المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌لصوص الوقت أذيعت من دمشق سنة 1952   لي عادة قبيحة هي أن - مع الناس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌لصوص الوقت أذيعت من دمشق سنة 1952   لي عادة قبيحة هي أن

‌لصوص الوقت

أذيعت من دمشق سنة 1952

لي عادة قبيحة هي أن أسير في عملي على قاعدة «لا تؤخر إلى الغد ما تستطيع عمله بعد غد» ؛ فأنا أرجئ كتابة مقالاتي وأحاديثي إلى اللحظة الأخيرة، ثم أجمع ذهني وأسرع في كتابتها. أي أني على طريقة الأرنب لا على طريقة السلحفاة. وقد قال أناتول فرانس:«ليقل لافونتين ما شاء، فإن الأرنب تسبق السلحفاة دائماً» .

فلما كلفتني محطة الشرق الأدنى بهذا الحديث أخّرته، حتى إذا لم يبقَ على موعد تسجيله إلاّ ساعتان ومدةُ السفر إلى بيروت اعتكفت في غرفتي وبدأت أفكر في الموضوع، فلا أعتمد موضوعاً. وإني لفي تفكيري، وإذا بباب الغرفة يُفتح بلا إنذار ولا إعذار ولا استئذان، وإذا بشابين غريبين عني لا أعرفهما يدخلان عليّ دخول ألمانيا على بلجيكا في الحرب الماضية، أما أحدهما فله رأس كبير كرأس دب هائل، قد نفش شعره من فوق ومن الجانبين حتى كأنه ديك حبش (1) قد خرج من معركة

ووضع

(1) ويسمى الديك الرومي.

ص: 85

فوق فمه شاربين لا شرقيين ولا غربيين، يمتدان فوق الشفتين كأنهما حاجبا فتاة، ثم ينزلان على جانبي الفم كذنَب الفأر، وقد منحه الله أكبر قسط من الغِلاظة (بكسر الغين)(1) والعياذ بالله

أما الآخر فقد حَفَّ جانبَي رأسه وعند صدغيه كأن قد لحستهما قطة وهو نائم، وأطال شعره من فوق

على طريقة العم سام.

وقعدا. وخرجت أسأل في الدار مَن أدخل عليّ هذا البلاء، فإذا هي ابنتي الصغيرة سمعت قرع الباب ففتحته، ورأت الضيوف فأدركتها نوبة مبكرة من حُمّى الكرم الشرقي الذي لا يرد ضيفاً أبداً، فأدخلتهما وأشارت بأصبعها الصغيرة إلى غرفتي، فهبطا عليّ كموت الفجأة!

وسلّما فرددت رداً ضعيفاً فاتراً، وسألتهما بشيء من الجفاء عن الخدمة التي أستطيع أن أؤديها لهما. وهذا معناه في البلاغة الجديدة:"انصرفا فلست مستعداً لأن أؤدي لكما خدمة". فانطلق الغليظ ذو الشعر المنفوش وأخذ يتكلم متحذلقاً متفيهقاً متفاصحاً بصوت يخرج نصفه من أنفه ونصفه من بطنه، والباقي (إن كان بقي شيء) يبلع بعضه ويجترّ بعضاً

وجعل يدور ويقدم المقدمات من قبل الطوفان، وأنا أتصبّر وأكاد أنشقُّ من الغيظ وأحس أن كل عصب من أعصابي يُسحب كوتر العود ثم يُطلَق

(1) هذه الكلمة من عامية أهل الشام، لكنهم يلفظونها بفتح الغين. وقد كان من عادة الشيخ أن يشير إلى مثلها في حواشي كتبه على أنها من العامي الفصيح، لكنه اكتفى هنا بضبطها بين قوسين في متن النص. في المعجم:"رجل فيه غِلاظَة: فيه شدة وقسوة"(مجاهد).

ص: 86

وكلما وقف عند جملة ابتسم ابتسامة تقطع الرزق وتأمّل نفسه معجباً كعجوز متصابية أمام مرآتها تقول: ما أجملني! فإذا أخونا المحترم يريد أن يؤلف فرقة مسرحية، ولم يَرَ في الأدباء من هو أحقّ مني بشرف تأليف الرواية الأولى لها.

قلت: وكم مدة التمثيل؟

قال: نصف ساعة فقط.

قلت: تدفعون مئتي ليرة؟

ولا أطيل على القراء وصف ما كان، ويستطيعون أن يتصوروا النتيجة بسهولة، إلاّ أن ما لا يستطيعون تصوره هو أن الأخ قال لي وهو خارج: بَسْ آسف. إنّا لم نكلفك شيئاً، إنها لا تكلفك إلاّ ساعة من وقتك.

* * *

لا تكلفني شيئاً إلا ساعة من وقتي! هذا هو الموضوع الذي كنت أفتّش عليه، لقد وجدته. الموضوع هو سرقة الوقت، والوقت هو العمر، وهو أعزّ شيء على الإنسان. ولولا الوقت ما كسب مال، ولا حصل علم، ولا نال أحد دنيا ولا ضمن أخرى، فهل في السرقات أفظع وأعظم من سرقة أوقات الناس؟ ومن منا لا يشكو منها ولا يتألم؟ ثم لا يستطيع أن يدفع ذلك، ولا يستطيع أن يشكو أمره إلى القاضي، لأن القانون جعل سرقة خمس ليرات جريمة يعاقَب فاعلها وترك من يسرق الوقت الذي يساوي ألف ليرة لا يعاقبه ولا يعاتبه.

ص: 87

فماذا أصنع وكيف أفرّ من هؤلاء الذين يسرقون وقتي؟ آتي المحكمة منذ الصباح لأدقق في دعاوى اليوم فيدخل عليّ صديق ثقيل، لا يمنعه إغلاق الباب ولا بكور الوقت، فأحاول صرفه بالحسنى فأحادثه حتى أظن أني قد قمت بحقه وأنه قد سكت فأنصرف إلى عملي، فلا أكاد أجمع ذهني وأقبل على أوراقي حتى يفتح فمه ويلقي الجوهرة:"كيف الصحة؟ "

"الله يحفظكم، الحمد لله. بس الشغل كثير، كل يوم نحو أربعين دعوى كما ترى، فأنا آتي باكراً لأدققها". وأقول في نفسي إنه لو كان حيواناً لفهم الآن. وأرجع لعملي مطمئناً، فلا تمضي مدة حتى يلقي جوهرة أخرى:"قضايا الطلاق كثيرة مو هيك؟ "(1)، فأجيب بما تيسر، ويسكت. فأعود إلى عملي، فلا أكاد أستغرق فيه حتى ينطق المحترم فيقول:"يمكن القضاء مزعج؟ "، فأنفزرُ (2) وأنفجر وأنسى كل آداب الاجتماع وأصرخ فيه:"بل أنت والله المزعج، مانك شايف شغل جاي تتسلى على حسابي؟! ". ويذهب يحدّث الناس بأني غليظ شرس، مغرور بالوظيفة، قليل التهذيب. ويشيع فيّ مقالة السوء.

فماذا أصنع أيها القارئ الكريم؟

وأكون ماشياً في الطريق مستعجلاً مسرعاً إلى موعد لا بدّ منه وقد قدّرت أن أصل على الدقيقة، فيطلع عليّ غليظ كأنه مارد

(1)«مو هيك؟» من عامية الشام، ومعناها:«أليس كذلك؟» (مجاهد).

(2)

في موضع غير هذا نبّه الشيخ إلى أن هذه الكلمة من العامي الفصيح؛ انظر الحاشية في ص 194 من كتاب «مقالات في كلمات» (مجاهد).

ص: 88

انشقت عنه الأرض، ويمدّ إليّ ليصافحني يداً كمجرفة الخبّاز التي يجرف بها الخبز من بيت النار، ويمضي ليحدّثني حديثاً لا ينفعني ولا ينفعه، وإنما هو كلام فارغ امتلأت به نفسه فلم يجد أحمقَ يصبّه في أذنه لينفّس عن نفسه إلاّ أنا

أو يناديني من بُعد ثلاثين متراً: "أستاذ

" فأتصامم وأسرع كأني ما سمعت، فيصرخ "يا أستاذ طنطاوي"، ويتطوع ثلاثة على الأقل من المارين والواقفين فيعاونونه عليّ وينادون: "يا أستاذ طنطاوي"، فيصير الأستاذ الطنطاوي لا «عَلَماً في رأسه نار» بل شعلة مدخَّنة على عصا لها صوت، فهي تشغل السمع والبصر والشم، والحمد لله على الشهرة! وأقف أنتظر هذا الرجل الذي يناديني كأن له عليّ دَيْناً حان سداده، أو كأني مجرم فارٌّ وهو شرطي أمين، أو كأن عنده بشارة لي بأن قريباً لي لا أعرفه من أسلافي في طنطا مات وأورثني عشرة آلاف جنيه

ويصل فيقول: يا أستاذ وينك؟ والله مشتاق إليك، كيفك؟ كيف حالك؟

فماذا -يا ناس- ماذا أعمل له؟ أضربه؟ أسبّه؟ أتركه وأمشي؟ أخشى أن يقول الناس: «غير مهذَّب» ، فأُضطر إلى محاسنته وملاطفته وأن أدعه يقول لي:"مشتاق" فأقول: "أنا بالأكثر"، وكلانا كاذب!

والذي يفيق من الصبح يظن أن الناس كلهم مثله فيطرق عليّ الباب من الساعة السادسة، فأقوم من الفراش مذعوراً، وإذا بالزائر من لطفه يقول:"ما بدّي أعطلك، بننزل سوا". كأن الإنسان يقفز عادة من سريره إلى باب الزقاق، ولا يدري -حفظه الله- أنه يعمل أشياء، ويغسل، ويأكل ويلبس، فأضطر أن أدع هذا كله

ص: 89

وأن أقعد لأونسه وأسليه وأسمع ثرثرته!

وآخر يسهر يظن أن الناس كلهم مثله، فيطرق عليّ الباب الساعة العاشرة ليلاً، فأدع نومي لأقعد معه إلى نصف الليل أحادثه وأصغي إلى هذيانه، وأوقظ ربة الدار التي تعبت طول النهار لتترك راحتها ونومها وتعمل له القهوة والشاي، وربما زاد معه اللطف ورفع الكلفة فطلب العشاء!

وثالث يدهمني وأنا خارج من الدار إلى عملي أو موعدي ويُرجعني لأقعد معه!

فمتى يا ناس، يا أيها المستمعون والمستمعات، نعرف قيمة الوقت؟ ومتى نعلم أن من يسرق من آخر ساعة من وقته يكون كأنه سرق ديناراً من جيبه؟ ومتى نتأدب بآداب القرآن ونذكر قوله تعالى:{لا تَدْخُلوا بيوتاً غيرَ بُيوتِكُمْ حتّى تَسْتَانِسوا} أي: تستأذنوا، وقوله: {وإنْ قيلَ لكُمُ ارْجِعوا فارْجِعوا

}.

آسَفُ أن الإفرنج حفظوا آداب ديننا هذه ونحن نسيناها!

* * *

ص: 90