الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكرب، وتغيم فى وجهه المرئيات، فلا يرى إلا ظلاما وضلالا.
قوله تعالى:
وفى ذلة وانكسار، يسأل الظالم ربه:«لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟» فى الدنيا.. ويأتيه الجواب من الحق سبحانه وتعالى: «كَذلِكَ» أي كهذا العمى الذي أنت عليه فى الآخرة، كنت فى الدنيا، إذ أتتك آياتنا فعميت عنها، وأهملت النظر فيها.. «وَكَذلِكَ الْيَوْمَ» أي فى هذا اليوم، يوم القيامة «تنسى» أي تترك فيما أنت عليه من عمى..
قوله تعالى:
أي بمثل هذا الجزاء نجزى من أسرف على نفسه، ودفع بها فى متاهات الضلال، ولم يؤمن بآيات ربه التي عرضت عليه.. إنه يحشر يوم القيامة أعمى.. ثم إن وراء هذا عذابا هو أشدّ من هذا العمى، وأبقى أثرا.
الآيات: (128- 135)[سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
التفسير:
قوله تعالى:
الاستفهام هنا للإيجاب والتقرير.. ويهدى: يبيّن.. والنّهى العقول، حيث تنهى أصحابها عن المنكرات من الأمور..
ويكون المعنى.. أن القرآن الكريم قد بين لهؤلاء المشركين ما حل بالأمم السابقة قبلهم، وما صار إليه أمرهم، بعد أن عمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، وقد كان فى ذلك عبرة لمن يدير نظره، ويلفت عقله إلى هذه العبر والمثلات.. ولكن القوم فى غفلة معرضون..
- وقوله تعالى: «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» جملة حالية، وصاحب الحال ضمير الغائب العائد على المشركين فى قوله تعالى:«قَبْلَهُمْ»
قوله تعالى:
«وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى» .
الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى، هى قوله تعالى للنبى الكريم:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فلولا هذه الكلمة التي أعطاها الله سبحانه وعدا لنبيه الكريم «لَكانَ لِزاماً» أي لكان أمرا لازما لا محيص عنه، وهو أن يحلّ بهؤلاء المشركين، الذين عصوا رسول الله ما حلّ بغيرهم من القرون السابقة، الذين عصوا رسل الله..
- وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «كَلِمَةٌ سَبَقَتْ» .. أي لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان لزاما..
وقدّم جواب لولا على بقية الشرط، للاهتمام به، والإلفات إليه.. وأن كلمة الله هى الرحمة التي رحمهم بها بفضل مقام النبىّ الكريم فيهم.. فلعلّ هؤلاء المشركين يعرفون نعمة الله فيهم، ومقام النبي بينهم..
والأجل المسمى، هو ما قدّر لهم من آجال فى هذه الدنيا..
قوله تعالى:
الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو دعوة له بالصبر على ما يكره من أقوال المشركين المنكرة التي يرمونه.. بها وليجعل من تسبيح ربّه، وذكره وحمده وشكره، غذاءه الذي يتغذّى به، ودواءه الذي يتداوى به، فى أوقات
مختلفة من الليل والنهار.. قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وفى أجزاء من الليل، وأطراف من النهار.. وبذلك تسكن نفسه ويطمئنّ قلبه..
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) .
قوله تعالى:
والخطاب هنا أيضا للنبى، ومن ورائه كل من اتّبعه، وسلك سبيله..
- وقوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» نهى يراد به النصح والإرشاد، وذلك بألا يلتفت النبىّ والمؤمنون إلى ما بين أيدى هؤلاء المشركين من أموال وبنين وألا يقع فى نفسه، أو أنفس المؤمنين، أن ذلك الذي أمدّ الله بعض المشركين، به، من نعمة، هو تكريم لهم، وإحسان منه سبحانه وتعالى إليهم.. بل هو ابتلاء وامتحان لهم، ليرى منهم سبحانه أيشكرون أم يكفرون؟ .. وها هم أولاء قد كفروا به، وحادّوه، وحاربوا رسوله، وبهذا تحولت هذه النعم إلى سيئات وأوزار، تضاف إلى رصيدهم مما كسبوا من سيئات وأوزار..
- وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى أن ما يتمتع به المشرك من عطاء الله هو شركة بينه وبين زوجه، التي هى متعة من متعه وهو متعة لها..
فالمرأة كالرجل هنا، فى أنها مبتلاة بنعم الله، ومحاسبة عليها.. فإن شكرت، وآمنت، وعملت صالحا أخذت بحظها من رضوان الله، وإن جحدت وكفرت، وخالطت الآثام، فعليها وزر ما عملت، وستلقى جزاءها من عذاب الله.
- وفى قوله تعالى: «زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى أن ذلك المتاع الذي فى
أيدى الناس، هو زهرة من زهرات الحياة الدنيا، يبهج العين، ويسرّ القلب..
ولكنّه لا يعمّر طويلا، بل سرعان ما يذبل ويجفّ، ثم يصير حطاما.. تماما كالزهرة. تملأ العين بهجة ومسّرة، ثم تموت وشيكا!! و «زهرة» منصوب على أنه مفعول ثان للفعل:«متّعنا» لتضمنه معنى «أعطينا» .
- وفى قوله تعالى: «وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» - إشارة إلى ما بين يدى النبىّ الكريم من رزق عظيم.. هو القرآن الكريم، ثم تلك الرسالة الشريفة التي اصطفاه الله لها، وتخيّره لتبليغها عنه إلى عباده! فأى رزق خير من هذا الرزق؟ وأي عطاء أكرم وأوفر من هذا العطاء؟ إنه أشرف قدرا، وأعظم أثرا، وأخلد ذكرا من كلّ ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع! قوله تعالى:
هو دعوة للنبى الكريم أن يدعو أهله من زوج وولد، وكلّ مؤمن ومؤمنة، إذ كانوا جميعا أهله، وهو القيّم عليهم، والمدبّر لأمرهم- أن يدعوهم جميعا للصلاة، إذ هى الصورة المثلى الكاملة لذكر الله، وحمده وشكره..
- وقوله تعالى: «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» أمر بالمداومة عليها، وإن كان فى تلك المداومة شىء من العناء.. فذلك تكليف، وللتكاليف أعباؤها وأثقالها، وإلا ما استحقّ القائمون بها حمدا، ولا استوجبوا أجرا..
- وفى قوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» - إشارة إلى أن الصّلاة التي يؤديها النبىّ ومن معه من المؤمنين لله- ليست سدّا لحاجة الله سبحانه وتعالى إليها،
فالله سبحانه فى غنى عن العالمين.. وكلّ ما يتقدم به المؤمنون والمتقون إلى الله من طاعات وقربات عائد إليهم، حيث تطهر به قلوبهم، وتزكو به نفوسهم، وفى هذا يقول الله تعالى:«ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (57- 58: الذاريات) ويقول سبحانه فى هدى الأضاحى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (37: الحج) .
- وفى قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» مقابلة لقوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» أي بل نحن نرزقك، ونتفضّل عليك ابتداء وانتهاء..
- وقوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» - إشارة إلى أن ما يؤديه النبىّ والمؤمنون لله سبحانه وتعالى من عبادات، وقربات، هو مما يدّخر لهم، ويبقى.. كما يقول سبحانه:«وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (46: الكهف) .
وفى إسناد العاقبة إلى التقوى، لا إلى الأعمال الصالحة، إشارة إلى أن الأعمال الصالحة هى وسائل إلى غاية، والغاية هى التقوى.. التي هى ثمرة الأعمال الصالحة..
قوله تعالى:
القائلون هذا القول هم المشركون.. وفى حكاية قولهم، إعلان لهم بتلك التهمة، وعرضهم فى ساحة الاتهام بها، والحساب عليها..
والآية التي يطلبونها، ويلحّون فى طلبها، هى آية مادية، يرونها رأى
العين، ولو كانت عذابا يسقط عليهم من السماء، أو بلاء يطلع عليهم من الأرض..
وفى قولهم: «مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بالنبيّ وسخرية به، وسفاهة عليه منهم..
وقد ردّ الله عليهم بقوله: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟» والبيّنة هى القرآن الكريم، والنبىّ الكريم معا.. كما يقول سبحانه:
والصحف الأولى، هى صحف إبراهيم وموسى، كما يقول الله تعالى:«إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18- 19: الأعلى) .
والقرآن والرسول هما بينة لما فى الصحف الأولى، أي هما بيان لها، ومعلم لما جاء فيها.. فهو المصدّق لها، والمهيمن عليها..
قوله تعالى:
هو تهديد للمشركين، وأنهم فى معرض العذاب بعد أن نزل عليهم القرآن، وبلّغهم الرسول آيات ربّه.. وأنهم لا حجة لهم إذا هم وقعوا تحت عذاب الله، وأخذوا بما أخذ به الظالمون قبلهم.. فهم- والأمر كذلك- لا يستطيعون أن يقولوا: ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تأخذنا بهذا العذاب؟ إنك لو أرسلت إلينا رسولا لآمنا به، ولما حلّ بنا الذل والخزي، ولما نزل بنا ما نزل من بلاء!
لقد قطعت حجتهم.. فهذا رسول الله بينهم، وهذا كتاب الله يتلى عليهم..فماذا هم قائلون لو أخذهم الله ببأسه، وأوقع بهم عذابه؟
قوله تعالى:
وبهذه الآية تختم السورة الكريمة، لتنهى موقفا من مواقف الدعوة، بين النبىّ والمشركين..
إنهم قد أبلغوا رسالة ربّهم، وقد صرّفت لهم الآيات، وضربت لهم الأمثال، وأقيمت الحجج والبراهين.. وها هم أولاء على مفترق الطرق.. فإما أن يأخذوا يمينا أو شمالا.. إما أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لرسول الله، فتسلم لهم دنياهم وآخرتهم جميعا.. وإما أن يصدّوا عن سبيل الله، ويأخذوا طريقهم مع أهوائهم وشياطينهم، فيخسروا الدنيا والآخرة معا.. وستكشف الأيام ما يكون منهم..
وسيعلم الظالمون لمن عقبى الدار! بعون الله تم الكتاب الثامن، ويليه الكتاب التاسع إن شاء الله.
وفيه تفسير الجزءين السابع عشر والثامن عشر.. وعلى الله قصد السبيل، ومنه سبحانه السداد والتوفيق، وله الحمد فى الأولى والآخرة.