الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الزواج
أُذيعت سنة 1959
زارني من يومين شاب من أقربائنا، يحمل شهادة عالية ويملك مرتباً كبيراً، وهو صحيح الجسم حسن الخلق، قد قارب الثلاثين من عمره ولا يزال عزباً. فقلت له وأنا أحدثه: لماذا لا تتزوج (1)؟
قال: لأني وجدت كل المتزوجين من إخواننا يشكون الخلاف الزوجي ويقاسون آلامه ويتجرعون غصصه، ويتمنون لو أنهم ما كانوا قد تزوجوا. فعلمت أن الزواج في هذه الأيام وجع رأس وتعب دماغ، وأنا لا أحب أن أشتري الأوجاع والمتاعب لنفسي وأدفع في ثمنها مالي!
قلت: وهل العشرة من إخوانك الذين سألتهم هم الناس؟ وإذا كانوا هم في تعب وعناء كان المتزوجون كلهم كذلك وكان الزواج وجع رأس وتعب دماغ؟ ولماذا سألتهم ولم تسألني أنا؟ إني أعرَف منهم، وإذا كان الرجل الذي يحضر خمسة مجالس
(1) إذا أكثرت الكلام عن الزواج، فذلك لأن تشجيع الزواج أساس الإصلاح في الأخلاق والعادات.
عائلية ليفصل فيها بين الزوجين المختلفين يعد نفسه خبيراً، فأنا قد حضرت في المحكمة أكثر من ثلاثين ألف جلسة سمعت فيها من الزوج وسمعت من الزوجة، وأنا -فوق ذلك- أشتغل بالتحليل النفسي والدرس الاجتماعي، وإذا أنا يوماً أحلت على التقاعد ولم أشتغل بالمحاماة ولا بالكتابة والتأليف، فإني أفتح مكتباً للدراسات العائلية أقوم فيه بحل المشاكل الزوجية، فأنا خبير فني في الموضوع (1)، فاسألني.
قال: ألا ترى أن أكثر المتزوجين في خلاف مستمر؟
قلت: أحبّ أولاً أن أحدد معنى الخلاف؛ فإذا كنت تريد (وكان إخوانك الذين سألتهم يريدون) حياة زوجية خالية من كل اختلاف في الرأي بين الزوجين، وأن يكون العمر كله شهراً من شهور العسل وجلسة واحدة من جلسات روميو وجولييت أو قيس وليلى، فهذا لا يكون. وماذا في مجالس الحب إلاّ هذا الكلام الفارغ؟ تقول له:«أحبك» ، ويقول لها:«أحبكِ» ، ويعيدان هذه الكلمة حتى لا يبقى لها معنى، ثم يملاّن ويسكتان! فهل يمكن أن تكون الحياة كلها أحبكَ وأحبكِ، كما يتوهم الفتيان الصغار؟ ولو أن قيساً تزوج ليلى واقتصر على حديث الحب لوقع الخلاف بينهما من أول الشهر الثاني، ولسمع الجيران خصامهما في الشهر الثالث، ولأقيمت دعوى التفريق في المحكمة الشرعية قبل نهاية السنة!
(1) أُحِلت على التقاعد سنة 1966، ولكني لم أصنع هذا، بل عكفت على الكتابة والإذاعة والتأليف. وأنا أكتب هذا الكلام سنة 1988.
فلا يمكن أن يكون في الدنيا زوج وزوجة يعيشان هذه الحياة الخيالية العاطفية التي لا تكون إلاّ في القصص. وكل زوجين يختلفان أحياناً، ولا يخلو بيت العالِم من هذا الاختلاف، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَخْلُ بيته - وهو أشرف بيت أقيم على ظهر الأرض- مما يكون بين النساء، وهذا هو القرآن فاقرؤوا «سورة التحريم» . والصحابة كانوا يختلفون هم ونساؤهم، ولقد جاء رجل يشكو زوجته إلى عمر، فلما قرع الباب سمع زوجة عمر ترفع صوتها عليه وهو ساكت، وهو عمر العظيم الذي كانت تخافه صناديد الرجال، فولى الرجل منصرفاً، فخرج عمر يناديه، فرجع. قال له عمر: ما لك؟ قال: يا أمير المؤمنين، جئت أشكو إليك سوء خلق زوجتي وأنها تتجرّأ عليّ، فوجدتك مثلي. فضحك عمر وقال: أَحتمِلُها لحقوق لها عليّ.
والله عز وجل لم يخلق اثنين على صورة واحدة، حتى التوأمين إذا وقفا معاً وجدت بينهما فروقاً دقيقة، ولم يخلق كذلك اثنين بطباع واحدة. وإذا أراد الزوجان والشريكان والرفيقان ألاّ يختلفا فلا بدّ لأحدهما أن يساير الآخر، وأن يخالف رأي نفسه ليتبع رأيه. وإذا وقف كلٌّ عند رأيه لا يمكن أن يتفقا، وإذا كنتَ أنت على الرصيف الأيمن من الشارع ورفيقُك على الرصيف الأيسر وأردت أن تصافحه لم تستطع، ولا بدّ أن يمشي أحدكما إلى الآخر أو تمشيا معاً حتى تلتقيا في منتصف الطريق (1).
وكل شركة لا بدّ لها من رئيس، والرجل هو -بلا شك-
(1) الخالي من السيارات!
رئيس الشركة الزوجية، فيجب أن يكون رأيه هو المقدم، بشرط ألاّ يتدخل في الصغيرة والكبيرة ويدس أنفه في الكنس والطبخ وترتيب الدار، فإن هذا من حق المرأة فهي «وزيرة الداخلية» ، وله الإشراف العام كإشراف رئيس الوزراء. فإذا كانت المرأة-مثلاً- وسخة لا تبالي بتنظيف الدار أو تسيء إعداد الطعام نبّهها، وإذا كانت مصابة بجنون النظافة تنسى نفسها بلا طعام وتنسى حق زوجها وحق ولدها لتمسح البلاط وتنظّف الدار، فلا تراها إلاّ راكضة من هنا إلى هناك رأسها يسبق رجليها، كان عليه أن ينبهها. وإن أكثر الرجال لا يهمهم الإمعان في النظافة ولا لمعان البلاط ولا ترتيب المقاعد، بل يهمهم أن يجدوا شريكة لحياتهم توافقهم وتذهب مذاهبهم وتكون على رأيهم. ومن النساء من يزيد معها هذا المرض (مرض النظافة) حتى تترك غرف الدار المفروشة للشياطين لا يستعملها أحد وتقعد في زاوية وتُلزم زوجها أن يقعد فيها، فإذا قعد على المقعد المريح صرخت به:"قم، لقد أفسدته! أما رأيتني أشتغل به من الصباح؟ ". وربما نامت على «الطرّاحة» لتُبقي السرير مرتباً، مع أنه لا يدخل أحد ليراه ولا يوضع في معرض!
والمرأة العاقلة هي التي تنظر ما الذي يرضي زوجها فتفعله، وعلى الرجل -كذلك- أن يبتغي مسرتها ورضاها وأَلاّ يغتر بهذه السلطة ويحسب أنه صار كسرى أنوشروان فلا يعرف إلاّ الأمر والنهي، وألاّ يكون ظرفه ولطفه للناس فقط، فإن في الناس من يكون خيره للغرباء وشره للأهل.
ولقد كان في دمشق رجل معروف بسرد النادرة وسرعة
البادرة، يحفظ من النكات العجيبة والوقائع الغريبة ما يضحك الثكلى التي فقدت وحيدها، يتسابق الناس إلى دعوته والاجتماع به ويرونه زينة المجالس، إن حَضَر مجلساً لم يتكلم غيره، ولم يتكلم بكلمة إلاّ ضحك لها الحاضرون من قرارات قلوبهم. وهو -مع ذلك- أثقل الناس على أهله، لا يكاد يبتسم في بيته ولا يكاد يكلّم أحداً. إذا دخل الدار دخلت الكآبة وحلّ الوجوم، لأنه لا ينطق ولا يدع أحداً من أهله ينطق في حضوره!
وأعرف رجلاً ما يذهب في رحلة أو نزهة إلاّ تولى هو بنفسه خدمة إخوانه كلهم، إن كانوا في مخيّم اشترى لهم اللحم والخضر وأوقد النار وطبخ لهم ووزع عليهم، وإن كانوا في مجلس تولى هو صنع الشاي وخدم بنفسه، وإن احتاج واحد من أصدقائه أو من معارف أصدقائه إلى شيء قام به عنه. وهو -مع ذلك- أكسل الناس في بيته وأشدّهم تحكماً على أهله وتكليفاً لهم، لا يقوم ليملأ لنفسه كأس ماء ولا يسحب لنفسه كرسيّاً ولا يتناول رداء من الخزانة إلاّ أن تكون زوجته أو بنته قائمة بين يديه، تملأ له الكأس وتعدّ له الكرسي وتناوله الرداء!
وأعرف رجلاً ليس في الناس أكرم منه على إخوانه، يوليهم الهدايا الثمينة ويمنحهم المنح ولا يمسك عنهم مالاً ولا ينفرد دونهم بشيء، وهو في بيته أبخل البخلاء، يضنّ على أهله بالقليل ويحرمهم ما لا بدّ منه من الضروريات.
وأعرف نساء إن كنّ في استقبال أو كنّ بين أيدي الضيوف لا تبدو من إحداهنّ كلمة نابية، ولا تسمع منها لهجة حادة، ولا
تمّحي عن وجهها الابتسامة العذبة، وكلما رأت منهن من قبيح تغاضت عنه واحتملته، حتى يقلن:"ما شاء الله، ما أشدّ تهذيبها وأكرم خلقها وأحلى حديثها"، وإن كانت مع زوجها لم تلقَه إلاّ بالتقطيب والعبوس وبوجه مقلوب كأنه وجه عجوز أكلت ليمونة بقشرها!
ثم إن أكثر النساء إذا خرجنَ لزيارة أو جولة، أو تهيأنَ لمقابلة قريبة أو صديقة، استعدت إحداهنّ استعداد عروس لعرسها، فتزينت وتنظفت ولبست أجمل أثوابها وتطيبت بأعطر طيوبها، فإذا لم يكن إلاّ زوجها خرجت عليه من المطبخ منفوشة الشعر كالحة الوجه، تسبقها رائحة السمن والزيت والبصل والثوم!
مع أن حق الزوج على زوجته أكبر من حق الغريب. والعقل والدين يوجبان عليها أن تتزيّن (إن تزينت) له هو لا للناس، وأن تلقاه بأحسن أحوالها وتكلمه بأحلى لهجاتها، وأن تدّخِر له ابتسامتها ولطفها وإيناسها. والعقل والمنطق يوجبان عليه هو (إن تكرّم) أن يكون كرمه لأهله لا للناس، وإن عمل أن يعمل لهم، وأن يخدمهم لا أن يدعهم ويخدم الناس، وإن كان خفيف الروح حاضر النكتة سريع البادرة بالخير، أن يكون لأهله الحظ الأوفى من خفته ونكتته، لا أن يخص بذلك الناس وحدهم.
فكيف انقلبت الحال، فصار القريب هو المستحق للشرور كلها وصار الغريب هو الذي ينال المحاسن كلها؟
أنا أعرف السبب أيها السامعون والسامعات.
السبب هو الإفراط في رفع الكلفة. وأنا أعرف أن الألفة تزيل الكلفة، وأن من العجيب المضحك بلا شك أن يتعامل الزوجان بالرسميات (بالبروتوكول) الذي يكون في وزارة الخارجية، وأن تكون حياتهما كلها على «الأتيكيت» . ولست أقصد هذا، ولكن أقصد أن رفع الكلفة بالمرة يؤدي إلى أن يَعرض كل واحد على الآخر ما لديه من عيوب ونقائص، لا يحاول إخفاء شيء منها. مع أن لكل إنسان أشياء لا يحسن أن يظهرها حتى لأقرب الناس إليه، وزيادة القرب حجاب (كما يقول العرب). قَرِّبْ وجهك من رفيقك حتى لا يبقى بينك وبينه إلاّ عرض إصبع فإنه لا يراك، وإنما يرى مكان الأنف جبلاً قائماً في مقدمته مغارتان! وارسم خطين مستقيمين واجعلهما متعرجين وباعدهما تَرَهما متوازيين، فإذا قربتهما حتى التصقا بدت الفجوات بينهما. وكذلك الناس؛ كان لي صديق استمرت صداقتي إياه ثلاثين سنة وأنا لا أرى منه إلاّ خيراً وأجده موافقي في كل شيء، ثم سافرنا واضطررت أن أبيت معه في غرفة واحدة فرأيت منه في حالات أكله وشربه ونومه ووضوئه ما أيقنت معه أن بيننا من الاختلاف أكثر مما بين الليل والنهار.
بهذا وبمثله يسعد المتزوجون، ويرغّبون الشباب العزّاب بالزواج.
* * *