الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصخرة المقصودة.. ولهذا، لم يلتفت موسى إلى فتاه، ولا إلى ما كان من نسيان الحوت، بل اتجه إلى المكان الذي عنده الصخرة، قائلا:«ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» أي ذلك هو المقصد الذي كنا نقصده، والموضع الذي نبحث عنه..
«فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» أي فعادا إلى الوراء، يتبعان آثارهما التي تنتهى بهما إلى حيث أويا إلى الصخرة، التي نسى الحوت عندها..
ذلك- فى تقديرنا- هو أقرب مفهوم إلى تلك الآيات، وما ضمّت عليه من أسماء، ومسمّيات.. أما ما ذهب إليه المفسّرون من مقولات، لا يحتملها النظم القرآنى على أية صورة من صور الاحتمال، فذلك ما رأينا أن نصرف النظر عنه، فهو أقرب إلى الأساطير والخرافات منه إلى أي شىء آخر!!
الآيات: (65- 78)[سورة الكهف (18) : الآيات 65 الى 78]
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78)
التفسير:
فى هذه الآيات تبدأ أحداث هذا الحدث العظيم الذي كان موسى على موعد معه، والذي من أجله قطع هذه الرحلة المثيرة، واحتمل ما احتمل من جهد وعناء.
وهنا يلتقى الرجلان: موسى والعبد الصالح، ويقول المفسّرون، والمحدّثون عن هذا العبد الصالح إنه «الخضر» الذي يصفونه بصفات عجيبة، هى من بعض واردات ما تشير إليه الآيات، والتي يبدو فيها أستاذا كبيرا يعلّم نبيّا من أنبياء الله..
والقرآن الكريم، لم يتحدث عن هذا العبد الصالح أكثر من وصفه بأنه عبد من عباد الله، آتاه رحمة منه، وعلمه من لدنه علما.. ولا شك أن هذا الوصف يضفى على صاحبه من الألطاف الربانية ما يرفع مقامه إلى أعلى عليّين، حيث يشهد من عالم الغيب ما لم يظهر الله سبحانه عليه أحدا إلا من ارتضى من عباده..
أما ما ذهب إليه أكثر المفسّرين من مقولات فى «الخضر» وفى أن يملأ هذه الدنيا حياة وأنه يطوف بآفاق الأرض، ويردّ السلام على كل من يسلّم عليه،
وأنه يظهر لبعض الناس ويتحدث إليهم.. فذلك كلّه من وراء ما تحدث به آيات القرآن الكريم.
وهذا اللقاء الذي وقع بين موسى والعبد الصالح لم يدم طويلا، ولم تجر فيه بينهما إلا أحداث ثلاثة، أوقعت بينهما خلافا حادّا، ثم انتهت بفراق..
ويبدأ اللقاء بين العبدين الصالحين، بأن يعرض موسى على صاحبه أن يقبله تابعا له، يتعلم من علمه، ويغترف من بحره.. وذلك فى تواضع كريم وأدب نبوىّ عظيم.. فيقول:
«هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟» .
وفى هذا العرض أمور:
1-
استئذان مصحوب برجاء، وتلطّف..
2-
أن يكون موسى تابعا يقفو أثر متبوعه، ويمشى فى ظله.
3-
أن تكون غاية هذه الصحبة، وتلك المتابعة، تحصيل العلم والمعرفة، فيفيد موسى علما، وينال العبد الصالح أجرا.
4-
هذا العلم الذي عند العبد الصالح ليس من ذات نفسه، بل هو علم علّمه، وإذن فهو مطالب بأن يعلّم كما علّم..
5-
هذا العلم المطلوب تعلّمه، هو مما يكمل به الإنسان ويرشد.. فهو علم يهدى إلى الحق، وإلى الرشاد، لا إلى الضلال والفساد.
ويستمع العبد الصالح إلى هذا العرض من موسى، فيرى أن العلم الذي عنده، والذي يطلب موسى تناول شىء منه، هو علم لا يستسيغه عقله، ولا يقبله منطقه، فيقول له فى وداعة ولطف:
«إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ؟
أي إن العلم الذي معى، هو علم فوق إدراك العقول وتصوراتها،. وإذن فلن يكون مبعث اطمئنان لك، إذ يرفضه عقلك، ويتأبّى عليه منطقك.. والعلم الذي يفيد صاحبه، هو العلم الذي يحيط به عقله، وتتسع له مداركه، فينزل عنده منزل القبول والاطمئنان.. فإذا لم يكن كذلك أضرّ ولم ينفع، وأثار فى النفس قلقا، واضطرابا، وعقد فى سماء الفكر، سحبا من الشكوك والريب.
وإذ يتلقّى موسى هذا الرد، يجد أن الفرصة تكاد تفلت منه، ويرى سعيه الذي سعاه قد جاء بغير طائل.. ولكنه لا بد أن يمضى فى التجربة إلى غايتها، خاصة وقد أثار هذا القول غريزة حبّ الاستطلاع عنده، وأغراه بأن يخوض عباب هذا البحر، ولو خاطر بنفسه.. فقال فى أدب نبوىّ رفيع:
«سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» .. هكذا ينبغى أن يكون أدب الطلب والتحصيل..
وإزاء هذه الرغبة الملحّة من هذا التلميذ الحريص على طلب العلم والمعرفة، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده، ولكنه يشترط لنفسه، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم..
فيقول:
«فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .. أي إن اتبعتنى فعليك أن تلزم الصمت، ولا تنطق بكلمة، ولا تنبس ببنت شفة، حتى أكون أنا الذي يدعوك إلى الكلام فيما أريدك عليه..
وهنا تبدأ الرحلة، فى رحاب هذا العلم الربّاني..
«فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» .. وهكذا تبدأ الجولة الأولى بهذا الحدث، الذي يدور له رأس موسى، ويأخذ عليه العجب كلّ
سلطان على نفسه.. فيصرخ فى وجه أستاذه قائلا:
«أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها.؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» !! فما هكذا يعمل العقلاء، وما هكذا تجرى أعمال أهل الصلاح والتقوى.. إنه عدوان صارخ على الأبرياء.. لا مبرّر له، ولا عذر لمرتكبه! والإمر: المنكر من الأمر..
ويتلقى العبد الصالح هذه الثورة المتوقعة من موسى، فى رفق ولطف..
فلا يزيد على أن يقول له:
«أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟» .
وهنا يتنبّه موسى إلى الشرط الذي كان قد اشترطه عليه صاحبه، وصحبه هو عليه.. فيقول معتذرا فى أدب كريم:
«لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» .. أي هذه هفوة فتجاوز لى عنها.. وخذنى برفق، ولا تشتدّ علىّ، وأنت تعلم من أول الأمر ثقل هذا الذي تلقيه علىّ من علمك..
«فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ» ! وهذه فعلة أشد من سابقتها وقعا، وأفدح خطبا، وأنكر نكرا..
إذ كانت الأولى فى متاع من متاع الدنيا.. أما هذه، فقد وقعت على نفس إنسانية بريئة براءة الطفولة.. لم تقترف إثما، ولم تأت منكرا.. ومن أجل هذا ينسى موسى وجوده كلّه، ولا يذكر الشرط الذي بينه وبين صاحبه، ولا يلتفت إلى زلّته التي زلّها منذ قليل مع أستاذه، واعتذاره له.. فيصرخ صرخة عالية مدوّية:
«أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» .. هكذا يلقى فى وجه أستاذه بهذا الاتهام الصريح.. «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً!» وكان فى المرة الأولى قد لقيه بالاتهام فى مواربة وعلى استحياء: «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» .. فالموقف هنا إزاء جريمة صارخة لا يمكن أن يقوم لها- حسب تقديره- عذر أبدا.. وإن كان يمكن أن يقام لخرق السفينة- ولو على سبيل المراء والجدل- عذر..
وهنا، يأخذ الأستاذ تلميذه بشىء من الشدّة، والتأنيب.. فيقول:
«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ؟ ففى كلمة «لك» نخسة قوية، ويد تمتد إلى موسى من صاحبه فتعرك أذنه! ولا يجد موسى أمام هذا البعد البعيد الذي بين منطلقه ومنطلق صاحبه، إلا أن يحسم الموقف، ويقطع الشوط الذي إن طال بينهما إلى أبعد من هذا المدى، لم تحمد عاقبته، وربما تصارعا، وتقاتلا إذ لم يعد اللسان أداة قادرة على سدّ هذه الثغرات الهائلة بينهما.. فيقول:
«إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» .
لقد وجد موسى لصاحبه العذر فى ضيقه به، ولومه له.. إنه قد صحبه على شرط، وها هو ذا يخرق الشرط مرة، ومرة.. وهو بسبيل أن يخرقه مرات إذا طال الطريق بهما..
وهذا عمل لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق.. قرية، ينزلان بها، ويطلبان
إلى أهلها أن ينزلاهما فيها منزل الضيفان، فلا يجدان منهم إلا الصدّ، والدّفع..
قرية ماتت فيها كل مشاعر الإنسانية، وذهبت منها كل معانى المروءة.. ومع هذا يجدان فيها خربة، لا يأوى إليها إلا الهوامّ، فيغشيانها، ليجدا فيها من السّكن ما لم يجداه عند أهلها.. ثم يريان فيها جدارا «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» قد تصدّع بنيانه، وارتعشت أوصاله، وكاد يهوى إلى الأرض.. وهنا يدعو العبد الصالح عزمه وقوته، فيقيم هذا الجدار المتداعى، وإذا هو وقد دبت الحياة فى كيانه، فثبتت قواعده، واعتدل قوامه!! ويرى موسى هذا، فيعجب ويدهش، ويفيض به الكيل، ثم لا يملك أن يحتفظ بما يزمجر فى صدره من مشاعر الغيظ والألم.. فيقول لصاحبه:
«لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» ؟
وفى هذه القولة لم يلق موسى بكل ما عنده.. ولكنّه، وقد عرف أن تلك هى الحاسمة القاطعة لما بينه وبين صاحبه، وإنه ليعزّ عليه أن ينهى هذه الصحبة، التي حرص عليها، وتوقع العلم الكثير المفيد منها- يعزّ عليه أن ينهيها على هذا الوجه، ولم يحصّل علما، ولم يفد معرفة، وإنما كل محصوله منها هو تلك المتناقضات، التي يقع كثير منها فى كل لحظة من لحظات الحياة، وفى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، على مختلف مستوياتها..
- نقول إن موسى لم يلق بهذه القولة المستكينة الضارعة، إلا ليجد لها عند صاحبه قبولا، فلا يحتسبها عليه، ولا يعدّها مما ينقض الشرط الذي بينهما، فيمضى به إلى غاية أخرى، لعلها تكشف له علما، أو تجىء إليه بجديد غير هذا الذي ما زال صاحبه يطلع به عليه! ولكن العبد الصالح لا يلتفت إلى المشاعر التي تلبّست بها هذه القولة،
بل يأخذها كما هى.. إنها اعتراض ولا شك، وإنها خروج على الشرط الذي اشترطه على صاحبه:«فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ! وهنا يسمعها موسى منه.. حكما قاطعا: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» !.
فقد بلغ الأمر بينهما غايته، ولم يعد ثمة أمل فى أن يلتقيا على طريق واحد..
ولكن.. لم كان هذا العناء الذي عاناه موسى، حتى التقى بهذا الرجل الذي قيل له إنه سيجد عنده من العلم ما لم يجده عند غيره؟ فأين هو هذا العلم؟
إن يكن ما حصّله موسى من تلك التجربة، هو هذا الذي وقع فى نفسه من أحداثها.. فما أغناه عن هذا العلم، الذي بلبل خاطره، وشتت مجتمع رأيه، وألقى فيه ما ألقى من وساوس وظنون! وإنه ما يكاد موسى يستمع إلى شىء من هذه الخواطر، حتى يطلع عليه صاحبه بقوله:
«سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ! أهكذا الأمر إذن؟
أهناك نبأ وراء هذه الأحداث، غير ما يحدّث به ظاهرها؟ وماذا عسى أن يكون هذا النبأ؟
وإنه لنبأ عظيم! سنرى فيما ينكشف منه علاجا لقضية من أعقد القضايا التي واجهها العقل الإنسانى، وهى مشكلة «القضاء والقدر» .. التي نرجو أن نعرض لها- إن شاء الله- بعد أن نرى تأويل العبد الصالح لموسى «ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .