الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د -
أن في ذلك إرشادًا للمتعلمين
، وتربيةً لهم: فإذا رأى المتعلمون من المعلم التوقف فيما لا يعلم -كان ذلك تعليمًا، وإرشادًا لهم؛ كي يسلكوا هذه الطريقة بلا تحرج.
والاقتداء بالأحوال والأعمال أبلغ من الاقتداء بالأقوال؛ فإذا فات المعلم أن يجيب طالبَ العلم عما سأله لم يَفُتْهُ أن يعلمه خلقًا شريفًا وهو ألا يتحدث في العلم إلا عن علم وبصيرة؛ فيسلم بذلك من الإثم، ويرفع مقامه من أن يرمى بضعف الرأي وقلة الأمانة.
قال ابن جماعة: وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه (لا أدري) ؛ لكثرة ما يقولها. (1)
ولهذا فإن المسائل التي قال فيها كبار العلماء (لا أدري) بالغةٌ في الكثرة ما لا يحيط به حساب.
سأل رجل مالك بن أنس عن مسألة وذكر أنه أُرْسِل فيها مسيرة أشهر من المغرب.
فقال: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله.
وسأله آخر عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما هي.
فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك.
فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن!.
وقال الكاتبون في سيرته: لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك: لا أدري لفعل.
(1) تذكرة السامع والمتكلم ص78.
ومن شواهد أمانة محمد بن الأعرابي أن محمد بن حبيب سأله في مجلس واحد عن بضع عشرة مسألة من شعر الطِّرِمَّاح، فكان يقول: لا أدري، ولم أسمع، أفأحدس لك برأيي. (1)
فإذا كانت الأمانة في العلم منبع حياة الأمم، وأساس عظمتها -زيادة على أنها الخصلة التي تكسب صاحبها وقارًا وجلالة -كان حقًا علينا أن نربي نشأنا من طلاب العلم على الأمانة، وأن نتخذ كل وسيلة إلى أن نخرجهم أمناء فيما يروون أو يصفون، وذلك بأن نتحرى الأمانة فيما نروي، ولا نجيب سؤالهم إلا بما ندري أو بقولنا: لا ندري.
وإذا أوردنا رأيًا اسْتَبَنَّا بعدُ أنه مأخوذ من غير أصل قلنا لهم في صراحة: قد أخطأنا في الفهم، أو خرجنا على ما تقتضيه أصول العلم.
ثم علينا بعد أن نقوم بحق الأمانة -ملاحظةُ سير الطلاب، فإذا وقعوا فيما يدل على أنهم غافلون عن رفعة شأن الأمانة، وغزارة فوائدها -أرشدناهم إلى أن العلم بغير أمانة شر من الجهل، وأن ذكاءً لا يصاحبه صدق اللهجة نكبة في العقل.
قال شوقي:
ربوا على الإنصافِ فتيانَ الحمى
…
تَجِدُوهم كَهْفَ الحقوقِ كهولا
فهو الذي يبني الطباعَ قويمةً
…
وهو الذي يبني النفوس عدولًا
(1) انظر رسائل الإصلاح1 / 18.
ويقيم منطقَ كلِّ أعوجِ منطقٍ
…
ويريه رأيًا في الأمور أصيلا (1)
(1) الشوقيات 1 / 182.