الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب هنا، هو الكتاب الذي سجّلت فيه الأعمال- كل الأعمال، الصالحة، والسيئة.. كما يقول سبحانه:«وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» (10: التكوير) .. حيث ينكشف لكل إنسان عمله، من خير أو شر..
«يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6- 8: الزلزلة) .
ويعجب الّذين كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، مما يطلع عليهم به هذا الكتاب.. لقد أحصى عليهم كل شىء.. ويقولون:«مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» .. إنهم ما كانوا يحسبون أن شيئا من هذا سيقع، وأنه إذا وقع فلن يكون على تلك الصورة التي فضحت كل شىء كان منهم فى دنياهم.. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) ..
الآيات: (50- 53)[سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53)
التفسير:
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد عرضت الناس بين يدى الله يوم القيامة، فإذا هم مؤمنون، وكافرون.. مؤمنون قد آمنوا بالله، واستجابوا لدعوته على يد رسله، وكافرون قد خرجوا عن أمر الله، وعصوا رسله.. وهنا صورة فى الملأ الأعلى، تشبه هذه الصورة التي وقعت فى الأرض..
حيث جاءت دعوة الله إلى الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجدوا امتثالا لأمر الله.. ولكن كائنا من كائنات الملأ الأعلى قد غلبت عليه شقوته، ففسق، أي خرج عن أمر ربّه، وأبى أن يسجد!! فطرده الله من الملأ الأعلى، وألقى به إلى العالم الأرضى، صورة للتمرد والعصيان، ودعوة من دعوات الإغواء والإفساد والفسوق عن أمر الله، إلى جانب الدعوة التي يحملها رسل الله إلى الناس بالهدى والإيمان..
وفى قوله تعالى: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟» تحذير للناس من هذا العدوّ، الذي لعنه الله وطرده من رحمته- تحذير لهم من أن ينقادوا له، فمن انقاد له فقد فسق، أي خرج عن أمر ربّه، كما فسق هذا الرجيم الملعون عن أمر ربّه، وكان وضعه فى المجتمع الإنسانى المؤمن، كوضع إبليس من الملائكة..
- وفى قوله تعالى: «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» إشارة إلى هذا الخسران المبين الذي لحق أهل الضلال الذين استغواهم الشيطان فغووا، وخيّروا بين الهدى
والضلال، وبين الله والشيطان.. فانحازوا إلى جانب الشيطان وركبوا معه مركب الغواية والضلال..
قوله تعالى:
«ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» ضمير النصب فى قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ» يراد به أولئك المعبودون، الذين يعبدهم المشركون من دون الله! فهؤلاء المعبودون أيّا كانوا، هم ممن زيّن الشيطان للنّاس عبادتهم، حيث أضلّهم، وأعمى أبصارهم، ثم دعاهم فاستجابوا له، وعبدوا من المعبودات من صوّره لهم، وأراهم فيه الإله الذي يعبدونه.. ومن هنا صح أن يكون كلّ من عبد غير الله، عابدا للشيطان، أصلا، وإن كان فى واقع الأمر عابدا صنما، أو إنسانا، أو ملكا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ.. أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (40- 41: سبأ) .
- وفى قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» تشنيع على أولئك الذين يعبدون غير الله، ويستجيبون لدعوة إبليس، وذريته.. فإن إبليس لم يكن هو وذريته إلا خلقا من خلق الله، وأنهم ليس لهم سلطان مع الله، فما شهدوا خلق هذا الوجود، وما فيه من سموات وأرضين، بل إنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم.. إذ كيف يشهد المخلوق خلق نفسه؟ وإذن فما سلطان هؤلاء المخلوقين على الناس، وهم خلق مثلهم؟ وكيف يقبل مخلوق أن يستدلّ لمخلوق مثله، بل ويعبده، من دون الله؟.
- وفى قوله تعالى: «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» عرض لإبليس
وذريته فى هذه الصورة الساقطة من بين المخلوقات جميعا، وأنهم مضلّون، مفسدون.. وأنه إذا جاز أن يتخذ الله سبحانه وتعالى من خلقه عضدا، أي معينا- وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- فإنه لن يتخذ أرذل خلقه، وأبعدهم من رحمته.. إنه لا يستقيم أبدا أن يقرّب الإنسان أبغض الناس إليه، ويتخذهم أعوانا له، وبين يديه من هم أحباؤه، وأصفياؤه، وأهل ودّه؟ فكيف بالله سبحانه وتعالى، وبحكمته وعلمه بخلقه؟
قوله تعالى:
الموبق: المهلك، وهو هنا النار التي يلقى فيها المشركون.
وهذه الآية عرض عام لما يكون بين المشركين، وبين من اتخذوهم شركاء من دون الله، حين يجدّ الجدّ، وتقع ساعة الحساب.. عند ذلك ينادى منادى الحق على هؤلاء المشركين: أن ادعوا شركاءكم الذين زعمتم، أي الذين اصطنعتموهم من مزاعم أوهامكم وظنونكم.. «فَدَعَوْهُمْ.. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» .. بل أنكروهم، وأنكروا أن لهم صلة بهم.. أو لم يستجيبوا لهم أصلا، إذ كان ما عبدوه وهما باطلا، لا وجود له.. «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً» أي جعلنا بين المشركين وبين من أشركوا بهم «موبقا» أي حاجزا من النار يلقى فيها هؤلاء المشركون، دون أن تمتد إليهم يد من هؤلاء الشركاء الذين كانوا يعبدونهم، ويلقون إليهم بالمودة والولاء، فهذا الذي كان بين المشركين وبين معبوداتهم من ولاء ومودة، قد صار هلاكا، ووبالا، ونارا تلظّى! وفى قوله تعالى:«شُرَكائِيَ» بإضافتهم إليه سبحانه وتعالى، مع أنهم ليسوا شركاءه على الحقيقة- فى هذا عرض لتلك الجريمة الشنعاء على أعين هؤلاء