الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مزعجات رمضان
نُشرت في «مجلة الإذاعة» سنة 1956
أنا أكتب في الصحف والمجلات من ثلاثين سنة، والكتابة هي حرفتي، ولم أكن -مع ذلك- من المجلّين السابقين في درس «الإنشاء» في المدرسة، وكان بعض إخواننا في «الصف» (ممن صاروا اليوم أبعد الناس عن الكتابة، وإن صاروا من أعلام السياسة أو العلم أو الاقتصاد) يأخذون من علامات النجاح أكثر مما آخُذ. لا لأنهم كانوا يكتبون أحسن مما أكتب؛ بل لأن المدرس كان يحدد لنا الموضوع، وعدد الأسطر، ووجهة التفكير، فلا أستطيع -مع هذه القيود- أن أسير؛ كماء الساقية إن أقمت في وجهه السدود ومنعته أن يجري في مجراه، وقف ثم انقلب من رقراق عذب متحدر إلى بركة آسنة.
لذلك كنت أخيب، فلا عجب إذا خبت اليوم وقد جاء محرر «مجلة الإذاعة» يعيد معي قصة مدرّس الإنشاء فيحدد لي الموضوع والأسطر؛ فالموضوع:«تقاليد رمضان الماضي» ، والمجال: صفحة أو صفحتان من المجلة.
وأنا أعرف رمضان الذي كان يجيء دمشق من أكثر من أربعين سنة، ولا أزال أذكر ملامح وجهه ولون ثيابه، والذي
افتقدته من زمن بعيد فلم أعد أراه.
لقد تبدل كما تبدلت أنا، ونحن كل يوم في موت وحياة. لقد مات كما مات فيّ ذلك الطفل الذي كان يذهب إلى المدرسة قبل إعلان الحرب الأولى، وأين ذلك الطفل؟ إنه مضى (كما مضى رمضان) إلى حيث لا يعود الذاهبون، وجاء في مكانه إنسان آخر يحمل اسمه ولكنه ليس إياه، كما يحمل رمضانُ هذا اسمَ رمضان الماضي وليس ذلك الـ «رمضان» .
أنا أعرفه وأذكر كيف كان يستقبله الشاميون، وأعرف أن للحديث عنه متعة ولذة، ولكني قاعد من ساعتين أحاول أن أحصر ذهني لأكتب عنه فلا أجد في ذهني إلاّ «مزعجات رمضان» ، يجول الفكر فيها ثم يقف عليها ويستقر عندها. وقد يكون الفكر كالفرس الجامح، لا يمشي بك حيث تريد أنت بل حيث يريد هو. ولم يبقَ أمامي إلا أحد أمرين: إما أن تعفيني المجلة من المقال، وإما أن أكتب في مزعجات رمضان.
ولست أعني بالمزعجات الجوع والعطش واضطراب ميزان اليقظة والمنام، فذلك شيء لا بد منه ولولاه لم يكن لرمضان معنى. وأي معنى يبقى لـ «التدريب العسكري» إذا خلا من المشقة والتعب وبذل الجهد، وصار نوماً متصلاً وأكلاً متصلاً وأكلاً وشرباً واسترخاء؟
ولكني أعني مزعجات الناس. وإذا كان قرّاء المجلة يَعِدُونني بأن يكتموا ما أقول عن مدير الإذاعة لقلت لهم إن شطر هذا الإزعاج من الإذاعة، والشطر من الناس.
إزعاج يستمر من الصباح إلى المساء، ولا ينقطع لحظة واحدة نرجع فيها إلى أنفسنا ونستطيع أن نستجلي فيها طلعة رمضان أو نحس بوجوده. ورمضان أجمل مرحلة في طريق الزمان، يمر فيه ركب الإنسانية على الروض الأنيق فيرى المشهد البارع، ويشم العطر العبق، ويسمع من صدح البلابل وهديل الحمام ما يُرقص من الطرب القلوب.
ولكن كيف يرى المشهدَ من يزدحم عليه الناس حتى يسدوا في وجهه منافذ النظر؟ وكيف يشم الأريج من تهب من حوله العواصف؟ وكيف يسمع الصوت الرقيق من تحف به ضجة تزلزل الأرض؟
إنها مائدة حافلة، ولكنكم لا تدعونني أتناول لقمة منها حتى تصدوني عنها. إنه شهر التأمل والعبادة ولذة الروح وأنس القلب، ولكنكم لا تتركون لي ساعة، ساعة واحدة، أستمتع فيها بهدأة التأمل وذهلة الحلم ونشوة المناجاة.
وهذا هو الموجز، وهاكم تفصيل الأنباء كما يقول المذيع.
* * *
أما الإذاعة فإنها لا تسكت من صباح الله الباكر إلى نصف الليل، ولا تستريح ولا تريح، ولا تكف لسانها دقيقة. ولو كانت تذيع ما يعين على الخشوع والعبادة في رمضان وما يذكّر بالله لهان الخطب، ولكنها تذيع الأغاني التي أجمعت كلمة الإنس والجن على استنكار أكثرها. وأنا لا أقول للإذاعة:"لا تغنّي"؛ لأني لا أحب أن أقول كلمة أعلم أنه لن يُستجاب لها، ولكن أقول إن
موسيقا الناس نصفها ألحان معبّرة ونصفها كلام ملحن، وموسيقانا كلها كلام! وإن الكلام في موسيقاهم نصفه للمرأة ونصفه للطبيعة والوطن والحياة، وما عندنا كله للمرأة! وإن ما للمرأة عندهم نصفه من الغزل السامي الاتباعي (الكلاسيك) ونصفه غزل خفيف، وليس عندنا إلا هذا الغزل الخفيف بلفظ عامي فظيع ومعان شنيعة مبتذلة ونغم مسترخٍ متخنث! وهم يجدون كل يوم جديداً ونحن -لعقم القرائح- نردد ونعيد. ولماذا أعمم القول فأكون ظالماً؟ لا؛ ليس كله كذلك! وقد نسمع أغاني تبلغ في جمال لفظها وحسن معناها وتوقيع لحنها ذروة الكمال، ولكنا نسمعها أول مرة فنستجدّها ونستجيدها ونستعيدها، ونسمعها الثانية فنطرب لها ونسر بها، ونسمعها الثالثة فنستملحها، والرابعة فلا نكرهها، والخامسة فنبدأ بالإعراض عنها، والسادسة فنضيق بتكرارها. فلا تزال الإذاعة تعيدها حتى تأتي المرة العاشرة والخامسة عشرة والسادسة والسبعون فتطلع منها أرواحنا. ولو كانت الشهد المصفى أو الفالوذج وأطعمتها إنساناً كل يوم عشر مرات، وحشوت به فمه جائعاً وشبعان، راغباً وكارهاً، لصار لها في فمه طعم العلقم!
* * *
أما الناس فإزعاجهم أكبر وأنكر. وأنا أستطيع أن أسد الرادّ فلا أسمع ما تذيع الإذاعة، أو آخذ منه ما صفا وأدع ما كدر، ولكن ما أصنع بمَن لا يطرب إلا إن أشرك معه بسماع الأغنية مئة جارة وجار، من أمام ومن خلف وعن اليمين وعن اليسار؟ فكيف ننام، وكيف نشتغل، وكيف نخلص التوجه إلى الله، ومن كل
جهة من حولنا هذه المصائب الثقال، والضجة المروعة، وفريد الأطرش، وهذا الآخر عبد الحليم حافظ؟!
فإذا سكت الرادّ في الساعة الثانية عشرة وحاولت أن تنام لم تمر نصف ساعة حتى يجيء «أبو طبلة» ، هذه الآفة التي لا دافع لها، المسحّر الذي ضاقت به الصناعات والمهن فلم يجد له صنعة إلا أن يحمل طبلاً ثم يأتي نصف الليل ليقرع به رأسك ويوقظك من منامك. وأعجب العجب أن يعترف المجتمع بهذه الصنعة ويعدّها من الصناعات المقررة، ويوجب عليك أن تقول له:«أشكرك» وأن تدفع له في آخر الشهر أجرته على أنه قد حطم أعصابك وكسر دماغك!
وأنا أفهم أن يكون للمسحّر موضع في الماضي، أما اليوم -وفي البلد إذاعة، وفي كل بيت ساعة، وفي كل حي منارة عليها مؤذّن، وفي البلد مدفع يوقظ صوتُه أهلَ المقابر- فليس للمسحّر موضع فينا.
فإذا انقضى السحور وأردت أن تنام عادت أختنا الإذاعة إلى «وراك وراك» و «يا بيّاع الورد» ، وعاد الجيران إلى تطبيق الجو بهذه الأصوات، وجاء بيّاع الحليب وبيّاع الفول ومصلح البوابير و «الذي عنده خزانات للبيع» و «الذي عنده كنبات للبيع»
…
وزلزلت الأرض بأبواق السيارات وصراخ الأولاد!
فإن هربت إلى المسجد الأموي لتأخذ منه موعظة أو تسمع درساً رأيت النائمين مصفوفين بالطول وبالعرض، يشخرون ويتنفّسون من كل منفذ
…
وحلقات المتحدثين يضحكون
ويمزحون ويغتابون ويكذبون، ووجدت العوام يدرّسون بلا رخصة ولا إذن لأن العلماء غائبون. ولم تجد في المسجد شيئاً مما يجب أن يكون فيه!
فإن سرت في الشوارع رأيت المطاعم مفتوحة والمفطرين في كل مكان، وركب أمامك في الترام من يدخّن وينفخ الدخان في وجهك، مع أن القانون والعرف يمنعان التدخين في الترام، والذوق (إن لم نقل الدين) يمنع إعلان الفطر في رمضان في البلد المسلم.
فمن أين مع هذه المزعجات، من أين -يا مجلة الإذاعة- أستطيع أن أنفذ إلى الموضوع الذي تريدون مني أن أكتب فيه؟!
* * *