادة..
إن هذا الغائب الذي لم يوجد بعد، هو وهذا الحاضر الموجود، على سواء عند الله، ومع قدرة الله، وفى علم الله.. وكما يعقل الكائن الحىّ الرشيد العاقل، ما يخاطبه الله سبحانه وتعالى به، كذلك تعقل النطفة، أو ما ستتخلق منه النطفة..!!
وهكذا سيكون «يحيى» على هذه الصفة التي وصفه الحق سبحانه وتعالى بها، وندبه إليها، وهو أن يأخذ الكتاب- أي التوراة بقوة أي بجدّ، واجتهاد فى تحرّى أحكامها، والاستقامة على تلك الأحكام.. وأنه سيبلغ مبلغ الرشد والكمال، وهو فى سن الصبا.. «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» .. والحكم هنا، هو الحكمة التي يحكم بها فى الأمور التي تعرض له..