الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النبي، ويهيج خواطر الألم والإزعاج فى نفسه. قبل أن يصل إليهم.. أضعاف ما كانوا يجدون من ألم وإزعاج! ذلك أنه- وهو النبي- يألم لآلام الناس جميعا، ويود لو حملها عنهم، أو رمى بها فى مكان سحيق.. فكيف بما يقع فى نفسه من هذا، للآلام التي يراها فى أهله وذوى قرابته القائمين على نصرته؟ ثم هو من جهة أخرى، يرى أن ما نزل بأهله من آلام وشدائد، خلال تلك المحنة، إنما كان بسببه هو، وأن ذلك الذي احتملوه من أجله، لم يكن بسبب العقيدة والدّين، وإنما كان من أجل القرابة والدم. ولو كان من أجل العقيدة والدين، لهان الأمر، ولكان على أصحاب العقيدة أن يؤدّوا ضريبة الدفاع عن عقيدتهم، لقاء الثواب العظيم الذي ينتظرهم من رب العالمين! إن الآلام النفسية والروحية، بل والجسدية، التي احتملها النبي حلال تلك المحنة التي عاش فيها أهله.. كانت من أقسى ما لقى النبي فى طريق دعوته من آلام.. إنه حمل آلام أهله كلها، وإن ذهب كل منهم بنصيبه منها.. فمن أجل النبىّ احتملوا هذه التجربة القاسية، وفى سبيل حمايته، والدفاع عنه، واجهوا هذه القطيعة المرة، واحتملوا عبء هذا الحصار المحكم الظالم. ثلاث سنين!
رحلة فى العالم الأرضى:
وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه فى نفس النبي، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا.. أراد- صلوات الله وسلامه عليه- أن يلتمس له متنفسا خارج مكة، لعله يجد أعوانا على الحق، وأنصارا للخير، يستمعون له، ويستجيبون لدعوته.
كان لا بد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة، بعد أن
لقى هو وأهله الأدنون ما لقوا من هذا البلاء الشديد، أثناء الحصار الذي ضربته عليهم قريش نحو ثلاث سنين..
ومما ضاعف من وقع الآلام فى نفس الرسول، أن سقط فى ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا.. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار، ويفسد تدبير قريش، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم، بعد أن سلّط الله عليها الأرضة فأكلتها جميعا، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم الله عز وجل ما كادت تنتهى هذه المحنة.
حتى مات عمه أبو طالب، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر.. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة، بعد موته بثلاثة أيام!! فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء فى عمه وفى زوجه، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟
إنه كان فى أحرج مواقف الدعوة، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه، بين قريش، وبين النبي.
إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه، يغادبهم، ويراوحهم بآيات الله وكلماته، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء، ولا يلقى منهم إلا ما يكره- نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها- حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما، وتطورات خطيرة فى حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة، وسيسمع أحاديث متباينة، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات الله، وسيهجر النبي موطنه، ويهاجر إلى موطن
آخر، وأقوام آخرين غير قومه.. وستدور معارك، وتسيل دماء، ويبتلى النبي فى نفر كريم عزيز من أصحابه، يسقطون فى هذه المعارك، وسيقوم النبي على توجيه مجتمع إسلامى ضخم، بعد أن يجيئه نصر الله، ويفتح مكة، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا! إن هذا البلاء العظيم الذي ابتلى به الرسول، هو- كما قلنا- إعداد لما سيستقبل من تلك الأحداث الكبرى، وإن هذا البلاء أشبه بعمل المحاريث والفئوس، فى شقّ الأرض، وتقليب تربتها قبل أن يلقى فيها الحبّ.. فذلك هو الذي يتيح لها الجو الصالح، لأن تعطى خير ما فيها من عناصر الإنبات، لما يلقى فيها من حبّ! نقول إنه فى هذا الجو الثقيل الخانق، الذي كان يضيق به صدر الرسول فى مكة- خرج إلى الطائف، يعرض نفسه، ويقدّم دعوته إلى «ثقيف» يلتمس منهم الاستجابة له، والنصرة لدعوته، والمنعة بهم من قومه.. وكان معه فى رحلته تلك، مولاه زيد بن حارثة! ولما انتهى الرسول الكريم إلى الطائف، عمد إلى سادة ثقيف وأشرافهم، فدعاهم إلى الله، فلم ير منهم إلا إعراضا، وسفها، وتكذيبا، واستهزاء..
وكان فيما قال له صاحب كلمتهم: «والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على الله. ما ينبغى لى أن أكلمك!!» إنها سفسطة أحمق، وضلالة ظلوم جهول! فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خيرهم، إن كان فيهم خير، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه:«أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى..»
إذ كره رسول الله، أن يبلغ ذلك قومه عنه، فيغربهم ذلك به، ويدفعهم إلى
الانتقام منه، ومضاعفة الكيد له.. ولكن القوم لم يفعلوا، وبعثوا إلى قريش من يخبرها بما كان من أمر محمد معهم، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يسفهون عليه، ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج فى رأسه! وترك الرسول الكريم- بأبى هو وأمي- الطائف على تلك الحال، وقد امتلأت نفسه أسى وحسرة، وفاض صدره، ضيقا وحزنا! ولكن إلى أين المسير؟ وهل هناك غير مكة؟ إنه على أي حال، لا يزال يمسك منها على شىء من الأمل والرجاء، ولا يزال يطمع فى خير من أهل أو صديق فيها! وقبل أن يتخذ الرسول وجهته إلى مكة، أسند ظهره إلى شجرة نائية هناك، حتى تجتمع نفسه، وتسكن خلجاته ويخف عنه بعض ما حمل من أهل ثقيف من آلام! وفى ظل هذه الشجرة، وجّه الرسول وجهه إلى ربّه، يناجيه، ويطلب العون والمدد من رحمته، فخلق قلبه بهذا النداء الدافئ العميق، وتحركت شفتاه بهذا الدعاء الندىّ العطر، المعقود بأنفاس الأمل والرجاء فى مالك الملك، ومن بيده ملكوت السماوات والأرض.. فيقول صلوات الله وسلامه عليه:
«اللهمّ.. أشكو إليك ضعف قوّتى، وقلّة حيلتى، وهو انى على الناس! «يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربى
…
«إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى «1» ؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟
«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى..
(1) أي يتنكر بي. والمراد بالبعيد ثقيف، وبالعدو: قريش.
«غير أن عافيتك أوسع لى..
«أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلّ علىّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك.
«لك العتبى حتى ترضى «1» «ولا حول ولا قوّة إلا بك..
بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق بالله، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة، اتجه الرسول إلى ربّه.. متضرعا، متوجعا، طالبا رضا ربّه ورحمته، فى صبر وحمد، على السّرّاء والضرّاء! مدد غير منتظر:
وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة، نزل منزلا بمكان يسمّى «نخلة» وقضى فيه ليلته، ثم قام فى جوف الليل يصلّى، ويتهجّد بكلمات ربّه، فصرف إليه نفر من الجنّ، فاستمعوا له، وباتوا الليل معه، دون أن يشعر بهم! ..
وفى الصّباح، وقبل أن يزابل النبىّ مكانه الذي بات فيه، تلقّى خبر السّماء فى قوله تعالى:«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..» ..
(الآيات: 29- 32) من سورة الأحقاف.
فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبىّ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن، فشاع فى كيانه الرّضا والاطمئنان.. إنه ليس وحده، وإن صوت السماء متصل به، وإن جندا
(1) العتبى: ما يزيل آثار الأمر الذي استوجب العتاب أو اللوم.
من جنود الله- لا يراهم- يحفّون به، ويستمعون إليه، ويؤمنون به، وبالكتاب الذي أنزل عليه.
ومن هذا الذي يستمع إلى كلام الله، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من «الجنّ» .. الجنّ الذي يضرب به المثل فى الخروج على كل نظام، والتأبّى على كل نداء!.
فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر فى نفوس الناس، وفى أضلّهم ضلالا، وأعتاهم عتوّا؟
ولا شك أن فى هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول الله، والتطييب لخاطره، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به فى الطائف.. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول، ويجد منه القوة على مواصلة السّير فى طريقه إلى قومه، وفى مواجهة تحدّيهم له، وعنادهم وتأبّيهم عليه!.
وعلى هذا العزم، ومع تلك القوة، مضى الرسول إلى مكة!.
ولا يجد الرسول قومه، على غير ما عرف منهم.. إنهم على هذا الضلال المبين، وعلى تلك العداوة له، والخلاف عليه.. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه، ما يشدّ عزمه، ويدفع به إلى مواجهة قومه فى مكة- فإنه ما زال فى حاجة إلى أمداد أخرى، تثبّت قدمه، وتشدّ عزمه، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد فى سماء مكة، بينه وبين قومه.
لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه، فى الأرض، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها، فكان لا بد من عالم آخر، يتزود منه بزاد روحى، يشيع فى كيانه قوى مجدّدة، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها فى هذا النضال المتصل بينه وبين قومه، حتى يحكم الله بينه وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين..
فكانت رحلة الإسراء!