الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
19 -
الاعتدال في الملبس:
فالمعلم قدوة، ومثال يُحتذى -كما مر - آنفًا -ومما يحسن به أن يعتدل في ملبسه؛ لأن الملبس عنوان على انتماء الشخص، بل تحديدٌ له، وهل اللباس إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الذات؟ فكن حذرًا في لباسك؛ لأنه يُعبِّر لغيرك عن تقويمك في الانتماء، والتكوين والذوق.
ولهذا قيل: الحلية في الظاهر تدل على ميل الباطن.
والناس يُصَنِّفونك من لباسك، بل إن كيفية اللبس تعطي الناظر تصنيف اللابس من الرصانة، والتَّعَقُّل، أو التمشيخ والرهبنة، أو التصابي وحب الظهور؛ فخذ من اللباس ما يزينك ولا يشينك، ولا يجعل فيك مقالًا لقائل، ولا لمزًا للامز (1)
فالإسلام - وإن عني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح - لم يبخس الحواس حقها، بل قضى للأجسام لبانتها من الزينة والتجمل بالقسطاس المستقيم.
فالتجمل والعناية بالمظهر - في حد ذاته - أمر حسن؛ فالله عز وجل جميل يحب الجمال، ويحب أن يُرى أثر نعمته على عبده.
وإنما المحذور هو المبالغة في التجمل، وصرف الهمة للتأنُّق، واشتداد الكلف بحسن البزة والمظهر؛ فهذا الصنيع يقطع عن الاهتمام بإصلاح النفس، ويومئ إلى نقص متأصل.
(1) . حلية طالب العلم للعلامة د. بكر أبو زيد ص14 -15.
قال عمر بن الخطاب: إياكم لبستين: لبسةً مشهورة، ولبسة محقورة. (1)
وقال بعض الحكماء: البس من الثياب ما لا يزدريك فيه العظماء، ولا يعيبك الحكماء. (2)
وقيل:
أما الطعام فكل لنفسك ما اشتهت
…
والبس لباسًا يشتهيه الناس
(3)
قال الماوردي: واعلم أن المروءة أن يكون الإنسان معتدل الحال في مراعاة لباسه من غير إكثار أو اطراح؛ فإن اطراح مراعاتها، وترك تفقُّدها مهانة وذلة، وكثرة مراعاتها، وصرف الهمة إلى العناية لها دناءة ونقص.
وربما توهم من خلا من فضل، وعري من تمييز أن ذلك هو المروءة الكاملة، والسيرة الفاضلة؛ لما يرى من تَمَيُّزه عن الأكثرين، وخروجه عن جملة العوام المسترذلين.
وخفي عليه أنه إذا تعدى طوره، وتجاوز قدره كان أقبح لذكره، وأبعث على ذمه. (4)
قال المتنبي:
لا يعجبن مضيمًا حسنُ بزته
…
وهل يروق دفينًا جودةُ الكفن
(5)
(1) أدب الدنيا والدين ص354.
(2)
أدب الدنيا والدين ص355.
(3)
أدب الدنيا والدين ص355.
(4)
أدب الدنيا والدين ص354.
(5)
ديوان المتنبي 4 / 213.
وخلاصة القول أن الشارع قد فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة، وما يليق بحال الإنسان؛ فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب، وكان مستطيعًا له، فعدل عنه إلى صنفٍ أسفلَ منه أو أبلى -قَبُح به الحال، وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورِثَّته مما تقذفها العيون، وتنشز عنها الطباع، فتلقي بصاحبها إلى الهوان، والالتفات إليه بألحاظ الازدراء.
وأما الخروج عن المعتاد، والتطلع إلى ما هو أنفس وأغلى -فمرفوض كما مر.
قال المعري:
وإن كان في لبس الفتى شرف له
…
فما السيف إلا غمدُه والحمائل
(1)
بل تجد أكثر الناس يَسْتَخفُّون بمن يتعدى طور أمثاله في ملبسه، ويعدونه سفهًا في العقل، وطيشًا مع الهوى. (2)
هذا وقد عُلم بالتَّتَبُّع والاستقراء أن كل عرف خالف الشرع فإنه ناقص مختل.
وهذه قاعدة مُطَّرِدة لا تنتقض. (3)
(1) شرح ديوان سقط الزند للمعري ص57.
(2)
انظر مناهج الشرف ص50 -51.
(3)
انظر الرياض الناضرة ص284.