الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهنا- فى قصة ذى القرنين- نجد نفس الشيء.. حيث أن القوم أرادوا أن يصعدوا السدّ صعودا فما «اسْتَطاعُوا» .. وأما حين أرادوا أن يحدثوا فيه نقبا فما «اسْتَطاعُوا» .. ومعالجة النقب أشدّ صعوبة من محاولة التسلق..!!
الآيات: (99- 110)[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 110]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
التفسير:
هو معطوف على قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» .. أي أنه إذا جاء الأجل الموقوت عند الله لقيام- هذا السدّ وبقائه- دكّ هذا الرّدم الذي أقامه ذو القرنين، وانطلقت جماعات يأجوج ومأجوج إلى ما كانت تنطلق إليه من قبل، ونفذت إلى هؤلاء القوم الذين احتموا من عدوانهم بهذا الردم.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:«حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ..» (96- 97: الأنبياء) .
- فقوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» يبيّن ما سيقع فى هذا اليوم، أي اليوم الذي يأذن فيه الله سبحانه وتعالى بزوال هذا السدّ من مكانه، ونهاية دوره.. ففى هذا اليوم- وهو أيام وأعوام- تتبدل معالم الأرض، وينهال هذا الردم، ويفتح السدّ فيما بين يأجوج ومأجوج، وبين الجماعات المتحضرة التي كانت فى حماية بهذا السدّ من فسادها.. وعندئذ يختلط بعضهم ببعض، ويموج بعضهم فى بعض، وتعصف بهم عواصف الشرّ والفساد حتى يفنى بعضهم بعضا. ثم بعد قليل أو كثير من الزمن، ينفخ فى الصور، فيبعث الموتى من قبورهم، ويساقون إلى المحشر، وعندئذ يرى الكافرون جهنم بارزة، يتلظى لهيبها.. كما يقول سبحانه:«وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف) .
- وقوله تعالى: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» هو وصف كاشف لهؤلاء الكافرين، الذين عرضت عليهم جهنم عرضا تنخلع منه قلوبهم فزعا، وتمتلىء به نفوسهم رعبا.. فهؤلاء الكافرون كانوا فى غفلة عن الله، وعن دعوة الحق التي كان يحملها إليهم رسل الله.. إذ كانت أعينهم فى غطاء عن ذكر الله، فلم ينظروا فيما خلق الله فى السموات والأرض.. ثم إنهم إذ عموا عن آيات الله، ولم تتجه إليها عقولهم، ولم تتفتح لها قلوبهم- أصمّوا آذانهم عن آيات الله التي يحدثهم بها رسل الله..
- وفى قوله تعالى: «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» إشارة إلى ما ختم الله به على سمعهم.. فهم- والحال كذلك- مصابون بهذا الصمم عن كل ما هو حق وعدل، وخير.. أما ما كان من واردات السوء، والشرّ، فهم أسمع الناس له، وأكثرهم استجابة لندائه..
المراد بالذين كفروا هنا، هم اليهود والنصارى، ومن كان على شاكلتهم، ممن ألّهوا غير الله، من عباده، كما قالت اليهود عزير ابن الله، وكما قالت النصارى، المسيح ابن الله..
فهؤلاء، وإن كانوا أهل كتاب، قد خرجوا على تعاليم كتبهم، وأفسدوا المعتقد الصحيح، الذي جاءهم به رسل الله، فاتخذوا من عباد الله آلهة، وجعلوا ولاءهم لهم، من دون الله..
وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه السّياق، وتقديره: أحسب الذين
كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء، ثم لا يلقون جزاء هذا العمل الفاسد الأثيم؟ كلا.. «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» وإذ كانوا يعملهم هذا قد دخلوا مداخل الكفر، وأصبحوا فى زمرة الكافرين، فإن جزاءهم هو جزاء الكافرين، ولا جزاء للكافرين إلّا جهنم التي جعلها الله المنزل الذي ينزلونه يوم الدّين..
قوله تعالى:
الاستفهام هنا خبرى، يراد به الكشف عن المجرمين، وعن الطريق الذي ركبوه، حتى وصلوا إلى هذا الذي هم فيه من كفر وضلال.
وفى سوق الخبر فى مساق الاستفهام، إثارة الانتباه إلى ما وراء هذا الاستفهام من جواب عليه.. ولو جاء الخبر مباشرا لما كان له هذا الوقع على النفس، حين تتلقاه بعد هذا الاستفهام المثير لحبّ الاستطلاع! والآيتان تقرران حكما هو: أن أخسر الناس أعمالا، وأبخسهم حظا بما عملوا، هم هؤلاء الذين يركبون الطريق المعوج، طريق الضلال، وهى فى حسابهم وتقديرهم أنها طريق خير وفلاح.. فمثل هؤلاء لا يرجى لفسادهم صلاح أبدا، إذ لا تكون منهم لفتة إلى أنفسهم، ولا نظر إلى ما هم فيه من سوء، حيث يرون أنهم على أحسن حال وأقوم سبيل! إن الذي يركب الشرّ، وهو عالم أنه على طريق الشر، لا يعيش مع نفسه
فى حال من السّلم والرضا، بل يظل هكذا قلقا، مضطربا، من تلك الحال التي هو عليها.. وقد يبلغ به الأمر إلى حد يستطيع معه أن يكسر القيد الذي قيّده به ضعفه، فى مواجهة شهوات نفسه الأمارة بالسوء، وعندها يجد أنّه قادر على التحرك فى الاتجاه الصحيح الذي كان يهمّ به، ولا يستطيعه.. فما أكثر ما يعرف الناس أنهم على غير طريق الهدى، وأن ما هم فيه من ضلال، هو من واردات الضعف المستولى عليهم، وأنهم- والحال كذلك- يودّون لو كانت بهم قوة تمكن لهم من تخطى هذه الحدود التي أقامهم فيها ضعف العزيمة، وغلبة الهوى.. كما يقول الشاعر:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه
…
وقد حيل بين العير والنزوان
أما من يركب الضلال، ويأتى المنكر، وهو على هذا الفهم السقيم، الذي يزين له الباطل، ويبيح له المنكر- فإنه لن ينتهى أبدا عن غيه، ولن يفيق أبدا من سكرة ضلاله.. وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى:
«أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) ويقول سبحانه: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (12: يونس) .
فهؤلاء الذين زين لهم سوء عملهم، فلم يروا ما هم فيه من كفر وضلال، فمضوا فى كفرهم وضلالهم، ولم يستمعوا لنصح ناصح، ولم يستجيبوا لدعوة داع يدعوهم إلى الهدى، وينذرهم بلقاء يومهم هذا- هؤلاء الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، لن يقام لأعمالهم وزن يوم القيامة:«إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (139: الأعراف) .
وفى الآيتين إشارة إلى هذا المعتقد الفاسد الذي يعتقده المعتقدون بألوهية عزير، والمسيح.. فهم- مع هذا المعتقد- على يقين بأنهم على الحق، وأنهم
إنما يرجعون فى معتقدهم هذا إلى نصوص من كتبهم المقدسة، التي أوّلوها هذا التأويل الفاسد، الذي أقام لهم من عباد الله آلهة يعبدونها من دون الله.
- وفى قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ» الإشارة إلى الجزاء الذي يجازى به هؤلاء الكافرون.. فاسم الإشارة مبتدأ، وجزاؤهم خبر، وجهنّم بيان لهذا الجزاء، وكأنه جواب عن سؤال هو: ما جزاؤهم هذا؟ فكان الجواب:
جهنم..
وهذا الجزاء سببه كفرهم بالله، واتخاذهم آياته ورسله هزوا.. فقد استهزءوا بآيات الله التي بين أيديهم، فحرفوا وبدلوا فيها، وتأوّلوا ما أبقوا عليه منها تأويلا فاسدا.. وكما استهزءوا بآيات الله بهذا المسخ الذي غيّروا به وجوهها، استهزءوا برسل الله، إذ غيّروا وجوههم، وألبسوها أقنعة تثير الضحك والسخرية، حيث يبدو الإنسان مسخا هزيلا، وشبحا باهتا، ودخانا متصاعدا يمثل إنسانا قدماه على الأرض، ورأسه فى السماء! قوله تعالى:
فى هاتين الآيتين، عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها المؤمنون يوم القيامة، وللجزاء الكريم الذي يلقونه يوم الجزاء.. فعلى حين يصلى الكافرون العذاب الأليم، ينعم المؤمنون بنعيم الجنّة ورضوان الله، وفى هذا ما يزيد من حسرة الكافرين، ويضاعف من عذابهم، بالقدر الذي يزيد من نعيم المؤمنين، ويضاعف من سرورهم ورضوانهم.
قوله تعالى:
هو بيان لقدرة الله، ونفوذ سلطانه، وتفرده بالألوهية.. وأن كلماته، وهى التي تنفذ بها مشيئته فى خلقه، لا تنفد أبدا، يقول الحق جلّ وعلا للأمر «كُنْ فَيَكُونُ» .. وهذا يعنى دوام الأمر والخلق أبدا.. كما يقول سبحانه:
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) .
- وقوله تعالى: «لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي» هو مثل قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» (27: لقمان) وهذا كله تصوير لقدرة الله، وبسطة سلطانه، وقيوميته على كل شىء.
قوله تعالى:
بهذه الآية تختم سورة الكهف، بتقرير بشريّة الرسول، وأنه وجميع رسل الله، ليسوا إلا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، اختصهم الله برحمته، واصطفاهم لرسالته..
وكما تقرر الآية بشريّة الرسول، تقرّر الطريق السّوىّ الذي ينبغى أن يستقيم عليه الإنسان كى يكون فى عباده الله الصالحين المؤمنين.. وهذا الطريق إنما يقوم على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح، الذي لا يجد الإنسان غيره فى هذا اليوم، مركبا يدفع به إلى شاطىء الأمن والسلام، ويفتح له أبواب الجنة والرضوان..
ويلتقى ختام السورة مع بدئها.. فى تقرير وحدانية الله، وتنزيهه عن الشريك والولد.. فقد جاء بدؤها:«لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» وهكذا يجىء ختامها: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» .
فإذا ادعى المدّعون من أهل الكتاب، أو غيرهم، أن لله ولدا، من هؤلاء الذين اصطفاهم الله لرسالته، وآتاهم من فضله، ما زاغت به عيون الضالين، حتى حسبوا أن هذا الاصطفاء وهذا الفضل، هو لقرابة أو نسب لله- إذا ادعى المدّعون الضالون نسبة أحد إلى الله، فإن محمدا براء من هذا، وبرىء ممن يضعه بهذا الموضع.. فما هو إلّا بشر من البشر، وإنسان من الناس، وعبد من عباد الله، وأنه إذا كان يدعو الناس إلى الله بكلمات الله التي معه، فذلك من فضل الله عليه، وهذه الكلمات التي يدعو بها إنما هى وحي أوحاه الله إليه، لهداية الناس، وخيرهم وسلامتهم.