الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنّ المناسبة للزواج
(1)
نُشرت سنة 1959
أما الإجابة على السؤال الآخر، فإن كان يكفي فيه أن ينطق المسؤول بأول عدد يخطر على باله، لا يُطالَب بدليل ولا بتعليل، قال قائل:«ثلاثين» وآخر: «أربعين» . وإن كان يجب في الجواب أن يكون موافقاً لفطرةِ الله التي فطر عليها النفوس وطبيعةِ الكون التي طبع عليها الأشياء، فلا بدّ لي -قبل الإجابة- من تقديم هذه المقدمة.
قد قلت لكم إن الله وضع في نفس الإنسان غريزتين: غريزة حفظ الذات التي تدفع إلى الأكل، وغريزة حفظ النوع التي يكون بها النسل، وما يصحّ في إحداها يصحّ في الأخرى. فخبّروني متى
(1) هذه المقالة تتمة للتي سبقتها (الحب والزواج)، فينبغي أن تجيء بعدها في ترتيب الكتاب. وكذا كان الأمر في طبعات الكتاب الأولى، لكن تغييراً وقع في ترتيب المقالات في الطبعات اللاحقة (أحسب أن الذي صنعه هو جدي رحمه الله فجاءت المقالة الأولى في أوله (التاسعة بين مقالاته) وأُقصيت تتمتها هذه إلى آخره، فصارت الرابعة والثلاثين، وصار بينهما أربع وعشرون مقالة! فاجتهدت أنا هنا فأعدت ترتيب المقالات بحيث يتصل جزء الحديث الأول بجزئه التالي (مجاهد).
يأكل الإنسان أخبركم متى يتزوّج.
متى يأكل؟ تقولون: عندما يجوع.
فليتزوّج إذن عندما «يشتهي» ؛ أي عندما يبلغ مبلغ الرجال، أعني في الثامنة عشرة من العمر.
تقولون: وإذا لم يجد أسباب الزواج مجتمعة له وهو في هذه السنّ، فماذا يصنع؟
فأقول: يصنع ما يصنعه الجائع الذي لا يجد الطعام، يصبّر نفسه حتى يجد الطعام.
تقولون: فإن لم يستطع الجائع أن ينتظر، ورأى الطعام أمامه فسرقه وأكله وارتكب في سبيله الجرائم، فماذا نصنع نحن؟
فأقول: إن على المجتمع أن يمهّد لكل جائع سبيل الوصول إلى الطعام لئلاّ يسرق أو يجرم، فإن منعه من الأكل مانع اضطراري وخيف منه السرقة وجب أن يحفظ الناس أموالهم منه. فهو -من جهة- محق لأن المجتمع حرمه الطعام وهو حقّ له، وهو -من جهة- مبطل لأنه أخذ ما ليس له.
وهذا هو القول في الزواج:
الوقت الطبيعي للزواج هو وقت البلوغ، ولكن الشابّ يكون في هذه السنّ في المدرسة، لا مورد له ولا مال في يده، ويستمر في الدراسة إلى سن خمس وعشرين على الأقل. أي أن الظروف الاجتماعية التي اصطلح الناس عليها جاءت مُصادِمة ومُناقِضة
لطبائع النفوس وحقائق الأشياء. فماذا نصنع؟ ماذا يصنع الشاب وهو مضطر أن يمضي هذه السنين العشر بلا زواج، مع أن هذه السنين العشر هي أشدّ سني العمر شدّة في الشهوة وإحساساً بها؟
إن الله وضع بين جنبيه ناراً متّقدة إن لم يطفئها بالزواج أحرقت بالألم نفسه أو أحرقت بالزنا بيوت الناس، وها هنا تستقر المشكلة، وهذا ما يجب أن يكون فيه البحث. وإن من أسهل السهل على من يكتب هذا الموضوع أن يستلقي على كرسيّه، ويأخذ نفساً عميقاً من دخينته، ويقول ببطء وتمهُّل: إن رأيي أنّ سن الزواج المناسبة هي الثلاثون
…
هذا رأيك، ولكن هذا لا يحلّ المشكلة.
إن الكلام بالمجان، والحاكم الذي ينطق بحكم الإعدام لا يكلّفه ذلك من التعب إلاّ أن يفتح فمه ويحرّك لسانه، ولكن المصيبة إنما تقع على رأس المحكوم عليه. والمحكوم عليه هنا هو الشاب
…
والشابّة أيضاً.
وإذا كانت طبيعة الشاب وغريزة نفسه توقظ في نفسه الجوع الجنسي في سن الخامسة عشرة، وأخونا المفكر المحترم يحكم عليه بألاّ يتزوّج إلاّ في سن الثلاثين، فماذا يعمل في هذه الخمس عشرة سنة؟
لا سيما وأن هذا المجتمع الذي يمنعه من الزواج فيها، لا يترك وسيلة لزيادة هذه النار اشتعالاً في نفسه إلاّ عمد إليها، وكلما نسي المسكين هذه الشهوة ذكّرناه بها: بالصور العارية،
والأفلام الخليعة، والعورات البادية، والاختلاط المتفشي. إنْ مشى في الطريق وجد المغريات، وإن دخل الكليّة وجد المغريات، وهو يجد المغريات في كل مكان، ونحن نوجب عليه أن يحمل ذلك العبء خمس عشرة سنة، ونقول له بعد ذلك: انصرف إلى دروسك وإلى مطالعاتك، وإياك أن تفكر في الفاحشة أو تقترب منها!
أُقسم بالله إن من يُحكَم عليه بالسجن خمس عشرة سنة ليس أشدّ حالاً من الشاب الذي تكلّفه بهذا كله!
فما العمل؟
العمل أن نعود إلى الطبيعة ونتبع حكم الفطرة؛ فإنه لا يستطيع بشرٌ أن يحارب فطرة الناس وطبيعة الأشياء. وأن نرجع إلى عادة أجدادنا فنزوّج الشاب في الثامنة عشرة والبنت في السادسة عشرة، فإن لم يمكن فلا أقلّ من أن نربّي أولادنا على خوف الله وعلى متانة الخُلُق، وأن ننظف مجتمعنا من كل ما يذكّر الشاب (الذي اضطررناه إلى العزوبة الجَبرية) بما نسي من شهوته، وأن نمنع منعاً باتاً كل ما يغريه بالمعصية ويسوقه إليها، وأن يحمي الآباء بناتهم من أن يسرق أحدٌ أعراضهنّ كما يحمون أموالهم من اللصوص أن تمتد أيديهم إليها.
هذا هو الجواب، وأنا واثق أن كل من يقرؤه سيقول إنه صحيح، ولكن لن يعمل به أحد، مع الأسف!
* * *