الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» .. فى هذا ما يسأل عنه، وهو:
كيف يخاطب إبليس بهذا الخطاب الذي يشعر بالقرب: «كَفى بِرَبِّكَ» ؟
والجواب على هذا، - والله أعلم- أن هذا الخطاب ليس لإبليس، وإنما هو التفات إلى الإنسان، الذي هو داخل فى عموم قوله تعالى:«إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» وكأنهم بمشهد من هذا الخطاب.. ثم إنه بدلا من أن يجىء النظم بصيغة الجمع هكذا: «وكفى بربكم» جاء النظم القرآنى بصيغة المفرد «وَكَفى بِرَبِّكَ» .. وذلك لينظر كل إنسان إلى خاصة نفسه، وليعمل ما وسعه العمل على أن يتوقّى هذا الشيطان المترصد له، والمتربص به، وليكن مما يستعين به على ذلك أن يتوكل على الله، وأن يستعين به، وليجعل فى يقينه أنه من عباد الله، الذين لا سلطان للشيطان عليهم..
ويجوز أن يكون الخطاب للشيطان، قهرا له: وإلزاما له بسلطان الربوبية، الذي خرج بكفره عن سلطانه.. وأنه مقهور مخذول، ليس له على عباد الله سلطان، وهو سبحانه وتعالى وكيلهم الذي يدفع عنهم كيده.
الآيات: (66- 70)[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70)
التفسير:
قوله تعالى: «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» ..
بعد أن خوطب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، بقوله:«وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» جاء الخطاب إلى النّاس جميعا، شارحا هذه الوكالة، وما يجىء منها إلى الإنسان من إمدادات الخير والإحسان من ربّ العالمين، فالله سبحانه، هو الذي سخّر للناس البحار والأنهار، تجرى فيها الفلك بأمره حاملة الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد، دون أن يطغى الماء على الفلك، أو يمسكها على ظهره بلا حراك.. كما يقول سبحانه:«إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (33: الشورى) وهو سبحانه بهذه الوكالة القائمة على الناس قادر على أن يدفع عنهم ما يكيد به الشيطان لهم، إذا هم آمنوا بالله واتخذوه وكيلا.
قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» وفى الحال التي تتعرض فيها الفلك لريح عاصف، أو موج صاحب، لا تجدون أيها الناس من يكشف هذا البلاء، إلا الله.. «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» فليس لمعبوداتكم التي تعبدونها سبيل إليكم وأنتم فى هذا الكرب..
إنهم قابعون هناك حيث تركتموهم فى معابدكم، أحجارا جاثمة، أو جثثا هامدة.. ولكن سرعان ما تنسون أيها الناس فضل الله عليكم، ورحمته
بكم: «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» عنه، وأعطيتم وجوهكم لآلهتكم..
وهذا فوق أنه سفه وضلال، هو كفران وجحود.
قوله تعالى: «أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» .
ولكن أين تذهبون؟ إذا أنتم أمنتم جانب البحر؟ أو تخرجون من ملك الله؟ ثم أتدفعون بأس الله عنكم إذا جاءكم؟ فهل تأمنون، وأنتم فى البرّ أن يرسل الله عليكم ريحا عاصفة، محملة بالهلاك والدمار، فتغرقكم فى الأرض، وتدفنكم فى بطنها.. فإذا كنتم قد سلمتم من الغرق فى البحر، فهل تعجز قدرة الله من أن تنالكم بالبلاء وأنتم على ظهر اليابسة؟ وهل إذا وقع بكم هذا البلاء، هل هناك من يتولى دفعه عنكم؟.
- وفى قوله تعالى: «جانِبَ الْبَرِّ» إشارة إلى هذا الحمى وذلك الجناب الذي يجد فيه الإنسان طمأنينة وأمنا حين يضع قدمه على اليابسة، بعد أن يترك البحر ومخاطره.. فهذا الجانب لا يعصم من أمر الله، ولا يردّ بأسه.
وهل أمنتم، بعد أن نجاكم الله من الغرق وأنتم على ظهر السفين، ثم كفرتم بالله، ولم تذكروا فضله عليكم ورحمته بكم- هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى، مسوقين إليه بسلطان قدره وقدرته، ثم يرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.. إنه انتقام من كفركم بالله ومكركم بنعمه عليكم.. فهل إذا أغرقكم الله فى تلك المرّة، هل يكون لكم على الله حجة؟ أليس هذا هو الجزاء العادل الذي أنتم أهل له بكفركم، وضلالكم؟
لقد أراكم الله سبحانه فضله ورحمته، فأنكرتم الفضل والرحمة.. وهذا بلاؤه
ونقمته.. فهل تنكرون البلاء والنقمة؟ «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» !.
(165: آل عمران) والتبيع: من يتبع غيره، والمراد به هنا من يطالب الله بما يحلّ بالمشركين من بلاء.
هو استعراض عام لنعم الله على الناس جميعا.. أبناء آدم.. فقد كرمهم الله سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي خلقهم عليها، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، كما يقول سبحانه:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (4: التين) وكما يقول جلّ شأنه: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» (6- 8: الانفطار) .
ومع هذا التكريم فى الخلق، فقد سخر الله للناس ما فى البرّ والبحر، وأفاض عليهم من الخيرات والنعم، وأقامهم على هذه الأرض، وجعلهم خلفاءه عليها.. وهذا كلّه من شأنه أن يدعو الإنسان إلى الولاء لله، وإفراده سبحانه بالحمد والثناء! - وفى قوله تعالى:«وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» - ما يسأل عنه وهو: ما منزلة الإنسان بين المخلوقات؟ وما المخلوقات التي فضّل عليها؟
وما المخلوقات التي فضّلت عليه؟
صريح منطوق الآية يدل على أمرين:
أولهما: أن الإنسان فضّل على كثير من المخلوقات التي بثّها الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجود كلّه.
وثانيهما: أن هناك مخلوقات لا يفضلها الإنسان، وهى إما أن تكون مساوية له فى الفضل، أو هى أفضل منه..
والذي لا شك فيه، هو أن الإنسان فى أصل خلقته، أفضل المخلوقات التي تعيش معه على هذا الكوكب الأرضىّ، ولهذا جعله الله خليفته فى هذه الأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى:«إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ولكن هذه الخلقة المهيأة لأن تكون بمقام الخلافة لله تعالى على الأرض، لا يتحقق لها هذا، حتّى تحقق هى ذاتيتها، وتخرج القوى الكامنة فيها، وتفجّر الطاقات المندسّة فى كيانها.. كالنواة التي تضمّ فى كيانها عناصر شجرة عظيمة، أو نخلة باسقة.. تظلّ هكذا شيئا ضئيلا ميتا، حتى تندسّ فى صدر الثّرى، ثم تتفاعل معه، وتخرج خبأها بعد جهد وصراع.
أما الإنسان الذي لا يعمل على الانتفاع بما أودع الله فيه من قوى، فسيظل كتلة باردة من لحم ودم، لا يرتفع كثيرا عن مستوى أدنى الحيوانات وأحطها منزلة.. والله سبحانه وتعالى يقول:«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 6: التين) .
هذا هو مقام الإنسان فى العالم الأرضى.. إنه سيد المخلوقات كلها فى هذا العالم، مادام محتفظا بإنسانيته، عاملا على الارتقاء بوجوده.. أما المخلوقات التي فى غير هذا العالم الأرضى، فلا شأن للإنسان بها، كما أنها لا شأن لها بالإنسان، ومن ثمّ فالمفاضلة بينه وبينها شىء غير وارد، وغير منظور إليه.. إذ لا تعامل بين الإنسان وبين تلك المخلوقات!