المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (58- 60) [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ٨

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌17- سورة الإسراء

- ‌[ما يقال فى تسمية السورة]

- ‌[مناسبتها للسورة التي قبلها]

- ‌الآية: (1) [سورة الإسراء (17) : آية 1]

- ‌[وقفة مع الإسراء.. والمعراج]

- ‌دواعى هذه الرحلة:

- ‌رحلة فى العالم الأرضى:

- ‌رحلة فى العالم العلوي:

- ‌قصّة المعراج:

- ‌الآيتان: (2- 3) [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3]

- ‌[الحقيقة المحمّدية.. وما يقال فيها]

- ‌الآيات: (4- 7) [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 7]

- ‌[بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة]

- ‌الآيات: (8- 14) [سورة الإسراء (17) : الآيات 8 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 22) [سورة الإسراء (17) : الآيات 15 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 30) [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 30]

- ‌الآيات: (31- 39) [سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 39]

- ‌الآيات: (40- 44) [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 47) [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 47]

- ‌الآيات: (48- 52) [سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 57) [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 60) [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60]

- ‌الآيات: (61- 65) [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]

- ‌الآيات: (66- 70) [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 77) [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77]

- ‌الآيات: (78- 82) [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 82]

- ‌الآيات: (83- 88) [سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 88]

- ‌الآيات: (89- 96) [سورة الإسراء (17) : الآيات 89 الى 96]

- ‌الآيات: (97- 100) [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 100]

- ‌الآيات: (101- 104) [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 111) [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111]

- ‌18- سورة الكهف

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]

- ‌أصحاب الكهف

- ‌الآيات: (9- 26) [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26]

- ‌«عرض القصة»

- ‌كلمة عن القصة:

- ‌قصة أصحاب الكهف

- ‌وقفة أخيرة مع القصة

- ‌الآيات: (27- 31) [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31]

- ‌الآيات: (32- 44) [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 49) [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 49]

- ‌الآيات: (50- 53) [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]

- ‌الآيات: (54- 59) [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 64) [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 78) [سورة الكهف (18) : الآيات 65 الى 78]

- ‌الآيات: (79- 82) [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82]

- ‌[القضاء.. والقدر.. والإنسان

- ‌ما‌‌ القضاء؟ وما القدر

- ‌ القضاء

- ‌القدر:

- ‌الأسباب والمسببات:

- ‌الآيات: (83- 98) [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98]

- ‌[ذو القرنين.. من هو؟ وما شأنه

- ‌(ذو القرنين)

- ‌[الأسباب التي بين يدى ذى القرنين]

- ‌(مغرب الشمس.. ومطلعها)

- ‌«يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ»

- ‌(السد، وما أقيم منه)

- ‌الآيات: (99- 110) [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 110]

- ‌19- سورة مريم

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 15) [سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 15]

- ‌الآيات: (16- 36) [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 36]

- ‌الآيات: (37- 40) [سورة مريم (19) : الآيات 37 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 50) [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 58) [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 63) [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]

- ‌الآيات: (64- 70) [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 72) [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72]

- ‌[جهنم.. هل يردها الناس جميعا

- ‌الآيات: (73- 76) [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]

- ‌الآيات: (77- 87) [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 87]

- ‌الآيات: (88- 98) [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 98]

- ‌20- سورة طه

- ‌مناسبتها للسورة التي قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 16) [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]

- ‌الآيات: (17- 24) [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 24]

- ‌الآيات: (25- 41) [سورة طه (20) : الآيات 25 الى 41]

- ‌الآيات: (42- 56) [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 56]

- ‌الآيات: (57- 70) [سورة طه (20) : الآيات 57 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 76) [سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76]

- ‌الآيات: (77- 82) [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]

- ‌الآيات: (83- 98) [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 98]

- ‌الآيات: (99- 104) [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 114) [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114]

- ‌الآيات: (115- 127) [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127]

- ‌الآيات: (128- 135) [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135]

الفصل: ‌الآيات: (58- 60) [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60]

الذين كان يعبدهم المشركون، من ملائكة وغيرهم، من عباد الله الصالحين..

ويكون قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» هو خبر لقوله تعالى:

«أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ» .. أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، هم عباد من عباد الله المؤمنين به، يبتغون رحمته ويتخذون الوسائل إلى مرضاته بالطاعات والعبادات، وهم أبدا على رجاء فى رحمته، وخشية من عذابه.. كما يقول سبحانه وتعالى فيهم:«يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (50: النحل) وكما يقول جلّ شأنه: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (19- 20: الأنبياء) .

‌الآيات: (58- 60)[سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60]

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَاّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَاّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

التفسير:

قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» .

«إن» حرف يفيد النفي.. بمعنى «ما» أي: ما من قرية إلا نحن

ص: 507

مهلكوها قبل يوم القيامة.. فهذا حكم الله فى عباده.. «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» (29: يس) .

وإهلاك ما يهلك الله من القرى، هو تركها للزّمن، يفعل فيها ما يفعل فى الأحياء، فإذا عمارها خراب، وإذا أهلها تراب فى التراب.. كما يقول سبحانه:

«كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .

أما عذاب ما يعذّب من القرى، فهو ما يحلّ بتلك القرى من نقم الله، فيأخذها بما أخذ به القرى الظالمة، كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، حيث أهلكها الله سبحانه مرة واحدة، بما سلط عليها من عذاب- وقوله تعالى:«كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» تقرير لحكم الله فى خلقه.. وهو أن ذلك مما قضى الله به فى أم الكتاب، وجرى به القلم وسطّره فى اللوح المحفوظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22: الحديد) .

وفى هذا، إنذار لمشركى قريش، ولقريتهم التي تقف من النبىّ هذا الموقف العدائى، الظالم.. فتؤذى رسول الله، وتصدّ الناس عن سبيل الله..

إن هذه القرية لن تفلت من هذا المصير الذي تصير إليه القرى جميعا..

فإذا لم يأخذها الله سبحانه وتعالى ببأسه، ويعجّل لها العذاب، أخذها بسنته فى خلقه، فابتلعها باطن الأرض فيما ابتلع قبلها من قرى وأمم! قوله تعالى:«وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» ..

ص: 508

فى هذه الآية ردّ على مقترحات المشركين التي كانوا يقترحونها على النبي، وهى أن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون إلى أقوامهم، وجاءوهم بآيات ماديّة.. كعصا موسى، ويد عيسى، وناقة صالح، وطوفان نوح! فهذه الآيات، التي يقترحها المشركون، قد جاءت إلى أقوام مثلهم، فكفروا بها، ولم يروا فيها الدلائل التي تدلّهم على الله، وتهديهم إلى الإيمان به..

فكان أن أخذهم الله ببأسه، وعجّل لهم العذاب.

وهذا هو السبب الذي من أجله، لم يجىء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قومه بآية كتلك الآيات.. لأنها كانت بلاء على من جاءت إليهم ولم يؤمنوا بها، ولن يكون حال هؤلاء المشركين مع أيّة آية يأتيهم بها النبي، بأحسن من حال الذين سبقوهم.. والله سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء المشركين:

«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (14- 15: الحجر) .

- وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» وفى وصفها بأنها مبصرة إشارة إلى أنها كانت آية واضحة، تعيش فى النّاس، وتتمشّى بينهم، يمرّون بها مصبحين وممسين.. وليست كعصا موسى، ولا يد عيسى، فكلتاهما تظهر المعجزة فيها بإذن من صاحبها، ثم تختفى، دون أن يتاح للناس تقليبها، وترديد النظر فيها.. وهذا هو بعض السرّ فى اختصاص ناقة صالح بالذكر هنا، إنها كانت تعيش مع الناس، بين سمعهم وبصرهم..

- وقوله تعالى: «فَظَلَمُوا بِها» إشارة أنها كانت سببا فى أن اعتدوا عليها، فأصبحوا آثمين، ظالمين.. فحقّ عليهم العذاب.

- وقوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» أي ما نبعث بهذه الآيات

ص: 509

المادية إلا لتكون نذر هلاك وبلاء لمن تأتيهم.. لأنه إذا لم يؤمن بها القوم المرسل بها إليهم- وهيهات أن يؤمنوا- كان لا بد أن يقع العذاب بهم، ويصبحوا فى الهالكين..

فمن رحمة الله بهذه الأمة، أن لم تأتها الدعوة إلى الله بين يدى آية مادية..

فإنه لو حدث هذا، لكان فيه القضاء على أهل مكة التي طلعت منها شمس الدعوة الإسلامية، ثم لا نقطع ما بين النبىّ وقومه الذين يدعوهم إلى الله، إذ لم يكن له- والأمر كذلك- قوم.. وبهذا تطوى الدعوة كتابها، وينسحب الرسول من الميدان..!

ولكن الله بالغ أمره.. فجاءت الدعوة الإسلامية على هذا الأسلوب، لتعيش فى الناس، ما دام للناس حياة فى هذه الحياة! قوله تعالى:«وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» .

فى هذه الآية أمور:

- أولها: قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» «إذ» هنا ظرفية، تشير إلى وقت قيل فيه هذا القول للنبىّ.

فمتى كان ذلك؟ وما هو القول الذي قاله سبحانه وتعالى للنبىّ؟ وقيل هذا وذاك.. ما معنى الإحاطة بالناس؟ وما المراد منها؟

إحاطة الله بالناس، علمه بهم، علما محيطا، كاشفا لكل شىء منهم..

وإذن فكل آية فى القرآن جاءت تحدّث عن علم الله، صالحة لأن تكون هى هذا القول الذي قيل للنبىّ، والذي دعى هنا إلى تذكّره..

ص: 510

وأقرب آية نجدها هنا، هى قوله تعالى:«وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وقد ذكرت قبل هذه الآية بثلاث آيات.. فتكون إذن هى الآية المقصودة، ويكون وقتها معلوما للنبىّ! - ويكون معنى قوله تعالى:«وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» هو ردّ على المشركين الذين يقترحون الآيات المادية.. فهذه الآيات إنما ينزلها الله حسب مشيئته، وبما يقضى به علمه فى عباده.

- ثانيهما: قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ما هى الرؤيا؟ وما الفتنة التي فتن بها الناس منها؟

اختلف فى الرؤيا التي أريها النبىّ هنا.. وهل هى «الإسراء» ؟ أم أنها الرؤيا التي رآها وهو فى مكة من أنه سيدخل المسجد الحرام؟ أم أنها الرؤيا التي أريها فى مكة أيضا من أنه سيكون بينه وبين قريش حرب، وأن القوم سيهزمون؟. وكان فيما نزل من القرآن المكي قوله تعالى:«سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» حتى ليروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقول:

«كنت لا أدرى أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .. أي أنه عرف أن هذه الآية قد جاء يوم بدر بتأويلها..

ولا يعترض على الرأى الأول بأن «الرؤيا» تشير إلى أن الإسراء كان رؤيا منامية، مع أن الرأى المعوّل عليه أنها كنت رؤية اليقظة.. ذلك أن الرؤيا تستعمل فى اللغة بمعنى الرؤية.. وخاصة إذا كانت الرؤية بالليل، كالسير فإنه إذا كان فى الليل سمّى سرى، مع أنه فى حقيقته سير.

أما الفتنة التي فتن بها الناس من هذه الرؤيا، فقد ارتدّ بعض ضعاف

ص: 511

الإيمان من المؤمنين، بعد الإسراء.. كما أن رؤياه صلى الله عليه وسلم دخول المسجد الحرام، كانت مثار اضطراب وبلبال بين المسلمين، حين جاء النبىّ بالمسلمين معتمرا قبل الفتح فردّته قريش، وعقد صلح الحديبية بينه وبينها..

وكذلك الشأن فى رؤياه- صلى الله عليه وسلم أنه سينتصر على قريش فى أول معركة معها..

والرأى الراجح أن «الرؤيا» هى الإسراء، وقد عرفت الاعتراض على هذا الرأى، وردّنا عليه.

- وثالثها: قوله تعالى: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» .

ما الشجرة الملعونة فى القرآن؟ ولم لعنت؟ ثم لم كانت فتنة؟

لم يذكر القرآن الكريم، شجرة موصوفة بتلك الصفة، وهى اللعنة..

ومن هنا ذهب المفسّرون مذاهب شتّى فى هذه الشجرة.

والذي نتخذه دليلا فى بحثنا عن تلك الشجرة، أنها ذات صلة بقريش، وأنها مثار فتنة للمشركين..

وعلى هذا، فإنا نجد فى القرآن الكريم شجرة ذكرت فى سورة «الصافات» وهى من القرآن المكي، وقد تهدّد بها الله سبحانه وتعالى، المشركين، وأذاقهم طعامها النكد، فى هذه الدنيا، قبل أن يملئوا منها بطونهم فى جهنم، فقال تعالى:«أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» (62- 68: الصافات) . وفى سورة الواقعة، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ

ص: 512

لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56: الواقعة) وفى سورة الدخان، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى:«إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46) .

فهذه الشجرة قد ذكرها الله سبحانه وتعالى فى القرآن المكي، وعرضها فى هذه المعارض، مهددا بها المشركين، متوعدهم بها، مذيقهم طعامها الذي يغلى فى البطون كغلى الحميم.

وقد كان المشركون، يستمعون إلى هذا القرآن، ويتناجون بما تملى لهم أهواؤهم وضلالاتهم فيه، كما يقول الله سبحانه وتعالى:«نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» (47: الإسراء) .

وقد كانت هذه الشجرة مثار استهزاء وسخرية فيما بينهم، كما أنها كانت مادة للعبث منهم بالمسلمين، وبمعتقدهم فى صدق الرسول، الذي يقول لهم مثل هذا القول.. إذ كيف يقول «محمد» بأن النار التي سيعذّب فيها من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، هى جحيم، وأنّها نار تلظى، وقودها الناس والحجارة- كيف يقول هذا، ثم يقول إن هناك شجرة أو أشجارا من زقّوم تطلع فيها، ثم تثمر ثمرا يأكله المعذّبون بتلك النار؟ أهذا قول يتفق أوله مع آخره؟ النار التي تأكل كل شىء، تصلح لأن تكون مغرسا ومنبتا لشجر؟

وأكثر من هذا، فقد بدا لبعض الذين سفهوا أنفسهم من هؤلاء المشركين، أن يتخذوا من هذا الوعيد الذي توعدهم الله به، مادة للتسلية، والعبث، إمعانا فى الاستهزاء والسخرية، ومبالغة فى التكذيب والتحدي..

فمن ذلك ما روى عن أبى جهل أنه كان يقول: «هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر؟ وما نعرف الزّقوم إلا التّمر

ص: 513

بالزّبد، ثم يأمر جارية له، فتحضر تمرا وزبدا، ثم يقول لأصحابه: تزقّموا» ! وقد وجد هذا القول سبيلا إلى بعض ضعاف الإيمان، وصغار الأحلام من الذين دخلوا فى الإسلام، فوقع الشك فى نفوسهم، فكان ذلك داعية لهم إلى أن يرتدّوا عن الإسلام، خاصة وأنهم فى وجه محنة قاسية، وبلاء عظيم، لا يمسكهم عليه إلا إيمان وثيق، فإذا زاحم هذا الإيمان شىء من هذه الشكوك الكاذبة، التي يسوقها إليهم المشركون، وجد ضعاف الإيمان منهم الفرصة سانحة للخروج من هذا البلاء، بأوهى سبب! وهذا، ما يشير إليه قوله تعالى:«وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» ..

فهاتان آيتان من آيات الله المأدبة، وهما القول بالإسراء، والقول بتلك الشجرة التي تنبت فى أصل الجحيم.. وفى هاتين الآيتين فتنة للناس، أي لهؤلاء المشركين، كما كانت الآيات المادية فى الأمم السابقة فتنة لتلك الأمم! وأنه إذا كان المشركون يريدون آيات مادية فهاتان آيتان مادّيتان، أو شبه ماديتين، وقد كانتا فتنة لهم.. فهل تزيدهم الآيات المادية إلا فتنة إلى فتنة؟

- وفى قوله تعالى: «وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» إشارة إلى أن هذه الآيات المادية أو شبه المادية، هى نذير بلاء وفتنة، ومطلع عذاب عاجل يقع بالمشركين، إن هم أصروا على موقفهم هذا الذي يقفونه من آيات الله..!

بقي أن نعرف لم وصفت الشجرة بأنها ملعونة؟ ولم تلعن وهى لم يكن منها ما يستوجب اللعن؟

والجواب:

أولا: أن الله سبحانه وتعالى قد وصفها بأنها تنبت فى أصل الجحيم،

ص: 514

ووصف طلعها- أي ثمرها- كأنه رءوس الشياطين.. والشيطان ملعون من الله.. فهى لهذا عدوّ مبين للإنسان، الذي سيسوقه شؤمه إلى أن يطعم منها، فيجب أن يحذرها، كما يحذر الشيطان.. فناسب ذلك أن تبدو لأعين النّاس فى صورة الشيء الملعون، الذي يحذر، ويتوقّى.

وثانيا: أن وصف الشجرة بأنها ملعونة، لا ينبنى عليه أنها ملعونة من الله، وإنما هو وصف بالنسبة لآثارها فيمن يذوق طعمها، فهو طعام كريه، لا يطعمه إلا الخاطئون.. فإذا وصف الشيء بأنه مرّ المذاق، أو خبيثه، فهو بالنسبة لطاعمه.. وقد لا يكون طعمه على تلك الصفة فى حقيقته..

ثالثا: جاء فى قوله تعالى فى وصف الشجرة: «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ» ..

فهى فتنة، كما أن الشيطان فتنة.. وقد جاء فى قوله تعالى:«وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» أي هى فتنة كذلك..

وهذا مما يرجح القول بأن المقصود بالشجرة هى شجرة الزقوم، كما يقيم ذلك دليلا على أنها شجرة ملعونة..

أما عن استنكار المشركين للجمع بين النار، والشجر.. فذلك لجهلهم بقدرة الله، أولا، ولجهلهم بأسرار الطبيعة ثانيا.. فالنار، والشجر، والماء، والطين.. وكلّ ما يرون فيه من تناقض. هو من أصل واحد، ومن مادة واحدة، وإن اختلفت صوره وأشكاله.. وقد استطاع العلم الحديث أن يحوّل الأشياء من حال إلى حال، بإجراء بعض التغييرات فى تركيب عناصرها، كتحويل الصلف إلى لبن، والخشب إلى ورق مصقول، أو حرير ناعم..

إلى غير ذلك مما يتحول به الشيء من النقيض إلى النقيض..

بل إن الطبيعة نفسها لتقوم بهذه العمليات كل يوم، فتحول الهواء الشفاف إلى ماء، وتحول الماء إلى هواء.. كما تحول الماء السائل إلى ثلج جامد، والملح

ص: 515