الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحسن كما أحسن الله إليك
أذيعت سنة 1956
نظرت البارحة فإذا الغرفة دافئة والنار موقدة، وأنا على أريكة مريحة، أفكر في موضوع أكتب فيه، والمصباح إلى جانبي، والهاتف قريب مني، والأولاد يكتبون، وأمهم تعالج صوفاً تحيكه، وقد أكلنا وشربنا، والرادّ (الراديو) يهمس بصوت خافت، وكل شيء هادئ، وليس ما أشكو منه أو أطلب زيادة عليه.
فقلت: «الحمد لله» ، أخرجتها من قرارة قلبي. ثم فكرت فرأيت أن «الحمد» ليس كلمة تقال باللسان ولو رددها اللسان ألف مرة، ولكن الحمد على النعم أن تُفيض منها على المحتاج إليها. حمد الغني أن يعطي الفقراء، وحمد القوي أن يُسعد الضعفاء، وحمد الصحيح أن يعاون المرضى، وحمد الحاكم أن يعدل في المحكومين، فهل أكون حامداً الله على هذه النعم إذا كنت أنا وأولادي في شبع ودفء وجاري وأولاده في الجوع والبرد؟ وإذا كان جاري لم يسألني أفلا يجب عليّ أنا أن أسأل عنه؟
وسألتني زوجتي: فيمَ تفكر؟ فأخبرتها.
قالت: صحيح، ولكن لا يكفي العبادَ إلا من خلقهم،
ولو أردتَ أن تكفي جيرانك من الفقراء لأفقرت نفسك قبل أن تغنيهم.
قلت: لو كنت غنياً لما استطعت أن أغنيهم، فكيف وأنا رجل مستور، يرزقني الله رزق الطير، تغدو خِماصاً وترجع بِطاناً؟
لا. لا أريد أن أغني الفقراء، بل أريد أن أقول إن المسائل نسبية، وأنا بالنسبة إلى أرباب الآلاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة إلى العامل الذي يعيل عشرة وما له إلا أجرته غني من الأغنياء، وهذا العامل غنيّ بالنسبة إلى الأرملة المفردة التي لا مورد لها ولا مال في يدها، ورَبُّ الآلاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدنيا فقير ولا غني فقراً مطلقاً وغِنىً مطلقاً، وليس فيها صغير ولا كبير، ومَن شَكّ فإني أسأله أصعب سؤال يمكن أن يوجَّه إلى إنسان، أسأله عن العصفور: هل هو صغير أم كبير؟ فإن قال صغير. قلت: أقصد نسبته إلى النملة. وإن قال: هو كبير. قلت: أقصد نسبته إلى الفيل.
فالعصفور كبير جداً مع النملة، وصغير جداً مع الفيل. وأنا غني جداً مع الأرملة المفردة الفقيرة التي فقدت المال والعائل، وإن كنت فقيراً جداً مع فلان وفلان من ملوك المال.
* * *
تقولون: إن الطنطاوي يتفلسف اليوم. لا؛ ما أتفلسف ولكن أحب أن أقول لكم -يا أيها السامعون ويا أيها السامعات- إن كل واحد منكم وواحدة يستطيع أن يجد من هو أفقر منه فيعطيه. إذا
لم يكن عندك -يا سيدتي- إلا خمسة أرغفة وصحن «مجدَّرة» (1) تستطيعين أن تعطي رغيفاً لمن ليس له شيء. والذي بقي عنده بعد عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع أن يعطي منها قليلاً لصاحبة الأرغفة والمجدّرة. والذي ليس عنده إلا أربعة ثياب مرقعة يعطي ثوباً لمن ليس له شيء، والذي عنده بذلة صالحة لم تخرق ولم ترقع ولكنه ملّ منها، وعنده ثلاث جدد من دونها، يستطيع أن يعطيها لصاحب الثياب المرقعة. ورُبّ ثوب هو في نظرك قديم وعتيق بال، لو أعطيته لغيرك لرآه ثوب العيد ولاتخذه لباس الزينة، وهو يفرح به مثل فرحك أنت لو أن صاحب الملايين ملّ سيارته الشفرولية طراز سنة 1953 - بعدما اشترى كاديلاك طراز 1956 - فأعطاك تلك السيارة.
ومهما كان المرء فقيراً فإنه يستطيع أن يعطي شيئاً لمن هو أفقر منه. إن أصغر موظف لا يتجاوز راتبه مئة وخمسين ليرة، لا يشعر بالحاجة ولا يمسه الفقر إذا تصدق بليرة واحدة على من ليس له شيء، وصاحب الراتب الذي يبلغ أربعمئة ليرة لا يضره أن يدفع منها خمس ليرات ويقول:"هذه لله". والذي يربح عشرة آلاف من التجارة في الشهر يستطيع أن يتصدق بمئتين منها في كل شهر.
ولا تظنوا أن ما تعطونه يذهب بالمجان. لا والله، إنكم تقبضون الثمن أضعافاً؛ تقبضونه في الدنيا قبل الآخرة. ولقد
(1) طعام من البُرغُل (وهو القمح المَجْروش) مع العدس.
جربت ذلك بنفسي. أنا أعمل وأكسب وأنفق على أهلي من أكثر من ثلاثين سنة، وليس لي من أبواب الخير والعبادة إلا أني أبذل في سبيل الله إذا كان في يدي مال، ولم أدخر في عمري شيئاً، وكانت زوجتي تقول لي دائماً:"يا رجل، وفر واتخذ لبناتك داراً على الأقل"، فأقول:"خليها على الله". أتدرون ماذا كان؟
لقد حسب الله لي ما أنفقته في سبيله وادّخره لي في «بنك» الحسنات الذي يعطي أرباحاً سنوية قدرها سبعون ألفاً في المئة. نعم! {كَمَثَلِ حَبّةٍ أنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنبُلَةٍ مِئَةُ حَبّة} وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح {واللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يشاءُ} ، فأرسل الله صديقاً لي سيداً كريماً من أعيان دمشق (1) فأقرضني ثمن الدار وأرسل أصدقاء آخرين من المتفضلين (2) فبنوا الدار حتى كملت وأنا -والله- لا أعرف من أمرها إلا ما يعرفه المارّة عليها من الطريق، ثم أعان الله برزق حلال لم يكن محتسَباً فوفيت ديونها جميعاً. ومَن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الأسماء.
وما وقعت والله في ضيق قط إلا فرّجه الله عني، ولا احتجت لشيء إلا جاءني، وكلما زاد عندي شيء وأحببت أن أحفظه وضعته في هذا «البنك» .
فهل في الدنيا عاقل يعامل «بنك» المخلوق الذي يعطي 5% ربحاً حراماً وربما أفلس أو احترق أو طيرته قنبلة، ويترك
(1) هو الأستاذ السيد سعيد حمزة، نقيب الأشراف.
(2)
الإخوان الكرام الشيخ عبد القادر العاني والسيد سهيل الخياط والسيد فخري الحسني.
«بنك» الخالق الذي يعطي في كل مئة ربحاً قدره سبعون ألفاً؟ وهو «مؤمَّن عليه» عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا يأكل أموال الناس.
فلا تحسبوا أن الذي تعطونه يذهب هدراً، إن الله يخلفه في الدنيا قبل الآخرة. وأنا لا أحب أن أسوق لكم الأمثلة، فإن كل واحد منكم يحفظ مما رأى أو سمع كثيراً منها. إنما أسوق لكم مثلاً واحداً: قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله. وقد كان شيخ أبي، وكان -على فقره- لا يرد سائلاً قط، ولطالما لبس الجبة أو «الفروة» فلقي بردان يرتجف فنزعها فدفعها إليه وعاد إلى البيت بالإزار، وطالما أخذ السفرة من أمام عياله فأعطاها السائل. وكان يوماً في رمضان وقد وُضعت المائدة انتظاراً للمدفع، فجاء سائل يقسم أنه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امرأته وفتح له فأعطاه الطعام كله! فلما رأت ذلك امرأتُه وَلْولَتْ عليه وصاحت وأقسمت أنها لا تقعد عنده، وهو ساكت. فلم تمر نصف ساعة حتى قُرع الباب وجاء من يحمل الأطباق فيها ألوان الطعام والحلوى والفاكهة، فسألوا: ما الخبر؟ وإذا الخبر أن سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار فاعتذروا، فغضب وحلف ألاّ يأكل أحد من الطعام وأمر بحمله كله إلى دار الشيخ سليم المسوتي. قال: أرأيت يا امرأة؟
وقصة المرأة التي كان ولدها مسافراً، وكانت قد قعدت يوماً تأكل وليس أمامها إلا لقمة إدام وقطعة خبز، فجاء سائل فمنعت عن فمها وأعطته وباتت جائعة، فلما جاء الولد من سفره جعل يحدّثها بما رأى. قال: ومن أعجب ما مر بي أنه لحقني أسد
في الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب عليّ وما شعرت إلا وقد صرت في فمه، وإذا برجل عليه ثياب بيض يظهر أمامي فيخلّصني منه ويقول:"لقمة بلقمة"، ولم أفهم مراده.
فسألَتْه عن وقت هذا الحادث وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الأسد.
والصدقة تدفع البلاء ويشفي بها الله المريض ويمنع بها الله الأذى، وهذه أشياء مجربة، وقد وردت فيها الآثار. والذي يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع، وهو الذي يشفي وهو يسلّم، يعلم أن هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام.
والنساء أقرب إلى الإيمان وإلى العطف، وإن كانت المرأة -بطبعها- أشد بخلاً بالمال من الرجل. وأنا أخاطب السيدات وأرجو ألاّ يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر، وأن يكون له أثره، وأن تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع أن تستغني عنه من ثيابها القديمة أو ثياب أولادها، ومما ترميه ولا تحتاج إليه من فرش بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن أسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة الشهر.
ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فإن الابتسامة في وجه الفقير (مع الفرنك تعطيه له) خير من ليرة تدفعها إليه وأنت شامخ الأنف متكبر مترفع. ولقد رأيت بنتي الصغيرة بنان -من سنين- تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان، قلت: تعالي يا بنت،
هاتي صينية وملعقة وشوكة وكأس ماء نظيفاً وقدميها إليه هكذا. إنك لم تخسري شيئاً، الطعام هو الطعام، ولكن إذا قدمت إليه الصحن والرغيف كسرت نفسه وأشعرته أنه كالسائل (الشحاد)، أما إذا قدمتِه في الصينية مع الكأس والملعقة والشوكة والمملحة يَنجَبِر خاطره ويحس كأنه ضيف عزيز.
ومن أبواب الصدقة ما لا ينتبه له أكثر الناس مع أنه هيّن. من ذلك التساهل مع البياع الذي يدور على الأبواب يبيع الخضر أو الفاكهة أو البصل، فتأتي المرأة تناقشه وتساومه على الفرنك وتظهر «شطارتها» كلها، مع أنها قد تكون من عائلة تملك مئة ألف وهذا المسكين لا تساوي بضاعته التي يدور نهاره ليبيعها، لا تساوي كلها عشر ليرات ولا يربح منها إلا ليرتين! فيا أيها النساء أسألكن بالله، تساهلن مع هؤلاء البيّاعين وأعطوهم ما يطلبون، وإذا خسرت الواحدة منكن ليرة فلتحسبها صدقة؛ إنها أفضل من الصدقة التي تُعطى للشحاد.
ومن أبواب الصدقة أن تفكر معلمة المدرسة حينما تكلف البنات شراء ملابس الرياضة مثلاً، أو تصر على شراء الدفاتر الغالية والكماليات التي لا ضرورة لها من أدوات المدرسة، أن تفكر أن من التلميذات من لا يحصل أبوها أكثر من ثمن الخبز وأجرة البيت، وأن شراء ملابس الرياضة أو الدفاتر العريضة أو «الأطلس» أو علبة الألوان نراه نحن هيناً ولكنه عنده كبير، والمسائل -كما قلت- نسبية، ولو كُلِّفت المعلمة دفع ألف ليرة لنادت بالويل والثبور، مع أن التاجر الكبير يقول:"وما ألف ليرة؟ سهلة"! سهلة عليه وصعبة عليها. كذلك الخمس الليرات أو
العشر، سهلة على المعلمة ولكنها صعبة على كثير من الآباء.
والخلاصة يا سادة: إن مَن أحب أن يُسخّر الله له مَن هو أقوى منه وأغنى فليُعِنْ من هو أضعف منه وأفقر، وليضع كلٌّ منا نفسه في موضع الآخر، وليحبّ لأخيه ما يحب لنفسه. إن النعم إنما تُحفَظ وتدوم وتزداد بالشكر، وإن الشكر لا يكون باللسان وحده. ولو أمسك الإنسان سبحة (1) وقال ألف مرة:«الحمد لله» ، وهو يضن بماله إن كان غنياً، ويبخل بجاهه إن كان وجيهاً، ويظلم بسلطانه إن كان ذا سلطان لا يكون حامداً لله، وإنما يكون مرائياً أو كذّاباً.
فاحمدوا الله على نعمه حمداً فعلياً، وأحسنوا كما تحبون أن يحسن الله إليكم، واعلموا أن ما أدعوكم إليه اليوم هو من أسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو جهاد بالمال، والجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس.
ورحم الله مَن سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من أذن لتخرج من الأخرى.
* * *
(1) وما عرف سلفنا الصالح هذه السّبحة.