المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌حديث العيد أذيعت من دمشق سنة 1946   أرأيتم الجيش يوم العرض؟ حيث - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌حديث العيد أذيعت من دمشق سنة 1946   أرأيتم الجيش يوم العرض؟ حيث

‌حديث العيد

أذيعت من دمشق سنة 1946

أرأيتم الجيش يوم العرض؟ حيث يمر الجنود متتابعين متشابهين، مشيتهم واحدة ولبستهم واحدة، لا يمتاز فرد منهم عن فرد، ثم يأتي ضابط أو رئيس يختال في مشيته ويزهى بأوسمته، فينتبه الناس إليه وتنصبّ الأنظار عليه؟

كذلك الأيام يا إخوان.

إنها تمر متتابعة متشابهة لا يكاد يختلف يوم منها عن يوم، ثم يأتي العيد فتراه يوماً ليس كالأيام، وترى نهاره أجمل، وتُحس المتعة به أطول، وتُبْصِر شمسه أضوأ، وتجد ليله أهنأ. وما اختلفت في الحقيقة الأيام في ذاتها، ولكن اختلف نظرنا إليها؛ نسينا في العيد متاعبنا فاسترحنا، وأبعدنا عنا آلامنا فهنئنا، وابتسمنا للناس وللحياة فابتسمت لنا الحياة والناس، وقلنا لمن نلقى أطيب القول:«كل عام وأنتم بخير» ، فقال لنا أطيب القول:«كل عام وأنتم بخير» (1).

(1) إن لم يكن بدٌّ من هذا التعبير فاحذفوا واو «وأنتم» قولوا: «كلَّ عام أنتم بخير» .

ص: 259

كنا كالمسافر يجتاز بالدنيا مسرعاً، فيبصر الدور والمساكن وكل ما على الطريق، لكن لا يستوعبه. فإذا تمهلنا رأينا جمالها واستمتعنا بحسنها. وما الحياة إلاّ سَفَر، وما نحن إلاّ رَكْب الحياة، ولكننا نغمض عيوننا عن جمال الروض وبهاء الينبوع وفتنة الوادي، ولا ننظر إلاّ إلى الغاية

والغاية المال؛ المال، فنحن أبداً نركض وراء المال، نفيق فنسرع إلى الديوان أو إلى السوق نفتش عن المال، أما النفس فلا نخلو بها، أما الطبيعة فلا ننظر إليها. ثم إنّا نقطع أجمل مراحل الطريق، وهي مرحلة السحر من كل يوم، ونحن نيام. ويوم العيد هو اليوم الذي ننسى فيه المال ساعات معدودات لنفتش عن الجمال، فلذلك كان هذا اليوم عيداً، ولو فعلنا ذلك كل يوم لكانت أيامنا كلها أعياداً.

والأعياد إما أن تكون أعياداً للدين، لذكريات دينية تتصل بالعقيدة، وتنبثق عن الإيمان، وتكون ذكراً وعبادةً، يتوجه فيها الناس إلى ربهم، ويقيمون شعائرهم في معابدهم، ويتبعون فيها أوضاعاً وأحوالاً أمَرهم بها دينهم، أو حسبوا أنه أمرهم بها. وأكثر أعياد الناس أو كلها، إنما كانت من الأعياد الدينية، سواء في ذلك الأمة التي تدين دين الحق والأمم التي تدين أديان الباطل.

وإما أن تكون أعياداً وطنية، ذكريات أحداث جسام كان لها في حياة الأمة أثر، أو معارك مظفرة، أو أعمال لهذه الأمة باهرة؛ كأعياد الاستقلال وأعياد إقامة الدول.

وأعياد للفن والرياضة يحتشد لها الناس ويتبارى فيها أرباب اللَّسَنِ والفصاحة وأصحاب القوة والبراعة. وربما صحب ذلك

ص: 260

بيع وشراء وربح وتجارة، كأعياد الأولمبياد عند اليونان وسوق عكاظ عند العرب.

وأعياد رجال عِظام يجتمع الناس لإحياء ذكراهم، وتلاوة سيرهم، وزيارة بقاياهم وآثارهم. ولكل أمة من ذلك أيام غُرٌّ مشهَّرات.

وأعياد هي مواسم للطبيعة؛ كأعياد الربيع في كل بلاد الغرب، حيث تلبس المدن حلة من الورد وتعرض فيها مواكب الزهر، قد جمعت في هذه المواكب زهرات الحقول وزهرات البيوت والقصور، وربما فرشوا الشارع كله ببساط من الفل والزنبق والياسمين والنسرين، مُزخرف منقوش (1)، ومن ذلك يوم النيروز أيام بني العبّاس، وعيد شم النسيم في مصر، وقد كانت بلدان الشام تعنى في القرن الماضي بمثل هذا العيد، فتبتغي فيه المتع المباحات والمسرات من غير أن تكشف العورات ولا أن تأتي المحرّمات.

وأعياد للهو واللعب، كأيام المساخر (الكرنفال).

والإفرنج يمزجون هذه الأعياد كلها مزيجاً عجيباً، فلا يخلو عيد الدين كيوم مولد المسيح عليه السلام من أن يبدأ بالكنيسة وينتهي في الملهى، ولا يخلو عيد الوطن من مظاهر الدين، وكل شيء عندهم يدخل فيه الدين؛ حفلات تتويج ملكة الإنكليز تكون في الكنيسة وتتم عن يد الأسقف الأكبر، وحفلة الربيع يباركها

(1) رأيت ذلك في هولندا وبلجيكا لما زرتها بعد هذا الحديث بربع قرن.

ص: 261

الخوري، وكل شيء لا بدّ له من هذه البركة، حتى إنزال السفينة الجديدة إلى البحر أو حفلة توزيع الشهادات في أوكسفورد.

هذه هي أعياد الناس، فما هو مكان عيدنا من هذه الأعياد؟

إن لنا في الإسلام عيدين لا ثالث لهما، وإن لم يكن ما يمنع من الاحتفال بذكريات الهدى والمجد، بيوم الهجرة وبيوم بدر مثلاً، احتفالاً يخلو من البدع والمحرمات ومن تلاوة هذه الأكاذيب التي اشتملت عليها الموالد، على أن لا تُعد أعياداً دينيةً، لأن الدين لم يشرع لنا إلاّ هذين العيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى؛ هذا احتفال ببداية نزول القرآن وإكمال الصيام، وذاك احتفاء باختتام الوحي وإتمام الدين.

وأعيادنا لله أولاً، لأنها أعياد عبادة وتبتل وتوجه إلى الله بالشكر والحمد والطلب والرجاء.

وهي للوطن (ووطن المسلم كل أرض تعلو فيها كلمة الله وتحكم شريعته) لأنها ذكرى أعظم حادث في تاريخ البشرية كلها: نزول القرآن في ليلة القدر من رمضان، وتمامه في حجة الوداع من ذي الحجة. وإذا كانت الأمم تحتفل بيوم الدستور وتجعله عيداً، فإن يوم الدستور الإلهي الذي أنشأ حضارة تفيأت ظلالَها الأممُ كلها حقيق أن يكون عيداً إنسانياً، يحتفل به كل من استفاد من حضارة القرآن.

وهي من أعياد الرجال، لأنها ذكرى أعظم رجل مسّت قدمه ظهر هذه الكرة: محمد صلى الله عليه وسلم؛ محمد الذي جاء بالصيام ليعلّم الأغنياء بهذا الجوع الاختياري أن في الدنيا من يجوع جوعاً

ص: 262

اضطرارياً، ولولا هذا الصيام ما كان يتصور الأغنياء كيف يكون الجوع. الذي قرر المساواة في رمضان حتى صار الغني الذي يملك الملايين يشتهي كِسرة الخبز وقطرة الماء كما يشتهيها الفقير المسكين. والذي قرر المساواة مرة ثانية حين جعل مَن له كنوز الأموال يقف مع السائل الذي لا يجد عشاء ليلة، وهو يلبس لباساً مثل لباسه، ويقف من عرفة موقفاً مثل موقفه، وينام على الأرض في المزدلفة مثل منامه، ويرمي الجمار في منى وسط الزحمة مثل رميه، وهنالك في هذا الموقف الأكبر، الذي لا تعرف البشرية في كل عصورها نظيراً له، وقف محمد صلى الله عليه وسلم يقرر الحرية الشخصية، وحرية الرأي، وحرية المسكن، ويعلن المساواة بين الناس، فلا امتياز لجنس على جنس ولا لون على لون ولا أسرة على أسرة كما يمتاز الناس في أميركا في قرن العشرين وفي جنوب إفريقية! وإنما يتفاضلون بالمزايا الشخصية: بالإيمان والعلم والتقى والأخلاق. لقد قرر ذلك في خطبته التاريخية الخالدة في حجة الوداع، قبل أن تعلنه إنكلترا، وقبل الثورة الفرنسية، وقبل مبادئ ويلسون، وقبل ميثاق الأطلنطي الذي كتبوه على الماء بأكثر من ألف سنة! أعلنه إعلاناً حقيقياً تؤيده وقائع الحياة الإسلامية وأوضاع المجتمع الإسلامي، لا الإعلان الغربي الذي تُكذّبه شواهد الواقع ومظاهر الحياة في ديار الغرب.

وهي أعياد بطولة ورياضة. وما الحياة الرياضية إلاّ حياة الصبر والاحتمال وألاّ يزدهي صاحبَها النصرُ ولا تهدّه الهزيمة، وأن يستشعر الأخوّة الرياضية لشركائه في هذا الكفاح؛ وكل ذلك يتحقق على أتمه وأكمله في صيام رمضان وفي شعائر الحج.

ص: 263

وهي أعياد فرحة ومسرة، ولهو شريف، ومتاع حلال. والإسلام ليس دين تزمت ولا يحارب طبيعة النفوس التي طبع الله الناس عليها ولا ينافي الفطرة، ولكنه يمنع ما فيه الضرر. هذه هي المحرّمات، فكل لهو لا محرم فيه مطلوب شرعاً إن كان باعتدال وقصد، وإلى الحد الذي يقوي النفس على الخير ويُنشّطها للقيام بما يجب.

* * *

بقيت عليّ كلمةٌ واحدة: هي أن حكمة رمضان لا تتم في عيد الفطر إلاّ إذا شاركتم الفقراء في الأكل والشرب كما شاركتموهم في الجوع والعطش، وكنتم معهم في لذة الوجدان كما كنتم معهم في لوعة الحرمان، وأن لا تملؤوا أيدي أولادكم باللُّعَب والسّكاكر وفي أبناء جيرانكم أولاد مثلهم ينظرون إليهم وأيديهم خالية، وأن تعلموا أن مما رميتموه زهداً به من ثياب أولادكم ما يكون ثوب العيد وفرحة العمر لهؤلاء الأولاد، وأن كل غني يجد من هو أغنى منه وكل فقير يلقى من هو أفقر منه. والمسائل نسبية، والعصفور نملة إن قيس بالفيل، ولكنه فيل إن قيس بالنملة. فأعطِ من هو أفقر منك عشر ليرات هي عنده مئة ليرة وعندك ليرة، يبعث لك الله من يعطيك خمسة آلاف وهي لك خمسون ألفاً وهي عنده عشر ليرات. وإذا فرّحت أخاك بعطيتك فرّحك الله بعطية من عنده لا تحتسبها ولا ترتقبها، وثواب الآخرة أكبر.

فاختاروا -يا أيها القراء- مما يفضل من ثيابكم، وما يزيد من اللعب والسكاكر والحلويات عن أولادكم، فأرسلوه إلى أولاد الجيران الفقراء. دعوهم يعيشون يوماً واحداً من السنة كما تعيشون

ص: 264

أنتم كل يوم. ولا تعطوا عطاء الكبر والترفّع، إعطاء الصدقة، بل إعطاء الصداقة، ورب بسمة في وجه السائل أو شَدّة على يده أَحَبُّ إليه من المال الذي تضعه في كفه، لأن المال يحيي جسده وحده والمال مع الابتسامة يحيي جسده وروحه.

وحينما تخرجون من بيوتكم فتجدون هؤلاء الأطفال الصغار الذين كسوتموهم وأعطيتموهم الحلويات واللعب ينظرون إليكم بعيون تبرق بالشكر والحب ويبسمون لكم بأفواه تشرق بالسعادة والفرح، وتسمعون أمهاتهم يتمنين لكم طول العمر ولأولادكم كمال النِعَم، حينئذٍ تعلمون أن أعظم لذة في الدنيا هي لذة الإحسان.

أليس هذا خيراً من أن تجدوا في عيونهم نظرات الحسد وعلى ألسنتهم دعوات الموت والخراب؟

وهنيئاً لكم -بعدُ- قبول صيامكم، وهنيئاً لكم أفراح عيدكم، وكل عام أنتم بخير.

* * *

ص: 265